١٥

رأى جنية شقراء ذات بشرة بيضاء وعيون زرقاء، بدت له لطيفة للغاية فقد كانت ملامحها طبيعية ولطيفة، كانت تجلس على المكتب وترتدي فستاناً أصفر درجته مريحة للنظر.

كانت أجمل ما رأى في ألورا، ظل يتأملها بشرود لدقائق حتى أفاقته هي على صوتها الرقيق وهي تقول:

_كيف حالك؟

قالتها بابتسامة لطيفة سحرت رون وجعلته يبادلها الابتسامة بتلقائية وهو يقول:

_بخير.

ضم رون حاجبيه فجأة وتذكر أنه كان وحده  وقال:

_من أنت؟ تبدين مألوفة بالنسبة لي؟ ماذا تفعلين هنا؟

ظل يسأل الأسئلة تباعاً ولم يترك لها مجالا للإجابة.

شهق فجأة بصدمة وقال:

لقد تذكرت!

بدأ يقلب في الأوراق الملقاة على الأرض ويفتحها، ينظر اليه ثم يلقيه مجدداً كما كان، نطقت هي بعد أن رفعت الورقة إلى الهواء دون أن تمسكها وتركتها معلقة في الهواء:

_هل تبحث عن هذه؟

نظر إليها دون إهتمام ولكنه فور أن رأي الورقة معلقة في الهواء اقترب منها ركضاً وقال:

_كيف فعلتها؟

_سحر.

ظنها تستهزئ به في البداية ولكنه تذكر فجأة أنها تتحدث بجدية فكما أخبرته هيلين أن ألورا حية بالسحر، وأن الجنيات هم أساس ذلك السحر.

قال لها بصدمة:

_حقاً!

ضحكت ضحكة خفيفة بصوت رقيق ثم قالت:

_حقاً.

ابتسم لها رون وأخذ الورقة المعلقة في الهواء، نظر إليها بتمعن فرأى رسمته التي رسمها البارحة، والتي كانت جنية تخيل أنها كانت ستكون له لو كان له واحدة مثل بقية سكان المدينة.

كان رون مذهولاً بما يراه،فعندما دقق النظر وجد أن الجنية التي أمامه تشبه إلى حد كبير الجنية التي رسمها على الأوراق ليلة أمس، فهل كان هذا محض صدفة؟ أم أنه القدر؟ أو هل من الممكن أن يكون أثراً من آثار السحر!

لاحظت الجنية ذهول رون فبدأت تنظر إلى الورقة التي يحدق بها رون ثم قالت بتعجب:

_أوه كم تشبهني تلك الرسمة!

قالتها مع ثغر مفتوح من الدهشة، عبست بعد ثوان حين خطر على بالها ما لم تتوقعه ابداً وقالت:

_لحظة، هل كنت تعرف أنني على وشك الوصول؟

_لا، أقسم لك كانت مفاجأة بالنسبة لي.

_لا أصدقك، لعلك تكذب، كنت أود أن تكون مفاجأة.

قالتها وبدأت الدموع تتجمع في عيونها، تردد رون وعبس أيضاً، لم يود أن يحزنها، أراد أن يرى ابتسامتها فقط فقد كانت لطيفة للغاية.

مد رون يده بتوتر ولمسها ليشعر بملمس غريب لم يشعر به من قبل، كانت أجنحتها الشفافة الخلابة، كانت ذات بريق مميز لم يره مسبقاً.

بدأ يحرك أنامله على شعرها الأشقر المجعد بهدوء ومن ثم على أجنحتها، كانت مستمتعة بهذا فقد شعرت بالتقارب المطلوب بينهما، بدأت يقل بكاءها، شعرت أنه بالفعل الشخص الصحيح فقد كان أكبر مخاوفها أن تكون مع شخص قاسٍ.

تركت البكاء وحلقت في الهواء باستمتاع ثم توقفت في النهاية على كتف رون، تذكر كيف كان يرى چيلينا تقف على كتف هيلين.

شعر حينها بالتوتر واختلج قلبه، ازدادت دقاته سرعة ولكن تلك المرة ليس خوفاً بل حماساً.

بدأ يشعر بفراشات تطوف في معدته وبدأ يلتقط أنفاسه بصعوبة، كونها على كتفه كان يعطيه شعوراً غريباً.

قد اعتاد على رؤية الناس هنا مع جنياتهم إلا القليل منهم، فقد كان يشعر نفسه مختلفاً عنهم، وكان هذا الشعور يوتره؛ ولكنه الآن يشعر أنه واحد منهم.

شعر أنه يود أن يخرج معها من الغابة ويسير بها في أنحاء المدينة ليراها الجميع، أراد أن يعلم الجميع أنه يحمل واحدة مثلهم، وأراد أن يتباهى بها وبجمالها الخلاب.

لوهلة بدأ الخوف يسيطر على عقله، ماذا لو لم تكن له!

ماذا لو كانت جنية تابعة للعائلة الحاكمة والحاكم قد أرسلها لسبب من الأسباب سيعلمه بعد قليل.

كان يحلق في السماء من الفرح وإذ فجأة وجد نفسه يتساقط أرضاً، فهل سيسقط على الأرض أم سينجد نفسه؟

نعم بالانتماء لدقائق ولكن الخوف من الفقد سيطر عليه، خاف من أن يفقد ما لم يحظى به بعد!

لاحظت هي صمته لدقائق ابتعدت عن كتفه وقالت بصوت مبحوح:

_ألم تسعد برؤيتي؟ ألم يؤنسك وجودي؟

_ماذا تقصدين!

_الضيق واضح في عينيك وفي نبرة صوتك.

ابتعدت عنه وعادت للجلوس فوق سطح المكتب وقالت:

_عشت عمري أراقب الجنيات الأخريات تذهبن لقضاء مهمتهن، منهن من تعود وتروي لنا عن صاحبها ومنهن من لا نراها مجدداً وتقرر البقاء مع صاحبها.

شهقت كثيراً أثناء بكاءها وتابعت:

_لم يحن دوري أبداً، إنتظرت وإنتظرت ولم يحن، ظننتني بلا فائدة، حتى عائلتي ظنوا هذا.

_كيف!

تجاهلت كلمته وتابعت:

_وعندما حان دوري كدت أموت فرحاً، أخيراً أصبحت مثل قريناتي، ولكنني لم ألقى من صاحبي نفس ردة الفعل!

_هل هذا يعني أنكِ لي؟

_ماذا تقصد! بالطبع أنا لك.

تهللت أساريره وقال بصوت مفعم بالحيوية:

_لقد سعدت كثيراً عندما رأيتك.

صمت قليلاً ثم تابع:

_ولكنك فقط لاحظت التعجب في عيني.

_كما أنني لاحظت الضيق على ملامحك، يبدو أنني لم أنل إعجابك.

_بالعكس، أنت لطيفة جداً لقد أحببتك، لكنني لاحظت فيكِ عيب سيء قليلاً وهو كونك تبكين سريعاً كالأطفال.

قالها رون مشاكساً لها فابتسمت له، تابع هو قائلاً:

_لقد ظننت أن الحاكم أرسلك أو ما شابه فخفت أن أكون قد أوهمت نفسي بلا شيء.

_فهمت.

قالتها هي بتفهم، تابعت هي بحماس:

_وما الاسم الذي ستختاره لي؟

_أليس لديكم اسماء؟

_لدينا اسماء مبدئية، ولكن عندما نذهب لأداء مهمتنا يتم تغييرها حسب إرادة البشري الذي سنصاحبه.

_فهمت، وهل تحبين اسمك الحالي أم تودين تغييره؟

_نوعاً ما.

_لم أفهم.

_أحب اسمي الحالي نوعاً ما ولكنني كنت أتوق دائماً لتغييره، أتسائل عن الاسم الذي تود أن تختاره لي.

فكر رون لثوان ثم نطق على الفور بابتسامة:

_نازلي.

لم يتحدث لثوانٍ فقد انتظر ليرى ردة فعلها، ضمت هي حاجبيها وقالت بابتسامة متعجبة:

_نازلي؟

_نعم، نازلي.

_لماذا نازلي تحديداً؟

_تبدين مدللة ولطيفة للغاية، لذلك شعرت أنه الاسم المناسب لك.

ارتسمت ابتسامة خجولة على محياها فظهرت نغزتين صغيرتين على وجنتيها وقالت بسعادة تمسك ذراعها الأيمن بكفها الأيسر:

_أشكرك

لاحظ رون تلون وجنتيها باللون الأحمر من الخجل فسألها بابتسامة:

_هل أعجبك الاسم الذي اخترته؟

حلقت هي قليلاً للأعلى ثم قالت بصوت مرح بعد أن عادت وجلست فوق كتفه:

_نعم جداً، يبدو لي اسم لطيف للغاية.

_لماذا؟

_يبدو مختلفاً عن بقية الاسماء التي اعتدت سماعها، أي أشعر بأنني مميزة، لقد أحببته كثيراً.

ابتسم رون لها وقال:

_من الجيد أنه أعجبك يا نازلي.

تابع هو بفضول:

_وماذا كان اسمك الحقيقي الذي ولدت به؟

_إيليانا.

_اسمك الحقيقي لطيف أيضاً لقد أحببته، لقد لاق بكِ، يبدو ان ذوق والديك رائع في اختيار الاسماء.

_لقد إختارته أمي، أحب الاسم إلى حد ما كما أخبرتك ولكن مع ذلك الاسم الذي اخترته أنت يعجبني أكثر.

قالتها بابتسامة فبادلها إياها بلطف.

انسجم كل من رون ونازلي، كلاهما كانا فرحين جداً بلقاء الآخر، نظر رون للمكان حوله ليرى أن كل شيء مبعثر للغاية.
وجه نظراته لنازلي فقال:

_يجب علينا ترتيب هذا الكوخ المبعثر، منظره سيء للغاية أظن أن أحداً من القصر الحاكم سيأتي لجلب الطعام لنا، وأتوقع أن تأتي هيلين أو أن يأتي كارل، وإن رأته هيلين بهذا الشكل قد تطردنا منه.

قال جملته الأخيرة بمزاح فردت هي عليه قائلة:

_أولاً، أنا لا آكل الطعام مثلكم، ليس فقط أنا بل للجنيات بشكل عام غذائهم الخاص، ثانياً اترك تلك المهمة علي، أعلم أنك لست معتاداً؛ لذلك سأدهشك.

مط شفتيه ورفع حاجبيه ثم قال:

_أدهشيني هيا، تبقى أنت لم تدهشيني منذ أن خرجت من منزلي، لا بل حتى مجيئك أدهشني في الأساس.

ابتسمت له وقالت:

_أغمض عينيك.

وثبت نازلي في الهواء بعد أن أغمض رون عينيه كما طلبت منه هي، بدأت تدور في مكانها بسرعة وبدأ يتساقط حبيبات رمال ذهبية لامعة وبدأت تتمتم ثم قالت:

_تستطيع فتحهما الآن إن شئت.

فتح رون عينيه ببطء، بدأ ينظر للمكان من حوله بتمعن، كان مذهولاً فقد وجد المكان مرتب ونظيف، رغم أنه منذ ثوان معدودة لم يكن كذلك.

اختفت الأورق التي كانت على الأرض والمكان حوله منظم فكل شيء في مكانه الصحيح، كما أن أريجاً ظل بيستنشقه باستمتاع قد سيطر على المكان.

شعر أن هذا مدهش، فقد أغمض عينيه للحظات فقط، كيف فعلت هذا!

_كيف فعلتها؟

ابتسمت هي وقالت بفخر بعد أن مدت ذراعها وباتت تتأمل أناملها وكأنها معتادة على هذا:

_هذا أقل ما عندي.

_يبدو أن قدراتك خارقة، سنحتاجها كثيراً في الفترة القادمة.


في القصر الملكي بينما كان الجميع على مائدة الإفطار، كانت السيدة ليند تجهز الطعام لرون كما أمرها رئيس الخدم.

أنهى كارل طعامه وكذلك هيلين، التي ركضت من المائدة فور أن نهض والدها، كاد كارل يخرج من القصر بعد أن أعدت ليند الطعام لرون؛ لكن هيلين أوقفته قائلة:

_انتظر، دعني آخذه أنا وأذهب إلى رون.

_تعلمين أنه ممنوع.

_ما هو الممنوع؟

كانت تعرف ولكنها كانت تشاكسه فقط فرد هو عليها:

_الممنوع هو خروجك للغابة وحدك يا سمو الأميرة.

_إذاً دعني أتي معك.

_لا يا هيلين، لن تأتي معي.

_لماذا؟

قالتها متذمرة، كان كارل متردداً من إخبارها الحقيقة فقال:

_صدقيني هذا الأفضل لكِ، ابقي في المنزل اليوم، تعرفين أن كل ما أفعله يكون لصالحك.

_ولكن كارل، لقد مللت من الجلوس في المنزل.

_هل مللت لأنك لم تخرجي منه ليوم؟ أختك لم تخرج منه لسنوات ولم تتذمر مثلك.

_أوچين تخرج في الخفاء بين الفينة والأخرى، كما أنها تفضل المنزل في الأساس، أي أنها لا تحبذ الخروج كثيراً.

_ليست مشكلتي.

قاطعهما صوت رئيس الخدم الذي شعر أن هنالك خطب ما؛ فصوتهما بدأ يصبح عالياً قليلاً:

_هل هنالك مشكلة ما؟

نطقت هيلين مسرعة:

_لا، ولكنني فقط قررت أن أذهب مع كارل.

_ولكن..

قالها كارل متذمراً فقاطعه رئيس الخدم بنظرة حادة ومخيفة بعد أن رفع حاجبه الأيسر وقال بلهجة آمرة:

_افعل ما تريده الآنسة الصغيرة.

التفتت هيلين نحو كارل وأخرجت لسانها بمزاح وقالت:

_هيا بنا.

_لقد حذرتك من الخروج، كما تشائين، ولكن قبل أن نخرج علي أن أخبرك شيئاً لن تودين سماعه مطلقاً.

قاطعته هيلين بعد أن توقعت ما يجول في خاطر كارل:

_آمل ألا يكون ما في بالي.

_إنه هو يا هيلين، لقد اختفت الأشجار وحل موسم الغيث.

مطت هيلين شفتيها وبدأت الدموع تتجمع في عينيها وقالت:

_أي لا أشجار بعد اليوم!

_للأسف لا.

_ولا قراءة فوق الأغصان مرة أخرى؟

حرك كارل رأسه يميناً ويساراً؛ فازدادت الدموع في مقلتيها وبدأت تسيل على وجنتيها قائلة:

_سأشتاق للأزهار ورائحتها الخلابة، سأشتاق للحلوى البنية وطعم الماء المختلف.

_لا عليكِ كل مر سيمر، وبالتأكيد سينتهي فصل الغيث كما تشرق الشمس كل يوم فتضيء الظلمات، ستعود الأشجار بشكل أجمل وأبهى مما سبق.

اومأت هيلين برأسها ثم مسحت الدموع من على وجهها بهدوء وقالت:

_حسناً، إذاً هيا بنا.

_اذهبي وارتدي شيئاً مناسب للموسم.

اومأت هيلين وركضت الى غرفتها، ارتدت ملابس صوفية وقبعة تحميها من الصقيع، عادت مرة أخرى لكارل وخرجا معاً من القصر.

دخلا إلى الغابة بسرية دون أن يراهم سكان المدينة، بدأت هيلين تتأمل المكان حولها، كان هادئاً فارغاً إلا من بعض الصخور والكهوف، تربته بنية اللون كانت جافة.

سارا بهدوء متجهين نحو المنزل الخشبي، لو كان يوماً عادياً لما كانت ستمر لحظة هادئة، فقد كانت هيلين ستظل تتحدث عن جمال الطبيعة من حولها وعن بعض المواقف التي حدثت معها.

كانت ستظل تتحدث ببراءة عن جمال ما ترى وتأخذ رأي كارل في المكان حولهما، ولكنها اليوم ليست في مزاجها المناسب، هي اليوم حزينة.

تحاول الاعتياد على موسم الغيث الذي لطالما كرهته، حاول كارل مشاكستها عدة مرات ولكنه لم يلقى أي استجابة، فقد كانت ترد تصرفاته بالبرودة.

صارت كالجو من حولها، هادئة،يائسة، باردة وكئيبة على غير عادتها.

وصلا إلى الكوخ وطرقا الباب كما اعتادا، كان كارل قد قرر تركها مع رون قليلاً لعلها تصبح بخير، فقرر إخبارهما بأن الحاكم قد كلفه بمهمة عليه أن يقوم بها الآن.

في تلك اللحظة، أدرك رون أن الطارق بالتأكيد إما كارل أو أنها هيلين، فاتفق مع نازلي بأن يخفيها، وأن يفاجئ رون الطارق بها.

فتح الباب قليلاً ليظهر كل من هيلين وكارل، ولكن هيلين لم تكن على طبيعتها؛ أي لم تكن كما اعتادها.

فتح الباب على مصراعيه لتدخل هيلين دون دعوة، اقترب رون من كارل بهدوء وسأله بهمس:

_لم هي على تلك الحال؟

رد عليه كارل بنفس الهمس وباختصار:

_هي متضايقة من تغير الفصول، لقد علمت للتو.

تعجب رون من ردة فعلها المبالغ بها ولكنه تفهم الأمر في النهاية وقال:

_حسناً إذاً.

دعاه رون للدخول فاستجاب هو ولكنه همس وهو يدخل:

_حاول أن تحسن من حالها.

اومأ رون، دخل كارل وجلس بجانب كارل، أغلق رون الباب وقال:

_أنرتما المكان.

جلس مقابلهما فرد كارل:

_إنه نورك، المكان مرتب بشكل رائع يبدو أنك بذلت فيه جهداً كبيراً.

ابتسم رون وقال:

_أولاً شكراً على الإطراء، ثانياً لدي لكما مفاجأة.

تعجب كارل وعقد حاجبيه فقال:

_وما هي يا ترى؟

نظر إليه ثم إلى هيلين التي لم تبدي أي ردة فعل مختلفة، بل كانت ملامحها جامدة وحادة.

شعر رون بالضيق من ردة فعلها ولكنه حاول تجاهل الأمر، هو يحاول أن يتفهمها.

صفق رون بكفيه ثلاث مرات لتظهر نازلي فجأة، تعجب كارل كثيراً، بدت له جميلة للغاية، كما استفاقت هيلين من شرودها عندما رأتها وقالت:

_لمن تلك الجنية؟

ابتسم رون بعد أن لفت أنظارها أخيراً، صار يتمتع بمشاهدة النظرات المتعجبة في عيونهما.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي