٢٢

في غرفة التخطيط الخاصة بالحاكم، طلب الحاكم استدعاء كارل الذي كان قد وصل مؤخراً، فذهب إليه على الفور دون تأجيل.

طرق الباب عليه فأمره الحاكم بالدخول، نفذ ما أُمر به وسأله الحاكم قائلا:

_هل أخذت المعدات لرون؟

_نعم يا سيدي، أخذت له كل ما أمرتني به.

_جيد، وهو الأن يعرف العشب الأول، أليس كذلك؟

_نعم يا سيدي.

_متى سيبدأ من رأيك؟

_أظنه سوف يبدأ في الغد أو ما شابه، عليه أولاً تجميع المعلومات اللازمة عن العشب، صحيح هل لي أن أسأل حضرتك سؤالاً؟

_تفضل يا بني.

_لماذا لم نخبره بالمعلومات اللازمة كي نسهل عليه الأمر؟

_كما قلت أنت، هذا سوف يسهل عليه الأمر، وأنا لا أريد هذا.

_ولكننا نحن من نحتاجه.

_بالضبط ولهذا السبب لم أود أن أخبره عن تلك المعلومات، فليبحث عنها بنفسه ليظن أنها جزء من المهمة، إن سهلنا عليه ما نعرفه سنظهر بشكل أضعف، ليس عليك أبداً الظهور أمام شخص وكأنك محتاج.

_حتى ولو كنت محتاجاً؟

_نعم بالطبع، كي لا يستغل أحد إحتياجك هذا ويضعك في موقف صعب.

_فهمت يا سيدي، يبدو أنني سوف أظن أتعلم منك ما دمت حياً.

_هل يضايقك هذا يا كارل أو ما شابه؟

قالها الحاكم بتهديد مزيف وبنبرة مازحة فقال كارل وهو ينحني للحاكم:

_بالطبع لا يا سيدي، إنه لشرف لي التعلم من حضرتك.

ابتسم له الحاكم ثم قال:

_فلندخل في الموضوع الأساسي، سبب إستدعائي لك هو عائلة الفتاة.

سكت الحاكم لثوانٍ ثم تابع قائلاً:

_هل ألقيت القبض عليهم البارحة؟

_نعم، الأب وابنته في الغرفة السفلية.

_حسناً، قبل أن أقوم باتخاذ أي إجراء، أود أن أستشيرك في شيء ما، أنت تعرف أنك أكثر من أثق به في اللحظة الحالية.

_تفضل يا سيدي بالتأكيد.

_ما هو العقاب الأساسي لفعلة مثل فعلتهم؟

_الإعدام للأب وطرد الفتاة إلى الغابة في الجنوب.

_صحيح ولكن..

_ولكن ماذا.

_قلبي لا يطاوعني أن أعدم الأب.

_لماذا؟

_لأننا وبكل بساطة فعلنا نفس فعلته قبل سنوات.

_فهمت.

_إذاً أخبرني، ماذا ترى في هذا الموضوع؟

_أرى أن عليك أن تخبره بالعقوبة اللازمة، ولكن تعاطفاً معه لن تنفذها.

_أي كما فعلنا مع رون؟

_بالضبط.

_حسناً ولكن ألن تهتز صورتي أمام العامة، وخصوصاً أمامه، فأي حاكم لا ينفذ عقوبة فقط من أجل مشاعره، لا يوجد حاكم يحكم بالعواطف.

_نعم يا سيدي، ولكنني لم أقل ألا تنفذ العقوبة، فقط يمكنك أن تنفذ عقوبة بديلة.

_تحريف الدستور يعني، على كلٍ، اطلب من رئيس الخدم أن يرسل لي الرجل وحده.

_أمرك يا مولاي، في غرفة الاجتماعات؟

_نعم، فليكن لقاءنا في غرفة الاجتماعات مثل اللقاء الأول.

_حسناً.

خرج كارل من الغرفة وسار إلى الطابق القابع أسفل الأرض باحثاً عن رئيس الخدم، وجده يسير متفحصاً للمكان حوله فقال له:

_الحاكم يريد أن يقابل والد الفتاة في غرفة الاجتماعات.

_حاضر، أين هو الآن؟

_ في الغرفة السفلية المظلمة.

_حسناً.

عكس رئيس الخدم اتجاه سيره وتابع كارل سيره ولكنه توقف وقال بصوت عالي:

_إياك وإحضار الفتاة معه، الحاكم لا يريدها الآن.

_حسناً.

اتجه رئيس الخدم إلى الغرفة وفتحها بالمفتاح ليشعر بصوت همسات هادئة في الغرفة، فور أن فتح الباب وبيده شمعة تضيء المكان، وجد الفتاة منكمشة ومتمسكة بشدة في ذراع والدها الذي نظر إلى من فتح الباب.

كانت الفتاة تُخبئ وجهها في جسد والدها وصوت شهقاتها عالي.

تحركت مشاعر رئيس الخدم وتضايق من أجل الفتاة ولكنه استجمع نفسه بسرعة وقال:

_الحاكم يريد رؤيتكَ.

بدأ الرجل يشعر بالتوتر، ليس رهبةً من مقابلة الحاكم لأنه بالفعل قابله من قبل مرتين أو ثلاث؛ ولكن ما كان يخيفه تلك المرة هو أنه سوف يقابله والحاكم يعرف أنه كاذب.

لم يكن يود مقابلته ولكن الأمر ليس بيده، الرفض ليس خياراً في الأساس.

نهض بتوتر وتردد، وكأنه يخطو خطوة ليعود بدلاً منها اثنتين، مر الوقت كالتصوير البطيء، بدأت ابنته تتعلق في ساقه وهي تبكي وتقول:

_أبي لا تتركني، أرجوك.

ظلت تصيح وتبكي فسأل الأب:

_أيمكنني أخذها معي؟

بدأت تهدأ قليلاً منتظرة رد فعل رئيس الخدم ولكنها عادت للبكاء مرة أخرى عندما سمعته يقول:

_للأسف ممنوع.

نظر الأب لابنته التي كانت تزحف على الارض وتمسكه من ساقه، بدأت الدموع تتجمع في عينيه، مسحها بكفه ثم التفت إلى الجهه الأخرى كي لا ينظر إليها ويؤلمه قلبه عليها.

وجه أنظاره إلى رئيس الخدم وقال:

_عدني ألا تفعلوا لها شيئاً.

_عفواً سيدي، لا أستطيع أن أعدك بشيء.

سحبه رئيس الخدم من يديه بعد أن نفذ صبره فسحب الأب قدمه بقوة ليزداد بكاء ابنته.

أغلق رئيس الخدم على الفتاة بالمفتاح وسحب الأب من ذراعه واتجه نحو غرفة الاجتماعات كما قال له كارل، فتح الباب وترك الرجل فيها وحده ثم خرج ووقف على الباب يحرسه حتى وصل الحارس.

ترك المكان للحارس ثم اتجه إلى الحاكم وقال له:

_سيدي، الرجل في غرفة الاجتماعات ينتظرك.

حرك الحاكم رأسه بهدوء ثم نهض وخرج وسار حتى وصل إلى غرفة الاجتماعات وفتح بابها بهدوء.
لم يزل التوتر في قلبه، بل زاد مع سماعه صوت فتح الباب، كان يعض شفتيه من التوتر، يهز قدميه، لتصدر ما يشبه الذبذبات ومعدته بدأت تؤلمه من التوتر، شعر بنغز في قلبه.

سحب شهيقاً عميقاً من أنفه ثم زفره من فمه، دخل عليه الحاكم الذي كان ينظر له باستحقار، كان الحاكم يفهم كونه لا يريد التضحية بابنته فقد كان مكانه في يوم من أيام الماضي.

ولكن أكثر ما ضايق الحاكم هو استغفال الرجل له، عامله كالمغفلين بالمعنى الحرفي ولولا فطنة الحاكم وذكاءه لما أرسل شخصاً يتتبعه ولما اكتشف حقيقته.

جلس الحاكم على مقعده الذي كان أمام مقعد الرجل، نظر له الحاكم باستحقار وقال:

_تعلم أنه لا كذبة تدوم للأبد أليس كذلك؟

لم يجب الرجل على الحاكم بل التزم الصمت ولم يرفع عينيه في عيني الحاكم أبداً من الخوف والخجل، صرخ الحاكم بشدة وقال:

_عندما أحدثك عليك ان ترد علي.

قال الرجل بنبرة صوت متلعثمة:

_ انا آسف يا سيدي لم يكن علي الكذب أبداً، ولكنني لا أريد التضحية بابنتي، هي صغيرة وليس لها أي ذنب في الأمر.

_اخرس، أنت تعلم القوانين وتعلم أنها يجب ان تنفى في الغابة في الجنوب كي لا تصيب أحد بالضرر، تعلم أن ابنتك سوف تستخدم السحر الأسود المحرم وتعلم أن ما نفعله هو فقط من أجل مصلحة مملكتنا.

سكت الحاكم لوهلة ثم قال بعد أن فكر بتأني:

_أنا أقدر جداً خوفك على ابنتك، ولكنها هناك سوف تكون بخير، سوف تكون مع أقرانها من الإناث، وسوف تكون مع من يشبهونها بحق ولن يؤذونها، أما إن بقيت هنا فهي سوف تضرنا وتضر نفسها.

_معك كل الحق يا سيدي، أنا آسف، ولكنها فلذة كبدي، لم أكن لأستطيع أن أضحي بها أبداً، بل فداها نفسي وروحي.

_كما قلت لك هذا هو القانون، ولكن لم يغضبني تأثرك بما حدث؛ فالجميع قد يتأثر بشيء كهذا، والكثير مر بما مررت انت به، ولكن ما اغضبني بحق، هو كذبك علي وخداعك لي واحتيالك علي!

_أنا آسف يا سيدي، أعدك انني لن أكررها، ولن أكذب مجدداً ولن اخدعك مرة أخرى، أنا حقاً نادم على ما فعلت.

_انت بالفعل لن تستطيع خداعي مرة أخرى، لأنك بموجب القانون رقم ثلثمائة وواحد وأربعون، سوف تعدم.

توسعت حدقتي عينا الرجل وشهق بصدمة في الوقت الذي أصبحت ضربات قلبه أسرع، بدأ الحاكم يوضح ويشرح الوضع قائلاً:

_لانك خدعت الحاكم واخفيت عنه ظهور جنية لابنتك وخاصةً السوداء منها، كما أنك جعلت جميع عائلتك تشرك في هذه الجريمة.

بدأ الرجل يقول بتلعثم ونظرات نادمة على فعلتها:

_أعتذر منك كثيراً يا سيدي، افعل ما شئت ولكن ارجوك لا تقتلني؛ فلدي زوجة تنتظرني في المنزل ولدي ولد ينتظر مني الدعم النفسي، يكفي عليهما فقدان ألما.

كان الحاكم يود أن يضحك كثيراً على حال الرجل؛ فهو لم يكن يعرف خطط الحاكم، ولكنه تماك نفسه وقال:

_ لم يكن عليك الكذب علي، ليس بيدي شيء أفعله الآن فهذا هو القانون الذي ينص عليه الدستور.

_أرجوك يا سيدي، سأفعل ما تشاء سأفعل ما تؤمرني به.

أظهر الحاكم نظرات تفكير عميق، رغم أنه كان يعرف ما سوف يقول بالفعل ثم قال:

_حسناً، سأحاول أن أعيد النظر في الدستور، لعلني أجد شيئا يخفف من التهم التي عليك.

صمت قليلاً ثم تابع:

_ يمكنك العودة الآن إلى ابنتك في الغرفة السفلية إلى أن  أجد قانون أستطيع خدمتك به، ولكن  لا تنسى أنك في كل الأحوال سوف تعاقب ولن تنفذ بجلدك.

هز الرجل رأسه للأسفل وللأعلى سريعاً، وكانت تعتليه نظرات خائفة، فقال الحاكم متابعاً حديثه:

_كما ان ابنتك ستنفى، مثلها مثل قريناتها  كما ينص القانون، ولا يوجد مجال للتراجع في هذا الأمر.

ظهر الخوف على ملامح الأب وكان الحاكم يستمتع بنظرات الخوف على ملامحه كانتقام على كذبه وخداعه واستغفاله له، قال الأب للحاكم بانعدام حيلة:

_كما تأمر يا مولاي، لن أستطيع أن أتجرأ وأرفض أوامرك القاطعة، ولا يمكنني أن أقول شيئاً، كما أنه ليس بيدي شيء استطيع فعله لمنع نفيها.

_والآن أخرج وعد من حيث أتيت لا أريد أن أرى وجهك أيها المخادع.

_حاضر سيدي.

نهض الرجل من مقعده واتجه نحو الباب الذي فتحه وكاد يخرج منه ولكن قاطعه صوت الحاكم الذي قال للحارس الذي يقف على الباب يحرسه:

_خذه إلى الغرفة السفلية الآن؛ فأنا لا أريد أن أرى وجهه، عندما أحتاجه سوف اجعلك تستدعيه.

قال الحارس بصوت هادئ:

_حاضر يا سيدي، سوف أفعل ما تأمرني به.

سمعه الرجل الذي كان يشعر بمزيج لم يفهمه من المشاعر، كان خليط من التوتر والخوف والضيق وأخيراً الغضب، ولكنه لم يكن بيده شيء يستطيع فعله ولم يفعله.

أخذه الحارس وذهبوا إلى الغرفة السفلية التي كانت ألما تجلس بها بعد ان أخذ المفتاح من رئيس الخدم.

فور أن فُتح الباب، ركضت ألما على والدها الذي رأته وعانقته ببكاء قائلة:

_أبي، هل أنت بخير؟ ماذا سيفعلون بنا؟ هل سيقتلوننا.

_لن يقتلونك يا فتاتي، سيقتلونني انا لأنني كذبت عليهم واخفيت عنهم الحقيقة، ولكنهم سينفونك إلى غابة في الجنوب، سوف تعيشين فيها مع اقرانك معززة مكرمة.

_ولكنني يا أبي لا أريد الذهاب إلى هناك، أريد البقاء معكم اريد البقاء مع عائلتي الوحيدة.

_ليس بيدنا أي حيلة يا ابنتي، عليكِ الذهاب كي تبقين حية.

_ولكنني لا أريد أن يقتلوك يا أبي، أنت لا تستحق هذا، كل ما حدث قد حدث بسببي، فليقتلوني بدلاً منك.

_ لا تخافي يا بنيتي، سوف أتحدث معهم لعلهم يخففون العقوبة.

_آمل هذا.

قالتها  الفتاة فرد عليها الأب بأمل كاذب في داخله:

_وأنا أيضاً أمل هذا.

نظرا وراءه ليجدا الحارس قد حبسهما مجدداً هنا، جلس الأب على الأرض ووضعت ابنته رأسها على ساقيه وبدأ هو يتحسس شعرها ويشمه.

وفي مكان آخر وتحديداً في الكوخ الخشبي كان رون يستعد للذهاب والبحث عن المكتبة؛ ليبحث فيها عن كتب تتحدث عن العشب الاول الذي كلفه الحاكم بالبحث عنه.

أخذ نازلي على كتفه الأيمن وأخذ الحقيبة التي أحضرها كارل له وارتداها على ظهره لعله يحتاجها بدءاً من اليوم.

خرج من الكوخ وهو يرتدي ملابس صوفية؛ كي تحميه من جو موسم الغيث وتقيه من البرد كي لا يمرض.

بدأ يسير في أنحاء الغابة الخالية من الأشجار، إلى أن خرج منها، أمسك الخريطة التي أعدتها له نازلي وبدأ يحدق بها محاولة فهم واستيعاب مكان المكتبة التي سيذهب إليها.

لم يجد في الخريطة ما يدل على مكتبة أو ما شابه ولكن لفت انتباهه مجسم ضخم لم يدري ماهيته فقرر الذهاب والبحث عنه لعلها تكون المكتبه المقصودة رغم أنها كانت أكبر بكثير من مجرد مكتبة.

كان يخجل من السؤال عنها وقد كان خائفاً من أن يتذكره شخص ما من ايام حادثة السرقة، ولكن مع سيره و بحثه تأكد أن ظنونه قد خابت ولم يتذكره احد.

فشكر الله وبدأ يسير دون أن يسأل عنها لأنه مع ذلك لم يكن يريد أن يلحظ أي أحد أنه لا يعرف الأماكن في الشمال كي لا يظن حينها انه من مكان آخر وتسلل الى هنا.

وهذا ما لم يحدث او ربما قد حدث ولكن ليس بالشكل الذي يظنه الناس

بدأ يبحث عن الأماكن الواقعة حول هذا المبنى الضخم الموجود على الخريطة، فحاول إيجادها على أرض الواقع، إلى أن وصل إلى  طرف الخيط، فقد لاحظ وجود مبنى أمامه على الخريطة بالقرب من هذا المبنى الذي يبحث عنه.

بدأ يسير متجهاً  نحو هذا المبنى الدائري الزجاجي الضخم، لقد رآه بالفعل على أرض الواقع، كان يظنه أصغر من هذا الحجم بكثير؛ ولكنه كان ضخماً لم يرى مثله من قبل.

اقترب منه ببطء فوجد البوابة مكتوب عليها مجمع الثقافة والفنون ومنها دخل ليجد حارسٌ للبوابة يقف قبل المدخل ببضع خطوات.

نظر إلى الرجل الحارس الذي قال:

_أعطني بيانات بطاقتك.

توقف رون عن الحديث لثواني، لم يستطع فعل شيء أبداً، بل لم يكن يعلم أنهم يتعاملون هنا بالبطاقات  وبطبيعة الحال لم يكن يملك واحدة.

استفاق عندما كرر الرجل جملته وقال:

_أعطني بطاقتك يا فتى.

لم يبدِ رون أي رد فعل ولكن نازلي قفزت بسرعة وقالت:

_تفضل يا سيدي.

كان رون مذهولا؛ فقد أخرجت بطاقة فجأة من العدم، ولم يفهم هل كانت معها منذ بداية الأمر ولم يكن هو يعلم أم أنها صنعتها في ثوانٍ.

سحبها الرجل وبدأ يدون بعض البيانات في عقله ومن ثم سمح لهما بالدخول، دخل رون المبنى ووجد درجات سلم طويل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي