٢٥
في غرفة الحاكم٬ دخل كل من موراي وألما٬ كان الحاكم يجلس على إحدى المقاعد٬ وكان كارل يقف على يمينه واتجه موراي إلى يساره٬ قال الحاكم إلى ألما:
_اجلسي يا ابنتي على هذا المقعد.
اقتربت ألما من المقعد بتردد فشجعها الحاكم قائلاً:
_لا تخافي٬ اجلسي لن أؤذيك.
جلست ألما على المقعد وكان بدنه بأكمله يرتجف٬ فشعرت من إهتزاز قدميها التلقائي السريع بالتوتر.
افتتح الحاكم حديثه محاولاً الترويح عنها قليلاً فقال لها:
_ ما اسمك؟
ردت عليه الفتاة وقالت:
اسمي هو ألما يا سيدي.
أصدر الحاكم صفيراً خفيفاً من بين شفتيه ثم قال مرحباً بها:
_أهلاً بك يا ألما.
ثم تابع قائلا:
يا ابنتي الاختلاف نقمة والأفضل هو أن يبقى كل شخص مع من يشبهونه، إن بقيت هنا فستضرين السكان جميعهم كما ستضرين نفسك، وسيضرك السكان هنا إن عرفوا حقيقتك.
قالت ألما بتوتر:
معك حق يا سيدي.
صمت الجميع لثواني قليلة ثم قالت ألما بقلق على والدها:
_وماذا عن أبي، هل سيكون بخير ؟هل سوف تعدمه؟
_لن أقوم بإعدامه ولكنه لن يفلت من العقاب، سوف أعاقبه ولكن بطريقة اخرى، ولكن كوني واثقة أنني لن أؤذيك مطلقاً ولن أؤذي والدك ولا أي شخص من عائلتك فأنا هنا كي أحمي الناس وليس لكي أؤذيهم.
ابتسمت ألما براحة ولكن مع ذلك كانت حزينة جداً على فراق أهله، تشجعت ألما وقالت:
_إذا فلنفعل ما تشاء يا سيدي، ما دامت عائلتي بخير ولن تمسهم بضرر، إذاً أنا مستعدة، فلننهي هذا الأمر على الفور.
نظر إليها الحاكم وأعجب بشجاعتها، فرغم خوفها من المجهول ولكنها تأقلمت سريعاً مع ما علمته، ظن أنه سوف يضطر لتأهيلها نفسياً قبل ذلك، ولكن ظنه قد خاب.
أشار لماريا بعينيه فنهضت من الأريكة التي كانت مقابل الفراش، ثم جلست على الكرسي الذي كان موضوعاً أمام الكرسي الذي كانت تجلس ألما عليه.
سألت ماريا ألما:
_بماذا تشعرين؟
أجابتها ألما بنبرة صوت متوترة:
في الحقيقة، أنا أشعر بالخوف قليلاً، ولكن مع ذلك سأحاول تمالك نفسي.
ابتسمت لها ماريا وقالت:
_هذا جيد.
التفتت ألما إلى الحاكم وقالت له باستفسار:
_هل يمكنني أن أرى أبي للمرة الأخيرة، هل يمكنني توديعه ومعانقته؟
نظر لها الحاكم وقال:
_هذا من حقك، ولكن إن قررت أن تودعيه سوف نضطر أن نعدمه.
ثم تابع الحاكم قائلاً:
_تعلمين أنه بخير وأنه حي يرزق، وهو يعلم أنك سوف تكونين بخير، كما أنك كنت معه ورأيته بالأمس؛ لذلك لا أرى أن هنالك داع لمقابلته مجدداً وفتح الآلام والمواجع.
سكتت لثوانٍ معدودة ثم عادت وتحدثت قائلة:
_معك حق يا سيدي، كما تشاء.
وجهت لها ماريا حديثها وقالت:
_هل انتِ مستعدة لخوض تلك الرحلة؟ هل أنت مستعدة لمقابلة أقرانك والفتيات اللواتي يشبهنك والعيش معهم بقية عمرك؟
تنهدت ألما ثم قالت بحماس:
_ أنا مستعدة.
ابتسم الجميع نظرت إليهم ماريا وقالت:
_أغلق الستار يا كارل.
تحرك كارل وشد الستار قياماً بما أمرت به السيدة ماريا أخت الحاكم.
بعد أن أغلق الستار عليهما بدأت تقرأ كلاماً غير مفهوم كان يبدو كتعويذة أو ما شابه، بدأ الدخان يملأ المكان حولهما ويزداد كلما قرأت ماريا من الكتاب.
كل منهما كانت تشعر بالدوار، وكأن الارض تدور بهما وحدهما، فجأة في لحظة شعرت ألما بأنها تسقط من مكانٍ عالي، أغمضت عينيها بشدة وضمت جسدها وساقيها بكفها وفجأة من الخوف تردد صدى صرخاتها في القصر، ولكنه كان يأتي وكأنه من بعيد.
شعرت ألما أنها ارتطمت على الأرض فجأة فتألمت و وتأوهت ولكنها فجأة شعرت وكأن الأرض تردها ودفعتها بعيداً في الهواء، إلى أن سقطت مرة أخرى ولكن تلك المرة على أرض ناعمة.
فتحت عيونها فرأت نفسها مازالت في القصر، تفاجأت من نظراتهم المصدومة وقالت:
_لماذا انا مازلت هنا.
قالت ماريا بتلعثم:
_كيف لم تذهب تلك الفتاة للجنوب، كيف لم تذهب لتلك الغابة الجنوبية، لقد فعلت كل شيء بالطريقة الصحيحة.
نظر لها الحاكم بنظرات حاده ثم قال:
_أعيدي التجربة مرة اخرى.
بدأت ماريا تعيد الكرة وفعلت نفس ما فعلته في المرة الاولى، وفي كل مره تقرأ فيها تلك التعاويذ كانت ألما تتألم وتصرخ وفجأة اختفت مرة أخرى وشعرت مجدداً أنها تسقط وترتطم على الأرض ولكن أرض غابة الجنوب تردها مرة اخرى.
حينها ارتفعت في الهواء مرة اخرى لتجد نفسها فجأة تسقط على أرض غرفة الحاكم.
كان الجميع ينظر إليها بدهشة، لم يستطع أحد التحدث ولا فعل شيء، بل لم يكن أحد يفهم ما يحدث؛ فقد كانت تلك هي المرة الاولى التي يحدث فيها شيء مثل هذا.
سأل الحاكم ونظرات التعجب لم تفارق قسمات وجهه قط:
_أخبريني يا ابنتي ماذا حدث، هل شعرت بشيء ما أو ما شابه؟
ترددت ألما كثيراً قبل أن تتحدث ولكنها قالت:
_نعم يا مولاي لقد شعرت أنني أسقط من مكان مرتفع جداً، وفجأة ارتطمت على أرض صلبة حتى ان قدماي جرحتا ونزفتا الدماء.
صمتت لثوانٍ ثم تابعت:
_وفجأة شعرت وكأن الأرض قد ردتني وبالتالي طرت في الهواء بنفس السرعة، ولكن عندما سقطت وجدت نفسي في تلك الغرفة، صدقوني أنا أيضا لم أفهم ما حدث ولم أفهم سبب عودتي إلى هنا مجدداً.
ساد الصمت أجواء المكان لدقائق عديدة، كان الكل يحاول إدراك ما حدث وما هو سببه، تحدث الحاكم بعد صمت طويل نسبياً:
_كارل، خذها إلى الغرفة مرة أخرى وإياك أن تخبر والدها بما حدث؛ فهذا سيبقى سرًا بيننا.
نظر حينها إلى ألما وقال بحدة:
_وأنت، في كلتا الحالتين سيتم نفيك من الشمال وبشكل من الأشكال سوف تقتنين غابة الجنوب، ولكن علينا أن نعرف لماذا ردتك الأرض، وإلى أن نعرف هذا سوف تبقين في الغرفة ولن تخرجي منها أبداً، ولا تقلقي سوف نحضر لك الطعام في الغرفة.
_أوامرك مجابة يا سيدي.
خرج كل من كارل وألما واتخذا مسار الغرفة المظلمة السفلية طريقاً لهما، وصلا إليها وفتح لها كارل الباب، دخلت هي وجلست فيها دون اي حيلة وسحب هو الباب وأوصده وغطت ألما في نوم عميق.
عند الحاكم كان متعجباً مما حدث، بدأ يحاول أن يفكر هو ورئيس الخدم واخته ماريا وكارل الذي عاد للتو، حاولوا كثيراً التوصل إلى أي حل ولكن لا جدوى، قرر الحاكم الخلود إلى النوم وترك هذه المسألة إلى الصباح.
أمرهم بالخروج من الغرفة وهذا ما فعلوه، فخرجوا واحداً تلو الآخر وتركوه وحيداً في الغرفة، وكلٌ ذهب الى سريره لينام.
عندما حل الصباح وأشرقت الشمس، نهضت نازلي وبدأت تحاول إيقاظ رون؛ فبدأ يفرك في عينيه ويتمدد ويقول بكسل:
_أتركيني يا نازلي أود أن أستمر في النوم، لم أنم ما يكفيني.
لم تهتم نازلي بما قاله فعادت تحاول إيقاظه مجدداً ولكن لا جدوى.
بعد عدة محاولات نجحت إحداهم أخيراً، استيقظ رون بكسل ثم تمطع بجسده قائلا:
_صباح الخير
ردت نازلي تحية الصباح وقالت:
_صباح الخير يا رون.
بدأ رون يغسل وجهه ويشرب القليل من الماء، محاولاً أن يستفيق، وبعد دقائق وتحديداً بعد أن بات يشعر بالتحسن والنشاط، أحضر حقيبته التي أعطاها له كارل ثم جلس يراجع ويتذكر ما خطط لفعله في الأمس.
في نفس الوقت الذي كان رون يجلس فيه في الكوخ منتظراً وصول أوچين، خرجت هي متسللة من غرفتها ثم ودعت أختها وقبلتها أثناء نومها، تحركت هيلين أثناء نومها فبدأت أوچين تشعر بالتوتر.
ركضت أوچين إلى خارج القصر وقد تنكرت بملابس غير المعتادة وغطت رأسها وشعرها وعنقها بقبعة المعطف، خرجت من القصر رغماّ عن الحراس الواقفين كي يحرسوا المكان، ليس بالقوة بل بالدهاء.
فقد أقتربت من الأسوار وخرجت من جزء مكسور مسبقاً من السور، لم يكن يعرف عنه أحد أي شيء عدا هيلين وكارل، فهيلين كانت تخرج منه أحياناً، أما عن كارل فقد كان يعلم عنه ولكنه لم يفشي عنه وتركه مفتوحاً لوقت الحاجة.
توغلت أوچين في الغابة إلى أن وصلت لكوخ والدتها الذي يسكنه رون حاليا، طرقت أوچين باب الكوخ فنهض رون على الفور من الأريكة التي كان يجلس عليها كي يفتح الباب الذي وجد أوچين تقف أمامه فقال مرحباً بها:
_أهلاً بك يا أوچين، كيف حالك اليوم؟
ردت عليه وقالت بحماس:
_اهلا رون، أنا بخير وأنت؟
_أنا على ما يرام.
دخلت أوچين وجلست على الاريكة وقالت بحماس:
_هيا اشرح لي كل ما علينا فعله ، اشرح لي خطتك وما تنوي فعله وكيف سنبدأ.
_حسناً سأشرح لك كل شيء .
اخذ رون الخريطة ووضعها على الطاولة الخشبية أمامها ثم فردها، أمسك بالقلم وبدأ يشرح لها وقال:
_العشب الأول الذي طلب مني الحاكم أن أبحث عنه هو عشب اللصف، والذي بعد تحري لساعات وببعض الاستبعاد، أدركت أنه سوف يكون متواجداً في غابة سكيلتون.
_لماذا؟
_بكل بساطة، لأنها الغابة الوحيدة التي تحتوي على الجبال في الشمال، وبعد بحثٍ شامل أدركتُ أنه يقبع في القمم الجبلية وتحديداً بين الصخور.
_هذا مذهل! من اين عرفت كل هذا؟
قالتها بدهشة فابتسم هو وقال بإعجاب:
_لقد عرفت كل تلك المعلومات من المكتبة، إنها حقاً رائعة للغاية، علي أن أكرر زيارتها في أقرب فرصة كما أنك أنت أيضاً عليك أن تزوريها لتتمتعي بجمالها وضخامتها.
_إتفقنا، دعنا أولاً نبدأ في البحث عن العشب الأول ومن ثم نقرر ما إن كان يمكننا الذهاب أم لا، أي بعد إتمام المهمة الأولى.
وافقها رون وأومأ برأسه إيجاباً ثم قال:
_حسناً، إتفقنا، ولكن لدي تعليق علي أن أقوله قبل أن نبدأ في المهمة.
_وما هو؟
_أرى أنك بهذا الشكل مكشوفة للغاية وإن رآك أحد سيكشف أمرك على الفور، يبدو أنك لا تجيدين التنكر.
استفزها كلامه فقالت باستهزاء:
_حقاً! إذا أخبرني ماذا علي أن أفعل؟
لم يعطِ رون لطريقتها في الحديث إهتماماً بل قال بكل جدية:
_عليك التنكر أكثر كي تبدين مختلفة أي كي تستطيعي التجول كما تشائين دون أن يشعر أحد.
تذكرت أوچين أنها نسيت إخباره أهم شيء فقالت:
_بالمناسبة لا أحد يعلم أنني معك حتى هيلين، لم أود أن أخبرها شيئاً كهذا كي لا يعاقبها أبي عندما يكتشف، أرى أن جهلها في هذا الموضوع سيكون أكثر أماناً لها، وكذلك كارل؛ لذلك تصرف وفقاً لهذا، اتفقنا؟
_اتفقنا.
طلب رون من نازلي أن تساعد أوچين في التنكر، فابتسمت نازلي وقالت:
_بالطبع.
بدأت نازلي تدور وتدور، سحبت شعر رون المستعار وأمسكته بيدها، بدأت تلقي عليه بعض الكلمات ليتناسخ فجأة في لحظة،فقد باتوا اثنين بدلاً من واحد؛ لأنها صنعت لأوچين شعراً مستعاراً برتقالي اللون، تماما كشعر رون المستعار.
نظرت أوچين وذُهلت من خفة يد نازلي وسرعتها رغم أنها مبتدئة وقد وصلت إلى رون فقد منذ بضعة أيام.
رفعت أوچين كفيها وأمسكت بشعرها الارجواني المجعد، رفعته بيدها وربطته شريط كان معها، أخذت حينها الشعر المستعار من نازلي ووضعته فوق شعرها الحقيقي لتخفيه.
صفق رون وقال:
_تمت أول خطوة بنجاح.
بدأ رون يسير واتجه إلى الخزانة، بدأ يبحث عن شيء قد يناسبها ولكنه لم يجد؛ فأخرج لها زياً رجالي صوفي يناسب الجو الحالي وطلب منها ارتداءه.
دخلت أوچين إلى خلف الستار المعلق في الكوخ وسحبته، وقفت تحاول ارتداء ما أعطاها رون من ثياب، في الحقيقة لم تكن تعجبها فقد اعتادت ارتداء فساتين وتنانير لطيفة ولكنها كانت مجبرة، فقد كان هذا إختيارها وهي مسؤولة عن نتائجه.
خرجت من خلف الستار بعد أن ارتدته، ولكن شكلها كان مضحكاً للغاية، بدأ رون يضحك عليها ويسخر منها.
كانت الثياب كبيرة للغاية عليها؛ فقد كانت تبدو وكأنها طفل صغير يرتدي ملابس والده، رغم أن نفس الثياب كان يرتديها رون ورغم أنهما كانا في نفس العمر تقريباً.
لم يستطع رون تمالك نفسه وبات يضحك عليها متناسياً أنها ابنة الحاكم، بل كان يعاملها كمجرد صديقة له.
تضايقت أوچين من رد فعل رون؛ فاقتربت منها نازلي وقبلتها على وجنتها ثم قالت لها بحنان:
_سأصلح الأمر في ثوانٍ لا تقلقي ولا تضايقي نفسك.
التفتت نازلي وبدأت تدور حول أوچين وأسقطت بعض من الرمال الملونة باللون الذهبي على أوچين، وفي لحظة مفاجأة تبدل شكل الثياب التي كانت قد قامت بارتدائها وصارت مضبوطة عليها، بل كانت تليق بها كثيرا.
اتجهت أوچين نحو الدرج وفتحته بهدوء، بدأت تبحث عن المرآة إلى أن وجدتها، رفعت المرآة وابعدتها عن نفسها قليلاً.
نظرت إلى نفسها عبر المرآة لتبتسم فور أن تمعنت في النظر، سعدت كثيراً فتوسعت الابتسامة التي ارتسمت على محياها، التفتت بعدها ونظرت إلى رون ونازلي وقالت لهما بعد أن رفعت حاجبيها بثقة:
_كيف أبدو الآن؟
لم يجب رون عليها إطلاقا بل كان مصدوماً من التغير الجذري الذي حدث أما عن نازلي فقد أطلقت صفيراً وقالت بذهول:
_لقد أصبحتِ مدهشة!
ابتسمت لها وقالت بلطف:
_أشكرك يا نازلي، هذا بفضلك.
وجهت نظراتها إلى رون وقالت باستهزاء:
_لقد كنت تسخر مني منذ دقائق، والآن؟ هل ابتلعت الأقزام لسانك؟
عقد رون حاجبيه وقال بضيق:
_تبدين جميلة أكثر من اللازم.
ضحكت كل من نازلي وأوچين عن الإطراء فخجل رون وقال:
_لم أقصد ما جال بخاطركم، قصدت أنها تبدو لطيفة فقط.
سكت عندما لاحظ نظراتهما فدب على الأرض وقال مجدداً:
_لماذا لا تنتصتان إلى بشكل جيد، أقصد أن شكلها لا يبدو كالرجال بل تبدو كالفتيات، عليها أن تتنكر بشكل أفضل، أي بشكل أكثر إقناعاً.
_حسناً فهمت.
قالتها نازلي وبدأت تغير من شكل أوچين، انتهت في ثواني معدودة ثم وجهت نظرها إلى رون وقالت:
_ما رأيك؟
_يبدو مظهرها معقولاً عن البداية.
_هذا جيد.
تحدث رون فجأة وقال:
_انتظري بقيت اللمسة الأخيرة.
_ماذا؟
قالتها أوچين فتحرك رون نحو أحد الأدراج وفتحها بهدوء ، بدأ يقلب به وقد بعثره ولكنه توقف حين قال:
_وجدت ما كنت أبحث عنه.
_اجلسي يا ابنتي على هذا المقعد.
اقتربت ألما من المقعد بتردد فشجعها الحاكم قائلاً:
_لا تخافي٬ اجلسي لن أؤذيك.
جلست ألما على المقعد وكان بدنه بأكمله يرتجف٬ فشعرت من إهتزاز قدميها التلقائي السريع بالتوتر.
افتتح الحاكم حديثه محاولاً الترويح عنها قليلاً فقال لها:
_ ما اسمك؟
ردت عليه الفتاة وقالت:
اسمي هو ألما يا سيدي.
أصدر الحاكم صفيراً خفيفاً من بين شفتيه ثم قال مرحباً بها:
_أهلاً بك يا ألما.
ثم تابع قائلا:
يا ابنتي الاختلاف نقمة والأفضل هو أن يبقى كل شخص مع من يشبهونه، إن بقيت هنا فستضرين السكان جميعهم كما ستضرين نفسك، وسيضرك السكان هنا إن عرفوا حقيقتك.
قالت ألما بتوتر:
معك حق يا سيدي.
صمت الجميع لثواني قليلة ثم قالت ألما بقلق على والدها:
_وماذا عن أبي، هل سيكون بخير ؟هل سوف تعدمه؟
_لن أقوم بإعدامه ولكنه لن يفلت من العقاب، سوف أعاقبه ولكن بطريقة اخرى، ولكن كوني واثقة أنني لن أؤذيك مطلقاً ولن أؤذي والدك ولا أي شخص من عائلتك فأنا هنا كي أحمي الناس وليس لكي أؤذيهم.
ابتسمت ألما براحة ولكن مع ذلك كانت حزينة جداً على فراق أهله، تشجعت ألما وقالت:
_إذا فلنفعل ما تشاء يا سيدي، ما دامت عائلتي بخير ولن تمسهم بضرر، إذاً أنا مستعدة، فلننهي هذا الأمر على الفور.
نظر إليها الحاكم وأعجب بشجاعتها، فرغم خوفها من المجهول ولكنها تأقلمت سريعاً مع ما علمته، ظن أنه سوف يضطر لتأهيلها نفسياً قبل ذلك، ولكن ظنه قد خاب.
أشار لماريا بعينيه فنهضت من الأريكة التي كانت مقابل الفراش، ثم جلست على الكرسي الذي كان موضوعاً أمام الكرسي الذي كانت تجلس ألما عليه.
سألت ماريا ألما:
_بماذا تشعرين؟
أجابتها ألما بنبرة صوت متوترة:
في الحقيقة، أنا أشعر بالخوف قليلاً، ولكن مع ذلك سأحاول تمالك نفسي.
ابتسمت لها ماريا وقالت:
_هذا جيد.
التفتت ألما إلى الحاكم وقالت له باستفسار:
_هل يمكنني أن أرى أبي للمرة الأخيرة، هل يمكنني توديعه ومعانقته؟
نظر لها الحاكم وقال:
_هذا من حقك، ولكن إن قررت أن تودعيه سوف نضطر أن نعدمه.
ثم تابع الحاكم قائلاً:
_تعلمين أنه بخير وأنه حي يرزق، وهو يعلم أنك سوف تكونين بخير، كما أنك كنت معه ورأيته بالأمس؛ لذلك لا أرى أن هنالك داع لمقابلته مجدداً وفتح الآلام والمواجع.
سكتت لثوانٍ معدودة ثم عادت وتحدثت قائلة:
_معك حق يا سيدي، كما تشاء.
وجهت لها ماريا حديثها وقالت:
_هل انتِ مستعدة لخوض تلك الرحلة؟ هل أنت مستعدة لمقابلة أقرانك والفتيات اللواتي يشبهنك والعيش معهم بقية عمرك؟
تنهدت ألما ثم قالت بحماس:
_ أنا مستعدة.
ابتسم الجميع نظرت إليهم ماريا وقالت:
_أغلق الستار يا كارل.
تحرك كارل وشد الستار قياماً بما أمرت به السيدة ماريا أخت الحاكم.
بعد أن أغلق الستار عليهما بدأت تقرأ كلاماً غير مفهوم كان يبدو كتعويذة أو ما شابه، بدأ الدخان يملأ المكان حولهما ويزداد كلما قرأت ماريا من الكتاب.
كل منهما كانت تشعر بالدوار، وكأن الارض تدور بهما وحدهما، فجأة في لحظة شعرت ألما بأنها تسقط من مكانٍ عالي، أغمضت عينيها بشدة وضمت جسدها وساقيها بكفها وفجأة من الخوف تردد صدى صرخاتها في القصر، ولكنه كان يأتي وكأنه من بعيد.
شعرت ألما أنها ارتطمت على الأرض فجأة فتألمت و وتأوهت ولكنها فجأة شعرت وكأن الأرض تردها ودفعتها بعيداً في الهواء، إلى أن سقطت مرة أخرى ولكن تلك المرة على أرض ناعمة.
فتحت عيونها فرأت نفسها مازالت في القصر، تفاجأت من نظراتهم المصدومة وقالت:
_لماذا انا مازلت هنا.
قالت ماريا بتلعثم:
_كيف لم تذهب تلك الفتاة للجنوب، كيف لم تذهب لتلك الغابة الجنوبية، لقد فعلت كل شيء بالطريقة الصحيحة.
نظر لها الحاكم بنظرات حاده ثم قال:
_أعيدي التجربة مرة اخرى.
بدأت ماريا تعيد الكرة وفعلت نفس ما فعلته في المرة الاولى، وفي كل مره تقرأ فيها تلك التعاويذ كانت ألما تتألم وتصرخ وفجأة اختفت مرة أخرى وشعرت مجدداً أنها تسقط وترتطم على الأرض ولكن أرض غابة الجنوب تردها مرة اخرى.
حينها ارتفعت في الهواء مرة اخرى لتجد نفسها فجأة تسقط على أرض غرفة الحاكم.
كان الجميع ينظر إليها بدهشة، لم يستطع أحد التحدث ولا فعل شيء، بل لم يكن أحد يفهم ما يحدث؛ فقد كانت تلك هي المرة الاولى التي يحدث فيها شيء مثل هذا.
سأل الحاكم ونظرات التعجب لم تفارق قسمات وجهه قط:
_أخبريني يا ابنتي ماذا حدث، هل شعرت بشيء ما أو ما شابه؟
ترددت ألما كثيراً قبل أن تتحدث ولكنها قالت:
_نعم يا مولاي لقد شعرت أنني أسقط من مكان مرتفع جداً، وفجأة ارتطمت على أرض صلبة حتى ان قدماي جرحتا ونزفتا الدماء.
صمتت لثوانٍ ثم تابعت:
_وفجأة شعرت وكأن الأرض قد ردتني وبالتالي طرت في الهواء بنفس السرعة، ولكن عندما سقطت وجدت نفسي في تلك الغرفة، صدقوني أنا أيضا لم أفهم ما حدث ولم أفهم سبب عودتي إلى هنا مجدداً.
ساد الصمت أجواء المكان لدقائق عديدة، كان الكل يحاول إدراك ما حدث وما هو سببه، تحدث الحاكم بعد صمت طويل نسبياً:
_كارل، خذها إلى الغرفة مرة أخرى وإياك أن تخبر والدها بما حدث؛ فهذا سيبقى سرًا بيننا.
نظر حينها إلى ألما وقال بحدة:
_وأنت، في كلتا الحالتين سيتم نفيك من الشمال وبشكل من الأشكال سوف تقتنين غابة الجنوب، ولكن علينا أن نعرف لماذا ردتك الأرض، وإلى أن نعرف هذا سوف تبقين في الغرفة ولن تخرجي منها أبداً، ولا تقلقي سوف نحضر لك الطعام في الغرفة.
_أوامرك مجابة يا سيدي.
خرج كل من كارل وألما واتخذا مسار الغرفة المظلمة السفلية طريقاً لهما، وصلا إليها وفتح لها كارل الباب، دخلت هي وجلست فيها دون اي حيلة وسحب هو الباب وأوصده وغطت ألما في نوم عميق.
عند الحاكم كان متعجباً مما حدث، بدأ يحاول أن يفكر هو ورئيس الخدم واخته ماريا وكارل الذي عاد للتو، حاولوا كثيراً التوصل إلى أي حل ولكن لا جدوى، قرر الحاكم الخلود إلى النوم وترك هذه المسألة إلى الصباح.
أمرهم بالخروج من الغرفة وهذا ما فعلوه، فخرجوا واحداً تلو الآخر وتركوه وحيداً في الغرفة، وكلٌ ذهب الى سريره لينام.
عندما حل الصباح وأشرقت الشمس، نهضت نازلي وبدأت تحاول إيقاظ رون؛ فبدأ يفرك في عينيه ويتمدد ويقول بكسل:
_أتركيني يا نازلي أود أن أستمر في النوم، لم أنم ما يكفيني.
لم تهتم نازلي بما قاله فعادت تحاول إيقاظه مجدداً ولكن لا جدوى.
بعد عدة محاولات نجحت إحداهم أخيراً، استيقظ رون بكسل ثم تمطع بجسده قائلا:
_صباح الخير
ردت نازلي تحية الصباح وقالت:
_صباح الخير يا رون.
بدأ رون يغسل وجهه ويشرب القليل من الماء، محاولاً أن يستفيق، وبعد دقائق وتحديداً بعد أن بات يشعر بالتحسن والنشاط، أحضر حقيبته التي أعطاها له كارل ثم جلس يراجع ويتذكر ما خطط لفعله في الأمس.
في نفس الوقت الذي كان رون يجلس فيه في الكوخ منتظراً وصول أوچين، خرجت هي متسللة من غرفتها ثم ودعت أختها وقبلتها أثناء نومها، تحركت هيلين أثناء نومها فبدأت أوچين تشعر بالتوتر.
ركضت أوچين إلى خارج القصر وقد تنكرت بملابس غير المعتادة وغطت رأسها وشعرها وعنقها بقبعة المعطف، خرجت من القصر رغماّ عن الحراس الواقفين كي يحرسوا المكان، ليس بالقوة بل بالدهاء.
فقد أقتربت من الأسوار وخرجت من جزء مكسور مسبقاً من السور، لم يكن يعرف عنه أحد أي شيء عدا هيلين وكارل، فهيلين كانت تخرج منه أحياناً، أما عن كارل فقد كان يعلم عنه ولكنه لم يفشي عنه وتركه مفتوحاً لوقت الحاجة.
توغلت أوچين في الغابة إلى أن وصلت لكوخ والدتها الذي يسكنه رون حاليا، طرقت أوچين باب الكوخ فنهض رون على الفور من الأريكة التي كان يجلس عليها كي يفتح الباب الذي وجد أوچين تقف أمامه فقال مرحباً بها:
_أهلاً بك يا أوچين، كيف حالك اليوم؟
ردت عليه وقالت بحماس:
_اهلا رون، أنا بخير وأنت؟
_أنا على ما يرام.
دخلت أوچين وجلست على الاريكة وقالت بحماس:
_هيا اشرح لي كل ما علينا فعله ، اشرح لي خطتك وما تنوي فعله وكيف سنبدأ.
_حسناً سأشرح لك كل شيء .
اخذ رون الخريطة ووضعها على الطاولة الخشبية أمامها ثم فردها، أمسك بالقلم وبدأ يشرح لها وقال:
_العشب الأول الذي طلب مني الحاكم أن أبحث عنه هو عشب اللصف، والذي بعد تحري لساعات وببعض الاستبعاد، أدركت أنه سوف يكون متواجداً في غابة سكيلتون.
_لماذا؟
_بكل بساطة، لأنها الغابة الوحيدة التي تحتوي على الجبال في الشمال، وبعد بحثٍ شامل أدركتُ أنه يقبع في القمم الجبلية وتحديداً بين الصخور.
_هذا مذهل! من اين عرفت كل هذا؟
قالتها بدهشة فابتسم هو وقال بإعجاب:
_لقد عرفت كل تلك المعلومات من المكتبة، إنها حقاً رائعة للغاية، علي أن أكرر زيارتها في أقرب فرصة كما أنك أنت أيضاً عليك أن تزوريها لتتمتعي بجمالها وضخامتها.
_إتفقنا، دعنا أولاً نبدأ في البحث عن العشب الأول ومن ثم نقرر ما إن كان يمكننا الذهاب أم لا، أي بعد إتمام المهمة الأولى.
وافقها رون وأومأ برأسه إيجاباً ثم قال:
_حسناً، إتفقنا، ولكن لدي تعليق علي أن أقوله قبل أن نبدأ في المهمة.
_وما هو؟
_أرى أنك بهذا الشكل مكشوفة للغاية وإن رآك أحد سيكشف أمرك على الفور، يبدو أنك لا تجيدين التنكر.
استفزها كلامه فقالت باستهزاء:
_حقاً! إذا أخبرني ماذا علي أن أفعل؟
لم يعطِ رون لطريقتها في الحديث إهتماماً بل قال بكل جدية:
_عليك التنكر أكثر كي تبدين مختلفة أي كي تستطيعي التجول كما تشائين دون أن يشعر أحد.
تذكرت أوچين أنها نسيت إخباره أهم شيء فقالت:
_بالمناسبة لا أحد يعلم أنني معك حتى هيلين، لم أود أن أخبرها شيئاً كهذا كي لا يعاقبها أبي عندما يكتشف، أرى أن جهلها في هذا الموضوع سيكون أكثر أماناً لها، وكذلك كارل؛ لذلك تصرف وفقاً لهذا، اتفقنا؟
_اتفقنا.
طلب رون من نازلي أن تساعد أوچين في التنكر، فابتسمت نازلي وقالت:
_بالطبع.
بدأت نازلي تدور وتدور، سحبت شعر رون المستعار وأمسكته بيدها، بدأت تلقي عليه بعض الكلمات ليتناسخ فجأة في لحظة،فقد باتوا اثنين بدلاً من واحد؛ لأنها صنعت لأوچين شعراً مستعاراً برتقالي اللون، تماما كشعر رون المستعار.
نظرت أوچين وذُهلت من خفة يد نازلي وسرعتها رغم أنها مبتدئة وقد وصلت إلى رون فقد منذ بضعة أيام.
رفعت أوچين كفيها وأمسكت بشعرها الارجواني المجعد، رفعته بيدها وربطته شريط كان معها، أخذت حينها الشعر المستعار من نازلي ووضعته فوق شعرها الحقيقي لتخفيه.
صفق رون وقال:
_تمت أول خطوة بنجاح.
بدأ رون يسير واتجه إلى الخزانة، بدأ يبحث عن شيء قد يناسبها ولكنه لم يجد؛ فأخرج لها زياً رجالي صوفي يناسب الجو الحالي وطلب منها ارتداءه.
دخلت أوچين إلى خلف الستار المعلق في الكوخ وسحبته، وقفت تحاول ارتداء ما أعطاها رون من ثياب، في الحقيقة لم تكن تعجبها فقد اعتادت ارتداء فساتين وتنانير لطيفة ولكنها كانت مجبرة، فقد كان هذا إختيارها وهي مسؤولة عن نتائجه.
خرجت من خلف الستار بعد أن ارتدته، ولكن شكلها كان مضحكاً للغاية، بدأ رون يضحك عليها ويسخر منها.
كانت الثياب كبيرة للغاية عليها؛ فقد كانت تبدو وكأنها طفل صغير يرتدي ملابس والده، رغم أن نفس الثياب كان يرتديها رون ورغم أنهما كانا في نفس العمر تقريباً.
لم يستطع رون تمالك نفسه وبات يضحك عليها متناسياً أنها ابنة الحاكم، بل كان يعاملها كمجرد صديقة له.
تضايقت أوچين من رد فعل رون؛ فاقتربت منها نازلي وقبلتها على وجنتها ثم قالت لها بحنان:
_سأصلح الأمر في ثوانٍ لا تقلقي ولا تضايقي نفسك.
التفتت نازلي وبدأت تدور حول أوچين وأسقطت بعض من الرمال الملونة باللون الذهبي على أوچين، وفي لحظة مفاجأة تبدل شكل الثياب التي كانت قد قامت بارتدائها وصارت مضبوطة عليها، بل كانت تليق بها كثيرا.
اتجهت أوچين نحو الدرج وفتحته بهدوء، بدأت تبحث عن المرآة إلى أن وجدتها، رفعت المرآة وابعدتها عن نفسها قليلاً.
نظرت إلى نفسها عبر المرآة لتبتسم فور أن تمعنت في النظر، سعدت كثيراً فتوسعت الابتسامة التي ارتسمت على محياها، التفتت بعدها ونظرت إلى رون ونازلي وقالت لهما بعد أن رفعت حاجبيها بثقة:
_كيف أبدو الآن؟
لم يجب رون عليها إطلاقا بل كان مصدوماً من التغير الجذري الذي حدث أما عن نازلي فقد أطلقت صفيراً وقالت بذهول:
_لقد أصبحتِ مدهشة!
ابتسمت لها وقالت بلطف:
_أشكرك يا نازلي، هذا بفضلك.
وجهت نظراتها إلى رون وقالت باستهزاء:
_لقد كنت تسخر مني منذ دقائق، والآن؟ هل ابتلعت الأقزام لسانك؟
عقد رون حاجبيه وقال بضيق:
_تبدين جميلة أكثر من اللازم.
ضحكت كل من نازلي وأوچين عن الإطراء فخجل رون وقال:
_لم أقصد ما جال بخاطركم، قصدت أنها تبدو لطيفة فقط.
سكت عندما لاحظ نظراتهما فدب على الأرض وقال مجدداً:
_لماذا لا تنتصتان إلى بشكل جيد، أقصد أن شكلها لا يبدو كالرجال بل تبدو كالفتيات، عليها أن تتنكر بشكل أفضل، أي بشكل أكثر إقناعاً.
_حسناً فهمت.
قالتها نازلي وبدأت تغير من شكل أوچين، انتهت في ثواني معدودة ثم وجهت نظرها إلى رون وقالت:
_ما رأيك؟
_يبدو مظهرها معقولاً عن البداية.
_هذا جيد.
تحدث رون فجأة وقال:
_انتظري بقيت اللمسة الأخيرة.
_ماذا؟
قالتها أوچين فتحرك رون نحو أحد الأدراج وفتحها بهدوء ، بدأ يقلب به وقد بعثره ولكنه توقف حين قال:
_وجدت ما كنت أبحث عنه.