٢

كانت هيلين تقف أمامه، بدأ يتأمل قسمات وجهها محاولاً إدراك مدى الاختلاف الذي كانت تتحدث عنه.

كانت ذات شعر بنفسجي بدرجة فاتحة وعيون واسعة بلون قد تبدل أمامه من اللون الأحمر للأصفر

تميزت بلون بشرتها البيضاء، أما عن بقية ملامحها فلم تكن واضحة فقد أخفاها وشاح عقدته بإحترافية.

لفت إنتباهه عنقها الذي أخفته أيضاً بالوشاح ذاته ولكن نسمات الهواء التي فاجئتهما جعلته يتطاير ليظهر وشماً على الجهة اليمنى من عنقها تميز بشكله الغريب الذي شابه نجمة تلونت باللون الأرجواني

أعادت عقد الوشاح بإحكام بعد أن لاحظت نظرات رون الفضولية التي توجهت فوراً نحو الوشم.

_إنه شئ طفولي رسمته لي أختي ولم أمسحه حتى لا تتضايق.

قالت هيلين مبررة قبل أن يسأل رون ثم قالت مغيرة الموضوع:

_هيا سأنتظرك في الخارج، بدل ملابسك وارتدي الشعر المستعار وهيا بنا لنتجه للمدينة.

لاحظ رون توترها، لم يبدو له أنه مجرد رسم طفولي فقد كان شيئاً احترافياً، كما أن توترها كان واضحاً وقد عرف أنها بالتأكيد تخفي شيئاً ولكنه قرر ألا يضغط عليها فربما هو شئ خصوصي ولا تود هي مشاركته وإن كان شيئاً عليه معرفته فسيعرفه حتماً في الوقت المناسب.

بدأ بتغيير ملابسه للزي الذي أحضرته هيلين رغم رفضه لارتدائه في البداية فقد كان مختلفاً عما اعتاد إرتداءه في حياته الطبيعية ولكنه اضطر أن يفعل ما يؤمر به، لأنه وبالتأكيد لن يود أن يسجن هنا مدى الحياة دون حتى أن يدرك سبب وجوده هنا.

عانى رون لدقائق عدة محاولاً إدراك كيفية إرتداء هذا الزي حتى أنتفخت أوداجه وأمسك بالزي ووضعه في فمه وبدأ يضغط عليه بأسنانه ليزمجر بغضب ثم تركه يسقط أرضاً وبدأ يعيد تنظيم أنفاسه ثم قال محدثاً نفسه:

_اهدأ يا رون فقط اهدأ، عليك أن تكون صبوراً، عليك أن تتحلى ببال طويل كي لا يسجنك  الحاكم، يمكنك فعلها، يمكنك ارتداءه.

عاد رون للمحاولة مجدداً، فلا مجال للاستسلام الآن وبالفعل نجح بارتداءه، أمسك بعدها بالشعر المستعار ووضعه على شعره وكاد يخرج ولكنه لمح نوافذ المنزل الزجاجية ذات الإطار الخشبي شبه عاكس فاتجه نحوه وبدأ يحاول رؤية نفسه.

كانت الرؤية ضعيفة ولكن عقله أدرك هيئته، صار يتأمل ما يراه فهو لم يعد يشبه نفسه البتة، لم يكن يشبه حالته الطبيعية والتي قد اعتاد على رؤيتها كل يوم.

تجاهل الأمر واتجه نحو الباب الخشبي ليدوي صريره الذي اعتاده والذي مجرد سماعه له نطقت هيلين قائلةً:

_لم تأخرت! لقد كدت أغفو من الملل.

نطق رون وهو يحاول ضبط ملابسه والتي لم يعتدها ولم يشعر بالراحة فيها أبداً:

_لقد ارتديت تلك الملابس بصعوبة، لا أعلم كيف ترتدون هذا النوع من الأزياء كل يوم بتلك السهولة.

نظر رون نحو هيلين ليجدها تجلس فوق إحدى الأشجار مجدداً ثم قاطعه قولها:

_تبدو غريباً بالفعل بتلك الملابس، أو ربما لأنني أعتدت رؤيتك بملابسك المميزة.

ثم تابعت حديثها قائلةً:

_ولكن على الأقل صرت تشبهنا قليلاً، ليس بنسبة كبيرة ولكنك لن تلفت الأنظار علينا.

قفزت هيلين من أعلى الشجرة بخفة وهي تقول:

_هيا بنا!

بدأ كل منهما يتحرك وبدأ رون يتأمل المكان والذي كان يراه للمرة الأولى، سحرته الغابة بجمالها بل كان مبهوراً بما يراه ولأنها بدت له كالجنة.

قاطع سيرهما توقفه فجأة لتسأله هيلين:

_هل عطشت؟

_كيف عرفتِ!

نسي رون أن هيلين تقرأ الأفكار مازال غير مدرك لكيفية فعلها لهذا فقال:

_نسيت أنك لديك المقدرة على قراءة الأفكار.

على الرغم من ضيقه كونها أخلفت وعدها إلا أن فضوله  حثه على التساؤل:

_ألن تخبريني كيف تفعلينها؟

_ستعرف في الوقت المناسب، الآن سأخذك للنهر لتروي عطشك وتستمتع بمياهنا ذات الطعم الرائع.

اومأ برأسه وتابع المشي متبعاً خطواتها رغم أن الطريق صار أطول بكثير وبدأ الشعور بالإرهاق يصيبه، لاحظ شجرة تحوي ثماراً حمراء، مد يده تلقائيا لأخذها وكاد أن يبتلع أول قضمة منها لتوقفه هيلين قائلة بصراخ:

_إياك والأكل منها!

_لماذا؟

_تلك الثمار ليست ناضجة بعد وفي تلك الحالة تكون سامة وخطيرة.

تذمر رون قائلا:

_ولكنني جعت، وأيضاً انا أشعر بالإرهاق.

قالت هيلين:

_أعدك سأبحث لك عن غيرها لتأكلها.

بدأ رون يفكر فيما قالته ورأى أنها محقة، أن يتصرف بغرائزه كالحيوانات قد يودي بحياته، لقد منحه الله العقل كي يفكر في الفعل الصحيح من الخاطئ، عليه أن يتحكم في جوعه كي لا يصبح مجرد جثة هامدة في تلك الغابة.

قاطع تفكيره صوت هيلين التي قالت:

_لا عليك، أنا معك سأبعدك عن أي خطر.

عاد رون يتضايق من فكرة أنها تستطيع قراءة أفكاره فالأمر فعلا يُشعره بالضيق قاطعته قائلة:

_آسفة أنا مدركة أنك تتضايق مني، سأتوقف عن فعلها حاليا كي لا أضايقك.

ثم أكملت قائلة:

_وايضاً عندما نخرج من الغابة لن أستطيع قراءة أفكارك وإن شئتُ.

لم يفهم رون السر وراء هذا ولكنه تجاهل الأمر وابتسم لها لتفهمها لضيقه فقد كان معرفته أنها لن تقرأ أفكاره مجدداً أمر مريح.

_لمعلوماتك، كدنا نصل إلى النهر.

قالتها هيلين ليحمد هو ربه في سره، تابعا المشي قليلاً حتى وصلا الي مجرى ماء ضخم ملطخ بالطين صار يدعو في سره ألا يكون هذا هو النهر الذي تقصده هيلين ولكن أمله قد خاب عندما سمعها تقول بمرح:

_لقد وصلنا

رد عليها رون بنبرة غاضبة:

_أتستهزئين بي!

_ما بالك لم انت غاضب؟

_جعلتني أسير لعدة كيلومترات بحجة للذهاب للنهر كي أشرب، لأجدني أمام نهر مليئ بالوحل!

ثم تابع باستهزاء عندما لم يجد منها أي رد:

_أتودين إقناعي أنكم تشربون من هذا!

لم تقل هيلين  أي شيء بل بدأت تتجه نحو ذلك النهر ذو اللون البني وثنت ركبتيها لتجلس أرضاً، ثم مدت كفيها نحو النهر ليقاطعها رون قائلاً:

_ماذا تفعلين أيتها المجنونة!

لم تعره أي أهتمام وتابعت الشرب حتى أرتوت ثم قامت لتقف على قدميها مجدداً وكل هذا ورون يشاهدها ببؤبؤين متسعين وآثار الصدمة تعتلي وجهه.

لم يدرك ما عليه فعله فهو مازال تحت تأثير الصدمة، ولكنه بدأ يتقدم خطوة ويعود بدلاً منها اثنتين وحالما اقترب من النهر جلس على ركبتيه ومد كفيه كما فعلت هي وأخذ القليل من الماء في يده بتردد.

كانت يديه ترتعشان خوفاً من تلك التجربة الجديدة ولكنه تشجع قليلاً عندما تذكر كيف شربت بتلقائية ولم يحدث لها أي شيء بل ولم يظهر على وجهها أي آثار إشمئزاز أو نفور.

قرب كفيه من أنفه كي يشم رائحة ما سيشرب ليقول فجأة:

_تلك الرائحة مألوفة بالنسبة لي!

ثم تابع بحماس

_أعرف تلك الرائحة!

بدأ يشرب بحماس بعد أن أدرك فوراً أنه ليس ماءً وليس وحلاً بل هو ما يشبه القهوة الباردة!

لم يكن يدرك كيفية حدوث هذا، هل الأنهار هنا عبارة عن قهوة!

سأل هيلين ما إن كان النهر هكذا طوال العام ولكنها أخبرته أن العام هنا عبارة عن موسمين، في أحد المواسم يكون الماء شفافاً وفي الآخر يكون بنياً.

كان ينتظر تفسيرا علميا عن سبب تغير الماء بهذا الشكل، ولكنها لم تعطه ما أراد فبدأ يتحرك نحو بداية النهر تاركاً هيلين تسير خلفه وهي تسأله قائلة:

_ما خطبك! الى أين أنت ذاهب؟

_لحظات.

عندما وصل لمنبع النهر كان قد سار مسافة ليست بالقصيرة ولكنه كان يود أن يشبع فضوله.

لمح رون أشجاراً تتساقط منها حبيبات ذات شكل غريب، اقترب منها وبدأ يتسلق إحدى الأشجار ليقترب منها وبالفعل بدأ يشمها ليجد رائحتها تبدو كرائحة البن بل وأزكى من رائحة البن.

قربها من فمه بتردد وبدأ يتذوق طعمها ليجدها بالفعل تشبه طعم البن ولكنها محلاة، فالبن كما أعتاده مر ويحتاج السكر ولكن تلك الحبيبات لا تحتاج لأي سكر بل يمكنه أكلها كحلوى.

_هل أعجبتك تلك الحلوى البنية؟

هذا ما قالته هيلين وقد أرتسمت على محياها ابتسامة لطيفة ليومئ رون برأسه.

_تلك الأشجار تنمو فى فصل وتختفي في الاخر ولكن قبل أن تختفي تبدأ ثمارها بالسقوط فمنها ما نجمعه لنأكله ومنها ما يسقط في النهر، أظن أنها السبب في تلون النهر بهذا الشكل وتغير طعمه.

أدرك رون حينها الأمر وقال بصوت منخفض

بدأ يجمع بعضاً من الثمار ليتسليا بها في طريقهما ووضعهما في جيبه ثم قفز برشاقة من أعلى الشجرة.

بدأ كل منهما يسير في وسط الغابة مجدداً ولكن تلك المرة في الاتجاه المعاكس مع اكتشاف كل ما هو غريب على رون.

وصلا إلى طرف الغابة، لم يكد رون ينطق معبراً عن فرحه حتى اصطدم شئ ما بوجه، صرخ بفزع وعاد للوراء ما يقارب الخمس خطوات.

بدأ يتحسس وجهه والذي كان يؤلمه، ففي البداية كانت صرخته صرخة فزع ولكن بعد ذلك استمرت صرخته أثر الألم.

فجأة شعر بما لمس وجهه يبعتد بعدما سمع صوت هيلين تقول بسرعة:

_توقفي چيلينا ماذا تفعلين! إنه صديقي.

بدأ رون يفتح عينيه ببطء ليرى المدعوة چيلينا، في نفس اللحظة اعتلت قهقات هيلين فور رؤيتها لوجه رون المصاب لينظر هو لها بغضب ثم يحول نظراته نحو كتفها ليرى كائن صغير بجسد بشري وملامح جميلة ولكن بحجم كف اليد ولفت انتباهه تلك الأجنحة الشفافة والملابس ذات اللون الوردي التي ترتديها.

شهق بصدمة مرة آخرى عندما أدرك أنها جنية صغيرة ثم قالت هيلين:

_اوه نسيت أن أعرفكما، چيلينا هذا رون صديقي، ورون هذه چيلينا وهي الجنية الخاصة بي.

قالتها هيلين لتضحك بعدها عندما وجه رون سؤاله بكل براءة:

_وكيف أحصل على واحدة؟

ثم قالت موضحة:

_الأمر لا يتم بهذا الشكل، سأشرح لك في وقت لاحق.

التفتت چيلينا لهيلين لتقول معاتبة بلغة لم يفهمها مالك:

_لم تأخرتِ؟ لقد مضت خمس ساعات ووالدك كان يبحث عنك، حاولت التبرير له ولكنه لم يستمع.

_اهدأي چيلينا سأتصرف أنا لاحقا.

_هذا غير ممكن عليكِ القدوم حالا.

_ولكن!

_هيا هيلين، تعرفين والدك!

نظرت چيلينا لهيلين نظرات قلقة لتفهم هيلين الأمر بينما رون كان يشاهد ما يحدث بتعجب.

_رون، علي الذهاب، سآتي على الفور لن أتأخر.

بدأت تسير وچيلينا تحاول سحبها لعل هذا يزيد من عجلتها لتلتفت هيلينا إلى رون قائلة بسرعة:

_إياك والابتعاد عن هنا سأعود مجدداً، حسناً؟

لم تعطه الفرصة ليعترض او يوافق ولكنها تركته بلا حيلة واختفت في لحظة.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي