٩

_تفضلي يا ابنتي.

قالها الحاكم منتظراً تبريراً منطقياً من ابنته يرضي فضوله فقالت هيلين بتوتر:

_وُلِد رون في عائلة فقيرة تسكن في أطراف إحدى القرى، عندما كانت والدته حامل به، سقطت أرضاً وكادت تفقد ابنها.

نظر رون لها بدهشة وفغر فاهُ فقد ظن أن هيلين ستكذب كما اعتاد ولكنه فوجئ عندما اعترفت، ولكن سرعان ما استرجع نظراته الطبيعية قبل أن يراه الحاكم، أكملت هيلين:

_علمت بشكل ما أنها إن أنجبته فسيكون ذو شكل مختلف عما تعودنا عليه، بملامح مختلفة، ألوان شعر مختلفة و ذو لون عيون مختلف أيضاً.

أقنعت الجميع أنها سوف تتخلص منه ولكن مشاعر الأمومة طغت عليها وقلبها الرقيق لم يطاوعها، لم تستطع فعل شيء ولم تجرؤ على ذلك فساعدها زوجها وأخفوا عن الجميع كون الطفل ما زال حي ينمو ويرزق.

توقف هيلين للحظات ووضعت ساق فوق الأخرى متناسية أنها أمام والدها:

_أنجبته في الخفاء بعد انتقلت لمكان مهجور مع زوجها، أُعجبت بملامحه اللطيفة البريئة والتي كانت تراها أجمل كل يوم، حتى أنها اعتبرتها أجمل ما رأت، كانت تراه طفلاً مميزاً عن الجميع،ورأت أنه من الجيد أنها أخفته عن العالم كي لا يؤذيه أحد.

كانت تحب ضحكته وهو رضيع، وبشرته الناعمة البيضاء، راقبت هي وأبيه السنوات ومرورها وهو يكبر، تحركاته الأولى، زحفه على الأرض للمرة الأولى، وخطواته الأولى وحتى تعثراته الأولى.

مع مرور السنوات ظل رون يسكن منزله الذي لم يغادره قط، لم يعلم أحد بوجوده ولم يفقه هو شيئاً عن ألورا، كان والديه يحضران له الطعام والشراب والملبس في الخفاء، وأخفيا كونه حي يرزق لسنوات.

توفيت الأم منذ سنتين، لم يدرك الفتى مكان والدته التي اختفت ولكن والده ظل يرعاه ويقضي له احتياجاته المادية والمعنوية.

بدأت هيلين تفرك كفيها وتحك أنفها وهي تتابع قائلةً:

_ولكونه ميت منذ سنوات بالنسبة للجميع فلم تظهر له جنية.

اختفى والده الذي قضي معه عمره منذ مدة ليست بطويلة وترك وراءه رسالة يشرح له فيها كل شيء، حينها إضطر رون أن يخرج من قوقعته أي منزله الذي لزمه لسنوات.

مازالت الصدمة تعتلي وجه رون ولكنه كان يحاول تمالك نفسه، أما عن الحاكم فقد كان يستمع بذهول لتلك الحكاية التي غفل عنها!

تابعت هيلين قائلة:

_وها هو رون أمامك يا أبي، وها أنت تشهد ملامحه المختلفة، وأسباب إخفاء والديه له

فأشارت بيدها نحو رون، سأل الحاكم بشرود وقال:

_كيف كنت غافلاً عن كل هذا كل هذا الوقت!

قالت هيلين بتردد محاولة استجماع الموقف:

_صدقني يا أبي ليس لأحد منا ذنب، فقد ماتت والدته وختفى والده وهما المسؤولان الحقيقيان عن الأمر، وتبقى رون والذي ليس بيده حيلة فهو لم يختر قدره، وبالتأكيد لن تحاسبه على خطأ والديه!

ثم تابعت مفسرة وهي تحاول التقاط أي تعبير يدل على رد فعل والدها في عيونه:

_كما أنني لم أفعل شيئاً خاطئاً، لقد ساعدت فتى مسكين على التأقلم مع الحياة، حتى أن كل هذا عرفته قبل أيام فقط.

حول الحاكم نظراته لرون الذي كان شارداً وقال:

_هل يمكنك دلي على مكان منزلك؟

استفاق رون من شروده أثر قرصة خفية من هيلين فهز رأسه نافياً يميناً ويساراً ثم تابع وشارك في كذبة هيلين وقال:

_ لقد كانت مرتي الأولى للخروج من المنزل، لذلك من المستحيل أن أجده مرة أخرى.

_إذا أخبرني كيف عرفت كل هذا وأنت لم تخرج قط من ذلك المنزل؟

_لقد وجدت مذكرات أمي في قبو المنزل، روت فيها كل شيء باستفاضة، كما أن أبي ترك لي رسالة شرح فيها بعض الأشياء أيضاً، تماماً كما أخبرتك سمو الأميرة يا مولاي.

_فهمت.

قالها الحاكم ثم تابع بانبهار:

_وكيف حصلت على الياقوت؟

_كما أخبرتك يا سيدي لقد ساعدتني هيلين في إيجاده.

هزت هيلين رأسها إيجاباً مؤكدة على حديث رون وكأنها لم تنكر إطلاقاً منذ عدة دقائق، تابع رون قائلاً:

_وغصت في أعماق النهر وحصلت على قطعة كبيرة من الياقوت الذي بدأت تكسيره، بالطبع لقد سُرق منه الكثير ولكنني أحمل المزيد في الكوخ الذي كان في الغابة.

_أي كوخ؟

سأل الحاكم فأجاب رون:

_الكوخ الذي سكنته بعد خروجي من المنزل، لقد عشت فيه لأيام مؤقتاً حتى أجد منزلاً مناسباً في إحدى قرى الشمال.

ظهرت ملامح الحاكم المتعجبة فنطقت هيلين سريعاً:

_إنه حالياً يقطن كوخ أمي يا أبي.

نظر إليها بعتاب ثم وجه نظره إلى رون وقال:

_عليك إعادة الياقوت يا بني، فهو مورد نادر.

_ولكن!

_بدون لكن، عد الآن مع كارل الى الغرفة وفي المساء سأستدعيك مجدداً.

هز رون رأسه وتحرك وخلفه كارل الذي حيا الحاكم وخرج، اقترب الحاكم من ابنته وعانقها وربت على شعرها ثم قال:

_بعد الآن لن تخفي عني أي شئ يا عزيزتي، اتفقنا؟

_اتفقنا يا أبي.

قالتها وهي تبادله الابتسامة التي وجهها لها، قال هو رداً عليها وهو يمثل الحديث بحدة وبجدية:

_هيا الآن الى غرفتك.

هزت هيلين رأسها وقبلت وجنة والدها وشكرته على مسامحته لهما، عانقته مرة أخرى لثوانٍ ثم عادت
إلى غرفتها ركضاً، قاطعها صوت والدها يقول بنبرة آمرة بعد أن رفع سبابته مهدداً:

_لا تركضي يا هيلين، هذا لا يليق بأميرة مثلك!

توقفت حينها ولم تعد للركض بل سارت في هدوء وأدب إلى أن دخلت غرفتها وأوصدت الباب.

وفي نفس الوقت عاد رون لغرفته بتوتر، أحضرت له ليند طعام الغداء وبدأ هو يتناوله بِشره من لذة الطعام.

في غرفة الحاكم، ظل الحاكم يفكر بما سمع، هل هذا معقول!

"هذا الطفل لا يشبه أي من سكان المدينة إطلاقاً، قد يشبه سكان الجنوب قليلاً ولكن التنقل بين المدن محرماً،  لذلك فقد كانت القصة التي روتها هيلين هي الأكثر منطقية وتبدو الأكثر صدقاً.

صدق هذا، أو بالأحرى حاول تصديقه؛ فخبرة الحاكم في لغة الجسد ومعرفته بشخصية ابنته جعلت نظرات ابنته المتوترة وتلعثماتها أثناء حديثها تفتح مجالاً للشك فيما روته.

عاد كارل لحجرة الحاكم مرة أخرى، طرق الباب ودخل فأمره الحاكم بإحضار الطعام هنا، ذهب كارل الى المطبخ وطلب من ليند تحضير الوجبة الخاصة بالحاكم وهذا ما فعلت.

عاد الى غرفة الحاكم طرق الباب فلم يلقى جواباً، ولكنه سمع صوت سعال قوي يأتي من داخل الغرفة، فتح الباب وهرع الى الداخل فترك الطعام من يده وركض نحو سيده فأنقذه.

أحضر المسكنات، تناولها الحاكم منه ثم ابتلعها، بدأ يهدأ رويداً ولكن التنفس عنده ما زال ضعيفاً.

أحضر كارل الطعام لحاكمه وبدأ يساعده على تناوله، قاطعه الحاكم فقال:

_أود مقابلة المستشار بشكل عاجل.

_أين تود مقابلته يا سيدي؟

_خذ له موعداً في غرفة الإجتماعات، فليكن هناك بعد ساعة من الآن.

_أمرك يا مولاي.

خرج كارل من الغرفة وتواصل مع المستشار الذي لم يتأخر إطلاقاً، بل نفذ ما أُمر به ووصل لغرفة الاجتماعات قبل موعده.

انتظر المستشار في غرفة الإجتماعات ولكن الحاكم لم يأتِ، ظل منتظراً لوقت ليس بقصير ولكن شعور القلق قد بدأ ينتابه.

نهض المستشار ليرى أحد الحراس يقف متولياً حراسة الباب فذهب نحوه وقرر سؤاله عن الحاكم وعن سبب تأخره فرد عليه الحارس قائلاً:

_لقد أصيب الحاكم بتعب مفاجئ.

رفع المستشار حاجبيه متعجباً وطلب منه استدعاء كارل ليتحدث معه فوافق الحارس، عاد المستشار لغرفة الاجتماعات وبدأ يلعب بأنامله ويطرق بها على الطاولة بملل.

طُرق باب غرفة الإجتماعات فدخل منه كارل، كاد المستشار يتحدث ولكن قاطعه صوت كارل الذي قال:

_الحاكم يريدك في غرفته؛ فهو قد أصيب بالتعب والإرهاق فجأة ولن يستطيع القدوم.

هز المستشار رأسه ونهض من على المقعد وأعاده مكانه ثم سار خلف كارل الذي دله على الغرفة.

دخل كارل الى الغرفة ودخل خلفه المستشار، انحنى الأثنين محيين الحاكم، أمرهما بالجلوس بصوت واهن فقال:

_تفضلا بالجلوس.

جلس كليهما، التزم كارل الصمت ولكن المستشار افتتح الحديث قائلا:

_لقد استدعيتني يا مولاي، هل حدث جديد في موضوع الفتاة؟

_كارل، اشرح للمستشار ما حدث وقصة الفتى رون.

كان هذا ما أمر به الحاكم كارل، فهو لم يكن قادراً على الحديث كثيراً.

بدأ الحاكم يراقب ردود أفعال المستشار وانفعال كارل الذي روى الأمر كما لو كان يروي قصة.

كان المستشار يستمع بدهشة، أي كما كان الحال مع جميع من استمع للحكاية.

انهى كارل الحكاية، وجه الحاكم سؤالاً للمستشار فقال:

_ما رأيك؟ ماذا علينا أن نفعل في موضوع ذلك المراهق الذي يدعى رون؟

التزم المستشار الصمت لدقائق حيث كان يحاول أن يدرك ويفهم الأمر.

نطق المستشار فجأة:

_أرجو من حضرتك أن تعذرني فيما سوف أقول يا سيدي، ولكنني أرى حالك تتدهور وتتجه إلى الأسوء!

التمس الحاكم الوقاحة في قوله فقال باستهزاء:

_جميعنا نرى هذا، ولكنني وجهت لك سؤالاً فتجاهلته أنت بدورك!

_لا تفهمني بشكل خاطئ يا سيدي، ظننتك لوهلة فطنت ما أرمي اليه.

نظر له الحاكم بتعجب رافعاً حاجبه الأيسر وقال:

_ماذا تقصد؟

_سأوضح لك ما أقصد يا سيدي.

_تفضل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي