29

لم تصدق ديمة ما تسمعه هل ما قاله عاصم لها حقيقي؟ هل كانت تلك نهاية كل شيء؟

لم تحقق أي شيء بعد، لقد كانت مصدومة، حتى أنها إنهارت من تلك التصرفات، لم تتمالك نفسها.

فسقطت على أرض تبكي وتندب حظها وأنها الآن أصبحت مطلقة.

فقال لها عاصم: لم يعد يعنيني حالك هذا، كل ما أريده هو أن ترحيل، دموعك المزيفة لن تؤثر بي لقد كشفت كل الاعيبك التي قمت بتمثيلها.

ثم أضاف رغم صوت بكأها المرتفع والعالي، كفي عن هذا لا يعنيني ماذا تشعرين انصرفي.

ثم صرخ بصوت أعلى: انصرفي قبل أن ارميك مثل كيس القمامة هيا اخرجي من بيتي.

قالت له ديمة وهي تندب وتبكي: لا سامحك الله ولا جبرت على كل أمر فعلته بي لا أريدك أنا، إنك انسان استغلالي لا أكثر، عديم الفائدة.

نهضت من الأرض وهي تجر نفسها متألمة من كل ما حدث، وشعرت بالخسارة.

لم تفوت ميرا تلك اللحظة الجميلة، وقفت عند الباب تلف يديها حول نفسها، تطالعها بنظرات الاستحقار، دون أن تقول شيء.

لكن السعادة كانت واضحة على وجنيها لم تخفيها، بل على العكس ظهرت جلية للناظرين.

فهي تعلم أنها من أراد هذا وهي من سعى إلى هذا الأمر ونجاحه.

ذلك المشهد كان كفيل لترسيخ كلام المرأة العجوز في راس ميرا أكثر من ذي قبل.

في غرفتها كانت ديمة تجمع اشياؤها وهي تبكي بحرقة وتردد كلمات فيها سب وشتم على عاصم وعن الندم الذي يعتصر قلبها بعد أن فعل ما فعله بها.

في تلك الحقيبة السوداء الكبيرة جمعت كل حاجياتها، ثم همت بالخروج من البيت.

نظرت للمرة الأخيرة في وجه عاصم وقالت: لعنتي سوف تحيط بك حتى تسقطت في حفرتك الأخيرة.

لم يكلف عاصم نفسه بالنظر إليها بل بقي على هذا الحال وتركها تمضي وحدها دون أن يعرض عليها إيصالها أو إرسالها في سيارة له.

هذا ما زاد الطين بلة في نفس ديمة، لكن ليس باليد حيلة تجر حقيبته واذيال الخيبة ورائها دون أن تجف عيناها من الدموع طوال الوقت.

أما ريان فقد أنهى طعامه، وشرب الماء أيضاً وشعر بتخمة لم يشعر بها من قبل.

ضحكت ليلى حين رأته، وقالت له: هل انتهيت؟

أومأ رأسه وقال لها: نعم لقد شبعت، أشكرك.

ثم سألته: هل نكمل معلوماتك؟

وافق ريان، وبدات تسأله بعض الأمور البسيطة وما تريد معرفته عنه، وهو كان متعون معها دون أي كذب أو خداع.


بعد أن انتهت، قالت ليلى له: هذا جيد جداً، الآن سوف تتمكن من أخذ غرفة تابعة للبلدية.

قاطعها بسؤاله ريان: تكون مقر إقامتي؟

ليلى: لوقت قصير، أي أنها سكن مؤقت لا اكثر، ويجب عليك خلال فترة وجيزة أن تجد بديلاً لأنك لن تتمكن من المكوث هنا طويلاً.

رد عليها ريان: حسنا لقد فهمت ما تقصدينه، وأقدم لك جزيل الشكر على المساعدة.

ثم طلبت منه ليلى أن يتبعها كي توصله إلى الغرفة التي ستكون مسكن له.

في رواق ضيق وطويل بارد جداً، أشارت بيده وقالت: هذه غرفتك، ثم أعطته المفتاح.

كرر ريان شكره لها وأخذ منها المفتاح، هم بالدخول إلى غرفته الجديدة.

فتح الباب وشق صوت صريره سكون المكان، في الغرفة وجد سريرين كل منهما منفرد في زاوية.

وكان هناك خزانة أيضاً، وطاولة صغيرة مع كرسيين بالإضافة إلى براد صغير مركون في زاوية.

كانت هذه الأشياء رغم بساطتها لكنها كنز ثمين بالنسبة لريان فهو لم يكن يملك أي شيء حينها حتى بعض القروش ليشتري خبز..

ألقى نفسه على السرير وقد كان متعب منهك وما إن توسد تلك المخدة حتى غطى في نوم عميق لم يكن يستطيع التفكير في أي شيء حتى من شدة التعب ونام فوراً.

طوال النهار حتى المساء استيقظ ليشرب الماء ولكن من شدة نعاسه لم يكن قادر على هذا فعاد للنوم مرة أخرى دون أن يشرب.

وفي الصباح أشرق الشمس واخترقت النافذة التي لم يكن عليها ستارة.

إلى عيني ريان شعر بدفئها تعانقه، فتح عيناه ليرى ذلك الشقف الذي فقد جزء من طلاءه وكان يبدو عليه القدم.

نهض فزع لينظر حوله إين هو؟ واستغرق عدة ثوان حتى يدرك أين هو، تذكر بعد برهة ما حدث في الأمس.

ثم نفض غبار النوم عن عيناه وقام بغسل وجهه، وقرر أن يبدأ رحلة البحث عن حياة جديدة في هذه المدينة.
وخرج باكراً منذ إشراقة الشمس.

يتجول بين المحال التجارية التي فتحت أبوابها يسأل إن كانوا بحاجة إلى أحد يعمل معهم، ولكن الجميع كان يرد عليه بذات الجواب: مكتفين بعدد العمال الحالي.

مر ربما بأربع أو خمس محال، بدأ اليأس يتسلل إلى قلبه، حتى قرر أن يذهب إلى الفرن يسألهم إن كانوا يريدون ان يعمل معهم.

فور دخوله سأل صاحب الفرن: انا ابحث عن عمل هل ينكنك تشغيلي معكم؟

طالعه الرجل يتفحصه ثم قال: ماذا يمكنك أن تفعل؟

أجاب ريان بلهفة: يمكني فعل أي شيء تريده لا مانع لدي مهما كان.

سأل الرجل: لماذا تريد العمل؟

قال ريان: لا أملك النقود حتى من أجل طعامي، لهذا أريد ما أكف به نفسي عن طلب المساعدة.

همهم صاحب الفرن وقال: حسنا، يمكن العمل هنا ولكن لتجربة في حال لم يعجبني عملك لن تستمر.

رسم الفرح على وجه ريان أخيراً وجد فرصة مناسبة وقال: أنا موافق ولا مانع عندي في هذا.

ثم سأله: هل يمكنني البدء الآن؟

أجاب الرجل: الآن فوراً؟

رد ريان: نعم أود هذا إن كان لا مانع لديك.

أومأ الرجل رأسه وقال: نعم تفضل ادخل، وباشر في العمل على الفور.

رفع عن ساعديه، ودخل فوراً ألقى التحية على الرجال الموجودين في المكان.

ثم سألهم: ماذا تريدون أن أفعل؟ وماذا تحتاجون؟

أجاب واحد منهم: قم بحمل طبق العجين إلى الجهة الأخرى.

ركض ريان مسرع ما إن وضع الطبق على كتفه حتى شعر بثقله لكنه لم يأبه بهذا جبر نفسه على التحمل.

وكانت هذه البداية، وكان العمل شاق ومتعب بالنسبة لريان لم يعتد أمر كهذا لكنه باب رزقه الوحيد الذي تمكن من الحصول عليه، لذا لم يكن لديه خيار آخر كي يرفض أو يتخلى.


أما ميرا...

بعد مغادرة ديمة بعدة أيام بدأت تضع في مسمع والدها عن تمنياتها بعودة أمها للبيت.

ودائما تقول ميرا له: هذه فرصة الوحيدة التي تعيد لنا عائلتنا لو أننا نعود كما كنا.

فقال عاصم لبنته: لن توافق أمك على العودة، بعد أن خذلتها وتركتها وحيدة وكنت سبب في اذيتها.

شردت ميرا قليلاً ثم قالت لماذا تظن هذا؟ أنا على يقين بأن أمي لازالت تحبك وتريد العيش معك، لذا امنحها فرصة وإن كنت تريد الحديث معها فلا تتردد يا أبي وتضيع مزيد من الوقت.

كان عاصم يفكر بكلام ميرا وهو حقا يحتاج دفعة بمثل هذا الكلام حتى يقدم على تلك الخطوة التي كان يخبئها لنفسه.

وبعد عدة أيام عقد عاصم العزم على الحديث مع ميادة في خصوص عودتها لتكون زوجته مرة أخرى إن كانت موافقة.

فقال لابنته: ميرا كوني اليوم جاهزة سوف نذهب لزيارة والدتك.

طالعته ميرا والدهشة قسمت وجهها ثم قالت: هل حقاً ما تقوله يا ابي؟

أجاب عاصم: نعم ولما كل هذا الاستنكار؟ ألم نتتحدث في الأمر منذ عدة أيام؟

ردت ميرا: نعم صحيح، لكن لم أكن أعرف بأنك تفكر في الأمر.

تنهد عاصم وقال: كنت افكر فأنا متردد من هذه الناحية، بعد أن أصابني المرض قررت العودة لها؟

ثم أضاف يكمل كلامه: وانا اتوقع أن ترفض القبول بي، ولن ألومها إن فعلت هذا فهو حقها ولا يجدر بها الموافقة خجلاً مني أو فقط من أجلك.


ردت ميرا: أبي لا اتوقع أن يكون مرضك سبب لرفضها، فأمي حنونة جدا ولن تتخلى عنك في محنة كهذه، صدقني لم يطلب منها أي أحد الذهاب لزيارتك في المستشفى لقد قررت هذا بعد أن علمت عن ذهابنا وحدنا.

ولم يكن هذا من اجلي صدقني أنه كان من أجلك فقط، وكان هذا التصرف نابع عن حب وكثير من الشوق لرؤيتك، لمحت ذلك في بريق عينيها عندما التقت بك للحظة الاولى، أظن أنك رأيت هذا، صحيح؟

لم يتمكن عاصم الإنكار لأن كل كلمة قالتها ميرا كانت صحبحة وفي مكانها.


لم تضغط ميرا على والدها في الكلام بل اكتفت بذلك الحديث وبعدم إنكاره فقد فهمت شعوره بالندم اتجاه والدتها التي ظلمها وضحت هي من أجله.

فقررت ميرا تغيير الأجواء وقالت: حسنا سوف اتصل بأمب لاخبرها عن مجيئنا.

عاصم: نعم سيكون ذلك افضل من ذهابنا بدون موعد.

انطلقت ميرا إلى غرفتها كي تتصل بوالدتها، ومانت المفاجأة بأن ميادة والدتها قد اتصلت بها أيضاً، استغربت ميرا وعاودت الإتصال بها غلى الفور.

وبعد التحية والسؤال عن الحال قالت ميرا: ما سبب إتصالك يا أمي؟ هل هناك اي أمر؟

ردت ميادة بالقول: نعم يوجد أمر كنت أرغب في أهلارك به والحديث معك عنه.

قالت ميرا بحماسة ما هو؟

أجابت ميادة والحياء في صوتها: أريد أن اراك ونتحدث عنه أفضل من الحديث على الهاتف.

ضحكت ميرا وقالت : حسنا إذا سوف اراك اليوم، وفي وقت قريب أيضاً.

استغربت ميادة ولم تفهم قصد ميرا فسألتها: كيف سيحصل هذا؟ وأين؟

ردت ميرا بالقول: اتفقنا أنا ووالدي الحضور معا لزيارتك.

شهقت ميادة وشعرت بالارتباك والحيرة من كلام ميرا، فسألتها: وما سبب هذه الزيارة المفاجأة؟

ردت عليها ميرا: ألم تفرحي بقدومنا؟

حاولت ميادة أن تعدل من لهجتها فقالت: لم أكن اقصد ذلك لكنني استغربت ليس أكثر، لم يقم والدك بزيارتي ابدا طوال سنين مضت نا الذي غير حاله الآن؟ وما هو سبب وراء قدومه؟

لم تخبر ميرا والدتها بأي شي فقط قالت لها: سوف تعرفين كل شيء عند وصولنا لذا كوني مستعدة في غضون ساعة أو ساعتين سوف نكون عندك.

لم تستطيع ميادة قول المزيد، إنما رحبت بهما وقالت: حسنا انا انتظركم، أهلا وسهلا.


وعلى الفور اخبرت ميرا والدها، وقام بالاستعداد للذهاب إلى بيت ميادة، وكان يشعر برجفة غريبة وكأنه ذاهب لرؤيتها أول مرة.

طوال الطريق يسمع تلك الأغاني القديم التي تعود به إلى ايام خطوبته مع ميادة.

ثم قالت له ميرا: أبي، هل تذهب بدون أن تأخذ معك باقة من الورد.

حدق بها مستغرب وقال: لم يخطر على بالي هذا الأمر قط.

ثم وقف أمام أحد المحال لبيع الورود، نزل وحده واختار باقة من الازهار باللون البنفسجي والابيض وكانت رائخة الورد فواحة وجميلة.

نظرت ميرا بطرف عينها إلى والدها وشقت إبتسامة خفيفة شفتيها، ثم قالت له: ما كل هذا الجمال والدلال يا ابي.

لم يرد عاصم بشيء كل ما كان يرجوه حينها أن تسير الأمور على الحال الذي يتمناه ولا تقوم ميادة برفضه، فهو ادرك حقا قيمتها وشعر بكم احتياجه لها، وضرورة قربها إليه وخاصة في مثل هذا الظرف.

أدرك خطأه متأخر لكنه كان جاهز لتصحيحه وتعديله مهما كلفه الأمر.


وصلوا أخيراً إلى بيت ميادة، الذي كانت تعيش فيه وحدها بعد وفاة والديها وكان هذا البيت الورثة التي تركوها لها.

رحبت بهما ميادة عانقت ميرا وضمتها إلى صدرها تشتم رائحتها.

ثم كان عاصم يحمل تلك الباقة الجميلة وقال لها: أتمنى أن تقبلي هذه مني.

سألته ميادة ما سبب هذه الباقة؟

رد عليه عاصم: عربون شكراً لمجيئك إلى للمستشفى وبقاؤك معي طوال اليوم ولم تتركيني ابدأ.

ابتسمت ميادة وقالت: إن كان الأمر كذلك فلا مشكلة وأنا أقبلها منك.

مدت يدها تاخذ الورد منه، استغل الفرصة وحاول تحسس أصابع يديها كي يرى هل بقيت تلك ردة الفعل التي كانت في سابقة.

فهو يعلم جيدا كم تحب ميادة تلك اللمسات المخفية بين الحضور، والاشارات التي تعبر في أعماقها عن الكثير من الحب والشوق.

لم تتمالك نفسها ميادة، وارتجفت من أخمص قدميها حتى إلى رأسها.

لاحظ عاصم ذلك ابتسم بطريقة واضحة وقال: هل اعجبك هذا؟

سألته: ماذا تعني بهذا؟

قال لها: الورد؟

قالت ميادة وهي محرجة: ااا، نعم شكرا لك لقد أعجبني حقا.

ثم قالت لهما تفضلا بدخول إلى الصالة.

كانت هي قد جهزت كل الترتيبات قبل وصولهما كي يكون اللقاء هادىء ولا ترتبك في أي نوع من ضيافة سوف تقوم بوضعها لهم.

انهت جميع الأمور قبل وصولهما، وكان ذلك الأمر افضى، جلسوا جميعا وبدأوا يتحدثون بشكل عام عن حياتهم والوضع الرهان الذي يعيشونه.

لم يكن أحد يدري ما هي المفاجآت التي مازالت مخفية، وكلها سوف تنكشف رويد رويدا.

يتبع .. في الجزء الثاني..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي