الفصل الخامس عشر
بغرفتها.. تضع فلك الهاتف على اذنها وتهمسُ بخفوت وعيناها تراقب بابها المُغلق بإحكام:
- عزيز ارجوك لا تغضب، فأنا لن استطيع عصيان اوامر والدتي.
اخذت تعبثُ بأطراف ضفيرتها واستمعت لتذمُّره الغاضب بحُب وعادت لتقول برِقّةٍ دافئة:
- وانا اشتاقُ اليكَ كثيرًا ولكن لا بأس، فقريبًا سنتزوج.
من الطرف الآخر كانت ملامح عزيز مُشتدّة بغضبٍ مكبوت، ولم يعتد ان ترفض فلك طلبًا له، فمنذ مجيئه لوالدها رفضت تمامًا ان تخرج لمقابلته وبالرغم من انه مرّ فقط اسبوعًا واحدًا الّا انه مُشتاقٌ لها للغاية، ويفتقد بقوّة تلك اللحظات التي تأخذه فيها عن العالم اجمع، فعندما ينظر الى عيناها المبهورتان بكُلّ براءتهما وعشقهما ينبضُ قلبه بلذّةٍ وفرح وتتلاشى كل معالم حياته البائسة لتنحصر بين تلكما العينين.
اعادته نبرتها الى وعيه عندما قالت بحزن:
- صدقني لو كان الأمرُ مُقترنًا برغبتي لأتيتُ الآن لرؤيتك، ولكن امي غاضبة مني بشدّة بعد معرفتها بتواصُلي معك، وبالرغم من انها صالحتني الّا ان نظراتها لا زالت حزينةً بسببي، وانا لا اتحمل رؤيتها بهذا الشكل.
ارتسمت على شفتيه ابتسامةً عميقة وهو يسمع نبرتها الرقيقة الممتزجة بالحزن، إنها بريئة وصادقة بصورةٍ توجع قلبه وتجعل من البُعد عنها حلمًا بعيد المنال خاصّة بعد تغلغُلها بداخله كذرّات الهواء، يلمسُ حنانها على والدتها ويستعر بغيرةٍ حمقاء، وتملُّكٍ لا يرغب بعده سوى بأن ينال عطفها وحده... ان لا تحمل همّ احدٍ سواه.. ان لا تسحرُ بحلاوتها لُبّ غيره.
- لماذا اخبرتيها انّكِ التقيتي بي؟
تسائل بنبرةٍ جارفة لتجيب وشفتاها تبتسمان بسذاجة:
- هي عرفت على الفور، وانا لا اعرف الكذب.
غامت عيناهُ بحُزنٍ وهو يهمس بداخله "انتِ بالفعل لا تعرفين الكذب.. ولا تستطيعين رؤيته من حولك.."
الا انه قال لها بعبث وهو يتذكر وجهها الباكي وقبلتهما المجنون:
- وهل اخبرتيها انني قبّلتُكِ؟!
سمع شهقتها المتفاجأة بخجلٍ فعضّ على شفتيه لاعنًا المسافات والاعراف التي تبعده عن رؤية وجهها في هذه اللحظة وسمع همستها المتعثرة:
- لم اخبرها بالطبع.. فتلك ال...
صمتت وصوت قلبها كهدير الموج، واضافت بتقطُّع:
- ما حدث كان خطأ، وانا الى الآن اشعُر بالندم.
- لا شيء يدعو للندم يا حلوتي، ولكن معك حق ما كان علينا الإنجراف وراء مشاعرنا.
قالها يخفف من وطأة شعورها بالذنب بالرغم من عدم ندمه على الإقتراب منها ولو كان الأمرُ بيده لكررها كل يوم ليشعر بتلك اللذة المُهلِكة ويشعل ذلك الجوع الذي لا يهدأ.
زفر بخشونةٍ وهمس مغيرًا الموضوع:
- والدكِ لم يرُدّ عليّ الى الآن.
شعرت بقلقه يتسرب اليها عندما قال وبعض الخوف يتسرب لقلبه:
- ربما يرى انني لستُ بمستواكِ المادي...
قاطعته هامسة بإصرار:
- المال ليس كُلّ شيءٍ يا عزيز، يكفي انك تُحبني.
قبض على قلبه بوجع وسمعها تضيف:
- نحنُ ببداية حياتنا، وعملك المُستقل سيؤمن لنا حياةً جيدة، وانا ايضًا سأُساعدك، فأبي سيمنحني وظيفة لديه و...
قاطعها بنبرةٍ هادرة وقد تملكهُ غضبٌ مُفاجئ:
- عمل ماذا يا فلك؟! انتِ ستبقين بالمنزل ولا نقاش في هذا الأمر.
واضاف بقسوة وهو يدرك انه نقطة ضعفها:
- هذا بالطبع اذا اردتي ان نكون سويًّا.
- يجب ان اغلق، والدتي تناديني..
هذا كل ما سمعه منها عقب لحظاتٍ من الصمت وقد اقسم انه سمع ارتجافة بكاءٍ بصوتها، حاول الإتصال مجددًا ولكنها لم ترُدّ عليه ليهمس بحنق:
- ها قد اغضبتها... قبل ان يصبح بيننا اي شيء تفننتُ بجرحها.
وظلّت فلك من الجانب الآخر تطالع نفسها بشرود في مرآتها، دموعها تسيل بحزنٍ ولم تعهد بعد غضب حبيبها، لقد كان بإمكانه قول رايه بهدوء دون ان يصرخ بها الّا انه يهددها بحبها له، يرغبُ بإرغامها على محو شخصيتها فقط لأن قلبها ضعيفًا امامه.. ولكنها ليس كذلك... هي ابنة ليلى... صحيح انها لم ترث ثبات والدتها المُثير للإعجاب الّا ان خلف قلبها المُرهف قوّةً استمدتها من والدتها الحبيبة، وقوتها قادرة تمامًا على كبح قلبها الرخو ولكنها لا تريد اظهارها، لا ترغب بأن تقسوا على قلبها وتمنعه من حبه الوحيد.
.
.
لم يظُنّ انها قادرة على البُعد كُلّ هذه الفترة، كيف لها ان تهجره بهذه البساطة وهو الذي يتخيل انها باتت كخاتمٍ بإصبعه، إن جفاءها مُرُّ للغاية ولا يمكنه تحمُّله... وصوتها الذي لم يسمعه منذ سبعة ايام يجعله كمُدمنٌ يحتاج لجرعة مُخدر.. وقد كانت بالفعل دواءه السحري الذي يخفف عن قلبه وطأة الأحزان.
جلس على مكتبه الصغير وحوله العامل الوحيد الذي يساعده في البيع للزبائن بينما راح عقله مرّة أُخرى لفلك التي جعلته بوقتٍ قصيرٍ يتقلّبُ على جمر الحُبّ بلا رحمة، فبالرغم من نكرانه لإحتياجه لها طوال الفترة الفائتة ها هو يقرُّ بأنها سلبت قلبه المكسور وانتهى الأمر.
نهض بخطواتٍ ثابتة بعد ان وصىّ الصبي على المحلّ وغادر مباشرة الى مكتب آدم... فموافقته تأخرت كثيرًا ويجب ان يعرف ردّه الآن، وبعدها سيتصرّف مع معذبته الصغيرة.
.
.
- سيد آدم، ثمة رجل اسمه عزيز يريد مقابلتك.
قالتها مساعده الشخصي ليبعد عينيه عن الأوراق الموضوعة امامه ويقول:
- ادخله.
دلف اليه بعد وقتٍ قصير لينهض ويصافحه بهدوء، بينما بدى عزيز قلقًا متلهّفًا بصورةٍ شديدة الى درجة انه لم يجلس بل ظلّ واقفًا يطالع اي ملامح آدم ٖمحاولًا استشفاف ردّه ليأتيه صوته مرِحًا مُغيظًا:
- اجلس يا فتى، اجلس.
جلس هامِسًا بتشنُّج:
- انتَ اخبرتني انّك سترُدّ على طلبي ولكن مرّت اسابيع ولم تهاتفني.
لم يستطع آدم كبح ضحكته المُستمتعة بلهفة عزيز فاردف مريحًا قلبه:
- لقد انتظرتُ قدومك، يا زوج ابنتي.
ابتسم حينها عزيز بسعادة وكأنما نال جائزته بعد سباقٍ طويل.. وهل هنالك احلى من هذه الفرحة؟! فرحة الحصول على طبيبة القلب وراحة الروح..
.
.
بهجة، إنها بهجة حياته بالرغم من صمتها الدائم، عيناها الشاردة، وابتسامتها الصغيرة التي بالكاد يستطيع اقتناصها عنوةً ... بالرغم من بقائها بمنزلها الّا انه يشعر بأنها بعيدةٌ عنه للغاية، تخفي نفسها عنه بأسوارٍ من الخوف والألم، فمنذ تلك الليلة التي حاول فيها حثّها على الحديث معه عن نفسها وانتهاءها بالبكاء لم يفتح معها حوارًا حول الأمر بل حاول طمأنتها بأنه يريدها كما هي، بأسرارها وخباياها ولن يمنعه عنها اي شيء.
وبالمقابل بدأت هي التأقلُم مع حياته ببُطء، باتت تعرف طعامه المفضل، تدرس طباعه التي لا تظهر الّا لمن يتعامل معه طويلًا، تهتم بوالده وأخيه... انها ببساطة تُمارس دورها كزوجةٍ له قبل ان يرتبطا رسميًّا ويعجبه هذا الأمر.
- اعجبك الطعام؟!
تسائلت وهي تضعُ امامه قطعةً من كعكة التوت البري عقب تناوله للعشاء عقب عودته متاخرا ليجيبها بتلذُذ:
- رائع، انتِ ماهرة للغاية في صُنع الطعام، حتى ابي الذي لا يعجبه سوى ما يطبخ اثنى عليكِ، واخبرني ان أُعجّل بالزواج منكِ.
تمتم وهو يراقبها تجلس امامه على الطاولة الجديدة ذات الكراسي الخشبية الانيقة، فقد ارادها ان تستريح من وقوفها الدائم بالمطبخ بالرغم من تسليته وهو يراقبها خلسة تحاول التسلق للجلوس على الكرسي الطويل.
راقب شفتاها التي انحنت بعبوس ووجدها تهمس بإختناق:
- انا خائفة، ولا اريدُ تدمير علاقتك بأُختك، وأُفضل الذهاب من هنا لكي لا اسبب لكم اي حرج.
رمقها بنظرةٍ حادّة ولم يستطع كبح غضبه وهو يقول:
- اولّا كُفّي عن ترديد هذه العبارة المُقيتة، انت لن تغادري هذا البيت ابدًا... وليلى انا سأتعامل معها.. فقط حاولي التعامُل مع هذه الحقيقة... انا أُحبّكِ واريدكِ في حياتي.
التقطت اذناها المرهفة آخر عبارةٍ بحرصٍ شديد وتمتمت بسذاجةٍ وكأنها تتذوّق طعم الكلمات:
- تُحبُّني؟! انا؟
جذب مقعدها نحوه بهمجيّةٍ ووضع ذراعيه حول حافّتي الكرسي ليحاصرها هامِسًا بغيظ:
- بل أُحبُّ بنت الجيران.. ما بكِ يا ميرال؟ لماذا دومًا تُقللين من قيمة نفسكِ وتجدين ان ما افعله لا يليقُ بكِ.
- هذا لأنني لا استحق ما تفعل.
قالتها بأسىً وانفاسه تحاصرها تهدي قلبها لذّةً ستؤلمها فيما بعد.. وضعت يدها على قلبه النابض بعُنف واغمضت عينيها لتسمح لتلك الدموع الحارقة بالتسرُّب، إنه هنا... قريب...ويعترفُ لها بالحُب بينما لم تمنحه حقيقةً واحدةً من حياتها سوى اسمها.
شعر بحر بنظراتها التي تعبثُ بأوتار قلبه.. تلك النظرة الباكية الرقيقة المُمتزجة بالحُب الذي تخاف الإعتراف به، واقسم انها في هذه اللحظة ستبوح بما في داخلها وبالفعل تنهّدت بتمهُّل وكأنها تُنظّمُ دقات قلبها المُبعثرة لتهمس مُغمضة العينين:
- انا كذبتُ عليكم... انا لستُ ارملة.
بعد تلك العبارة البسيطة شعرت بأن قلبه سينفجر بين يديها ففتحت عيناها بتردُد لتجده يلتهمها بنظرةٍ لم تستطع تفسيرها ليسألها بنبرة خافتة:
- ماذا تقصدين؟
شعرت بانها ستخسره الا انها اجابت:
- لقد اردتُ ان ابدوا اكثر بؤسًا لكي تمنحونني العمل، انا لم اتزوّج بحياتي.
وقبل ان تُكمل عبارتها وجدت نفسها بين ذراعيه... يحتضنها بشوقٍ جارف وقلبه يتراقصُ بفرحةٍ رجوليّةٍ خالصة.. فبالرغم من حبه لها وتمسُّكه بها ثمّة شيءٌ بدائيٌّ يوجعُ قلبه كلما تذكّر انها ارملة، شعورًا مريرًا يجتاحه عندما يفكر انها كانت لرجُل قبله حتى لو كان هذا الرجُل ميّتًا... انه شعور مولم ولا يستطيع منعه مهما حاول ولكنها الآن تخبره ببساطة بأنها فتاة وليست سيدة... فتاةً نقية لم يقربها رجُل قبله، وسيكون هو الأول بحياتها.. سيجتاح قلبها وحده ويُبدد خجلها بأجمل الطُرق، ربّاه كم هو جميلٌ هذا الشعور.
غمر انفه بين خصلات شعرها المُبعثر بجنون ولمس ممانعتها العنيفة التي بدت له كلُعبة لطيفة.
تجلسُ على ساقيه كطفلة، يغمرها بين ذراعيه مستكشفًا خبايا جسدها المختبئ عنه دائمًا بتلك الثياب المهذّبة، يلفُّ ذراعيه حول خصرها الأسطواني هامِسًا بأنها غبية.. وانه يحبها للغاية ولن يستطيع الإبتعاد عنها بينما بدت هي مأخوذةٌ من هذا القُرب، مُستمتعة بهذه اللحظات الغريبة ورغمًا عنها تتذكّرُ محاولات زوج اُمّها التي كانت تشعرها بالكره والنفور الّا انها الآن لا تشعر بشيءٍ سوى بنبضات قلبها الأحمق المُنجرف بتهوّرٍ نحو الحُب.
ابتعد عنها يلهثُ بشدّة غير قادرٍ على تنظيم ضربات قلبه المُتعالية، هو لم يُقبلها.. فقط احتضنها، انه مجرد عناق بريئ بعث بقلبه مشاعر غريبة.
ابتعدت عنه بتعثُّرٍ بينما وضع كفّيه على وجهه بإنفعال، إنه يفقد سيطرته تمامًا وهذا امرٌ غير محمود، يجب ان يتزوجا بأسرع وقت.
- غدا.. غدا سنعقد قراننا، وننهي هذا الأمر.
قالها بصوتٍ مُثخنٍ بالمشاعر وهو يراقبها تقفُ بعيدةً عنه، ترتعد بأنفاسٍ لاهثة وشعرها مُبعثرٌ حول وجهها الآسر، لا يمكنه تحمُّل رؤيتها اكثر من ذلك لذا نهض وقبل ان يغادر المطبخ عاد لقترب منها يهمسُ امام شفتيها الفاغرتين بعشق:
- غدًا... يا غزالتي.
وغادر بخطواتٍ مضطربة لغرفته بينما بقيت هي متشبّثةً بالرخام من خلفها وصوته يأتيها كلحنٍ شجيّ... غدا سيتزوجها... غدًا سيمنحها اسمه بلا مقابل وستكره نفسها اكثر لعدم قدرتها على البوح.
تهاوت على الأرض ودموعها تتسابق بألم... يجب ان تذهب.. يجب ان تهرب من هنا قبل ان يكرهها.
.
.
خرجت من غرفتها بخطواتٍ بطيئة وجلست على الأريكة ذات الغطاء الصوفي وامامها كوبًا من الحليب، ارتشفت منه بمللٍ وهي تنظر لبطنها ذات الإستدارة الواضحة، انها على وشك دخول الشهر الخامس، وحيدةً بلا ونيسٍ عدا تلك المرأة التي تأتي لتخدمها نهارًا وتغادر في المساء، ليس لها اي حق بالخروج من هذه الجدران الخانقة.
استلقت على الأريكة وقادتها ذكرياتها الى عزيز، ذلك الرجل الذي سلب قلبها منذ اوّل نظرة وقد ظنّت ان انبهارها الطفولي واحلامها الوردية ستتحقق عندما راقبت اهتمامه بها ولكن الحُب لا يأوي.. الحب لا يُشبع الأفواه الجائعة.. الحُب لا يجلب الرفاهية.
هذا ما قالته والدتها وهي تنتهرها عن الإنجراف مع ذلك الشاب الفقير.
ذلك الشاب الذي لمحته اوّل مرّةٍ يحمِلُ جوالات الأسمنت بالبناية حديثة التشييد، كان مجرد عامل يقوم بأعمال البناء ووالدتها تعمل ساعية تصنع القهوة والطعام للعمال.. بدى مختلفًا بهيئته الوحشية، قويّ البنية بثيابه المُبللة بالعرق، مختلفًا عن كُلّ من رأتهم من قبل وكأنه جاء ليخطف قلبها البريئ بلا جُهد.
لقد احبّته بقلبٍ مراهِقٍ لم يعرف معنى الحُب من قبل، وكانت صادقةً معه الّا ان للقدر كلمةٌ أُخرى.
لقد ساعدها هي ووالدتها بل وهو من جلبها لهذه المدينة واعِدًا إياها بأنه سيؤمّن لوالدتها عملًا جديدًا ولكن والدتها لم تصبر، واخذتها ذلك اليوم المشؤوم لتبحثا عن عمل، بالصُدفة لمحا شركة الزيات للملاحة، ودلفا طلبًا لوظيفة.. فغيد تمتلك شهادة جامعية ولكن بالطبع لم تستطع ان تحصل على وظيفة فور تخرجها لأنها لا تملكُ اي وسيطٍ يقدمها لاحد الشركات، هذا فضلًا عن ان نتيجتها لم تكُن ذات معدلٍ مُبهر بل عادية كآلاف الشباب العاطلين عن العمل.
لم تعرف ان قدرها في ذلك اليوم سيتبدّل الى الأبد، وبعد بضعة اشهُر ستتزوج من صاحب هذا المكان الكبير، وانها الآن في هذه اللحظة تحمِلُ طفلهُ المُنتظر.
عادت من شرودها لتربت على بطنها ودموعها تتساقط بحُزن مُدركة ان هذا الطفل سينقذ حياتها، هذا بالطبع إن كان صبيًّا وإن لم يكُن كذلك ... اغمضت عينيها بتفكير وهمست:
- يجب ان يكتب لي ايّ شيءٍ بإسمي، على الأقل بيتًا او سيّارة.
ربما حينها سيكون الفراق اقلّ كارثيّةً ... لا وحتى اذا انجبت فتاة سيكون للصغيرة ميراثًا كأخواتها تمامًا.
زفرت بقلقٍ وقد بات إسترخائها مُستحيلًا، فبالرغم من رغبتها بمعرفة نوع الجنين الّا ان آدم يذهب معها لكُل مقابلات الطبيبة ورفض ان يعرف نوعه الى ان يأتي للحياة، ويا خوفها من تلك اللحظات!
.
.
تسيرُ على الطريق برشاقةٍ الخيول، مُهرةً اصيلةً جامحة لا يملِكُ احدٍ القُدرة على ترويضها، هكذا كانت ليلى بعيون ايّ رجُلٍ يراها فيحسد آدم عليها ويُلقي لعنات الدُنيا عليه لزواجه بأخرى، فمن ينظر لإمرأةٍ أُخرى ولديه منبع الأنوثة بأكملها! حقًّا إن آدم اغبى رجُلٍ بالدُنيا.
تتأبط ذراع ابنتيها فلك وحلا لتبدو كقمرٍ مُنيرٍ تحيطه النجوم، ثوبها الارجوانيّ الطويل يأبى ان يُخبئ معالم انوثتها المُكتملة، بل يضيقُ على خصرها وينساب بنعومة الى كاحليها بينما ذراعاها المرمريّتان مُزيّنتان بأساورٍ ذهبيّةٍ تشدوا بألحانٍ مع كُلّ خطوة، ترفعُ رأسها بأنفةٍ لا تليقُ بسواها، تتجول في السوق برفقة ابنتيها لشراء لوازم الخِطبة التي ستقام بعد اسبوعٍ واحد، منشغلة البال خوفًا من ان لا يكفيها الوقت لتجهيز كُلّ شيء.
دلفت الصبيتان لمحل الأقمشة ذو الواجهة الكبيرة المكتوب عليها "الحاج حسني للأقمشة" تبعتهما ليلى وابتسامةً حزينةً ترتسمُ على شفتيها، فهذا المتجر كان سابقًا مِلكًا لوالدها، وعمِلت فيه هي لسنواتٍ طويلة الى ان منعها آدم بالعمل عقِب ولادتها للتوأمتين، وبعدها لم يعُد يهتمُّ به احدٌ الى ان اشتراه الحاج حُسني ليضُمهُ لبقيّة متاجره الكبيرة ويبقى مُجرد ذكرى بالنسبة لها.
- اهلًا وسهلًا يا سيدة النساء، وانا اتسائل لماذا المتجر مُضيءٌ اليوم على غير العادة.
ضحكتها الرنّانةُ ضجّت بالأرجاء وهي تلتفت للرجُل الذي ارتسمت على وجهه معالم الزمن وقالت بنبرتها العفويّة الغارقة بالدلال:
- لا زال كلامك معسولًا يا خليل.
ابتسم العاملُ واجابها ببشاشة:
- هذا سرُّ البيع، لسانٌ معسول وكذبٌ ابيض.
عادت للضحك لترتفع رأسه هذه المرّةُ بفضول ليرى امرأة، لا بل آلهة النساء جميعًا تقِفُ لتلتقط اطراف الحديث مع احد العُمّال، وبالرغم من إمتلاء المتجر بالنساء اللاتي يراهُنّ يوميًّا بأثوابهنّ الضيّقة، ضحكاتهنّ الماجنة، وإغوائهنّ المُثير الّا انّ الواقفة امامه الآن لا تشبههُنّ ابدًا، وكأنها آتيةٌ من كوكبٍ آخر، كوكبٍ غارقٌ بالأنوثة.
- إذن يا خليل، اريني افضل انواع الاقمشة لديك، اريدهُ لخِطبة فلك.
ابتسم خليل وهو يُشير الى عينيه الإثنتين ويقول:
- سأُريكي اجمل انواع الأقمشة، لزينة البنات.
اخذت تنظر الى الواح القماش الملفوفة بتركيز قبل ان تجذب احدها وتديره بحرفيّةٍ فينساب القُماش الحريريّ الأخضر بنعومة امامها فتلمس اطرفه وحاجبيها يقترنان بتقطيبةٍ خفيّةٍ قبل ان تقول للعامل الآخر:
- اريدُ عشرة امتار من هذا القماش، كقطعةٍ كاملة.
- مرحبًا، يا سِت، كيف يمكنني مساعدتك؟
التفتت للصوت العميق للتأكد فيما اذا كانت المقصودةُ لتتفاجأ بان هذا الرجُل الواقف امامها يخاطبها هي بالفعل، ويقول لها "سِت".
نظرت اليه من رأسه المُغطّى بعمامةٍ ريفية مرورًا بملامح وجهه الهادئة لولا خشونة رسمة حاجبيه المُحتضنين لجوهرتين بلون الذهب الخالص، مرورًا بذقنٍ كثيفٍ بعض الشيء يعلوه بياض الشيب واكتفت بذلك وهي تقول بنبرةٍ خافتة وانفها يعلو بشموخ:
- شكرا لخدماتك يا...
ولم تجِد بُدًّا من القول بفتور:
- يا سيد.
والتفتت ببساطة دون ان تُضيف ايّة كلمة بينما اجابته حلا بحماس:
- نريد قماش بألوان جميلة، لنصنع فساتينًا لخطبة أُختي.
وفي تلك الأثناء عاد خليل حاملًا بعض الاقمشة وقال لسيّده:
- انها السيّدة ليلى ابنة الحاج عمر الزيّات.
واشار لليلى التي عادت لتسحب ابنتها:
- انه الحاج جلال الدين، ابن الحاج حُسني ومدير هذا المتجر.
لم تبد ليلى اي ردّة فعل بل اكتفت بهزّةٍ بسيطةٍ من رأسها تمايل على إثرها شعرها الطويل بدلالٍ وعندما التفتت مبتعدة لم يستطع كبح عينيه عن لمح خصرها الميّاس الظاهر للعيان من بين طيّات ثوبها الطويل.
زفر بخشونةٍ وعاد لمكتبه، جلس بهيمنةٍ ليبدوا كلوحةٍ شديدة الغرابة على هذا المكان، فبجلبابه القرويّ وعبائته وعمامته لا يشبه في هيئته اهل البحر، بل سُكان الريف البعيدين ذوي الرؤوس المُتحجّرة.
- ابنة الزيّات؟!
قالها وعلى شفتيه ابتسامةً هادئة وسرعان ما عاد لعمله مُتصفّحًا حسابات المتجر ولم يبدوا عليه ايّ تأثُّر.
.
.
- آسفة، لم استطِع ان أُهديكَ قلبًا معطوبًا، لا تبحث عنّي ارجوك.
حروف باهتة مُبلّلة بالدموع وجدها صباحًا على فراشها البارد، لقد هربت وتركته، بعد ان اقسم انّ يكون امانها وراحتها ... بعد ان وعدها بأن يهدم حصونها مرّة بعد أُخرى الى ان يصل لقلبها المُختبئ خلف القضبان، ها هي تهرب، غزالته الصغيرة افلتت ساقيها للريح ولكنه صيّاد... وقدر الفريسة رصّاصة صياد...
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
ميرال اختارت الهروب
وبحر مصدوم
ليلى ستنتفض قريبا
وغيد تتقلب على جمر الأحتمالات
فلك وعزيز بين سطوة الحب وسواد الإنتقام.
وزائرنا الجديد... الحاج جلال الدين سيقلب الطاولة رأسا على عقب ❤
انتظروا الفصل القادم الخميس بإذن الله.
مع حبي
- عزيز ارجوك لا تغضب، فأنا لن استطيع عصيان اوامر والدتي.
اخذت تعبثُ بأطراف ضفيرتها واستمعت لتذمُّره الغاضب بحُب وعادت لتقول برِقّةٍ دافئة:
- وانا اشتاقُ اليكَ كثيرًا ولكن لا بأس، فقريبًا سنتزوج.
من الطرف الآخر كانت ملامح عزيز مُشتدّة بغضبٍ مكبوت، ولم يعتد ان ترفض فلك طلبًا له، فمنذ مجيئه لوالدها رفضت تمامًا ان تخرج لمقابلته وبالرغم من انه مرّ فقط اسبوعًا واحدًا الّا انه مُشتاقٌ لها للغاية، ويفتقد بقوّة تلك اللحظات التي تأخذه فيها عن العالم اجمع، فعندما ينظر الى عيناها المبهورتان بكُلّ براءتهما وعشقهما ينبضُ قلبه بلذّةٍ وفرح وتتلاشى كل معالم حياته البائسة لتنحصر بين تلكما العينين.
اعادته نبرتها الى وعيه عندما قالت بحزن:
- صدقني لو كان الأمرُ مُقترنًا برغبتي لأتيتُ الآن لرؤيتك، ولكن امي غاضبة مني بشدّة بعد معرفتها بتواصُلي معك، وبالرغم من انها صالحتني الّا ان نظراتها لا زالت حزينةً بسببي، وانا لا اتحمل رؤيتها بهذا الشكل.
ارتسمت على شفتيه ابتسامةً عميقة وهو يسمع نبرتها الرقيقة الممتزجة بالحزن، إنها بريئة وصادقة بصورةٍ توجع قلبه وتجعل من البُعد عنها حلمًا بعيد المنال خاصّة بعد تغلغُلها بداخله كذرّات الهواء، يلمسُ حنانها على والدتها ويستعر بغيرةٍ حمقاء، وتملُّكٍ لا يرغب بعده سوى بأن ينال عطفها وحده... ان لا تحمل همّ احدٍ سواه.. ان لا تسحرُ بحلاوتها لُبّ غيره.
- لماذا اخبرتيها انّكِ التقيتي بي؟
تسائل بنبرةٍ جارفة لتجيب وشفتاها تبتسمان بسذاجة:
- هي عرفت على الفور، وانا لا اعرف الكذب.
غامت عيناهُ بحُزنٍ وهو يهمس بداخله "انتِ بالفعل لا تعرفين الكذب.. ولا تستطيعين رؤيته من حولك.."
الا انه قال لها بعبث وهو يتذكر وجهها الباكي وقبلتهما المجنون:
- وهل اخبرتيها انني قبّلتُكِ؟!
سمع شهقتها المتفاجأة بخجلٍ فعضّ على شفتيه لاعنًا المسافات والاعراف التي تبعده عن رؤية وجهها في هذه اللحظة وسمع همستها المتعثرة:
- لم اخبرها بالطبع.. فتلك ال...
صمتت وصوت قلبها كهدير الموج، واضافت بتقطُّع:
- ما حدث كان خطأ، وانا الى الآن اشعُر بالندم.
- لا شيء يدعو للندم يا حلوتي، ولكن معك حق ما كان علينا الإنجراف وراء مشاعرنا.
قالها يخفف من وطأة شعورها بالذنب بالرغم من عدم ندمه على الإقتراب منها ولو كان الأمرُ بيده لكررها كل يوم ليشعر بتلك اللذة المُهلِكة ويشعل ذلك الجوع الذي لا يهدأ.
زفر بخشونةٍ وهمس مغيرًا الموضوع:
- والدكِ لم يرُدّ عليّ الى الآن.
شعرت بقلقه يتسرب اليها عندما قال وبعض الخوف يتسرب لقلبه:
- ربما يرى انني لستُ بمستواكِ المادي...
قاطعته هامسة بإصرار:
- المال ليس كُلّ شيءٍ يا عزيز، يكفي انك تُحبني.
قبض على قلبه بوجع وسمعها تضيف:
- نحنُ ببداية حياتنا، وعملك المُستقل سيؤمن لنا حياةً جيدة، وانا ايضًا سأُساعدك، فأبي سيمنحني وظيفة لديه و...
قاطعها بنبرةٍ هادرة وقد تملكهُ غضبٌ مُفاجئ:
- عمل ماذا يا فلك؟! انتِ ستبقين بالمنزل ولا نقاش في هذا الأمر.
واضاف بقسوة وهو يدرك انه نقطة ضعفها:
- هذا بالطبع اذا اردتي ان نكون سويًّا.
- يجب ان اغلق، والدتي تناديني..
هذا كل ما سمعه منها عقب لحظاتٍ من الصمت وقد اقسم انه سمع ارتجافة بكاءٍ بصوتها، حاول الإتصال مجددًا ولكنها لم ترُدّ عليه ليهمس بحنق:
- ها قد اغضبتها... قبل ان يصبح بيننا اي شيء تفننتُ بجرحها.
وظلّت فلك من الجانب الآخر تطالع نفسها بشرود في مرآتها، دموعها تسيل بحزنٍ ولم تعهد بعد غضب حبيبها، لقد كان بإمكانه قول رايه بهدوء دون ان يصرخ بها الّا انه يهددها بحبها له، يرغبُ بإرغامها على محو شخصيتها فقط لأن قلبها ضعيفًا امامه.. ولكنها ليس كذلك... هي ابنة ليلى... صحيح انها لم ترث ثبات والدتها المُثير للإعجاب الّا ان خلف قلبها المُرهف قوّةً استمدتها من والدتها الحبيبة، وقوتها قادرة تمامًا على كبح قلبها الرخو ولكنها لا تريد اظهارها، لا ترغب بأن تقسوا على قلبها وتمنعه من حبه الوحيد.
.
.
لم يظُنّ انها قادرة على البُعد كُلّ هذه الفترة، كيف لها ان تهجره بهذه البساطة وهو الذي يتخيل انها باتت كخاتمٍ بإصبعه، إن جفاءها مُرُّ للغاية ولا يمكنه تحمُّله... وصوتها الذي لم يسمعه منذ سبعة ايام يجعله كمُدمنٌ يحتاج لجرعة مُخدر.. وقد كانت بالفعل دواءه السحري الذي يخفف عن قلبه وطأة الأحزان.
جلس على مكتبه الصغير وحوله العامل الوحيد الذي يساعده في البيع للزبائن بينما راح عقله مرّة أُخرى لفلك التي جعلته بوقتٍ قصيرٍ يتقلّبُ على جمر الحُبّ بلا رحمة، فبالرغم من نكرانه لإحتياجه لها طوال الفترة الفائتة ها هو يقرُّ بأنها سلبت قلبه المكسور وانتهى الأمر.
نهض بخطواتٍ ثابتة بعد ان وصىّ الصبي على المحلّ وغادر مباشرة الى مكتب آدم... فموافقته تأخرت كثيرًا ويجب ان يعرف ردّه الآن، وبعدها سيتصرّف مع معذبته الصغيرة.
.
.
- سيد آدم، ثمة رجل اسمه عزيز يريد مقابلتك.
قالتها مساعده الشخصي ليبعد عينيه عن الأوراق الموضوعة امامه ويقول:
- ادخله.
دلف اليه بعد وقتٍ قصير لينهض ويصافحه بهدوء، بينما بدى عزيز قلقًا متلهّفًا بصورةٍ شديدة الى درجة انه لم يجلس بل ظلّ واقفًا يطالع اي ملامح آدم ٖمحاولًا استشفاف ردّه ليأتيه صوته مرِحًا مُغيظًا:
- اجلس يا فتى، اجلس.
جلس هامِسًا بتشنُّج:
- انتَ اخبرتني انّك سترُدّ على طلبي ولكن مرّت اسابيع ولم تهاتفني.
لم يستطع آدم كبح ضحكته المُستمتعة بلهفة عزيز فاردف مريحًا قلبه:
- لقد انتظرتُ قدومك، يا زوج ابنتي.
ابتسم حينها عزيز بسعادة وكأنما نال جائزته بعد سباقٍ طويل.. وهل هنالك احلى من هذه الفرحة؟! فرحة الحصول على طبيبة القلب وراحة الروح..
.
.
بهجة، إنها بهجة حياته بالرغم من صمتها الدائم، عيناها الشاردة، وابتسامتها الصغيرة التي بالكاد يستطيع اقتناصها عنوةً ... بالرغم من بقائها بمنزلها الّا انه يشعر بأنها بعيدةٌ عنه للغاية، تخفي نفسها عنه بأسوارٍ من الخوف والألم، فمنذ تلك الليلة التي حاول فيها حثّها على الحديث معه عن نفسها وانتهاءها بالبكاء لم يفتح معها حوارًا حول الأمر بل حاول طمأنتها بأنه يريدها كما هي، بأسرارها وخباياها ولن يمنعه عنها اي شيء.
وبالمقابل بدأت هي التأقلُم مع حياته ببُطء، باتت تعرف طعامه المفضل، تدرس طباعه التي لا تظهر الّا لمن يتعامل معه طويلًا، تهتم بوالده وأخيه... انها ببساطة تُمارس دورها كزوجةٍ له قبل ان يرتبطا رسميًّا ويعجبه هذا الأمر.
- اعجبك الطعام؟!
تسائلت وهي تضعُ امامه قطعةً من كعكة التوت البري عقب تناوله للعشاء عقب عودته متاخرا ليجيبها بتلذُذ:
- رائع، انتِ ماهرة للغاية في صُنع الطعام، حتى ابي الذي لا يعجبه سوى ما يطبخ اثنى عليكِ، واخبرني ان أُعجّل بالزواج منكِ.
تمتم وهو يراقبها تجلس امامه على الطاولة الجديدة ذات الكراسي الخشبية الانيقة، فقد ارادها ان تستريح من وقوفها الدائم بالمطبخ بالرغم من تسليته وهو يراقبها خلسة تحاول التسلق للجلوس على الكرسي الطويل.
راقب شفتاها التي انحنت بعبوس ووجدها تهمس بإختناق:
- انا خائفة، ولا اريدُ تدمير علاقتك بأُختك، وأُفضل الذهاب من هنا لكي لا اسبب لكم اي حرج.
رمقها بنظرةٍ حادّة ولم يستطع كبح غضبه وهو يقول:
- اولّا كُفّي عن ترديد هذه العبارة المُقيتة، انت لن تغادري هذا البيت ابدًا... وليلى انا سأتعامل معها.. فقط حاولي التعامُل مع هذه الحقيقة... انا أُحبّكِ واريدكِ في حياتي.
التقطت اذناها المرهفة آخر عبارةٍ بحرصٍ شديد وتمتمت بسذاجةٍ وكأنها تتذوّق طعم الكلمات:
- تُحبُّني؟! انا؟
جذب مقعدها نحوه بهمجيّةٍ ووضع ذراعيه حول حافّتي الكرسي ليحاصرها هامِسًا بغيظ:
- بل أُحبُّ بنت الجيران.. ما بكِ يا ميرال؟ لماذا دومًا تُقللين من قيمة نفسكِ وتجدين ان ما افعله لا يليقُ بكِ.
- هذا لأنني لا استحق ما تفعل.
قالتها بأسىً وانفاسه تحاصرها تهدي قلبها لذّةً ستؤلمها فيما بعد.. وضعت يدها على قلبه النابض بعُنف واغمضت عينيها لتسمح لتلك الدموع الحارقة بالتسرُّب، إنه هنا... قريب...ويعترفُ لها بالحُب بينما لم تمنحه حقيقةً واحدةً من حياتها سوى اسمها.
شعر بحر بنظراتها التي تعبثُ بأوتار قلبه.. تلك النظرة الباكية الرقيقة المُمتزجة بالحُب الذي تخاف الإعتراف به، واقسم انها في هذه اللحظة ستبوح بما في داخلها وبالفعل تنهّدت بتمهُّل وكأنها تُنظّمُ دقات قلبها المُبعثرة لتهمس مُغمضة العينين:
- انا كذبتُ عليكم... انا لستُ ارملة.
بعد تلك العبارة البسيطة شعرت بأن قلبه سينفجر بين يديها ففتحت عيناها بتردُد لتجده يلتهمها بنظرةٍ لم تستطع تفسيرها ليسألها بنبرة خافتة:
- ماذا تقصدين؟
شعرت بانها ستخسره الا انها اجابت:
- لقد اردتُ ان ابدوا اكثر بؤسًا لكي تمنحونني العمل، انا لم اتزوّج بحياتي.
وقبل ان تُكمل عبارتها وجدت نفسها بين ذراعيه... يحتضنها بشوقٍ جارف وقلبه يتراقصُ بفرحةٍ رجوليّةٍ خالصة.. فبالرغم من حبه لها وتمسُّكه بها ثمّة شيءٌ بدائيٌّ يوجعُ قلبه كلما تذكّر انها ارملة، شعورًا مريرًا يجتاحه عندما يفكر انها كانت لرجُل قبله حتى لو كان هذا الرجُل ميّتًا... انه شعور مولم ولا يستطيع منعه مهما حاول ولكنها الآن تخبره ببساطة بأنها فتاة وليست سيدة... فتاةً نقية لم يقربها رجُل قبله، وسيكون هو الأول بحياتها.. سيجتاح قلبها وحده ويُبدد خجلها بأجمل الطُرق، ربّاه كم هو جميلٌ هذا الشعور.
غمر انفه بين خصلات شعرها المُبعثر بجنون ولمس ممانعتها العنيفة التي بدت له كلُعبة لطيفة.
تجلسُ على ساقيه كطفلة، يغمرها بين ذراعيه مستكشفًا خبايا جسدها المختبئ عنه دائمًا بتلك الثياب المهذّبة، يلفُّ ذراعيه حول خصرها الأسطواني هامِسًا بأنها غبية.. وانه يحبها للغاية ولن يستطيع الإبتعاد عنها بينما بدت هي مأخوذةٌ من هذا القُرب، مُستمتعة بهذه اللحظات الغريبة ورغمًا عنها تتذكّرُ محاولات زوج اُمّها التي كانت تشعرها بالكره والنفور الّا انها الآن لا تشعر بشيءٍ سوى بنبضات قلبها الأحمق المُنجرف بتهوّرٍ نحو الحُب.
ابتعد عنها يلهثُ بشدّة غير قادرٍ على تنظيم ضربات قلبه المُتعالية، هو لم يُقبلها.. فقط احتضنها، انه مجرد عناق بريئ بعث بقلبه مشاعر غريبة.
ابتعدت عنه بتعثُّرٍ بينما وضع كفّيه على وجهه بإنفعال، إنه يفقد سيطرته تمامًا وهذا امرٌ غير محمود، يجب ان يتزوجا بأسرع وقت.
- غدا.. غدا سنعقد قراننا، وننهي هذا الأمر.
قالها بصوتٍ مُثخنٍ بالمشاعر وهو يراقبها تقفُ بعيدةً عنه، ترتعد بأنفاسٍ لاهثة وشعرها مُبعثرٌ حول وجهها الآسر، لا يمكنه تحمُّل رؤيتها اكثر من ذلك لذا نهض وقبل ان يغادر المطبخ عاد لقترب منها يهمسُ امام شفتيها الفاغرتين بعشق:
- غدًا... يا غزالتي.
وغادر بخطواتٍ مضطربة لغرفته بينما بقيت هي متشبّثةً بالرخام من خلفها وصوته يأتيها كلحنٍ شجيّ... غدا سيتزوجها... غدًا سيمنحها اسمه بلا مقابل وستكره نفسها اكثر لعدم قدرتها على البوح.
تهاوت على الأرض ودموعها تتسابق بألم... يجب ان تذهب.. يجب ان تهرب من هنا قبل ان يكرهها.
.
.
خرجت من غرفتها بخطواتٍ بطيئة وجلست على الأريكة ذات الغطاء الصوفي وامامها كوبًا من الحليب، ارتشفت منه بمللٍ وهي تنظر لبطنها ذات الإستدارة الواضحة، انها على وشك دخول الشهر الخامس، وحيدةً بلا ونيسٍ عدا تلك المرأة التي تأتي لتخدمها نهارًا وتغادر في المساء، ليس لها اي حق بالخروج من هذه الجدران الخانقة.
استلقت على الأريكة وقادتها ذكرياتها الى عزيز، ذلك الرجل الذي سلب قلبها منذ اوّل نظرة وقد ظنّت ان انبهارها الطفولي واحلامها الوردية ستتحقق عندما راقبت اهتمامه بها ولكن الحُب لا يأوي.. الحب لا يُشبع الأفواه الجائعة.. الحُب لا يجلب الرفاهية.
هذا ما قالته والدتها وهي تنتهرها عن الإنجراف مع ذلك الشاب الفقير.
ذلك الشاب الذي لمحته اوّل مرّةٍ يحمِلُ جوالات الأسمنت بالبناية حديثة التشييد، كان مجرد عامل يقوم بأعمال البناء ووالدتها تعمل ساعية تصنع القهوة والطعام للعمال.. بدى مختلفًا بهيئته الوحشية، قويّ البنية بثيابه المُبللة بالعرق، مختلفًا عن كُلّ من رأتهم من قبل وكأنه جاء ليخطف قلبها البريئ بلا جُهد.
لقد احبّته بقلبٍ مراهِقٍ لم يعرف معنى الحُب من قبل، وكانت صادقةً معه الّا ان للقدر كلمةٌ أُخرى.
لقد ساعدها هي ووالدتها بل وهو من جلبها لهذه المدينة واعِدًا إياها بأنه سيؤمّن لوالدتها عملًا جديدًا ولكن والدتها لم تصبر، واخذتها ذلك اليوم المشؤوم لتبحثا عن عمل، بالصُدفة لمحا شركة الزيات للملاحة، ودلفا طلبًا لوظيفة.. فغيد تمتلك شهادة جامعية ولكن بالطبع لم تستطع ان تحصل على وظيفة فور تخرجها لأنها لا تملكُ اي وسيطٍ يقدمها لاحد الشركات، هذا فضلًا عن ان نتيجتها لم تكُن ذات معدلٍ مُبهر بل عادية كآلاف الشباب العاطلين عن العمل.
لم تعرف ان قدرها في ذلك اليوم سيتبدّل الى الأبد، وبعد بضعة اشهُر ستتزوج من صاحب هذا المكان الكبير، وانها الآن في هذه اللحظة تحمِلُ طفلهُ المُنتظر.
عادت من شرودها لتربت على بطنها ودموعها تتساقط بحُزن مُدركة ان هذا الطفل سينقذ حياتها، هذا بالطبع إن كان صبيًّا وإن لم يكُن كذلك ... اغمضت عينيها بتفكير وهمست:
- يجب ان يكتب لي ايّ شيءٍ بإسمي، على الأقل بيتًا او سيّارة.
ربما حينها سيكون الفراق اقلّ كارثيّةً ... لا وحتى اذا انجبت فتاة سيكون للصغيرة ميراثًا كأخواتها تمامًا.
زفرت بقلقٍ وقد بات إسترخائها مُستحيلًا، فبالرغم من رغبتها بمعرفة نوع الجنين الّا ان آدم يذهب معها لكُل مقابلات الطبيبة ورفض ان يعرف نوعه الى ان يأتي للحياة، ويا خوفها من تلك اللحظات!
.
.
تسيرُ على الطريق برشاقةٍ الخيول، مُهرةً اصيلةً جامحة لا يملِكُ احدٍ القُدرة على ترويضها، هكذا كانت ليلى بعيون ايّ رجُلٍ يراها فيحسد آدم عليها ويُلقي لعنات الدُنيا عليه لزواجه بأخرى، فمن ينظر لإمرأةٍ أُخرى ولديه منبع الأنوثة بأكملها! حقًّا إن آدم اغبى رجُلٍ بالدُنيا.
تتأبط ذراع ابنتيها فلك وحلا لتبدو كقمرٍ مُنيرٍ تحيطه النجوم، ثوبها الارجوانيّ الطويل يأبى ان يُخبئ معالم انوثتها المُكتملة، بل يضيقُ على خصرها وينساب بنعومة الى كاحليها بينما ذراعاها المرمريّتان مُزيّنتان بأساورٍ ذهبيّةٍ تشدوا بألحانٍ مع كُلّ خطوة، ترفعُ رأسها بأنفةٍ لا تليقُ بسواها، تتجول في السوق برفقة ابنتيها لشراء لوازم الخِطبة التي ستقام بعد اسبوعٍ واحد، منشغلة البال خوفًا من ان لا يكفيها الوقت لتجهيز كُلّ شيء.
دلفت الصبيتان لمحل الأقمشة ذو الواجهة الكبيرة المكتوب عليها "الحاج حسني للأقمشة" تبعتهما ليلى وابتسامةً حزينةً ترتسمُ على شفتيها، فهذا المتجر كان سابقًا مِلكًا لوالدها، وعمِلت فيه هي لسنواتٍ طويلة الى ان منعها آدم بالعمل عقِب ولادتها للتوأمتين، وبعدها لم يعُد يهتمُّ به احدٌ الى ان اشتراه الحاج حُسني ليضُمهُ لبقيّة متاجره الكبيرة ويبقى مُجرد ذكرى بالنسبة لها.
- اهلًا وسهلًا يا سيدة النساء، وانا اتسائل لماذا المتجر مُضيءٌ اليوم على غير العادة.
ضحكتها الرنّانةُ ضجّت بالأرجاء وهي تلتفت للرجُل الذي ارتسمت على وجهه معالم الزمن وقالت بنبرتها العفويّة الغارقة بالدلال:
- لا زال كلامك معسولًا يا خليل.
ابتسم العاملُ واجابها ببشاشة:
- هذا سرُّ البيع، لسانٌ معسول وكذبٌ ابيض.
عادت للضحك لترتفع رأسه هذه المرّةُ بفضول ليرى امرأة، لا بل آلهة النساء جميعًا تقِفُ لتلتقط اطراف الحديث مع احد العُمّال، وبالرغم من إمتلاء المتجر بالنساء اللاتي يراهُنّ يوميًّا بأثوابهنّ الضيّقة، ضحكاتهنّ الماجنة، وإغوائهنّ المُثير الّا انّ الواقفة امامه الآن لا تشبههُنّ ابدًا، وكأنها آتيةٌ من كوكبٍ آخر، كوكبٍ غارقٌ بالأنوثة.
- إذن يا خليل، اريني افضل انواع الاقمشة لديك، اريدهُ لخِطبة فلك.
ابتسم خليل وهو يُشير الى عينيه الإثنتين ويقول:
- سأُريكي اجمل انواع الأقمشة، لزينة البنات.
اخذت تنظر الى الواح القماش الملفوفة بتركيز قبل ان تجذب احدها وتديره بحرفيّةٍ فينساب القُماش الحريريّ الأخضر بنعومة امامها فتلمس اطرفه وحاجبيها يقترنان بتقطيبةٍ خفيّةٍ قبل ان تقول للعامل الآخر:
- اريدُ عشرة امتار من هذا القماش، كقطعةٍ كاملة.
- مرحبًا، يا سِت، كيف يمكنني مساعدتك؟
التفتت للصوت العميق للتأكد فيما اذا كانت المقصودةُ لتتفاجأ بان هذا الرجُل الواقف امامها يخاطبها هي بالفعل، ويقول لها "سِت".
نظرت اليه من رأسه المُغطّى بعمامةٍ ريفية مرورًا بملامح وجهه الهادئة لولا خشونة رسمة حاجبيه المُحتضنين لجوهرتين بلون الذهب الخالص، مرورًا بذقنٍ كثيفٍ بعض الشيء يعلوه بياض الشيب واكتفت بذلك وهي تقول بنبرةٍ خافتة وانفها يعلو بشموخ:
- شكرا لخدماتك يا...
ولم تجِد بُدًّا من القول بفتور:
- يا سيد.
والتفتت ببساطة دون ان تُضيف ايّة كلمة بينما اجابته حلا بحماس:
- نريد قماش بألوان جميلة، لنصنع فساتينًا لخطبة أُختي.
وفي تلك الأثناء عاد خليل حاملًا بعض الاقمشة وقال لسيّده:
- انها السيّدة ليلى ابنة الحاج عمر الزيّات.
واشار لليلى التي عادت لتسحب ابنتها:
- انه الحاج جلال الدين، ابن الحاج حُسني ومدير هذا المتجر.
لم تبد ليلى اي ردّة فعل بل اكتفت بهزّةٍ بسيطةٍ من رأسها تمايل على إثرها شعرها الطويل بدلالٍ وعندما التفتت مبتعدة لم يستطع كبح عينيه عن لمح خصرها الميّاس الظاهر للعيان من بين طيّات ثوبها الطويل.
زفر بخشونةٍ وعاد لمكتبه، جلس بهيمنةٍ ليبدوا كلوحةٍ شديدة الغرابة على هذا المكان، فبجلبابه القرويّ وعبائته وعمامته لا يشبه في هيئته اهل البحر، بل سُكان الريف البعيدين ذوي الرؤوس المُتحجّرة.
- ابنة الزيّات؟!
قالها وعلى شفتيه ابتسامةً هادئة وسرعان ما عاد لعمله مُتصفّحًا حسابات المتجر ولم يبدوا عليه ايّ تأثُّر.
.
.
- آسفة، لم استطِع ان أُهديكَ قلبًا معطوبًا، لا تبحث عنّي ارجوك.
حروف باهتة مُبلّلة بالدموع وجدها صباحًا على فراشها البارد، لقد هربت وتركته، بعد ان اقسم انّ يكون امانها وراحتها ... بعد ان وعدها بأن يهدم حصونها مرّة بعد أُخرى الى ان يصل لقلبها المُختبئ خلف القضبان، ها هي تهرب، غزالته الصغيرة افلتت ساقيها للريح ولكنه صيّاد... وقدر الفريسة رصّاصة صياد...
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
ميرال اختارت الهروب
وبحر مصدوم
ليلى ستنتفض قريبا
وغيد تتقلب على جمر الأحتمالات
فلك وعزيز بين سطوة الحب وسواد الإنتقام.
وزائرنا الجديد... الحاج جلال الدين سيقلب الطاولة رأسا على عقب ❤
انتظروا الفصل القادم الخميس بإذن الله.
مع حبي