٢١
ذهبت أوچين إلى غرفة الطعام، وجدت هيلين تجلس في مكانها نظرتا إلى بعضهما وغمزت هيلين لها بأعينها ففطنت أنها بدلت الأماكن وبالتالي ستتقمص كل منهما شخصية الأخرى.
بدأت بقية العائلة تأتي تباعاً، دخل رئيس الخدم عليهم وقال لهم:
_سيدي الحاكم سوف يتناول الإفطار في غرفته؛ يجب عليه أن ينهي عدداً كبيراً من الأشغال، إن قضاها قبل موعد الغداء فسوف يأتي ليأكل معكم، إن لم يستطع اللحاق فستتناولون الطعام وحدكم.
صمت لثوانٍ ثم تابع:
_يمكنكم البدء في تناول الطعام وحدكم.
حركت العمة رأسها بوقار وأمسكت الشوكة والسكين وبدأت تتناول إفطارها، في نفس الوقت بدأ جميع الموجودون في تناول طعامهم أيضاً.
مر الوقت ونهضت أوچين التي كانت تجلس مكان هيلين وقالت:
_سوف اذهب الآن مع كارل، إلى اللقاء.
_إلى اللقاء.
قالتها هيلين بهدوء أوچين، أكملت القليل من الطعام ثم قالت:
_استأذنكم سوف أنهض الآن، لقد شبعت.
ردت عليها العمة قائلة:
_بالهناء والشفاء يا أوچيني.
ثم ربتت على شعرها وعانقتها لثوانٍ، نهضت هيلين وذهبت إلى غرفة أوچين.
لم يكن بيدها ما تفعله فقررت الجلوس ومشاهدة رسوم توأمها لوالدتها، جلست تتذكر لحظاتهم المميزة معاً، تتذكر مواقف والدتها وطيبة قلبها.
بدأت تتأمل قسمات وجه والدتها، كانت هي وتوأمها تشبهانها كثيراً، نفس الشعر الأرجواني الفاتح المجعد، نفس البشرة البيضاء ذات النمش، نفس الأنف ذو الأرنبة المرفوعة الصغيرة وعيونها الصفراء في غالب الوقت وأخيراً شفتيها الصغيرتين.
وقفت في المرآة تقارن الرسوم بملامحها، ابتسمت عندما لاحظت أنها نسخة مصغرة عن أمها، وكذلك أوچين فهما توأم متشابه.
لاحظت الوشم الملكي على عنقها فلمسته بضيق ولكنها ابتسمت مجدداً عندما تذكرت أنه وجه تشابه زائد بينهما وبين والدتهما.
تنهدت هيلين ورمت نفسها على فراش أوچين بإهمال، أغمضت عينيها وبدأت تغوص في أحلام اليقظة؛ متخيلة نفسها مع والديها وأختها وجميع المقربين يجلسون معاً بسعادة وهناء، ولكن سرعان ما تحولت أحلام اليقظة تلك إلى حلم حقيقي بعد أن غفت من الملل.
في مكان آخر، حيث كان كل من أوچين وكارل يسيران في الخارج، كان كارل يحمل على ظهره حقيبة يحمل فيها لرون ما قد يحتاجه من معدات، أما عن أوچين فقد كانت خالية الوفاض، وكانت ترتدي ملابس صوفية تدفئها.
رفعت قبعة المعطف على رأسها إلى أن وصلوا إلى الغابة، فور أن دخلوها وتوغلوا فيها رفعت أوچين القبعة من فوق رأسها.
شعرت ببعض من قطرات الماء تقطر على رأسها، رفعت كفها في السماء فسقط عليه بعض من قطرات الغيث، قهقهت أوچين بسعادة فور أن أدركت أن الغيث قد بدأ يهطل.
لطالما أحبت الأمطار والشتاء، كانت عكس أختها هيلين في شخصيتها فإحداهما تحب الشمس والدفء والأخرى تحب الغيث والبرودة وغيرها من الإختلافات.
بدأت أوچين تركض وتدور حول نفسها كلما ازداد معدل سقوط الغيث فتبلل شعرها الأرجواني المجعد، صرخ بها كارل وقال:
_أوچين، ستمرضين بهذا الشكل.
_كارل، أنا أخرج مرة كل مئة عام، فلتتركني أفعل ما أشاء، اتركني استمتع بقضاء وقتي في الخارج.
قالتها بصراخ وهي تستمتع بالدوران حول نفسها، اقتربت من كارل وسحبت قبعته من فوق رأسه وقالت:
_وأنت استمتع بوقتك قليلاً، صدقني اللعب في الأمطار سيجعلك تتذكر أيام طفولتك، سيجعلك تشعر بنقاء روحك، إنه لأمر ممتع بكل تأكيد.
سحبت يده وبدأت تجعله يدور معها تحت الأمطار، رغم أنه كان يشعر أنها حركات طفولية بالنسبة لعمره، إلا أنه لم يرد أن يكسر خاطرها وسايرها فيما تفعله، ففي النهاية هي تخرج ما كبتته في القصر لسنوات.
ركضا معاً في منتصف الغابة، حتى اقتربا من كوخ والدتها والذي يسكنه رون في الوقت الحالي.
مع زيادة هطول الأمطار بدأت ترتعش بشدة وهذا أيضاً ما حدث مع كارل، ارتدا قبعتيهما مرة أخرى وكل منهم احتضن جسده محاولاً تدفئته، أما عن شفتيهما وأسنانهما فقد كانا يرتجفان من البرد.
وقفا أمام باب الكوخ وطرقا الباب دون أن يدخلا، عطست أوچين فجأة؛ فقال لها كارل متذمراً:
_هل مرضت يا أوچين!
ثم تابع مؤنباً إياها:
_لقد أخبرتك أنه من الأفضل ألا نفعل هذا ولكنك أصريتِ و..
لم يكد يكمل جملته إلا وعطس هو أيضاً فقهقهت أوچين عليه، فتح رون الباب ليجد كارل يقف أمامه، وخلفه وقفت فتاة لم يدرك من هي، فقد كانت مبللة بالكامل وكان شعرها ومنتصف وجهها مُخبأ بقبعة المعطف.
دخل كارل لأول مرة دون إستئذان ثم قال:
_تعالي بسرعة يا أوچين.
هزت أوچين رأسها إيجاباً وتقدمت بتردد، بدأت تتأمل الكوخ من حولها، لم تزره منذ سنوات، لازال الكوخ يحمل رائحة والدتها النقية رغم مرور سنوات.
كان شاردة في معالم الكوخ، وهي تحتضن ذراعها الأيسر بكفها الأيمن ولكن صوت أفاقها يقول:
_أوچين.
نظرت للمتحدث وقد كان رون، مد كفه نحوها فمدت هي كفها أيضاً وسلمت عليه بخجل وقالت:
_أهلاً، رون أليس كذلك؟
_نعم، تشبهين هيلين كثيراً لم أستطع في البداية تحديد أيهما أنت، ولكن عندما ناداك كارل بأوچين حينها أدركت.
_نعم، لا أحد غير أبي وكارل يستطيعان تمييزنا.
_هذا رائع للغاية!
_نعم، أرى هذا أيضاً.
قالتها مع ابتسامة فبادلها إياها.
_بالمناسبة هذه هي نازلي، جنيتي.
قالها رون وأشار على الجميلة نازلي التي رحبت بأوچين بدورانها حولها ثلاث مرات سريعاً، وحينها أسقطت بعض من التراب الذهبي على رأسها ذو الشعر البنفسجي.
فتح رون الخزانة وأخرج منها بعض الثياب كي يبدلا ملابسهما، وطلب من نازلي أن تعد للجميع مشروباً ساخناً وهذا بالفعل ما فعلته.
أعطاهم الثياب فغيروا ثيابهم وراء ستارٍ، بدأت أولاً أوچين وتبعها كارل، جلسوا جميعاً في النهاية على الأريكة وقدم رون لهم المشروب الذي حضرته نازلي.
أمسك كلٌ منهما واحدٌ، عطست أوچين مجدداً فضحكوا عليها وضحكت هي أيضاً معهم، شربوا القهوة الساخنة التي جعلتهم أفضل ولو قليلاً ثم نطق كارل قائلاً:
_أظنك عرفت أول عشب، أليس كذلك يا رون؟
_نعم، وسأبدأ في البحث عنه اليوم.
_هذا جيد، إذاً لقد أتيتُ في الوقت المناسب.
خلع حقيبته من على ظهره وأعطاها لرون وقال:
_إن تلك الحقيبة لرحلتك، أظن أنك سوف تحتاجها، لأن فيها كل ما قد يخطر على بالك.
_أشكرك جداً يا كارل.
_العفو.
نظر كارل في اتجاه النافذة فوجد الأمطار قد هدأت فنهض وقال:
_سوف أنهض أنا، سوف أنهي بعض الاشياء التي يجب علي إنجازها كالعادة ومن ثم سوف آتي.
_اتفقنا.
قالها رون فنهض كارل وسلم عليه بيديه وفعل المثل مع أوچين.
خرج كارل ونهضت أوچين من مكانها، وقالت لرون:
_لقد اشتقت للمكان كثيراً.
_هل كنت تأتين أنت أيضاً إلى هنا؟
_هل تمزح؟ كان هذا كوخ والدتنا، إنه الذكرى الوحيدة لنا منها.
_أوه، حقاً! لم أكن أعلم.
_هل تسمح لي بالعبث في الأشياء هنا، لقد اشتقت للمكان ولرائحة أمي التي لازلت أشعر بها حتى الآن، سامحني إن كنت تراني شخص فضولي.
_هل تمزحين يا أوچين، أنا الدخيل المتطفل هنا، إنه مكانكم.
ابتسمت أوچين بهدوء وقالت:
_ولكن مع ذلك، أنت من تسكن فيه حالياً.
بدأت أوچين تعبث في الخزانة وفي الأدراج وما شابه.
فتحت إحدى الأدراج وأخرجت منها مرآة مخدوشة، نظرت فيها وحين لمحت ورقة رُسم عليها الوشم، رفعت شعرها ببطء ونظرت بتمعن إلى الوشم المرسوم على عنقها فقال مالك متدخلاً:
_صحيح، ما هذا الرسم على عنقكما.
تذكر أيضاً أنه رآه من قبل في تلك الورقة التي في الدرج فقال:
_كما أنني رأيته من قبل في ورقة في الدرج.
رفعت أوچين الورقة التي في الدرج وسألته:
_تلك؟
_نعم هي.
_إنه الوشم الملكي يا رون، لكل مدينة وشمها الخاص، يوشم به فور أن يصبح فرداً من العائلة الحاكمة.
_فهمت، يبدو مذهلاً في الحقيقة.
_إنه من العوامل المشتركة بيننا وبين والدتي، هل تعلم أنني وهيلين نشبه والدتنا كثيراً؟
_لم أكن أعلم ولكن هذا يوضح مدى جمال والدتكما في الحقيقة.
أحمرت وجنتيها خجلاً وقالت:
_أشكرك.
عادت تقلب مرة أخرى في الأدراج حتى لمحت لوحة صغيرة بها صورة لها مع والديها وأختها.
بدأت الدموع تتجمع في عينيها، أرت الصورة لرون وأشارت له على والدتها وهي تروي له ذكرى هذا اليوم.
فقد كانت والدتها أخذت الإذن من زوجها وطلبت منه أن يذهبوا جميعاً إلى كوخ الغابة وأن يقضوا يوماً هناك وسط الطبيعة الساحرة الخلابة.
وافق الأب بصعوبة وبعد محاولات دامت كثيراً.
أخذ الأب ذلك اليوم إجازة فقط كي يسعد زوجته وبناته، كان حينما الجو حار للغاية فقرروا جميعاً السباحة في النهر، بدأ كل منهم يلعب مع الآخر.
أثناء لعبهم أصاب هيلين شد في عضلات ساقها، بدأت تصرخ متألمة وبدأت الجاذبية تسحبها لأعماق النهر، لاحظ والدها فغاص وراءها كثيرً إلى أن أمسك بساقها وسحبها منها.
خرجت هيلين من النهر بمساعدة والدها، كانت شبه مغشي عليها وكانت أمها وأختها تبكيان خوفاً عليها.
بدأ والدها يحاول إخراج الماء من معدتها، فضغط عليها عدة مرات إلى أن خرج وشهقت هيلين التي استفاقت وبدأت تسعل ويخرج من فمها ماء النهر.
ركضت عليها أمها وأختها وعانقتاها وهي تبكي، كرهت هيلين منذ ذلك الحين الماء، لم تسبح منذ ذلك الحين في الأنهار وكرهت الأمطار.
اتجهت العائلة إلى الكوخ وجففوا أنفسهم وغيروا ملابسهم كي لا يمرضوا، بدأت الأم تخرج الطعام الذي حضرته بيدها في القصر، لم ترد أن يتدخل أحد من الخدم في الطعام اليوم.
بدأت هي تحضره وفى نفس الوقت كان الأب يلعب مع ابنتيه على الأريكة، استدعتهم قائلة:
_لقد انتهيت من تحضير الطعام، هيا لنبدأ في تناول الطعام.
نهضت الفتاتان بمرح ونهض والدهم معهم وبدأوا في تناول الطعام الشهي وهم يروون لبعضهم الحكايا ويضحكون ويستمتعون بوقتهم.
رغم ما مروا به إلا أنها كانت من أجمل اللحظات في حياتهم، فهم لا يجتمعون في لحظات مميزة هكذا بشكل متكرر.
أنهوا تناول طعامهم ثم أمسكت الأم آلة تصوير والتقطت بها بعض الصور، وكانت الأخيرة وهي المتبقية الوحيدة منهم هي ما كانت تتأملها أوچين.
أشفق رون عليهما، فوالدهما دائماً ما يكون مشغول بسبب طبيعة عمله، أما عن والدتهما فهم فقدوها للأسف منذ سنوات وهذا ما أثر عليهما جداً.
لم يكفي هذا فقط ولكن أوچين أيضاً مضطرة للبقاء في القصر للأبد، كان هذا يؤلمه رغم أن الموضوع لا يخصه إطلاقاً ولكنه كان يشعر بالظلم الذي كانت تشعر به.
أقسم في داخله أنه سوف يحل اللغز وسينقذها، كما أقسم أنه سينقذ والدها من الموت أيضاً.
بدأت تقول بنبرة حزينة:
_أخاف دائماً من أن أفقد أبي أيضاً، أخاف أن أفقده دون أن أودعه، أو دون أن أعانقه.
_ أوچين، هل تسمحين لي بأن أسألك سؤالاً؟
_بالطبع.
_هل أنت راضية عن حبسك داخل القصر؟
_ماذا!
_ماذا؟
_لم يسألني أحد هذا السؤال من قبل، الجميع بدأ يقول لي أن أبي بالتأكيد يفعل اللازم، وأنه يفعل ما في مصلحتي.
تابعت بشرود:
_لم يسألني أحد عن رأيي من قبل.
توقفت للحظات ثم قالت:
_لذلك، لا أعرف.
_كيف لا تعرفين؟
قالها باستنكار ثم تابع:
_حينها كنت راشدة بما فيه الكفاية لاتخاذ قرار او على الأقل لمشاركتك فيه.
_معك حق.
_أرى أنك لا تستمتعين بحياتك بسبب هذا الموضوع، وهذا كان قرار ظالم من والدك.
مطت شفتيها فتابع هو:
_أوچين.
_نعم؟
_أعدك أنني سوف أنقذ والدك، كما أعدك أنني سأعرف أصل الأمر وسأحررك.
_سوف أتي معك.
_ماذا!
_أود خوض تلك المغامرة معك، ألست من شجعني على رفض الحبس.
_ولكن هذا خطير للغاية.
_لا تقلق لن يحدث شيئاً.
_حسناً، إذاً اذهبي إلي القصر وجهزي حاجاتك واستعدي وتعالي في الغد لنبدأ الرحلة.
_اتفقنا،فور أن يأتي كارل سوف أذهب معه.
_أوچين، من اختار لكِ اسمك؟
_أمي من اختارته.
_وما معناه؟
_ذات الشأن الرفيع وصاحبة السمو.
أصدر رون من شفتيه صفيراً ثم قال:
_اسمك واسم هيلين مميزان للغاية، هل اختارت والدتك اسم هيلين أيضاً؟
_لا، والدي من اختاره.
_إن ذوقهما رفيع للغاية، اسمائكم فخمة ورائعة.
ابتسمت هي وقالت:
_شكراً لك.
طرق كارل الباب ودخل فور أن طلب منه رون أن يدخل فقال لأوچين:
_هيا بنا يا أوچين؟
_هيا بنا.
وقفت وكادت تخرج من الباب ولكن رون قاطعهما وقال:
_انتهت الأمطار أليس كذلك؟
_نعم يا رون، لماذا؟
_إذا غيرا ملابسكما أولاً إن أردتما.
_معك حق.
قالتها أوچين واتجهت نحو ثيابها التي جفت واختبأت وراء الستار لكي ترتديهم، خرجت من خلف الستار ليدخل بعدها كارل ليغير ملابسه.
همس رون لأوچين قائلاً:
_استعدي وتحضري، سوف أنتظرك في الغد.
_اتفقنا، شكراً لك على كل شيء.
_العفو، أنا لم أفعل شيئاً.
خرج كارل من خلف الستار وقال:
_انا مستعد هيا بنا.
_هيا بنا.
سبقها كارل، ضمت هي كفها وضربته مع كف رون ثم أشارت له بكفها وهي تقول:
_إلى اللقاء، سعدت بلقاءك يا رون.
_إلى اللقاء أوچين، سعدت بلقائك أيضاً.
خرج كل من كارل وأوچين واتجها نحو القصر، كانت أوچين لا تدري ما إن كان قرارها سليم أم لا، ولم تكن تعلم هل عليها أن تخبر كارل وهيلين أم لا.
كانت تخاف أن تخبرهم فيمنعوها، وتخاف ألا تخبرهم فتكون السبب في أذية لهم أو ما شابه، ولكن مع ذلك إتخاذ قرار صعب كهذا وحدها دون اللجوء لأحد كان أكثر ما وترها.
وصلوا إلى القصر ودخلوه، دخلت إلى غرفتها لتجد هيلين نائمة على فراشها، تنهدت براحة بعد أن أدركت أنها لم تتأخر ولم يكشفهما أحد، غيرت ملابسها واستلقت بجانب أختها قليلاً.
استيقظت هيلين لتجد أوچين نائمة بجانبها، عانقتها وقبلتها من وجنتيها ثم ذهبت إلى غرفتها، فكل منهما عادت إلى شخصيتها الطبيعية.
بدأت بقية العائلة تأتي تباعاً، دخل رئيس الخدم عليهم وقال لهم:
_سيدي الحاكم سوف يتناول الإفطار في غرفته؛ يجب عليه أن ينهي عدداً كبيراً من الأشغال، إن قضاها قبل موعد الغداء فسوف يأتي ليأكل معكم، إن لم يستطع اللحاق فستتناولون الطعام وحدكم.
صمت لثوانٍ ثم تابع:
_يمكنكم البدء في تناول الطعام وحدكم.
حركت العمة رأسها بوقار وأمسكت الشوكة والسكين وبدأت تتناول إفطارها، في نفس الوقت بدأ جميع الموجودون في تناول طعامهم أيضاً.
مر الوقت ونهضت أوچين التي كانت تجلس مكان هيلين وقالت:
_سوف اذهب الآن مع كارل، إلى اللقاء.
_إلى اللقاء.
قالتها هيلين بهدوء أوچين، أكملت القليل من الطعام ثم قالت:
_استأذنكم سوف أنهض الآن، لقد شبعت.
ردت عليها العمة قائلة:
_بالهناء والشفاء يا أوچيني.
ثم ربتت على شعرها وعانقتها لثوانٍ، نهضت هيلين وذهبت إلى غرفة أوچين.
لم يكن بيدها ما تفعله فقررت الجلوس ومشاهدة رسوم توأمها لوالدتها، جلست تتذكر لحظاتهم المميزة معاً، تتذكر مواقف والدتها وطيبة قلبها.
بدأت تتأمل قسمات وجه والدتها، كانت هي وتوأمها تشبهانها كثيراً، نفس الشعر الأرجواني الفاتح المجعد، نفس البشرة البيضاء ذات النمش، نفس الأنف ذو الأرنبة المرفوعة الصغيرة وعيونها الصفراء في غالب الوقت وأخيراً شفتيها الصغيرتين.
وقفت في المرآة تقارن الرسوم بملامحها، ابتسمت عندما لاحظت أنها نسخة مصغرة عن أمها، وكذلك أوچين فهما توأم متشابه.
لاحظت الوشم الملكي على عنقها فلمسته بضيق ولكنها ابتسمت مجدداً عندما تذكرت أنه وجه تشابه زائد بينهما وبين والدتهما.
تنهدت هيلين ورمت نفسها على فراش أوچين بإهمال، أغمضت عينيها وبدأت تغوص في أحلام اليقظة؛ متخيلة نفسها مع والديها وأختها وجميع المقربين يجلسون معاً بسعادة وهناء، ولكن سرعان ما تحولت أحلام اليقظة تلك إلى حلم حقيقي بعد أن غفت من الملل.
في مكان آخر، حيث كان كل من أوچين وكارل يسيران في الخارج، كان كارل يحمل على ظهره حقيبة يحمل فيها لرون ما قد يحتاجه من معدات، أما عن أوچين فقد كانت خالية الوفاض، وكانت ترتدي ملابس صوفية تدفئها.
رفعت قبعة المعطف على رأسها إلى أن وصلوا إلى الغابة، فور أن دخلوها وتوغلوا فيها رفعت أوچين القبعة من فوق رأسها.
شعرت ببعض من قطرات الماء تقطر على رأسها، رفعت كفها في السماء فسقط عليه بعض من قطرات الغيث، قهقهت أوچين بسعادة فور أن أدركت أن الغيث قد بدأ يهطل.
لطالما أحبت الأمطار والشتاء، كانت عكس أختها هيلين في شخصيتها فإحداهما تحب الشمس والدفء والأخرى تحب الغيث والبرودة وغيرها من الإختلافات.
بدأت أوچين تركض وتدور حول نفسها كلما ازداد معدل سقوط الغيث فتبلل شعرها الأرجواني المجعد، صرخ بها كارل وقال:
_أوچين، ستمرضين بهذا الشكل.
_كارل، أنا أخرج مرة كل مئة عام، فلتتركني أفعل ما أشاء، اتركني استمتع بقضاء وقتي في الخارج.
قالتها بصراخ وهي تستمتع بالدوران حول نفسها، اقتربت من كارل وسحبت قبعته من فوق رأسه وقالت:
_وأنت استمتع بوقتك قليلاً، صدقني اللعب في الأمطار سيجعلك تتذكر أيام طفولتك، سيجعلك تشعر بنقاء روحك، إنه لأمر ممتع بكل تأكيد.
سحبت يده وبدأت تجعله يدور معها تحت الأمطار، رغم أنه كان يشعر أنها حركات طفولية بالنسبة لعمره، إلا أنه لم يرد أن يكسر خاطرها وسايرها فيما تفعله، ففي النهاية هي تخرج ما كبتته في القصر لسنوات.
ركضا معاً في منتصف الغابة، حتى اقتربا من كوخ والدتها والذي يسكنه رون في الوقت الحالي.
مع زيادة هطول الأمطار بدأت ترتعش بشدة وهذا أيضاً ما حدث مع كارل، ارتدا قبعتيهما مرة أخرى وكل منهم احتضن جسده محاولاً تدفئته، أما عن شفتيهما وأسنانهما فقد كانا يرتجفان من البرد.
وقفا أمام باب الكوخ وطرقا الباب دون أن يدخلا، عطست أوچين فجأة؛ فقال لها كارل متذمراً:
_هل مرضت يا أوچين!
ثم تابع مؤنباً إياها:
_لقد أخبرتك أنه من الأفضل ألا نفعل هذا ولكنك أصريتِ و..
لم يكد يكمل جملته إلا وعطس هو أيضاً فقهقهت أوچين عليه، فتح رون الباب ليجد كارل يقف أمامه، وخلفه وقفت فتاة لم يدرك من هي، فقد كانت مبللة بالكامل وكان شعرها ومنتصف وجهها مُخبأ بقبعة المعطف.
دخل كارل لأول مرة دون إستئذان ثم قال:
_تعالي بسرعة يا أوچين.
هزت أوچين رأسها إيجاباً وتقدمت بتردد، بدأت تتأمل الكوخ من حولها، لم تزره منذ سنوات، لازال الكوخ يحمل رائحة والدتها النقية رغم مرور سنوات.
كان شاردة في معالم الكوخ، وهي تحتضن ذراعها الأيسر بكفها الأيمن ولكن صوت أفاقها يقول:
_أوچين.
نظرت للمتحدث وقد كان رون، مد كفه نحوها فمدت هي كفها أيضاً وسلمت عليه بخجل وقالت:
_أهلاً، رون أليس كذلك؟
_نعم، تشبهين هيلين كثيراً لم أستطع في البداية تحديد أيهما أنت، ولكن عندما ناداك كارل بأوچين حينها أدركت.
_نعم، لا أحد غير أبي وكارل يستطيعان تمييزنا.
_هذا رائع للغاية!
_نعم، أرى هذا أيضاً.
قالتها مع ابتسامة فبادلها إياها.
_بالمناسبة هذه هي نازلي، جنيتي.
قالها رون وأشار على الجميلة نازلي التي رحبت بأوچين بدورانها حولها ثلاث مرات سريعاً، وحينها أسقطت بعض من التراب الذهبي على رأسها ذو الشعر البنفسجي.
فتح رون الخزانة وأخرج منها بعض الثياب كي يبدلا ملابسهما، وطلب من نازلي أن تعد للجميع مشروباً ساخناً وهذا بالفعل ما فعلته.
أعطاهم الثياب فغيروا ثيابهم وراء ستارٍ، بدأت أولاً أوچين وتبعها كارل، جلسوا جميعاً في النهاية على الأريكة وقدم رون لهم المشروب الذي حضرته نازلي.
أمسك كلٌ منهما واحدٌ، عطست أوچين مجدداً فضحكوا عليها وضحكت هي أيضاً معهم، شربوا القهوة الساخنة التي جعلتهم أفضل ولو قليلاً ثم نطق كارل قائلاً:
_أظنك عرفت أول عشب، أليس كذلك يا رون؟
_نعم، وسأبدأ في البحث عنه اليوم.
_هذا جيد، إذاً لقد أتيتُ في الوقت المناسب.
خلع حقيبته من على ظهره وأعطاها لرون وقال:
_إن تلك الحقيبة لرحلتك، أظن أنك سوف تحتاجها، لأن فيها كل ما قد يخطر على بالك.
_أشكرك جداً يا كارل.
_العفو.
نظر كارل في اتجاه النافذة فوجد الأمطار قد هدأت فنهض وقال:
_سوف أنهض أنا، سوف أنهي بعض الاشياء التي يجب علي إنجازها كالعادة ومن ثم سوف آتي.
_اتفقنا.
قالها رون فنهض كارل وسلم عليه بيديه وفعل المثل مع أوچين.
خرج كارل ونهضت أوچين من مكانها، وقالت لرون:
_لقد اشتقت للمكان كثيراً.
_هل كنت تأتين أنت أيضاً إلى هنا؟
_هل تمزح؟ كان هذا كوخ والدتنا، إنه الذكرى الوحيدة لنا منها.
_أوه، حقاً! لم أكن أعلم.
_هل تسمح لي بالعبث في الأشياء هنا، لقد اشتقت للمكان ولرائحة أمي التي لازلت أشعر بها حتى الآن، سامحني إن كنت تراني شخص فضولي.
_هل تمزحين يا أوچين، أنا الدخيل المتطفل هنا، إنه مكانكم.
ابتسمت أوچين بهدوء وقالت:
_ولكن مع ذلك، أنت من تسكن فيه حالياً.
بدأت أوچين تعبث في الخزانة وفي الأدراج وما شابه.
فتحت إحدى الأدراج وأخرجت منها مرآة مخدوشة، نظرت فيها وحين لمحت ورقة رُسم عليها الوشم، رفعت شعرها ببطء ونظرت بتمعن إلى الوشم المرسوم على عنقها فقال مالك متدخلاً:
_صحيح، ما هذا الرسم على عنقكما.
تذكر أيضاً أنه رآه من قبل في تلك الورقة التي في الدرج فقال:
_كما أنني رأيته من قبل في ورقة في الدرج.
رفعت أوچين الورقة التي في الدرج وسألته:
_تلك؟
_نعم هي.
_إنه الوشم الملكي يا رون، لكل مدينة وشمها الخاص، يوشم به فور أن يصبح فرداً من العائلة الحاكمة.
_فهمت، يبدو مذهلاً في الحقيقة.
_إنه من العوامل المشتركة بيننا وبين والدتي، هل تعلم أنني وهيلين نشبه والدتنا كثيراً؟
_لم أكن أعلم ولكن هذا يوضح مدى جمال والدتكما في الحقيقة.
أحمرت وجنتيها خجلاً وقالت:
_أشكرك.
عادت تقلب مرة أخرى في الأدراج حتى لمحت لوحة صغيرة بها صورة لها مع والديها وأختها.
بدأت الدموع تتجمع في عينيها، أرت الصورة لرون وأشارت له على والدتها وهي تروي له ذكرى هذا اليوم.
فقد كانت والدتها أخذت الإذن من زوجها وطلبت منه أن يذهبوا جميعاً إلى كوخ الغابة وأن يقضوا يوماً هناك وسط الطبيعة الساحرة الخلابة.
وافق الأب بصعوبة وبعد محاولات دامت كثيراً.
أخذ الأب ذلك اليوم إجازة فقط كي يسعد زوجته وبناته، كان حينما الجو حار للغاية فقرروا جميعاً السباحة في النهر، بدأ كل منهم يلعب مع الآخر.
أثناء لعبهم أصاب هيلين شد في عضلات ساقها، بدأت تصرخ متألمة وبدأت الجاذبية تسحبها لأعماق النهر، لاحظ والدها فغاص وراءها كثيرً إلى أن أمسك بساقها وسحبها منها.
خرجت هيلين من النهر بمساعدة والدها، كانت شبه مغشي عليها وكانت أمها وأختها تبكيان خوفاً عليها.
بدأ والدها يحاول إخراج الماء من معدتها، فضغط عليها عدة مرات إلى أن خرج وشهقت هيلين التي استفاقت وبدأت تسعل ويخرج من فمها ماء النهر.
ركضت عليها أمها وأختها وعانقتاها وهي تبكي، كرهت هيلين منذ ذلك الحين الماء، لم تسبح منذ ذلك الحين في الأنهار وكرهت الأمطار.
اتجهت العائلة إلى الكوخ وجففوا أنفسهم وغيروا ملابسهم كي لا يمرضوا، بدأت الأم تخرج الطعام الذي حضرته بيدها في القصر، لم ترد أن يتدخل أحد من الخدم في الطعام اليوم.
بدأت هي تحضره وفى نفس الوقت كان الأب يلعب مع ابنتيه على الأريكة، استدعتهم قائلة:
_لقد انتهيت من تحضير الطعام، هيا لنبدأ في تناول الطعام.
نهضت الفتاتان بمرح ونهض والدهم معهم وبدأوا في تناول الطعام الشهي وهم يروون لبعضهم الحكايا ويضحكون ويستمتعون بوقتهم.
رغم ما مروا به إلا أنها كانت من أجمل اللحظات في حياتهم، فهم لا يجتمعون في لحظات مميزة هكذا بشكل متكرر.
أنهوا تناول طعامهم ثم أمسكت الأم آلة تصوير والتقطت بها بعض الصور، وكانت الأخيرة وهي المتبقية الوحيدة منهم هي ما كانت تتأملها أوچين.
أشفق رون عليهما، فوالدهما دائماً ما يكون مشغول بسبب طبيعة عمله، أما عن والدتهما فهم فقدوها للأسف منذ سنوات وهذا ما أثر عليهما جداً.
لم يكفي هذا فقط ولكن أوچين أيضاً مضطرة للبقاء في القصر للأبد، كان هذا يؤلمه رغم أن الموضوع لا يخصه إطلاقاً ولكنه كان يشعر بالظلم الذي كانت تشعر به.
أقسم في داخله أنه سوف يحل اللغز وسينقذها، كما أقسم أنه سينقذ والدها من الموت أيضاً.
بدأت تقول بنبرة حزينة:
_أخاف دائماً من أن أفقد أبي أيضاً، أخاف أن أفقده دون أن أودعه، أو دون أن أعانقه.
_ أوچين، هل تسمحين لي بأن أسألك سؤالاً؟
_بالطبع.
_هل أنت راضية عن حبسك داخل القصر؟
_ماذا!
_ماذا؟
_لم يسألني أحد هذا السؤال من قبل، الجميع بدأ يقول لي أن أبي بالتأكيد يفعل اللازم، وأنه يفعل ما في مصلحتي.
تابعت بشرود:
_لم يسألني أحد عن رأيي من قبل.
توقفت للحظات ثم قالت:
_لذلك، لا أعرف.
_كيف لا تعرفين؟
قالها باستنكار ثم تابع:
_حينها كنت راشدة بما فيه الكفاية لاتخاذ قرار او على الأقل لمشاركتك فيه.
_معك حق.
_أرى أنك لا تستمتعين بحياتك بسبب هذا الموضوع، وهذا كان قرار ظالم من والدك.
مطت شفتيها فتابع هو:
_أوچين.
_نعم؟
_أعدك أنني سوف أنقذ والدك، كما أعدك أنني سأعرف أصل الأمر وسأحررك.
_سوف أتي معك.
_ماذا!
_أود خوض تلك المغامرة معك، ألست من شجعني على رفض الحبس.
_ولكن هذا خطير للغاية.
_لا تقلق لن يحدث شيئاً.
_حسناً، إذاً اذهبي إلي القصر وجهزي حاجاتك واستعدي وتعالي في الغد لنبدأ الرحلة.
_اتفقنا،فور أن يأتي كارل سوف أذهب معه.
_أوچين، من اختار لكِ اسمك؟
_أمي من اختارته.
_وما معناه؟
_ذات الشأن الرفيع وصاحبة السمو.
أصدر رون من شفتيه صفيراً ثم قال:
_اسمك واسم هيلين مميزان للغاية، هل اختارت والدتك اسم هيلين أيضاً؟
_لا، والدي من اختاره.
_إن ذوقهما رفيع للغاية، اسمائكم فخمة ورائعة.
ابتسمت هي وقالت:
_شكراً لك.
طرق كارل الباب ودخل فور أن طلب منه رون أن يدخل فقال لأوچين:
_هيا بنا يا أوچين؟
_هيا بنا.
وقفت وكادت تخرج من الباب ولكن رون قاطعهما وقال:
_انتهت الأمطار أليس كذلك؟
_نعم يا رون، لماذا؟
_إذا غيرا ملابسكما أولاً إن أردتما.
_معك حق.
قالتها أوچين واتجهت نحو ثيابها التي جفت واختبأت وراء الستار لكي ترتديهم، خرجت من خلف الستار ليدخل بعدها كارل ليغير ملابسه.
همس رون لأوچين قائلاً:
_استعدي وتحضري، سوف أنتظرك في الغد.
_اتفقنا، شكراً لك على كل شيء.
_العفو، أنا لم أفعل شيئاً.
خرج كارل من خلف الستار وقال:
_انا مستعد هيا بنا.
_هيا بنا.
سبقها كارل، ضمت هي كفها وضربته مع كف رون ثم أشارت له بكفها وهي تقول:
_إلى اللقاء، سعدت بلقاءك يا رون.
_إلى اللقاء أوچين، سعدت بلقائك أيضاً.
خرج كل من كارل وأوچين واتجها نحو القصر، كانت أوچين لا تدري ما إن كان قرارها سليم أم لا، ولم تكن تعلم هل عليها أن تخبر كارل وهيلين أم لا.
كانت تخاف أن تخبرهم فيمنعوها، وتخاف ألا تخبرهم فتكون السبب في أذية لهم أو ما شابه، ولكن مع ذلك إتخاذ قرار صعب كهذا وحدها دون اللجوء لأحد كان أكثر ما وترها.
وصلوا إلى القصر ودخلوه، دخلت إلى غرفتها لتجد هيلين نائمة على فراشها، تنهدت براحة بعد أن أدركت أنها لم تتأخر ولم يكشفهما أحد، غيرت ملابسها واستلقت بجانب أختها قليلاً.
استيقظت هيلين لتجد أوچين نائمة بجانبها، عانقتها وقبلتها من وجنتيها ثم ذهبت إلى غرفتها، فكل منهما عادت إلى شخصيتها الطبيعية.