٥

نظر الجميع لبعضهم ووجهوا نظراتهم لأوچين التي شعرت بالتوتر منهم، لم تكن تفهم ما يحدث ولكن كون الأعين جميعها عليها كان أمراً مربكاً بالطبع.

_لقد انهيت طعامي، أرجو أن تعطني الإذن يا أبي لأعود لغرفتي.

قالتها أوچين بعد أن أخفضت رأسها من التوتر ثم نهضت بعد أن أشار لها أبيها موافقاً وآذناً لها بالذهاب.


نظر رون إلى أعمدة الخيزران الرّشيقة التي تمتدّ إلى السّماء الزرقاء ذات اللون الداكن، لم يدرك متى مر كل ذلك الوقت فبدأ الأمر في لحظات سحريّة عندما اختفت ضوضاء المدينة المُحيطة، وحلّ محلّها همسُ حفيف الأوراق وصفير النّسيم العليل.

شعر أن هذه الموسيقى بعثت السّكينة في نفسه، ونقلته إلى حالة من التّنويم المغناطيسيّ والاسترخاء، قرر رون النهوض وعزم على الخروج من تلك الغابة التي سحرته والتي شعر وكأنها دوامة.

حاول النهوض أكثر من مرة ولكنه لم يكن قادراً على مقاومة تلك الألحان الناعمة، فكان كلما نهض وقع أرضاً وكأن الأرض تسحبه نحوها.

استجمع قواه ونهض أخيراً وبدأ يسير تاركاً المكان دون رغبة منه فقد كان يشعر وكأت الغابة تجذبه كالمغناطيس ولكن كلما كانت قوة السحب أعلى كلما قاوم أكثر فهو عليه البحث عن الغابة التي سيجد فيها الديفيليا والياقوت.

خرج من الغابة وعاد يسير على الأطراف مرة أخرى حتى وصل للغابة الثالثة والتي لاحظ وجود جبال بها فعلم أنه قد يجد بها الديفيليا التي سيحتاجها للتأقلم مع المكان.

دخل إليها وبدأ يسير نحو إحدى الجبال حتى وصل اليها، وكلما اقترب كلما لاحظ الشجيرات التي تمحورت حول الجبل، لاحظ شجيرة أوراقها الخضراء تبدو كالمظلة ف تأكد أن تلك الزهور هي الديفيليا.

كاد يقترب منها ولكنه تعرقل في غصن مكسور وواقع على الأرض البنية، صرخ متألماً وجز على أسنانه بعد أن أغمض عينيه بقوة وصار يتأوه من الألم، وجد دماءه ظهرت على سرواله ليدرك أنه قد جُرح.

حاول الوقوف على قدميه ولكن ركبتيه لم تتحملا جسده مع ذلك الألم الذي سيطر عليها، صار يعرج في مشيه باحثاً عن ماء يطهر به جرحه.

سار كثيرا وزاد الألم مع سيره حتى وجد بركة صغيرة، إقترب منها ورفع سرواله ليكشف مكان الجرح.

بدأ يبلله قدميه وتحديداً منبع الدماء التي تسيل على ساقه اليمنى، كانت تؤلمه كلما بللها ولكن الألم بات أخف، ثغر فاهه من أثر الصدمة التي حلت عليه بعد أن رأى الجرح يصبح أصغر فأصغر الى أن أختفى تماماً.

أدرك حينها أنه ماء سحري وأن عليه أن يعتاد على ذلك الأمر وعلى الاشياء العجيبة التي قد تصيبه مستقبلاً.

نهض مسرعاً من جانب البركة وبات يركض دون أن يشعر بأي ألم، اقترب من ذلك الماء وقرر أن يشرب منه بعد أن رأى مفعوله السحري على قدمه، مد كفه ولكن تلك المرة لم يتردد.

التقط بعض الماء في كفه وشرب منه ليشعر كما لم يشعر مسبقاً، شعر بطاقة لم يشعر به من قبل، بل شعر وكأنه ولد من جديد.

أخذ بعض الماء من جديد في كفيه وغسل به وجهه ليشعر براحة نفسية ، وشعر كأن جميع همومه وأحزانه ازيحت.

عاد نحو الجبال مرة أخرى وبدأ يقطف بعضاً من زهور الديفيليا ووضعها في حقيبته، عاد مجدداً نحو البركة وأخرج زهرة ليرى بعينيه ما سمع عنه ف بللها بالماء ليرى بتلاتها البيضاء تتحول شفافة في ثواني معدودة.

ظل رون مذهولا بما شاهده، لم يكن يصدق أنه قد يرى شيئا كهذا من قبل.

بدأ يبحث عن قارورة فوجد واحدة فارغة ف أخذها وملأها من هذا الماء السحري الذي تمنى أن يأخذ معه منه في عالمه.

خرج من تلك الغابة وبحقيبته الماء والأزهار وعاد لغابة إليدر مرة أخرى واتجه نحو الكوخ الخاص بهيلين وبدأ يحاول تفريق البتلات والرحيق وخبأهما في الحقيبة.

خرج ليبحث عن بعض الطعام بعد أن اشتراه تلك المرة بما جمعه من زهور الديفيليا.

كان يتساءل عن سبب كون ذلك الرحيق والبتلات ذات تلك الأهمية ولكن كان عليه انتظار هيلين لتخبره عن سر ذلك الأمر، عاد مرة أخرى للكوخ وبدأ يأكل ما اشتراه، ثم خلد الى النوم.

عادت "ألما" إلى غرفتها ودخلت الى الفراش وأخفت وجهها بينما ذهب والدها الى غرفته حيث تتواجد الأم وبدأ حديثه قائلاً:

_كيف حالك؟

_كيف تنتظر أن أكون؟

أجابت ببرود ليراها وهي تجلس ضامة قدميها ومستندة بيدها التي أخفت بها وجهها على ركبتيها.

_هل أنت الوحيدة القلقة هنا؟

رد بصوت شبه عالي ثم تابع والغضب يسري في عروقه:

_جميعنا قلقين، ابنتك في غرفتها تبكي وانا قلبي مضطرب.

بدأت الأم في البكاء ليهدئها الأب، اعتذر كليهما من بعضهما فهي سببت له توتراً زائداً غير توتره على ابنته وهو لم يتحمل خوفها.

ولكن كلاهما نسيا الاعتذار من ابنتهما التي سبب لها صراخهما ألماً وحزناً وجعل قلبها يعتصر حزناً.

هدأ كل من الأب والأم لتسأل الأم بنبرة مهتمة:

_ماذا قال لك الوزير؟

نظر بعينيها ليرى ردة فعلها ثم قال:

_لم أقابل الوزير اليوم.

_كيف هذا؟

سألت الأم بتعجب وتابعت:

_إذا لم تأخرتما؟

_لقد قابلنا الحاكم.

اعتلى الذهول ملامح الأم فهذا أمر غير شائع على الإطلاق، فالحاكم لا يقابل عامة الشعب بل يكلف أحد من أتباعه ليقابلهم، لذا فهذا شرف لهم.

_لماذا الحاكم؟

_عندما أخبرنا أحد أتباعه عن ما حدث وبلغ الحاكم وصله خبر بأن الملك يود لقائنا كي يعرف التفاصيل منا شخصياً.

_ثم ماذا؟

_لا شئ، فقط أخبرناه عما حدث ولكن..

قطع كلامه بعد أن ضم حاجبيه ومط شفتيه مفكراً لتقول الأم وهي ترفع حاجبيها منتظرة منه تكملة:

_ولكن؟

_ولكن لقينا إهتماماً مبالغ فيه، أي لم أكن أنتظر كل هذا لعائلة بسيطة مثلنا.

مطت الأم شفاهها وقالت وهي تنظر حولها مفكرة:

_أظن أن هذه وظيفته وكان عليه فعل ذلك من الأساس ولكنك أنت من تحب أن تقلل من شأننا وترى أننا لا نستحق هذا.

ثم قالت مكملة كلامها:

_أو ربما كي لا يشاع اسمه، فحادثة مثل تلك نادرة الحدوث وقد تُحدث بلبلة.

قال الأب بتردد:

_ربما كلامك صحيح فهو الأكثر منطقية واحتمال حدوثه أكبر.

تابع الأب بعد أن رفع حاجبه الأيسر وحدق بالأم قائلا بتهديد:

_إياك وذكر تلك الحادثة مع الجيران أثناء اغتيابكم، لا ينقصنا إتهامات وإشاعات حول ابنتنا.

_لا تخف بالطبع لن أذكر الأمر أبداً أمام أحد، سيبقى الأمر سراً بيننا وبين الحاكم حتى يرى حلاً.

_نعم بالتأكيد سيكون هناك حل، بالمناسبة لا تدعي آلن يخرج من المنزل أبداً في تلك الأيام خصوصاً مع الجنية خاصته.

سألته الأم بتعجب:

_وماذا إن سألني أحد؟

_ستقولين أن يوم مولدهما لم يحل بعد بل هو بعد أسبوع من الآن، ستقولين لهم أنهم بالتأكيد اختلط عليهم الأمر.

نظر لها بتهديد ثم سألها:

_هل فهمت؟

_فهمت.

ردت هي بخوف ليقول هو بعد أن اطمئن:

_جيد، نبهي الأولاد أيضاً.

هزت الأم رأسها موافقةً، أطفأ الأب الأنوار وخلد إلى النوم.

في مكان آخر في غرفة أوچين حيث كانت تجلس في فراشها وحيدة، لم تفهم نظرات العائلة لها ولكنها كانت متأكدة أن في ذلك الأمر شيئا يخفونه عنها.

نهضت من الفراش وجلست على المكتب وأمسكت ورقة وقلم وبدأت تحاول أن ترسم كما كانت تفعل في الماضي ولكنها لم تستطع بعد أن حاولت بكل الطرق فكانت تقطع الورقة وتلقيها في السلة.

زفرت بغضب وعادت للفراش الذي نامت عليه وضمت جسدها فأخذت وضعية الأجنة على فراشها، حاولت النوم مراراً وتكراراً ولكن لم تفلح فصارت تتقلب والدموع تتجمع في عينيها.

نهضت من الفراش وفتحت الباب بهدوء، سارت في الردهة حتى طرقت باباً

_تفضل

فتحت أوچين الباب بهدوء ثم أدخلت رأسها فقط الغرفة وقالت والدموع تسير على وجنتيها بصوت باكي:

_هل يمكنني النوم بجانبكِ اليوم؟ لم أستطع النوم، حاولت بشتى الطرق.

ركضت نحو الفراش وغطت وجهها وغطت في نوم عميق.

استيقظ رون مرة أخرى ولكن تلك المرة على ضجيج في الكوخ من حوله وقف وهو يحاول فتح عينيه ليجد أقزاماً من حوله تتحدث بلغة غير مفهومة وتركض في أرجاء الكوخ وتسقط كل شئ على الأرض، صرخ بهم قائلاً:

_ماذا تفعلون!

لفت صوته انتباههم لينظروا نحوه، بدأ كل منهم يتخذ رد فعل مختلف عن الآخر فمنهم من هلع وهرب من الكوخ ومنهم من اقترب منه وكشف عن أنيابه التي صدمت رون ومنهم من تابع إسقاط الأشياء.

اقترب من احدهم بهدوء ليداعبه ولكنه خوفاً منه عضه في ذراعه لتنزف ذراعه الكثير من الدماء.

صرخ ألماً وبدأ يطردهم جميعاً وأغلق باب الكوخ وفتح حقيبته ليخرج منها الماء الذي غسل به الجرح الذي بدأ يلتأم على الفور، شكر رون ربه على ذلك الماء وقرر أن عليه الذهاب مرة أخرى في وقت لاحق لإحضار المزيد من هذا الماء العجيب.

تذكر الأقزام الصغيرة وضحك قائلاً:

_أقزام متوحشة.

خرج رون من الكوخ وهو ينوي الذهاب للغابة الأخيرة والتي دون اسمها على الخريطة دينتري، ما إن خرج وجد هيلين قادمة نحوه.

حياها بابتسامة لتردها له خرج كل منهما من الغابة وهو يروي لها بحماس ما حدث معه في الأمس، جعلها ترى ما جمعه البارحة من الأزهار، أصدرت هي صفيراً ثم قالت:

_ياللهول هذا عدد رائع بالنسبة لكونك مبتدئاً.

ابتسم على ما قالته واعتبره إطراءً.

_ عليك الآن جمع الياقوت فهو الأهم.

سألها للتأكيد رغم معرفته:

_في غابة دينتري أليس كذلك؟

_صحيح، هيا بنا هل أنت مستعد؟

_أنا كذلك.

قالها بابتسامة فخر مما حقق حتى الآن.

اتجها نحو غابة دينتري المطيرة وسارا على الأطراف كما اعتاد أن يفعل رون، دخلا للغابة وسارا كثيرا وحولهما تطير فراشات ويراعات مضيئة.

خطر على بال رون السؤال الذي شغل باله البارحة فقال:

_ماذا تستفيدون من الياقوت والديفيليا؟

ثم تابع بتفسير:

_أي لماذا تستخدمونها كمقابل؟

همهمت هيلين وردت عليه قائلة:

_أنظر، لاستخدام السحر نحتاج لبعض الموارد ومن أهم تلك الموارد رحيق الديفيليا والياقوت، كما أن الموارد تختلف باختلاف نوع السحر المطلوب.

_همم لقد فهمت الآن.

ثم تابع بنظرات ملأها الفضول:

_اذا وما حكاية الماء الشافي؟

_ في الحقيقة لا أعرف ما قصته ولكن كل ما أعرفه أنه مسحور وأن السحر المقروء عليه هو سر الشفاء فيه.

_هذا الماء حقا معجزة بالنسبة لي.

ابتسمت هي على جملته ثم تابعا السير نحو نهر دينتري الذي ظهر أمامهما ليسأل رون:

_إذاً أين الياقوت؟

_ألم تخبرك چيلينا أنه في أعماق النهار؟

_أتعنين أنني سأغوص فيه!

صمتت لوهلة فوجه نظره إليها ليراها تبتسم وهي تنظر له نظرة جانبية، اومأت برأسها إيجاباً ليقول:

_هل تمزحين معي! أرجوكِ قولي أنك تمزحين.

تابع وهو متشائم وسألها:

_وما قدر عمق هذا النهر؟

رفعت كتفيها وقالت بعد أن مطت شفاهها ورفعت حاجبها الأيسر:

_في الحقيقة لا أدري ولكن ربما ألف متر أو ما شابه.

ضرب بكفه على جبهته وصرخ بمزاح.

تقدم بهدوء نحو النهر ثم التفت نحوها مجددا وقال:

_لا أظن أنني سأتحمل البقاء بدون هواء كل تلك المسافة.

_تستطيع فعلها، لا تقلق.

قرر أن يثق بها وقفز على الفور في النهر بعد أن سحب شهيقاً وحبسه في رئتيه ولكنه خرج مسرعاً للهواء وزفر الهواء المحبوس في رئتيه وصار يلهث وشعره المستعار فوق عينيه، نظر لها بخوف لتبادله نظرة فقدان أمل، أخذ الأمر كتحدي وسحب شهيقاً مرة أخرى وبدأ يسبح للأعماق لدقائق ملوحاً بذراعيه وساقيه داخل النهر.

وصل أخيراً لقاع النهر ليجد بعض الأحجار ذات اللون الأحمر تلمع وسط صخور، أدرك حينها أنه الياقوت المطلوب ولكن لم يفهم كيف يمكنه أن يستخرجه.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي