١٩

دخلت هيلين إلى غرفة الطعام وتبعتها أوچين في صمت، كل واحدة منهما اتخذت مقعدها، دخل بعدها بقية سكان القصر تباعاً، فدخلت جدتهما ودخلت عمتهما، وكلٌ جلس في مكانه المخصص له.

لاحظ رئيس الخدم أن الجميع قد جلس على مائدة الطعام وأن كل منهم اتخذ مكانه، حينها اتجه نحو غرفة الحاكم وطرق الباب ليخرج صوت الحاكم يقول:

_ادخل.

دخل رئيس الخدم وانحنى للحاكم الذي وجه أنظاره إليه فقال:

_قل ما تود قوله.

_سيدي الطعام جاهز والجميع على المائدة.

_حسناً، أنا قادم.

قالها الحاكم الذي نهض بإرهاق وصار يسير ببطء حتى وصل لغرفة الطعام.

دخل بهدوء، ووقف أماما المائدة ليقف بقية أفراد الأسرة إحتراماً له، سحب له رئيس الخدم مقعده وقبل أن يجلس على الفور جعل المقعد أقرب إلى الطاولة.

جلس الجميع بعد جلوسه على الفور، وعاد رئيس الخدم مستنداً على الباب كي يستدعيه الحاكم بسهولة إن احتاجه.

بدأ الحاكم يمسك الشوكة والسكين ليأكل طعامه، حينها قلده الباقون، وبدأ كل منهم في تناول طعامه بصمت وهدوء.

فور أن أنهى الحاكم طعامه، نهض ببطء من الطاولة لتنهض بقية العائلة مرة أخرى، جلسوا بعد أن تحرك هو وخرج من غرفة الطعام، ذهب إلى مكتبه ليخطط لشؤون الشمال.

في ذات الوقت وبعد أن جلس الجميع، بدأت هيلين تنظر إلى أوچين التي كانت تأكل طعامها بهدوء، بدت لها شاردة، فرغم أنها كانت تنظر باتجاه هيلين إلا أنها لم تلحظ نظراتها المنبهة

مدت هيلين قدمها اليمنى وقررت ضربها في قدم أوچين، بالفعل ضربتها ولكن في القدم الخاطئة، لم تدرك هذا إلا عندما صرخت العمة بألم.

لفت صراخهها انتباه العائلة بأكملها، فقد كان عالياً وصادقاً، شهقت هيلين ووضعت كفها على فمها بصدمة، فقد انتبهت لما فعلته.

أما عن العمة التي كانت لا تزال تتأوه وتتألم فقد صرخت على الطاولة في الجميع محاولة كشف من ضرب قدمها.

تمتمت هيلين بهدوء قائلة:

_من الجيد أن أبي ليس هنا، لو كان هنا كانت لتصبح مصيبة.

أما عن أوچين فقد كانت تحول أنظارها بين عمتها وبين توأمها بشك، فهل يعقل أن هيلين من فعلتها؟

لم تكن تفهم أنها فعلتها دون قصد، ظنت أن لديها خطة أو ما شابه فالتزمت الصمت وعينيها لا تزال تتأرجح بين عمتها وأختها.

نهضت العمة بغضب من المائدة وتوجهت نحو غرفتها، كانت هيلين خائفة من أن تذهب عمتها وتروي لوالدها ما حدث ولم شهده.

بدأت تلعب بأناملها وتعض شفتيها حتى بدأت تنزف، كانت تشعر بالتوتر وضربات قلبها تزداد سرعة، وأصبحت العائلة تنهض من على المائدة تباعاً.

نظرت أوچين إلى هيلين ثم نهضت على الفور، بدأت تسير بهدوء ورزانة، خرجت وراءها هيلين والتي سارت بنفس الهدوء، فور أن خرجتا من الغرفة صارتا تركضان في الردهة.

دخلتا غرفة هيلين سريعاً فهي ما صادفتهما أولاً، كل منهما كانت تشعر بالتوتر، أغلقا الباب وأوصداه بالمفتاح ومن ثم جلستا على السرير.

بدأت هيلين التي كانت تتصبب عرقاً من التوتر تلهث كثيراً، كانت أوچين أيضاً متوترة مما حدث في الدقائق الأخيرة ولكن توتر هيلين كان أضعاف توتر أوچين.

فهيلين قد كانت المسبب السري لما حدث من توتر في غرفة الطعام، نطقت أوچين قائلة:

_هيلين هل أنت من ضربت قدم عمتي؟

عضت هيلين على شفتيها وقالت بحرج:

_نعم.

_لكن لماذا؟

_لم أقصد، قصدت أن أضرب قدمك أنت لننهض سوياً.

_هل تمزحين! لقد ظننت أن لديك خطة لهذا فعلت فعلتك.

قالتها أوچين بصدمة، مرت ثواني تحاول امتصاص بها تلك الصدمة فقالت بعد أن بدأت تضحك بخفة:

_ولكن هل رأيت وجه عمتي حين ضربتها؟

نظرت لها هيلين بطرف عينيها مع ابتسامة محاولةً كتم ضحكاتها، ولكنها لم تستطع فباتت كل واحدة من الفتاتين تتذكر وجه عمتها في تلك اللحظة في مخيلتها وبدأت كل منهما تقهقه دون توقف، لم تستطيعا التحكم في أنفسهما.

مرت الدقائق والفتاتين لا تزالان تضحكان، حاولتا التوقف بشتى الطرق ولكن لم تستطيعا فعلها إلا عندما كادت أنفاسهما أن تنقطع.

توقفت هيلين عن الضحك ثم قالت بتوتر:

_هل تتوقعين أن تخبر عمتي أبي عما حدث؟

_لا أعلم في الحقيقة هل تفعلها من رأيك؟

مطت هيلين شفتيها قليلاً، حركت أوچين رأسها نفياً بسرعة ثم قالت:

_لا أظنها ستخبره شيئاً، إنها تعلم أنه منشغل بأشياء أهم من قدمها المصابة، وإن قاطعته سيغضب منها.

_ولكن ربما تخبره في وقت لاحق.

_لا أظن هذا، أتوقع أنها سوف تنسى الأمر بسرعة.

_آمل ذلك.

صفقت هيلين بيدها وقالت محاولةً تخفيف توترها:

_فلننسى الموضوع إلى أن يحدث شيء، فلنعد لموضوعنا الأساسي الذي جمعنا اليوم.

_فلنعد، هيا أخبريني كيف سأخرج؟

_أمامنا حل من اثنين.

وما هما؟

_أولهما أن نتبادل الأدوار وتخرجين بدلاً مني كما اعتدنا أن تخرجي دائماً.

_هذا مستحيل، كارل هو من يخرج معك للذهاب لرون، وكارل هو الوحيد بعد أبي الذي يستطيع التفرقة بيننا بكل سهولة، مهما حاولنا اخفاء الأمر.

_إذاً سنلجأ للخطة البديلة.

_وهي؟

_وهي أن نخبر كارل ويساعدنا هو في هذا الأمر.

_مستحيل، قطعاً سيرفض.

_سنحاول لن نخسر شيئاً.

_كما تشائين ولكنني لا أظن أن تلك الخطة ستنجح.

_وربما تنجح.

_على أي حال، سأذهب أنا لغرفتي كي لا يشك أحد بنا.

_ماذا ستفعلين؟

_لا أدري، ربما سأرسم او سأقرأ كتاب.

_إتفقنا، وأنا سأكمل كتابي الذي لم أنهيه بعد.

_اتفقنا.

ضربت الفتاتين كفيهما ببعض وابتسمتا، اتجهت أوچين نحو باب الغرفة وفتحت الباب بالمفتاح ليصدر صوتًا، عضت على شفتيها وتمنت ألا يكون هنالك شخص قد سمع.

فتحت جزءاً صغيراً من الباب وخرجت منه برشاقة، بدأت تتسلل نحو غرفتها، سمعت صوت سعال في المكان وتبعه صوت خطوات أقدام فأخفت نفسها خلف عامود طويل لثوانٍ.

رأت واحد من الخدم يمر من الردهة فتنفست الصعداء؛ فقد كانت خائفة من أن يكون والدها وأن يكون قد سمع شيئاً عن خطتهما.

اتجهت لغرفتها وأوصدت الباب بعد دخولها، بدأت تحضر أوراقاً وألواناً ثم وضعتهما على المكتب الخاص بها، جلست على المقعد الموضوع أمامه وأمسكت القلم والألوان.

بدأ تتكون في مخيلتها صورة والدتها، آخر مرة رأتها فيها كانت طفلة صغيرة، اشتاقت لها كثيراً.

كانت في مخيلتها تبدو بجمال الحور، منذ كانت طفلة وبعد وفاة أمها باتت ترسمها كل أسبوع كي لا تنسى شكلها ابداً، كل رسمة كانت أجمل من سابقتها، وكل واحدة كانت بوضعية غير الأخرى.

علقت أوچين أجملهم على حائط غرفتها لتزيينها بها، وبقيتهم حفظتهم في الخزانة كي لا يتلفوا.

اعتادت على النظر إليهم وتأملهم كل ليلة قبل نومها، بدأت الدموع تتجمع في عيونها، تشتاق لوالدتها كثيراً، تمنت لو كانت حية ترزق في مكان ما، تمنت لو استطاعت أن تجعلها تشاهد رسومها لها.

لو جمعت كل رسومها لها لاستطاعت تكوين معرضاً، فقط من صور والدتها.

ابتسمت والدموع لم تجف من مقلتيها، بدأت تدندن وترسم في نفس الوقت حتى شردت في رسمها ولم تلحظ الوقت الذي كان يمر سريعاً.

في نفس الوقت تقريباً كانت هيلين تستمتع بقراءة كتابها المفضل إلى أن طرق الباب، نهضت هي بضيق فمن طرق الباب قد قاطع قراءتها وشتت انتباهها.

وضعت ورقة كرتونية في الكتاب ثم نهضت من على الفراش بتأفف، فتحت الباب لتجد كارل على الباب، تهللت أساريرها فقد كانت في الأساس تود فتح معه موضوع خروج أوچين.

قالت هي بحماس:

_كارل! من الجيد أنك جئت، كنت أود أن أتحدث معك في الأساس.

قالتها وسحبت يده فدخل إلى الغرفة وجلس على المقعد الذي أمام مكتبها بعد أن أداره في اتجاه جلوسها وقال:

_تفضلي.

_لا أعرف كيف علي فتح الموضوع.

_هيا هيلين بسرعة، علي إنجاز بعض الأشياء.

_أخبرني أولاً لماذا جئت، هل تحتاج شيئاً؟

_طلب مني الحاكم أن أستعين بچيلينا كي تخبر
نازلي بتفاصيل العشب الأول.

_فهمت، ليس لدي مانع ولكنني أود أن أطلب منك شيئاً في البداية.

_إن كان بوسعي تنفيذه فسأنفذه بالتأكيد، أنت تعلمين هذا.

_أعلم بالطبع، ولكن ما لا أعلمه هو هل ستستطيع تنفيذه أم لا.

_هاتِ ما عندك يا فتاة.

سحبت هيلين شهيقاً عميقاً ثم قالت بعد أن زفرته من فمها:

_هل يمكنك اصطحاب أوچين معك لرون في الغد بدلاً مني؟

_ماذا!

قالها بصدمة ثم تابع:

_ماذا تقولين يا هيلين، هل أنت تهذين؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي