الفصل التاسع

كانت هذه العقدة تطاردني طوال العامين الماضيين؛ كنت طول الوقت الماضي أتمنى بشدة العودة بالزمن حتى أغير هذه اللحظة.

لكني عندما عدت بالزمن لم أعود إلى أسوأ لحظة بحياتي، وإنما بالعكس عدت إلى زمن لم أنتمي إليه من قبل.

كنت أشعر بالإحراج بسبب هروبي من مواجهة خوفي؛ لذلك ظلت أتجنب مقابلة" الفطين" بعد هذا الحادث لمدة يومين، وهو أيضاً لم يحاول مقابلتي.

شعرت خلال هذان اليومان أن" الفطين" لا يهتم بوجودي؛ لذا شعرت بالغضب وذهبت إلى العمل حتى أواجه.

عند رؤيته سألته بغضب:
- لماذا لم تحاول البحث عنِ خلال اليومين الماضين؟

- كنت مشغول.

- مشغول في ماذا؟

- العمل الذي هربتِ منه وتركني بمفردي أقوم به.

- لم أهرب.

- إذن ماذا تسمي افعالك الطفولية!

- فقط كنت أمر بحالة نفسية صعبة.

- فاطمة هل تعلمي كم لدي مريض مات أثناء علاجه؟

- أظن لا يوجد لديك حادث.

- لماذا تظنين ذلك؟

- لأني قراءة ودرست تاريخك الطبي جيداً.

- أخيراً علمت الحقيقة أنتِ قادمة من المستقبل.

عند سماعه يتحدث عن المستقبل شعرت بالخوف والرعب لأني أعلم جيداً أن من المرعب العبث بالتاريخ ثم أخبرته بتوتر:
- لا أعلم عما تتحدث.

- فاطمة لا أعلم من ما تخافين حتى تتصرفي بهذه الطريقة، ولكني أعلم جيداً أنك سوف تخبرني بالحقيقة كاملة عندما يأتي الوقت المناسب.

- أعدك سوف أخبرك بكل شيء ولكن ليس الآن.

- حسنا سوف انتظر الوقت المناسب.

قاطع كلامنا الفتى الذي يساعد في المستوصف يخبرنا:
- سيدي يجب أن تأتي بسرعة.

- ما الأمر يا رجب؟

- جاءنا رجل مريض بشدة.

نظر إليَ" الفطين" مبتسماً قائلاً:
- أظنه الوقت المناسب لمباشرة العمل، هل تستطيعين مساعدتي؟

- نعم يا سيدي أستطيع فعل ذلك.

خرجنا من المكتب ودخلنا المستوصف الغرفة التي يتم بها علاج المرضى.

عندما اقتربنا من المريض علمت على الفور أنه مصاب من وباء عند رؤية أطراف أصابع يديه دون فحصه.

عندما فحصه" الفطين" قال بصوت مرتفع:
- فاطمة أبتعدِ عن هذا المريض لا تقتربين كثيراً.

- حسناً.

كنت أعلم نوع هذا الطاعون لأني درسته في التاريخ الطبي، الذي ضرب العالم خلال هذه الفترة الزمنية، وكان أول طاعون معروفاً يضرب العالم.

يسمى هذا الطاعون" جاستينيان"، حيث إنه قادم من الإمبراطورية البيزنطية، وأودى بحياة ثلاثون شخص أو أكثر.

قرأت كثيراً في التاريخ الطبي، وأعلم جيداً أن اقتراب أنهاء هذا الوباء اقترب على يد الطبيب الموهوب العبقري" الفطين" عندما يحاول إنهاء الوباء بتقديم لقاء من نفس الوباء، ولكن متحور بطريقة أخرى.

بعد لحظات من التسمير مكاني بسبب الصدمة؛ ذهبت إلى المريض من أجل مساعدة الطبيب في معالجته.

حينها قال بصوت مرتفع:
- لقد أخبرتك أن تبتعدِ حتى لا تصابي بعدوى.

- لا تقلق سوف أكون بخير.

كنت أعلم أن كل ما يقوم به الآن لم يفيد المريض، ولكني لم أستطع التدخل حتى لا أغير شيء في التاريخ.

لذا أصبحت متفرجة دون أن أتدخل أشاهد ما يحدث من تصرفات" الفطين" الممتلئ بالحيرة، والقلق، ومحاولته في عمل أبحاث لأجل إيجاد طريقة لعلاج هذا الوباء.

مرت الأيام، والشهور، والأعوام حتى عد الخمس أعوام، وكثرة حالات المرضى؛ كان هناك بعض الحالات التي استطاعت الصمود والخروج من هذا المكان أحياء، ولكن ما فقدنا كان الأكثر بكثير أضعاف ما خرج.

خلال عملية العلاج وجدنا حراس كثيرين يقتحمون المستوصف، وقال قائدهم:
- هل أنت المعالج الفطين" محمد بن سليمان"؟

أجاب" الفطين" بذهول:
- نعم إنه أنا، ولكن من أنت؟

- أنا المستشار الأول للدولة لقد أمر الخليفة بطلب إحضار فوراً إلى القصر.

- أنا لماذا؟

- سوف تعلم عندما نصل إلى هناك.

- حسنا سوف افعل.

ذهب" الفطين" إلى مكتبه يجمع حقيبة أدواته الطبية؛ لذا حاولت مساعدته، وعند الانتهاء أخبرته بجدل جدية:
- سوف أذهب معك.

- بالطبع لا.
- لماذا؟

- سيدتي لا تدخلي في هذا الأمر.

- ماذا ستفعل أذا كان المصاب أحد نساء الخليفة من الأفضل الذهاب معك لمساعدتك.

- فاطمة أنه حاكم الدولة، وأنتِ لا تعلمين شيء عن عاداتنا وتقاليدنا إذا ارتكبتِ خطأ من دون قصد سوف تضيع رقابتك.

- لا تقلق سوف أنتبه جيداً على أفعلي.

- ولكن.
- أرجوك اتركني أذهب معك.

أصريت على" الفطين" حتى يأخذني معه إلى القصر لأني أعلم ما ينتظره في الداخل؛ كنت أعلم أن خليفة الدولة وأربعة من زوجاته أصيبت بهذا المرض.

هذا كان يعني أن" الفطين" اقترب من اكتشاف العلاج، ومحاولة ذهابي معه حتى أحميه لحين اكتشاف العلاج لأنه سوف يأخذ وقت لمدة ستة أشهر.

عند دخولنا إلى القصر تم تفريقنا لأول مرة منذ حضور إلى هذا الزمن؛ ذهب الطفين" محمد بن سليمان" إلى السلطان لأجل متابعة علاجه، وذهبت إلى الحرملك حتى أتابع حالات زوجات السلطان.

مرت ثلاث شهور، وتم قتل أحد نساء السلطان بسبب الوباء، وعندها غضب السلطان بشدة من تأثيري محاولة علاج المرض وقرر معاقبتي، ولكن قبل وصول الحراس من أجل القبض عليَ فقدت الوعي، وعلموا أني مصابة بنفس الوباء.

عندما سمع" الفطين" بما حدث ترجى السلطان من أجل مقابلة ومحاولة علاجي.

رفض السلطان بشدة خوف من تأثير نفسية" الفطين" بسبب المرض الذي أصابني، وشعر بالخوف من أن يضعف إرادته.

بعد إصرار جاء الفطين إلى غرفتي من أجل مقابلتي، وعند رؤيتي قام بفحصي ثم قال:
- أظنك تعلمين أنك الآن مصابة بنفس الوباء؟

- أعلم هذا.

- إذن أخبرني ما علاج هذا المرض؟

- لا أعلم عما تتحدث.

- فاطمة أعلم أنك تعرفين العلاج الذي يقضي على هذا الوباء.

- لماذا تظن ذلك!

- لأنك من المستقبل لذا أظنك تعلمين جيداً ما سيحدث.

- لا أعلم شيء.

- هل تعرضين نفسك للموت من أجل خوف مجهول!

- أنت لا تعلم كم مخيف تغير التاريخ.

- لذا قررتِ أن تسلمي حياتك للموت!

- لماذا أموت؟ لم أموت.

- لماذا تظنين ذلك؟

- لقد نجيت من الموت على السفينة، هل تظنني سوف أموت بهذا الوباء!

- هذا الوباء كان السبب في موت من الأبرياء حتى الآن لم أكتشف شيء غير سبب وجوده وانتشاره.

- هذا جيد لأنك وصلت إلى أول سلم في إنهائه.

- هل تظنِ ذلك!

- نعم فكرة القضاء على كل القوارض الموجودة في البلدة جزء من إنهاء هذا الوباء المتفشي.

- ولكن رغم ذلك مازال الوباء منتشر.

- ولكنه أصبح أقل من قبل؛ عدد حالات المرضى يوماً أصبحت أقل بكثير.

- أظن ذلك.

لمح النخر المتواجد على أطراف أصابع يدي ثم شعر بالحزن، وأمسك يدي برقة ثم نزلت دموع قائلاً:
- أنظري ما حدث إلى هذه اليد الإيادي الجميلة أصبح النخر يحاوطها من كل اتجاه.

- لا تقلقي سوف يختفي كل هذا عندما يشفى المرض.

- هل تؤلمك بشدة؟
- لم تؤلمني.

- تكذبين كل الأشخاص المصابين يعانون من ألام فظيعة جراء المرض حتى الموت.

كنت أعلم أن حديثي مع هذا الرجل لم ينتهي في صالحي؛ لذا أجبرته على الذهاب وأخبرته:
- لا تعود من أجل مقابلتي مرة أخرى.

غضب من عنادي القوى ثم قال بعصبية:
- كما تريدين.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي