١٤
_ماذا تقصد!
قالها الحاكم بتعجب منتظراً بلهفة أن يسمع ما كان يشك به فأجابه الحارس قائلاً:
_سوف أشرح لحضرتك إن أذنت لي.
_الإذن معك، تفضل.
_بدأت أتتبع الرجل منذ أن أمرتني بذلك يا سيدي، لاحظت منهم تصرفات غريبة، فقد إلتزمت العائلة منزلها وهم لا يخرجون منه إلا للضرورة القصوى.
_أليس من الممكن أنهم يفعلون هذا كي لا يسأل الناس عن الجنية الخاصة بابنتهم، أي كي يرتاحوا من فضول الناس؟
لم يكن الحاكم مقتنعاً بهذا الكلام الذي قاله ولكنه كان يحاول أن يكون محايداً غير متحيز، بل وحاول إعطائهم الحجج
_لا أظن ذلك، سأشرح لحضرتك ما توصلت إليه.
_لاحظت عدم خروج الفتاة من المنزل مطلقاً.
سكت عن الكلام لوهلة ثم تابع:
_فور ملاحظتي لهذا بدأت أتتبع جميع العائلة واستطعت أن أتواصل مع المقربون منهم والجيران، وهنا كانت الصدمة.
تابع الحارس قائلاً:
_في البداية كان الجيران يسألون عن الجنيتين الخاصتين بالتوأم ولكن كلاً من الأب والأم كانا يجيبان قائلان "لم يحن بعد موعد عيد ميلادهم" وكانا يرددان دائماً أنه بعد أسبوع وأن الجيران قد تشوش عقلهم أو ما شابه.
_إذاً قررا الكذب!
_نعم يا سيدي، وعندما سألت الجيران والأصدقاء كلٌ على حدة، جميعهم قالوا أنهم كانوا متأكدين من أن موعد عيد ميلادهم قد مر، فهم كانوا يحتفلون به جميعاً في كل سنة في مثل هذا الوقت.
رفع الحاكم حاجبيه وقال بدهشة:
_لا تتوقف، تابع الحديث.
_ليس هنالك شيء آخر، فقط الجيران والأصدقاء باتوا يشكون في تلك العائلة مؤخراً، فقد صار الفتى يخرج بجنيته، أما عن الفتاة فهي لم تخرج منذ ذلك الحين من المنزل بحجة أنها مريضة وملازمة للسرير.
_تصرف عائلة الفتاة مريب في الحقيقة، كان بوسعهم أن يقولوا أن ابنتهم لم تظهر لها جنية وأنهم لجأوا إلي لحل المشكلة.
_أتفق مع حضرتك يا مولاي.
حرك الحاكم رأسه متفهماً ثم أمر الحارس قائلاً:
_لازم تتبعهم ولا تهملهم مطلقاً، لعلهم يخفون شيئاً ما.
_أمرك يا سيدي.
انحنى الحارس وطلب إذن الخروج، فأذن الحاكم له.
عند كوخ هيلين والذي يسكنه رون، بدأ رون يشعر بالجوع، تذكر وعدهم له بإحضار الطعام اليومي ولكنهم لم يرسلوا له الطعام حتى الآن.
بدأ يشعر بالندم لإعطائهم الياقوت قبل أخذ مقابل، ولكنه تذكر أن هذا أفضل له كي يضمن أن يبقى حياً يرزق قدر المستطاع.
جمع بعض الديفيليا في حقيبة صغيرة وارتداها على كتفه الأيسر بعد أن قرر الخروج من الكوخ والذهاب لشراء بعض الطعام ليحيى به.
فتح باب الكوخ ببطء وخرج منه، سار قليلاً وشعر بغرابة في أرجاء المكان، لم تكن الغابة كما إعتادها.
بدأ يتأملها أكثر حتى أدرك أن ما كان يفكر به صحيح وأن الغابة بالفعل ليست كما إعتاد أن يراها.
فقد اختفت جميع الأشجار بشكل مفاجئ، لم يدرك ما حدث بل بدأ يفكر في الأمر ولكن قطع حبل أفكاره رياح شديدة ضربته وساعدت على سقوط الشعر المستعار من فوق رأسه.
بدأ يحاول أن يثبته، صار يشعر بالبرد فقرر الدخول مرة أخرى، فتح الخزانة الموجودة، وجد فيها معطف قديم شبه مهترئ كما رأى قبعة قديمة أيضاً في نفس الخزانة.
سحبهم وقرر ارتدائهم ليتحمل هذا الهواء البارد الذي لم يتوقعه ابداً، منذ أن خرج من منزله وحتى ليلة الأمس كان الجو رائع ومعتدل، ولكنه تفاجأ اليوم ببرودة الهواء.
ارتدى المعطف بالفعل وكان كبير الحجم عليه وثبت بعدها الشعر المستعار على رأسه ووضع فوقه القبعة محاولاً تدفئة أذنيه، ضم جسده بيديه وانكمش.
فتح الباب وخرج منه وبدأ يسير في اتجاه المدينة، بدأ يتأمل المكان من حوله، غابة بدون أشجار!
كان هذا ما لم يتوقع أبداً رؤيته، بدأ يرتجف أثناء سيره رغم أنه كان مرتدياً للمعطف الذي وجده في الخزانة.
فجأة سمع أصوات تصدر من السماء ذات اللون الباهت، كان الجو يبدو له وكأنه كهل كئيب.
بدأ يشعر ببعض قطرات الماء تتساقط على رأسه واحدة تلو الأخرى ببطء، رفع رأسه وحدق في السماء لتسقط قطرة على أنفه فقال بضيق:
_يا إلهي إنها تمطر!
لطالما شعر رون بالضيق من ذلك الجو البارد وخاصة صوت الأمطار، جلس على الأرض واختار مكاناً ذو سقف خشبي وأسند رأسه على ركبتيه، وبدأ يشعر بالتوتر، ومع ازدياد الأمطار وتسارعها بدأ يشعر بالرغبة في البكاء.
كان صوت بكاء رون في الغابة عالٍ، خصوصاً بسبب خلو المكان من الأشجار؛ لهذا كان صوت بكاءه مصحوباً بالصدى.
قاطعه صوت نحنحة، نظر بعيونه ذات لون الدماء والدموع تسير على وجنتيه لا تجف، رأى كارل يقف وعلى كتفه حقيبته فقال:
_رون، هل أنت بخير؟
قالها بعيون قلقة، فمسح رون عيونه وقال:
_كارل ماذا تفعل؟
بدأ يتأمل كارل والذي كان يراه للمرة الأولى بزيه الشتوي، قال كارل:
_ألم أعدك بأنني سأحضر لك وجباتك يومياً إلى أن تنتهي من مهمتك؟
_كنت قد خرجت كي أحضر بعض الطعام، فتح حقيبته الصغيرة وأظهر له الديفيليا ثم قال:
_لوهلة ظننتك لن تفي بوعدك.
_إنه ليس وعدي يا رون، إنه وعد الحاكم، والحاكم لا يخلف وعده أبداً.
أومأ رون برأسه إيجاباً ثم قال:
_أشكرك.
هز كارل رأسه نافياً بابتسامة وقال:
_لا شكر على واجب يا رون.
تذكر كارل وسأل باهتمام:
_صحيح، لم كنت تبكي؟
_فقط شعرت بالتوتر والرهبة من ذلك الصوت المرعب.
_لا تقلق أنا معك، هل تود مني أن أوصلك إلى الكوخ؟
_إن لن أكون عائقاً لك في إنجاز أعمالك وأشغالك، فنعم افضل ذلك.
سارا معاً في اتجاه الكوخ فقال كارل مشجعاً لرون رغم حرص الحاكم على أن لا يعرف رون حالياً:
_سأخبرك سراً، فهل ستستطيع حفظه؟
_بالتأكيد، أنا لا أفشي الأسرار مطلقاً.
_إن نجحت في مهمتك، سيعينك الحاكم ويوظفك معه.
ابتسم رون فقد أدرك أنه على الأقل سيحيى بسلام ولن يقتله الحاكم.
تنهد رون وقال:
_وماذا عن المهمة، متى سأبدأ بها ومتى سأعرف تفاصيلها؟
_ستبدأ في غضون أيام، ولا تقلق سوف تعلم كل ما تحتاج لمعرفته في الوقت المناسب.
وصلا الى الكوخ ودعا رون كارل إلى الداخل، وبالفعل دخل وجلس معه، أخرج بعض الطعام الساخن من حقيبته ليشتهيه رون على الفور بعد أن شعر أنه من إعداد السيدة ليند.
أبعد رون الطعام وقال:
_هل تود شرب شيء ساخن كي يجعل أجسادنا دافئة؟
_ما هو هذا الشئ الساخن؟
_قهوة ساخنة.
أخذ رون بعض من حبوب القهوة التي كان قد جمعها مسبقاً ووضعها في الخزانة، ووضع فوقها الماء، لم يضف السكر لأن حبيبات البن تلك كانت حلوة في الأساس فلم تحتج السكر.
وضع الخليط على نار هادئة وانتظر حتى بدأت القهوة تتصاعد لأعلى فأطفأ النار مسرعاً ووضعها في كأسين.
قدم أحدهما لكارل الذي أعجبه طعمه وبدأ يرتشف منه، وبدأ رون يفعل المثل مستلذاً بطعمها.
قال كارل بابتسامة:
_طعمه لذيذ جداً، كيف صنعته.
غمز له رون بعينه وقال بمزاح:
_إنه سر المهنة.
قهقه كليهما وقال رون بعدها:
_أمزح معك، كل ما فعتله هو أنني وضعت الماء وحبيبات الحلوى البنية في وعاء وأشعلت النار.
_لقد اعتدنا على أكل تلك الحلوى ولكن لم يشربها أحد في المدينة من قبل، يبدو أننا اكتشفنا بفضلك مشروباً لذيذاً.
ابتسم رون له وأخذ رشفة من القهوة ثم قال بفضول:
_كيف اختفت الأشجار!
_إن موسم الأزهار قد انتهى وبدأ موسم الغيث.
_كم من موسم في ألورا؟
_إنهما فقط موسم الأزهار وموسم الغيث؛ أي موسمان.
_إذاً وما علاقتهما باختفاء الأشجار؟
_مع نهاية موسم الأزهار، تختفي الأشجار في وقت غير ملحوظ، أي أننا نتفاجأ بهذا.
_كم هذا مرعب! من رأيي لا حياة دون أشجار.
_ولكننا نعيش يا فتى.
_على أي حال، كما قلتم من قبل، إن الياقوت ليس لعامة الشعب.
_هذا صحيح.
_والآن لا أشجار، أي لا ديفيليا، إذا كيف يتعامل ويعيش البشر في تلك الفترة.
_بالسحر.
فتح رون فاه ونظر بتعجب فقال:
_كيف؟
_يجمع العامة الديفيليا طوال موسم الأزهار، ويسعون للحصول عليها بأي شكل، فمنهم من تخبز مقابلهم ومنهم من يطرز الملابس مقابلهم، وهكذا.
تابع بعد أن رأى نظرات رون المندهشة:
_ثم يعيشون طوال موسم الغيث باستخدام السحر.
_فهمت.
تابع رون مستفسراً:
_وما فائدة الياقوت؟
_يُطحن وأيضاً يتم استخدامه فالسحر، ولكنه ذو مفعول أقوى ولا يحصل عليه سوى علية القوم.
تابع كارل قائلاً:
_ماذا إن لم أحضر لك الطعام اليوم؟
_كما قلت لك من قبل، بدأ موسم الغيث ومع بدءه بدأ الناس يجلسون في بيوتهم ليوم أو عدة أيام حتى يعتاد المرء على هذا الطقس.
_حسناً، فهمت.
أكمل كارل إحتساء قهوته التي جربها للمرة الأولى، بعد أن أنهاها عاد مرة أخرى نحو حقيبته وأخرج منها زياً دافئاً ليرتديه رون في موسم الغيث.
ودع رون ثم خرج من الكوخ واتجه نحو القصر بعد أن أنهى المهمة التي وكلها له الحاكم.
بعد أن خرج كارل، أخرج رون الطعام الشهي ذو الرائحة الطيبة الزكية وبدأ يأكل بشراهة، كان يسمع صوت الأمطار ويرى ضوءاً أبيض شبهه بضوء البرق يلحقه صوت مرعب يبدو وكأنه وحش يصرخ، أنهى رون طعامه وقف رون لا يعرف ما عليه فعله.
فقرر قضاء وقته في أي شيء، سحب بعض الأوراق التي رآها في الخزانة، وأخذ معها علبة ألوان وقلماً رصاصي اللون وبدأ يرسم خطوطاً عشوائية لا تدل على شيء أبداً.
لم تعجبه الرسمة التي رسمها، لطالما احب الرسم وجميع أنواع الفنون، ولكنه لم يمتلك طيلة بال لتعلم إحداهن، فلم يتقن إلا الكتابة.
أمسك الورقة ودمرها بكفه وجعلها تشبه الكرة ثم رماها أرضاً، كرر الأمر عدة مرات برسوم مختلفة فمرة قطة ومرة كلب ومرة رسم ذلك القزم الذي واجهه من قبل.
رمى كل هذا الورق كما فعل في الورقة الأولى، بدأ يشعر بالملل، بدأ يرسم خطوطاً عشوائية بلا أصل، ولكن فور أن تخيل لو كانت لديه جنية كبقية الشعب هنا، بدأ يرسم ما يدور في خياله.
بدأ رون يشعر بالنعاس، تثاءب واضعاً كفه على فمه كم اعتاد، ترك يداه تفلت من على المكتب فسقطت منها القلم عندما أرخاها.
وسقطت رأسه أيضاً على يده المستندة على المكتب الخشبي.
غفا رون سريعاً رغماً عن صوت الأمطار والرعد وضوء البرق.
مرت الساعات وحل وقت شروق الشمس، بدأت تصبح أقوى فيصبح ضوءها أقوى.
تمدد رون دون أن يستفيق فأبعد يديه عن وجهه لتضرب أشعة الشمس عينيه بقوة، أغمضها بالقوة بضيق ثم أضطر أن يفتحها عندما اشتد الضوء عليها.
حدق في نقطة فارغة لدقائق، كانت عينه مفتوحة ولكن عقله كان شارداً أو كأنه نائماً.
استفاق من شروده ووقف ليسمع صوتاً يقول:
_صباح الخير.
_صباح الخير.
رد تحية الصباح متناسياً أنه كان وحده في الكوخ في آخر لحظة قبل أن يغفو.
مرت ثوانٍ وضع بعض الماء في كفه وغسل به وجهه مرتين، كاد يغسله للمرة الثالثة ولكنه توقف وكأن الزمن توقف.
كان يحاول إدراك ما إن كان الصوت الذي سمعه قبل قليل حقيقي أم أنه مجرد تهيؤات، التفت نحو المكتب الذي كان جالساً عليه في المساء فنظر وكانت الصدمة.
قالها الحاكم بتعجب منتظراً بلهفة أن يسمع ما كان يشك به فأجابه الحارس قائلاً:
_سوف أشرح لحضرتك إن أذنت لي.
_الإذن معك، تفضل.
_بدأت أتتبع الرجل منذ أن أمرتني بذلك يا سيدي، لاحظت منهم تصرفات غريبة، فقد إلتزمت العائلة منزلها وهم لا يخرجون منه إلا للضرورة القصوى.
_أليس من الممكن أنهم يفعلون هذا كي لا يسأل الناس عن الجنية الخاصة بابنتهم، أي كي يرتاحوا من فضول الناس؟
لم يكن الحاكم مقتنعاً بهذا الكلام الذي قاله ولكنه كان يحاول أن يكون محايداً غير متحيز، بل وحاول إعطائهم الحجج
_لا أظن ذلك، سأشرح لحضرتك ما توصلت إليه.
_لاحظت عدم خروج الفتاة من المنزل مطلقاً.
سكت عن الكلام لوهلة ثم تابع:
_فور ملاحظتي لهذا بدأت أتتبع جميع العائلة واستطعت أن أتواصل مع المقربون منهم والجيران، وهنا كانت الصدمة.
تابع الحارس قائلاً:
_في البداية كان الجيران يسألون عن الجنيتين الخاصتين بالتوأم ولكن كلاً من الأب والأم كانا يجيبان قائلان "لم يحن بعد موعد عيد ميلادهم" وكانا يرددان دائماً أنه بعد أسبوع وأن الجيران قد تشوش عقلهم أو ما شابه.
_إذاً قررا الكذب!
_نعم يا سيدي، وعندما سألت الجيران والأصدقاء كلٌ على حدة، جميعهم قالوا أنهم كانوا متأكدين من أن موعد عيد ميلادهم قد مر، فهم كانوا يحتفلون به جميعاً في كل سنة في مثل هذا الوقت.
رفع الحاكم حاجبيه وقال بدهشة:
_لا تتوقف، تابع الحديث.
_ليس هنالك شيء آخر، فقط الجيران والأصدقاء باتوا يشكون في تلك العائلة مؤخراً، فقد صار الفتى يخرج بجنيته، أما عن الفتاة فهي لم تخرج منذ ذلك الحين من المنزل بحجة أنها مريضة وملازمة للسرير.
_تصرف عائلة الفتاة مريب في الحقيقة، كان بوسعهم أن يقولوا أن ابنتهم لم تظهر لها جنية وأنهم لجأوا إلي لحل المشكلة.
_أتفق مع حضرتك يا مولاي.
حرك الحاكم رأسه متفهماً ثم أمر الحارس قائلاً:
_لازم تتبعهم ولا تهملهم مطلقاً، لعلهم يخفون شيئاً ما.
_أمرك يا سيدي.
انحنى الحارس وطلب إذن الخروج، فأذن الحاكم له.
عند كوخ هيلين والذي يسكنه رون، بدأ رون يشعر بالجوع، تذكر وعدهم له بإحضار الطعام اليومي ولكنهم لم يرسلوا له الطعام حتى الآن.
بدأ يشعر بالندم لإعطائهم الياقوت قبل أخذ مقابل، ولكنه تذكر أن هذا أفضل له كي يضمن أن يبقى حياً يرزق قدر المستطاع.
جمع بعض الديفيليا في حقيبة صغيرة وارتداها على كتفه الأيسر بعد أن قرر الخروج من الكوخ والذهاب لشراء بعض الطعام ليحيى به.
فتح باب الكوخ ببطء وخرج منه، سار قليلاً وشعر بغرابة في أرجاء المكان، لم تكن الغابة كما إعتادها.
بدأ يتأملها أكثر حتى أدرك أن ما كان يفكر به صحيح وأن الغابة بالفعل ليست كما إعتاد أن يراها.
فقد اختفت جميع الأشجار بشكل مفاجئ، لم يدرك ما حدث بل بدأ يفكر في الأمر ولكن قطع حبل أفكاره رياح شديدة ضربته وساعدت على سقوط الشعر المستعار من فوق رأسه.
بدأ يحاول أن يثبته، صار يشعر بالبرد فقرر الدخول مرة أخرى، فتح الخزانة الموجودة، وجد فيها معطف قديم شبه مهترئ كما رأى قبعة قديمة أيضاً في نفس الخزانة.
سحبهم وقرر ارتدائهم ليتحمل هذا الهواء البارد الذي لم يتوقعه ابداً، منذ أن خرج من منزله وحتى ليلة الأمس كان الجو رائع ومعتدل، ولكنه تفاجأ اليوم ببرودة الهواء.
ارتدى المعطف بالفعل وكان كبير الحجم عليه وثبت بعدها الشعر المستعار على رأسه ووضع فوقه القبعة محاولاً تدفئة أذنيه، ضم جسده بيديه وانكمش.
فتح الباب وخرج منه وبدأ يسير في اتجاه المدينة، بدأ يتأمل المكان من حوله، غابة بدون أشجار!
كان هذا ما لم يتوقع أبداً رؤيته، بدأ يرتجف أثناء سيره رغم أنه كان مرتدياً للمعطف الذي وجده في الخزانة.
فجأة سمع أصوات تصدر من السماء ذات اللون الباهت، كان الجو يبدو له وكأنه كهل كئيب.
بدأ يشعر ببعض قطرات الماء تتساقط على رأسه واحدة تلو الأخرى ببطء، رفع رأسه وحدق في السماء لتسقط قطرة على أنفه فقال بضيق:
_يا إلهي إنها تمطر!
لطالما شعر رون بالضيق من ذلك الجو البارد وخاصة صوت الأمطار، جلس على الأرض واختار مكاناً ذو سقف خشبي وأسند رأسه على ركبتيه، وبدأ يشعر بالتوتر، ومع ازدياد الأمطار وتسارعها بدأ يشعر بالرغبة في البكاء.
كان صوت بكاء رون في الغابة عالٍ، خصوصاً بسبب خلو المكان من الأشجار؛ لهذا كان صوت بكاءه مصحوباً بالصدى.
قاطعه صوت نحنحة، نظر بعيونه ذات لون الدماء والدموع تسير على وجنتيه لا تجف، رأى كارل يقف وعلى كتفه حقيبته فقال:
_رون، هل أنت بخير؟
قالها بعيون قلقة، فمسح رون عيونه وقال:
_كارل ماذا تفعل؟
بدأ يتأمل كارل والذي كان يراه للمرة الأولى بزيه الشتوي، قال كارل:
_ألم أعدك بأنني سأحضر لك وجباتك يومياً إلى أن تنتهي من مهمتك؟
_كنت قد خرجت كي أحضر بعض الطعام، فتح حقيبته الصغيرة وأظهر له الديفيليا ثم قال:
_لوهلة ظننتك لن تفي بوعدك.
_إنه ليس وعدي يا رون، إنه وعد الحاكم، والحاكم لا يخلف وعده أبداً.
أومأ رون برأسه إيجاباً ثم قال:
_أشكرك.
هز كارل رأسه نافياً بابتسامة وقال:
_لا شكر على واجب يا رون.
تذكر كارل وسأل باهتمام:
_صحيح، لم كنت تبكي؟
_فقط شعرت بالتوتر والرهبة من ذلك الصوت المرعب.
_لا تقلق أنا معك، هل تود مني أن أوصلك إلى الكوخ؟
_إن لن أكون عائقاً لك في إنجاز أعمالك وأشغالك، فنعم افضل ذلك.
سارا معاً في اتجاه الكوخ فقال كارل مشجعاً لرون رغم حرص الحاكم على أن لا يعرف رون حالياً:
_سأخبرك سراً، فهل ستستطيع حفظه؟
_بالتأكيد، أنا لا أفشي الأسرار مطلقاً.
_إن نجحت في مهمتك، سيعينك الحاكم ويوظفك معه.
ابتسم رون فقد أدرك أنه على الأقل سيحيى بسلام ولن يقتله الحاكم.
تنهد رون وقال:
_وماذا عن المهمة، متى سأبدأ بها ومتى سأعرف تفاصيلها؟
_ستبدأ في غضون أيام، ولا تقلق سوف تعلم كل ما تحتاج لمعرفته في الوقت المناسب.
وصلا الى الكوخ ودعا رون كارل إلى الداخل، وبالفعل دخل وجلس معه، أخرج بعض الطعام الساخن من حقيبته ليشتهيه رون على الفور بعد أن شعر أنه من إعداد السيدة ليند.
أبعد رون الطعام وقال:
_هل تود شرب شيء ساخن كي يجعل أجسادنا دافئة؟
_ما هو هذا الشئ الساخن؟
_قهوة ساخنة.
أخذ رون بعض من حبوب القهوة التي كان قد جمعها مسبقاً ووضعها في الخزانة، ووضع فوقها الماء، لم يضف السكر لأن حبيبات البن تلك كانت حلوة في الأساس فلم تحتج السكر.
وضع الخليط على نار هادئة وانتظر حتى بدأت القهوة تتصاعد لأعلى فأطفأ النار مسرعاً ووضعها في كأسين.
قدم أحدهما لكارل الذي أعجبه طعمه وبدأ يرتشف منه، وبدأ رون يفعل المثل مستلذاً بطعمها.
قال كارل بابتسامة:
_طعمه لذيذ جداً، كيف صنعته.
غمز له رون بعينه وقال بمزاح:
_إنه سر المهنة.
قهقه كليهما وقال رون بعدها:
_أمزح معك، كل ما فعتله هو أنني وضعت الماء وحبيبات الحلوى البنية في وعاء وأشعلت النار.
_لقد اعتدنا على أكل تلك الحلوى ولكن لم يشربها أحد في المدينة من قبل، يبدو أننا اكتشفنا بفضلك مشروباً لذيذاً.
ابتسم رون له وأخذ رشفة من القهوة ثم قال بفضول:
_كيف اختفت الأشجار!
_إن موسم الأزهار قد انتهى وبدأ موسم الغيث.
_كم من موسم في ألورا؟
_إنهما فقط موسم الأزهار وموسم الغيث؛ أي موسمان.
_إذاً وما علاقتهما باختفاء الأشجار؟
_مع نهاية موسم الأزهار، تختفي الأشجار في وقت غير ملحوظ، أي أننا نتفاجأ بهذا.
_كم هذا مرعب! من رأيي لا حياة دون أشجار.
_ولكننا نعيش يا فتى.
_على أي حال، كما قلتم من قبل، إن الياقوت ليس لعامة الشعب.
_هذا صحيح.
_والآن لا أشجار، أي لا ديفيليا، إذا كيف يتعامل ويعيش البشر في تلك الفترة.
_بالسحر.
فتح رون فاه ونظر بتعجب فقال:
_كيف؟
_يجمع العامة الديفيليا طوال موسم الأزهار، ويسعون للحصول عليها بأي شكل، فمنهم من تخبز مقابلهم ومنهم من يطرز الملابس مقابلهم، وهكذا.
تابع بعد أن رأى نظرات رون المندهشة:
_ثم يعيشون طوال موسم الغيث باستخدام السحر.
_فهمت.
تابع رون مستفسراً:
_وما فائدة الياقوت؟
_يُطحن وأيضاً يتم استخدامه فالسحر، ولكنه ذو مفعول أقوى ولا يحصل عليه سوى علية القوم.
تابع كارل قائلاً:
_ماذا إن لم أحضر لك الطعام اليوم؟
_كما قلت لك من قبل، بدأ موسم الغيث ومع بدءه بدأ الناس يجلسون في بيوتهم ليوم أو عدة أيام حتى يعتاد المرء على هذا الطقس.
_حسناً، فهمت.
أكمل كارل إحتساء قهوته التي جربها للمرة الأولى، بعد أن أنهاها عاد مرة أخرى نحو حقيبته وأخرج منها زياً دافئاً ليرتديه رون في موسم الغيث.
ودع رون ثم خرج من الكوخ واتجه نحو القصر بعد أن أنهى المهمة التي وكلها له الحاكم.
بعد أن خرج كارل، أخرج رون الطعام الشهي ذو الرائحة الطيبة الزكية وبدأ يأكل بشراهة، كان يسمع صوت الأمطار ويرى ضوءاً أبيض شبهه بضوء البرق يلحقه صوت مرعب يبدو وكأنه وحش يصرخ، أنهى رون طعامه وقف رون لا يعرف ما عليه فعله.
فقرر قضاء وقته في أي شيء، سحب بعض الأوراق التي رآها في الخزانة، وأخذ معها علبة ألوان وقلماً رصاصي اللون وبدأ يرسم خطوطاً عشوائية لا تدل على شيء أبداً.
لم تعجبه الرسمة التي رسمها، لطالما احب الرسم وجميع أنواع الفنون، ولكنه لم يمتلك طيلة بال لتعلم إحداهن، فلم يتقن إلا الكتابة.
أمسك الورقة ودمرها بكفه وجعلها تشبه الكرة ثم رماها أرضاً، كرر الأمر عدة مرات برسوم مختلفة فمرة قطة ومرة كلب ومرة رسم ذلك القزم الذي واجهه من قبل.
رمى كل هذا الورق كما فعل في الورقة الأولى، بدأ يشعر بالملل، بدأ يرسم خطوطاً عشوائية بلا أصل، ولكن فور أن تخيل لو كانت لديه جنية كبقية الشعب هنا، بدأ يرسم ما يدور في خياله.
بدأ رون يشعر بالنعاس، تثاءب واضعاً كفه على فمه كم اعتاد، ترك يداه تفلت من على المكتب فسقطت منها القلم عندما أرخاها.
وسقطت رأسه أيضاً على يده المستندة على المكتب الخشبي.
غفا رون سريعاً رغماً عن صوت الأمطار والرعد وضوء البرق.
مرت الساعات وحل وقت شروق الشمس، بدأت تصبح أقوى فيصبح ضوءها أقوى.
تمدد رون دون أن يستفيق فأبعد يديه عن وجهه لتضرب أشعة الشمس عينيه بقوة، أغمضها بالقوة بضيق ثم أضطر أن يفتحها عندما اشتد الضوء عليها.
حدق في نقطة فارغة لدقائق، كانت عينه مفتوحة ولكن عقله كان شارداً أو كأنه نائماً.
استفاق من شروده ووقف ليسمع صوتاً يقول:
_صباح الخير.
_صباح الخير.
رد تحية الصباح متناسياً أنه كان وحده في الكوخ في آخر لحظة قبل أن يغفو.
مرت ثوانٍ وضع بعض الماء في كفه وغسل به وجهه مرتين، كاد يغسله للمرة الثالثة ولكنه توقف وكأن الزمن توقف.
كان يحاول إدراك ما إن كان الصوت الذي سمعه قبل قليل حقيقي أم أنه مجرد تهيؤات، التفت نحو المكتب الذي كان جالساً عليه في المساء فنظر وكانت الصدمة.