السادس

كانت سيليا تقف على تلك السفينة ورياح تحرك عبائتها السوداء، وهي تنظر أمامها لتقول بصوت خافت كما هي عادتها:




" البحر الهادئ دائما ما يغري الإنسان حتى يقترب منه ويغوص في أعماقه، رغم صفائه وهدوئه هذا، فهو يجعلك تفكر وتطرح الكثير من التساؤلات، ويجعلك تريد أن تتعرف على سر هذا الهدوء المريب ،على الرغم من الصخب المتزايد في أعماقه"



تنهدت طويلا لتكمل بصوت مرتفع نسبيا حتى أن بعض ركاب سمعوها:



" يُقال دائمًا أن هدوء البحر غادر ،وأن الهدوء يستمر للحظات سريعة وبعدها يختفي، ليبدأ سباق وجنون الأمواج فهدوء البحر لا يمثل إلا إستراحة محارب ثم بعدها ينهض بكل قوته كي يكمل حربه".




كانت السفينة الشراعية الزرقاء تشق طريقها في عرض البحر، وسط تلك الأمواج الهائجة، الجميع كان خائفا من الإضطرابات الجوية التي واجهتهم طوال هذا اليوم، ويبدوا ان الوضع يمشي نحو الاسوء فقط .

فالعاصفة التي تجتاحهم الآن تأبى أن تنقشع بل كانت تزيد حدة والاسوء من هذا كله، القبطان الذي كان من المفترض ان يقود دفة السفينة ويسير بهم بأمان وسط هذآ البحر الهائج، فهو قبطان مخظرم ومعروف بقدرته على تخطي كل العواصف البحرية.



اصيب فجأة بحمى غريبة جعلته يفقد قدرته على الحركة، لقد كانت حرارته شديدة ،وهو غير قادر على أن يقف حتى على قدميه ويكافح ليسيطر على مرضه، فكيف به أن يكافح لينقذ طاقمه ومجموعة من الناس الذين ركبوا سفينته.

استسلم الجميع وأمنوا أن هذه نهايتهم، كان الجميع يرتجف من شده الخوف ويدعو من قلبه أن يمر الأمر بسلام.

ما عدا تلك الفتاة صاحبة العيون الخضراء المميزة ،التي كانت تقف عند مقدمة السفينة وهي  تمسك بيدها في سارية كانت موجودة في مقدمة السفينة، تنظر إلى الموج الهادر أمامها بصمت، كما لو أن الأمواج كانت تتقاتل فيما بينها.

حاول مجموعة من الرجال أن يبعدوها من مقدمة السفينة ولكنها رفضت تماما، لم تأبه ولم تستمع لأي أحد منهم، بل إستمرت في الوقوف هناك بعناد.

كل شخص كان يتمسك بجزء من السفينة على أمل منه أن ينجو من هذا الجو العاصف ، وهناك من أقسم أنه يستحيل أن يجرب الترحال عبر ركوب سفن مرة أخرى.

موجه عظيمة إرتفعت في كبد سماء المائدة بالغيوم السوداء، لتضرب مقدمة السفينة بقوة كبيرة، لي الوهلة  الأولى إعتقد الجميع أن الفتاة التي كانت تقف هنالك في مقدمة السفينة، قد غادرت الحياة وسقطت جثة هامدة في عرض المحيط الهائج، ولكنهم تفاجؤا عندما وجدوها لا تزال تتشبث بالحبل الذي كان بجوارها وكأن شيء لم يحدث، لتلتفت إليهم وتنظر إليهم في غضب شديد وهي تصرخ:

" أيها المجانين أنكم تقفون في منتصف السفينة تقدموا إلى هنا أو إذهبوا إلى جوانب السفينة وتمسكوا بها جيدا ، لأن الوسط تجتاحه المياه ويبقى الجانبين فهو مكان أمن نسبيا لكم ".

نظر الجميع إلى بعضهم بعض، قبل أن ينظروا إليها وهم يشعرون بالغرابة من صراخها وتصرفاتها، وكأنها تعرف ما عليها فعله، لقد كانت مجنونه بحق هم أسياد البحر .


وليس هناك من أدرى  بشعاب الصحراء إلا أصحابها، لم يهتم طاقم السفينة على الإطلاق بكلامها، بينما هنالك بعض الركاب وأشخاص آخرون قد إستسلموا للموت وجلسوا في أماكنهم منتظرين النهاية المحتومة.

لعنتهم سيليا آلاف المرات في سرها، قبل أن  تعود  وتتمسك بالسارية الخشبية التي كانت إلى جوارها ،وهي تنظر إلى تلك الموجة العظيمة التي إرتفعت من جوف البحر، لجعل السفينو تبدو كلا شيء امامها، قبل أن ترتطم بقوة في هيكل الخشبي وتحطم السفينه إلى أجزاء.

تطايرت الأجساد وسقطت في عرض المحيط، وأصبح كل شخص يحاول أن يسبح لكي ينجو بنفسه ولكن بدون فائدة، كان الموج قويا جدا بالإضافة إلى ذلك الإعصار القوي الذي كان قريبا جدا من هيكل السفينة الشراعية المحطة، والتي بسبب قوتها جعلت كل شخص يذهب في إتجاه مختلف عن الآخر .

بقيت سيليا تصارع أمواج البحر الهائجة حتى وجدة أمامها خشبة تطفو من هيكل السفينة تمسكت بتلك الخشبة وقد لفت ذراعيها حولها كالافعى وهي تتنفس بقوة، لقد تشبثت بها لتصعد فوقها وتتسطح على بطنها وهي تمسك اطراف الخشبة بقدميها ويديها معا، بقيت تتقاذفها الأمواج لساعات وساعات إلى أن فقدت الوعي تماما ولم تشعر بأي شيء بعدها.

داعبتها أشعة الشمس لتفتح عينيها بإرهاق شديد :



" تبا انا لا أزال مرمية فوق هذهةالخشبة التي تعوم بي في وسط المحيط لا أعرف لكم من الوقت وأنا فاقدة للوعي، جسدي منهك من تعب والبرد وأشعر بألم شديد في حلقي".


نظرت إلى يدها التي كانت مرمية بجانبيها بتعب لتحرك أطراف أصبعها، تحاول إزالة الخدر منها، قبل أن تسند بكلتا يديها على الخشبة وترفع جزءها العلوي ببطء شديد.

كانت قد تعرضت لبعض الخدوش الطفيفة على يديها ورقبتها، وبعض الإصابات في جسدها ولكنها لا تزال على قيد الحياة وهذا أهم شيء.

تنهدت براحة قبل أن تتجهم تقاسيم وجهها، وهي نظرت حولها بضياع كان البحر يحاوطها من كل جانب,يمينا وشمالا شرقا وغربا، هي لا تعرف وجهتها الآن.

إرتمت على الخشبة مرة أخرى لتستلقي عليها، وتنقلب على ظهرها وهي تنظر إلى السماء الزرقاء الصافية بابتسامة ساخرة لتمتم:


حسنا لقد كنت أتوقع طوال حياتي أنني سوف أموت ميتة بشعة، ولكنني لم تتوقع أبدا أنني من الممكن أن أموت وحيدة وسط البحر جوعا وعطشا" .

إرتمت في عرض البحر لتسبح وهي تحاول أن تجد خشبة أكبر من تلك التي لديها، لكن دون جدوى عادت مرة أخرى إلى تلك الخشبة، بعدما كانت تحاول أن تجد  شيء أكبر تتشبث به أو حتى قارب نجاة تغادر به ولكن بدون فائدة.

رفعت عينيها لتقول بإستغراب شديد:



" هنالك سرب من طيور النورس تطير فوق رأسي ولكن ما ذلك الشيء الضخم الذي يتوسطهم ".



أثار إستغربها حقا، ذلك الطائر الأحمر الغريب تماما عن سرب، لقد كان ضخم وجميلا في نفس الوقت، ولأنها كانت جائعة حد الموت ،جعلها عقلها المسكين تفكر في طريقة سهلة لي إصطياده وأكله أتصدقون.

وكما يقول المثل، ( الحاجة هي أم الإختراعات)،
والجوع قد يدفعك إلى فعل أشياء مجنونة بالفعل.

جدفت بيديها في المياه لتقترب من مكان الذي يحوم فوقه ذلك الطائر، وهي تنظر إليه بهدوء شديد تحاول إقتناص الفرصة المناسبة لكي تصتاده، لقد كان هناك سرب من الأسماك البويك التي تبحر إلى جوارها.

وضعت يدها حتى تسحب إحدها كي تستعملها كطعم لتصتاد الطائر وتأكله، ولكنها ضربت جبهتها وهي تستعيد ذاكرتها وهي تقول:



" صحيح أنا جائعة وأريد أن أكل، لكن أين سوف أطبخه هل سوف أكله نيئا يا فهيمة؟.

ضحكت على أفكارها  وهي تهز رأسها على فكرتها السخيفة، قبل أن تعود وتستلقي مرة أخرى على ظهرها وتنظر إلى السماء، والغريب أن ذلك الطائر العجيب كان قد بدأ ينزل إليها ويحلق بمقروبة منها، لابد أنها قد أصيبت بضربة شمس لذلك هي تتخيل أمورا لا يمكن أن تحدث.

ولكنها تفاجأت بالطائر قد نزل على سطح تلك الخشبة الطافية وقف أمامها،ليفرد جناحيه بغرور ثم يجمعها وهو ينظر إليها، كما لو أنه كان يتفحصها بعينيه.

نظرت إليه مدة طويلة بصمت، قبل أن ترسم إبتسامة ساخرة وهي تقول:

"ماذا؟ ، لا تخبرني أنك قد قرأت أفكاري؟ وجئت لتنتقم مني لأنني فكرت في أن اطبخك واكلك على الغذاء اليوم ؟".

" تشه غبية كما توقعت تماما، أنا أصلا لا اصلح للأكل فطعمي سيء ولا أطبخ بأي مار فأنا طائر الفينكس الاسطوري".

توسعت عيني سيليا برعب شديد، وهي تسمع يتحدث إليها دفعته عن سطح تلك الخشبة بفزع وهي تصرخ لتعود وتتحرك دون إنتباه.

لقد كانت على وشك أن تسقط، لتجلس بقوة في طرف الخشب.

إلا أن تلك الحركة المفاجئة كانت أغبى شيء فعلته في حياتها، فلم تتحمل الخشبة ان يكون وزنها على طرف واحد، فإنقلبت بها في الماء لتغوص إلى الأسفل،
حاربت مرة أخرى لتصعد عليها من الطرف الأخر، وهي تنظر إلى ذلك الطائر ،الذي كان قد عاد حتى يقف على الخشبة بعدما صعدت من الماء، كان  ينظر إليها طويلا وهي تقسم أن نظرته كانت تحتوي إبتسامة ساخرة لها .







يتبع.....
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي