الفصل السادس عشر
توقّفت عربة المسافرين في آخر محطاتها لتترجل ميرال وبيدها حقيبتها السوداء المُهترئة ذاتها، لا تحمِلُ بداخلها سوى بعض الثياب .. كما خرجت بها ذات يومٍ من السجن ولكن الفرق الوحيد انها اليوم مكسورة الخاطر، مُتعبة الروح، بالكاد تستطيع جمع شظايا قلبها المُنفطر من قسوة الفُراق، لقد كابرت طويلًا وانكرت حُبّها لبحر ولكنها الآن تتلظى بنيرانٍ مؤلِمة ولم يمُرّ على هروبها سوى ساعاتٍ قليلة قضتها في طريقٍ طويلٍ ابعدها عنه مئآت الكيلومترات، بمدينة أُخرى، موحِشة، قارسة، لا تحمِلُ رائحة حبيبها.
تنهّدت بألمٍ وكل نفس يخرُجُ من رئتيها يختلطُ برائحته العالقة بأنفاسها، شعرت بلفحةٍ باردة تمُرُّ بسائر جسدها وكأنه هنا، قريبٌ منها، يعانقها لتنام بسلامٍ بصدره الواسع، لم ترد من الحياة اموالًا او بيتًا، ارادت ذراعيه فقط يحملان عنها ثِقل خيبات السنين، ذراعان يستريح بينهما قلبها المُتعب ولم تكُن لترغب بأكثر من ذلك، ولكن الحياة لها رأيٌ آخر، لقد جلبتها من اقاصي الدُنيا لتُسقطها بين ذراعيه كوليدةٍ وما ان اعتادت عليه وألفت حنانه حتى عادت لتنتزعها منه بقسوة وترمي بها بعيدًا.
مسحت دموعها التي عادت لتسيل مُجددًا لتحرق عيناها كما يحترق قلبها، عادت لتنظر حولها بضياع الى ان لمحتها فتقدمت وعلى شفتيها ابتسامةً مُرتعِشة، فقابلتها سجى بعناقٍ حنون وقالت لها بعِتاب:
- انتظرتكِ طويلًا يا ميرال، لقد خرجتي من السِجن منذُ اكثر من ستة اشهُر، هل ذهبتِ لعائلتك؟!
انتبهت سجى لبكاء صديقتها وملامحها الشاحبة المُتعبة فسحبتها من يدها هامسة برفق:
- هيا الى المنزل، لتستريحي من عناء السفر اولًا.
.
.
ترتجِفُ الكلماتُ على شفتيها، تعضُّ اصابع الندم وهي تقُصُّ على صديقتها قصّتها الحمقاء المُثيرة للشفقة وهي تنجذِبُ الى رجُلٍ يصغرها عُمرًا، تتحدّث وتتحدّثُ بصورةٍ اكثر من المُعتاد وكأنما احتاجت لمن يسمع صوتها المُختبئ دائما وراء حزنها، وكانت سجى الوحيدة العالمة بكُل اسرارها، حتى تلك التي لا يعرفها احدُ عنها.
امرأة في مطلع الثلاثينات، قضت برفقة ميرال ستّة سنوات في السجن بتُهمة الإتجار بالمخدرات.
جذبت انتباهها منذُ مجيئها للزنزانه بقوّتها الظاهرة التي قضت على تجبُّر نادية ملكة المكان التي تدير الجميع حولها بسلطتها المُخيفة، وكانت هي ضعيفةً وتائهة لا تستطيع الدفاع عن نفسها الى ان اتت سجى وسحبتها بجانبها ومنذها تعهّدت كلاهما على القسم بالصداقة الأبدية وبالفعل لم تستطع ايّ منهما نكث هذا الوعد فقد كانتا بجانب بعضهما البعض في أقسى ظروف الحياة، فهل هنالك اقسى من مرارة الظُلم؟!
بالرغم من امتلاكها لرقم هاتف سجى شعرت بالخجل من مهاتفتها فور خروجها من السجن الّا انها عندما فكّرت بالهرب من بحر لم يأتِ ببالها سواها ووجدتها تصِفُ لها مكان سكنها لتجيئ اليها على الفور، فليس لديها احدٌ في هذه الحياة.
- لا بأس يا عزيزتي، لا بأس.
قالتها سجى بحُزن وهي تجذبها لحضنها لتستريح الأخيرةُ وتقول بأسى:
- انا اتألم، بل اموت ببُطء.
- لن اخبركِ ان كُلّ شيءٍ سيكون على ما يُرام، بل كل ما استطيع قوله لك انك ستعتادين على الألم، وسيُصبح حينها اخفّ وطأة.
وكانت هذه العبارة المؤلمة تدور برأسها الى ان استسلمت لشباك النوم لتتركها سجى تستريح وتخرج لعملها.
.
.
كشمسٍ تلاشت وسط الضباب اختفت ميرال تمامًا، انكرتها الشوارع والبيوت القديمة كأن لم تمُرّ بها من قبل، ولم يجب ندائه سوى صدى الرياح.
- ميرال، يا ابنة الحُزن، أهكذا تهرُبين من قدركِ المحتوم؟!
أسند رأسه على المقود بتعب وقد حلّ الليل ولازال يدورُ باحثًا عنها بلا ايّ فائدة.
وبالرغم من غضبه الشديد منها الّا انّ ما يجتاحه الآن ليس سوى الخوف... الهلع من ان يصيبها مكروهٌ وهي لا تملكُ عائلةً في هذا المكان، ماذا إن صدمتها سيارة.... تبعها مُختلٌّ او خطفها بائعُ ضمير... كيف يستطيع إخماد افكاره السوداء التي تنهشُ عقله بلا رحمة؟!
بيدان مرتجفتان اخذ يضغطُ على رقم هاتف ليلى وما ان جائها صوتهُ القلق حتى همس بتعب:
- لقد هربت... تركتني يا ليلى بعد ان احببتها.
من الجِهةِ الأُخرى كانت ليلى تفهم ما يقول فقد هاتفها العم جمال واخبرها بما حدث وبالرغم من فرحتها الواضحة بذهاب ميرال ولكنها الآن وهي تستشفُّ قهر اخيها وألمه تحزن رغمًا عنها، فبحر كُتلة من الإحساس المُرهف ولم يشعُر بحياته بالحُبّ سوى هذه المرّة لذلك تأثُّره يؤلمها للغاية.
- اين انت يا حبيبي؟ سآتي اليك الآن.
نظر للظلام الحالك من حوله وهدير البحر قد خفت تمامًا ليجيبها:
- لا تخرجي بهذا الوقت، انا سأبحث عنها الى ان يحِلّ الصباح.
- لا تجهد نفسك، ربما الفتاة لا تريد الزواج منك.
قالتها بيأسٍ ليهتف بغضب:
- لقد هربت بسببكِ، لأنها خافت من ان تكون سببًا في تدمير علاقتنا وانت تقولين ببساطة انها لا تحبني؟!، صدقا انا غبيُّ لأنني ظننتُ للحظة انك ستنسين كُلّ شيءٍ وتقفين بجانبي.
اغلق هاتفه بعُنف وهتف بجنون:
- اللعنة عليك يا ميرال... يا غبية... كيف تهربين بهذه البساطة.... كيف!
قاد سيارته مرّة أُخرى يُمشّطُ الشوارع كلها دون ان يغمض له جفنٌ الى ان سطعت شمس اليوم التالي ومعها تعالى رنينُ هاتفه ليظهر رقم صديقه وفور ردّه جائه الصوت:
- وجدتُ كُلّ المعلومات، وسآتيك بنفسي لأُخبرك بالتفاصيل.
اجابه بهدوء:
- سأنتظِرُك بالمنزل.
وبالفعل غادر الى بيته بسُرعةٍ جنونية وسيارته المسكينة وحدها ما تحمّل نوبة غضبه الحارق، في غضون ربع ساعة كان يخرج من سيارته بملامح واجمة يعلوها التعب، قامته الأبيّة منحنية بإنهاك وعيناه فقدت بريقها المشاكس لتغدوا لوحةً من الضياع.
بحياته لم يشعُر بهذه المشاعر تجاه ايّ امرأة ولم يعتقد ان حياته كلها قد تتوقف بسبب احد ولكنه الآن موقنٌ بأن ميرال توغّلت بداخله اكثر بكثير مما يظُن، وان ما اسماه ذات يومٍ حُبّ كان غرقًا ابديًّا لا نجاة منه، مهما كانت حياتها سابقًا ومهما ستكون عليه حالتها لن يستطيع النجاة من هذا الجنون، إنه يعشقها، وليس للعشق دواء.
.
.
اغلقت ليلى هاتفها بغضب عقب حديثها مع آدم، لقد اخبرها ببساطة ان الحفل غدًا لن يكون حفل خِطبة بل عقد قِران، كما اتفق مع عزيز قبل قليل، وسيكون الزفاف بعد بضعة اشهُر.. وقد بدى سعيدًا بالتخلُّص من إحدى بناته وربما بعد عامٍ او عامين سيفعل المثل ويزوج التوأمتين ليخلو بالهُ تمامًا ويتفرّغ لأبنائه الجُدد.
اغمضت عيناها بتعبٍ ورأسها ينشطِرُ لنصفين من فرط التفكير، لا تدري هل سيكون قرارها صائبًا ام لا ولكن في كُلّ الأحوال ستسطيع حينها رؤية البهجة على وجه حور، تلك الصغيرة التي تحمِلُ همّها منذ تلك الأيام السوداء، وقلبها يخبرها ان ابنتها ليست بخير بل تتصنع الفرح لكي لا يضغط احدهم عليها.
نهضت من فراشها وتوجهت لغرفة فلك لتجدها تغطُّ في النوم، اقتربت منها تطالع وجهها البريئ وتدعوا الله بأن لا تذُق ألمًا كألمها، وان يحافظ عليها عزيز ويحبها كما تستحق.
غادرت عقب إغلاق الأضواء لترى التوأمتان، كانت غرفتهما كبيرة الحجم بألوان بين الزهري والرمادي في خليطٍ غريب، على فراشها ذو الرسوم الملوّنة كانت حلا تنام كملاكٍ تحتضنُ دميتها المُفضّلة بينما حور مستيقظة تطالع سقف الغرفة بشرود.
- لماذا لم تنامي الى الآن؟!
قالتها وهي تقترب من حور ولم تغفل لحركة اناملها سريعا تمسح دموعها وتقول:
- لا شيء، لا اشعر بالنعاس.
- تعالي يا حلوتي، لأُهاديكي الى ان يأتي النوم.
استلقت بجانبها وجذبتها لأحضانها لترقُد بصمتٍ وتقولُ بعد وقتٍ طويل:
- اميّ، مُتعبة أليس كذلك؟!
اجابت ليلى بإرهاق:
- متعبة للغاية فطوال الأيام الفائتة ادور هنا وهناك لتجهيز حفل الخطبة.
- لا اقصد هذا التعب، بل هنا...
اشارت حور لقلب والدتها وقالت:
- قلبكِ مُتعب، انا اعلم ذلك، منذ ان صفعكِ ابي، ثمة شيءٌ هنا قد انكسر.
كانت حور مرآة مُخيفة لوالدتها ترى من خلالها نفسها بوضوح، دون تزييفٍ او تجميل، ترى المرأة المهزومة المنكسرة التي تحاول عبثًا لملمة شتات روحها.
لم تكُن بالنسبة لها مجرد ابنة بل كانتا متشابهتان بشدّة، لهما ذات القوّة، ذات التعابير وذات الملامح...
- نعم يا حور، انا متعبة من ابيكِ وتصرفاته.. متعبة من خوفي الدائم من الناس واقاويلهم... متعبةٌ من قلبي الخانع الذي يعصيني في كل مرة احاول فيها قتل حبه لأبيكِ.
نهضت حور وقد انتظرت هذه اللحظات طويلا ونظرت الى والدتها وهمست بحُب:
- نحن هنا بجانبكِ، انا وحلا وفلك سنكون دومًا معكِ، فقط عليكِ طلب الطلاق وسنكون جميعًا بخير.
صمت والدتها وشرودها الحزين دفعاها للقول بحدّة:
- لا تقولي انّكِ لا زِلتي تحبينه.. فهذا لن يكون حُبًّا بل مرض... إنه يؤذيكي مرارًا وتكرارًا، يؤلم قلبكِ ويتزوّج عليكِ ماذا تريدين اكثر من ذلك لتشعري بأنه لا يريدكِ بحياته وان وجودك وعدمه لا يهمّه بشيء.
واضافت وعيناها تلمع بكُره:
- وها هو سيحصُل على ابنٍ منها هل تريدين ان تظلّي الزوجة الخانعة على الدوام؟!
انحنت ملامحها بألم وهي ترى والدتها التي شحبت بشدّة من حدّة كلماتها حتى ان عيناها لمعت بدموعٍ خفيّة دون ان تفقد ملامحها هدوئها المُعتاد فهمست بندم:
- انا آسفةٌ يا أُمّي، لا اعلم كيف أُصبحُ فجأةً بتلك القسوة.
ابتسمت بحنانٍ وهي تجيبها بتفهُّم:
- انتِ لستِ قاسية يا حور بل صريحة وهذه ليست مشكلة.
اغمضت حور عينيها ودموعها تنساب ببُطء لتهمس بألم:
- بلى، انا أؤذيكي بشدّة بالرغم من انكِ اكثر من أُحب، اشعر احيانا بأنني اعاقبكِ على قرارتك وهذا امرٌ غير صائب، فأنتِ راشدة وقادرة على اتخاذ موقفك الخاص.
شعرت بأن ابنتها تتألّم اكثر منها فرفعت وجهها اليها لتقول وغصّةٌ تحبِسُ انفاسها:
- هل يمكنكِ ان تنفذي طلبي الوحيد منكِ يا صغيرتي؟!
اومأت حور بإيمائةٍ صغيرة لتكمل ليلى بتضرُّع:
- اريحي قلبكِ يا حبيبتي ولا تُقلقينني عليكِ.
الا انها همست بحزن:
- ولكن...
- ارجوكِ يا حور! اعدُكِ ان ينتهي كل هذا الألم قريبًا، سنخرج من هنا فور زواج فلك، وسنعيشُ حياةً هادئة انا وانتِ وحلا، أعدُكِ بذلك.
كانت ليلى مدركة ان هذا الوعد اصبح دينٌ واجب الإيفاء خاصّة عندما لاحظت لملامح حور وقد هدأت تماما وارتسمت على شفتيها ابتسامةً صغيرة واخبرتها نظراتها بأنها واثقة منها، ولن تخذلها مطلقًا... يكفي كرهها لآدم لن تجعلها رهينة ألمٍ آخر. ستتطلّق وتعيش حياةً سويّةً برفقة ابنتيها، وستنسى انها ذات يوم كُسِرت من احبّ شخصٍ اليها في الدنيا.
.
.
- إذن، ستتزوّجها اليوم؟!
قال عمرو لأخيه ذي المزاج المُبتهج، ليقول وعلى شفتيه ابتسامةً حقيقةً افتقدها طويلًا:
- نعم يا اخي، سأتحرر اخيرًا من افكاري السوداء، وسأُنشئ عائلةً صغيرة برفقة فلك.
- هل هذا يعني انّك تخليت عن افكارك الإنتقامية وعقِلت اخيرًا.
اومأ عزيز وقد خجِل للغاية من افكاره السابقة واضاف وقلبه يجيشُ بمشاعر جديدة:
- هل تُصدّق انني رأيتُ غيد بالأمس؟ وجهًا لوجه ولم اشعُر بأي شيء عدا شفقةً ضئيلةً على حالها.
اغمض عينيه وهو يتذكّر لقائه بآدم الذي دعاه لشقّة غيد ليتناقشا في امر الخِطبة، وبعد دقائق كانت غيد تتقدّم منه حاملةً القهوة، لقد صُدِمت لرؤيته ولكنه لم يُبدي ايّة ردة فعل وهو يرميها بنظرةٍ خاطفة، لاحظ على إثرها شعرها القصير المُحيط بوجهٍ واهن وسقطت عيناه على بطنها المُمتلئة ليقول له آدم بتفكير:
- ولكن يا عزيز، ألا تظُنّ ان عقد القِران سيكون طويلًا الى موعد الزفاف؟
اجابه مبتسمًا بلهفةٍ حقيقية:
- لا يا عمّي، فمن الأساس شقتي جاهزة وما على فلك سوى اختيار اثاثها، فكما تعلم بأموال عملي بالسنوات السابقة وما تبقى لنا من املاك اشتريتُ شقّة بعمارة جديدة الإنشاء وايضًا لا تبعد كثيرًا عن هنا لتكون فلك بجانب والدتها.
حينها فقط ادركت غيد ان الخاطب الذي سيتزوج ابنة آدم ليس سوى الرجُل الوحيد الذي تمنّت ان يكون زوجًا لها، ولكن هو قال شقة واملاك.. هل هذا يعني انه كان غنيًّا وهي لا تدري؟!
حينها فقط شعر عزيز بالإنتشاء وهو يراقب كوبي القهوة يسقطان عن يدها ليصدرا دويًّا عاليا...
رنين هاتفه جعله يستفيق من ذكرياته على اجمل اسمٍ بالكون، "مرساتي" كان هذا هو اسمها منذ فترةٍ طويلةٍ بحياته، مرساةً وضعته على برّ الأمان بعد ان كان على وشك الغرق.
- إنها فلك.
قال لأخيه واغمض عينيه بإنتشاء وصوتها الناعم المُتذمّر يغزو خلاياه فينعشها كمن ارتوى بعد صومٍ طويل.
- هل تعلمين كم اشتقتُ لهذا الصوت يا ظالمة.
اصمت اعتراضها بعبارةٍ واحدة لتهمس بتلعثُم:
- هل صحيح ستم عقد قراننا اليوم؟! نحنُ لم نتفق على ذلك، انا لم استعد كما ينبغي، لا اريد اي زواج الآن يا عزيز.
نهض ملوحًا لأخيه وخرج من المنزل متجها لبيتها هامِسًا بإنتشاء:
- لست مُستعدة؟! إذن ما رأيكِ ان اراكِ الآن واُخفف من توتُرك؟! لتُصبحي مُستعدةٌ بالكامل.
احمرّرت وجنتيها وهي مُدرِكة لطُرُقه في معالجة توترها لتهمس بخجل:
- توقف عن وقاحتك يا عزيز.
واضافت بحُزنٍ ناعم:
- وانا من الأساسِ غاضبةٌ منك، لذا لن التقيك ابدًا.
- اعلم، لذلك اردتُ ان تكوني زوجتي لأعتذر لكِ بطريقتي.
قالها ضاحكًا وسمع همستها الزاجرة ليركض الخطوات المتبقّية على طريق بيتها ويهتف بشوق:
- افتحي نافذتك يا اميرتي.
قطبت حاجبيها بحيرة وسارعت بإطاعة أمره لتجده هناك، ينظر اليها بشغفٍ في وضح النهار غير خائفٍ من نظرات الناس، فبعد ساعاتٍ قليلة ستكون زوجته امام الملأ.
- ماذا تفعلُ هنا؟!
همست وقلبها يتراقص على نغمٍ عالٍ وتفاجأت بإجابته المُبهمة:
- انظُرُ الى هديّتي.
- ماذا؟!
شعرت بوميضٍ دافئٍ ينسابُ من نظراته التي بدت غريبةٌ بعض الشيء وكلماته تزيد من تشتُتِها:
- انتِ هديتي... مكافأتي الثمينة بعد سنواتٍ من العذاب.
- لم اعهدك معسول الكلام، هذه بشائر الإرتباط الرسميّ ام ماذا؟!
همست بمُمانعةٍ وجنتاها تتوهّجُ بحُبٍّ ليجيبها بفخر:
- من ذاق رحيق شفتيك لا بد ان يغدوا معسول الكلام.
علت ضحكاته وهو يرمقها تتغلق الهاتف بإنزعاج وتختبئ خلف الستار... الا انه عاد ليهاتفها ولكنها لم ترُد فحسم امه واتجه مباشرة الى الاعلى ففتحت له حور الباب لتقول بفتور:
- عزيز، ما الذي تريده؟! أليس الحفل مساءً؟!
دفعها جانبا وهو يقول بغيظ:
- هل هذه طريقة تقابلين بها زوج اختك، هيا يا فتاة اذهبي واخبري فلك انني بإنتظارها.
زفرت حور بحنقٍ حقيقي وهي تستغرب كيف لفلك ان تُحب هذا الكائن اللزج.
اقتربت ليلى في تلك الأثناء لتستقبله وتقول لحور:
- احضري مشروبًا باردًا لخطيب اختكِ.
وقادته ليجلسا على الصالة وقبل ان يسألها عن فلك فاجأته بقولها:
- هل تُحب فلك يا عزيز؟!
بدت نظراتها المُسلطة نحوه مخيفةً بعض الشيء خاصة وقلبه يقرع بعنفٍ بين اضلُعه، ولكنه لم يظهر اي توتر وهو يجيبها ببساطة:
- نعم يا خالتي، أُحبُّها بشدّة... ربما فعل بالسابق اشياء احزنتها ولكن صدقيني في هذه اللحظة انا استطيع القول بكُل صدق انني أُحبُّها بشدّة وسافعل المُستحيل لاجعلها سعيدة.
سمعت اعترافه، سمعته وهو يقولها... إنه يحبها.
نهض عزيز فور رؤيتها، كانت تقف امامه بمنامتها البيضاء، ومظهرها البسيط، تنظر اليه بعينان دامعتان... حينها فقط انسابت الكلمات من بين شفتيه دون ان يجد القُدرة على كبحها فقالها بكل جوارحه:
- أُحبُّكِ يا فلك، آهٍ كم أُحبُّك يا روحي.
اقترب منها..وبخطوةٍ واحدة كانت امامه مباشرةً، يستنشِقُ رائحتها الصافية الخالية من ايّ شيءٍ.. عطرها الخاص، عطر جسدها الرقيق الذي يرغب بتقبيل كل شبرٍ منه، تتسع عيناها فتُصبحان قطرتا كراميل...
- انتَ يا ولد... ابتعد قليلًا عن الفتاة.
قالت ليلى وهي تقطعُ لحظتهما الفريدةُ ليجيبها بصوتٍ مُتأثّر:
- الوعد مساءً يا خالتي، وحينها لن يستطع احدٌ منعي عنها.
غادر بسُرعةٍ من امامهما فلو بقي لدقيقةٍ واحدة لن يستطيع النجاة من سهامها.
كانت فلك تنظر اثره وقلبها المُغرم يستريح اخيرًا من دوامة الإحتمالات التي تتقاذفه بلا رحمة، تصل اخيرًا الى برّ الأمان.
- يحبني؟!
همست بنشيجٍ لتقترب ليلى منها وتهمس بغرور:
- نعم يحبكِ يا فلك، وليس عليكِ ان تكوني بهذا الضعف.
رمشت بعيناها فسقطت دمعتان صغيرتان على وجنتيها وهمست بحزن:
- لستُ ضعيفة.
- بلى يا عزيزتي، انتِ ضعيفة... تنظرين اليه وكأنه حُلُمًا بعيد المنال وتجعلينه يرى كم هو عظيم وهذا ليس صائبًا يا فلك.
شعرت فلك بالغباء واستسلمت لوالدتها التي سحبتها لتجلسان على الأريكة وقال لها بحكمة:
- انتِ تجهلين قيمة نفسكِ... لا تدري بأنّك تستحقّين رجُلًا رائعًا بكُلّ المقاييس... رجُلًا يمنحكِ حُبّهُ وهو مُمتنٌّ لوجودكِ بحياته.
- ولكنني لا اريد سوى عزيز.
قاطعتها هامسة بصرامة لترد ليلى ببسمة:
- وها هو سيصبح زوجكِ عن قريب ولكن ماذا بعد ذلك؟!
- امي؟! انا لا افهم، ماذا تقصدين؟!
لم تكُن فلك ضليعة بفهم الأحاديث المُلتوية فطالما كانت واضحة.. شفافة كمياه البحر.
- ما تقصده امي يا ساذجة هو ان لا تُظهرين مشاعركِ دُفعةً واحدة، ان يكون هنالك شدٌّ وجذب لكي لا تكون حياتكِ مُمِلة.
قالت حور وهي تجلس امامهما وترتشفُ كوب العصير بتلذُذ وقد حمدت الله على ذهاب عزيز ثقيل الدم، فرفعت ليلى حاجبها بدهشةٍ لتردف حور ببراءة:
- انا ذكية يا اُمي، صدقيني هذا مجرد تحليل منطقي لحالة هذه الفتاة.
واقتربت من اختها وقالت بمكر:
- وايضا لا لقاءآت بعد عقد القران... ممنوع اي تجاوز حسي... اي لا قبلات او احضان او اشياء من هذا القبيل لكي يكون هنالك بعض التشويق ليلة الزفاف.
- حور!
ضحكت حور ووالدتها تشدّ اذنيها معاقبةً إياها على كلامها الذي لا يتناسب مع عمرها لتردف بأسف:
- اخبرتكِ يا ليلى إنها مجرد اجتهادات... صدقيني.
- هيا الى غرفتكِ يا فتاة، قبل ان اسمع منك المزيد من النصائح الفذّة.
غادرت حور متذمرة ولم يفُت ليلى تغير مزاجها منذ الصباح، فلأول مرّةٍ منذ فترةٍ طويلة تبتسم حور من قلبها دون تصنُّع.
- امي، ماذا تقصد حور؟! هل صحيح لن ألتقى بعزيز؟!
ضحِكت ليلى بيأسٍ وهي تنهض لتنهي اعمالها مدركة بأن فلك لن تكون مثلها ابدًا، ستُحبّ بكُلّ ما تملك من قوّة، ستنجرف نحو الأعماق دون ان تشعُر بالخطر، ولكن إن تألمت سيكون حينها الجرح اكثر عمقًا.
ولن تستطيع تقديم شيءٍ لها سوى ان تدعوا بأن لا تذوق مُرّ الحياة ابدًا، لأنها ضعيفة.. ورقيقة ولن تتحمل قسوة الدنيا.
تنهّدت بألمٍ وكل نفس يخرُجُ من رئتيها يختلطُ برائحته العالقة بأنفاسها، شعرت بلفحةٍ باردة تمُرُّ بسائر جسدها وكأنه هنا، قريبٌ منها، يعانقها لتنام بسلامٍ بصدره الواسع، لم ترد من الحياة اموالًا او بيتًا، ارادت ذراعيه فقط يحملان عنها ثِقل خيبات السنين، ذراعان يستريح بينهما قلبها المُتعب ولم تكُن لترغب بأكثر من ذلك، ولكن الحياة لها رأيٌ آخر، لقد جلبتها من اقاصي الدُنيا لتُسقطها بين ذراعيه كوليدةٍ وما ان اعتادت عليه وألفت حنانه حتى عادت لتنتزعها منه بقسوة وترمي بها بعيدًا.
مسحت دموعها التي عادت لتسيل مُجددًا لتحرق عيناها كما يحترق قلبها، عادت لتنظر حولها بضياع الى ان لمحتها فتقدمت وعلى شفتيها ابتسامةً مُرتعِشة، فقابلتها سجى بعناقٍ حنون وقالت لها بعِتاب:
- انتظرتكِ طويلًا يا ميرال، لقد خرجتي من السِجن منذُ اكثر من ستة اشهُر، هل ذهبتِ لعائلتك؟!
انتبهت سجى لبكاء صديقتها وملامحها الشاحبة المُتعبة فسحبتها من يدها هامسة برفق:
- هيا الى المنزل، لتستريحي من عناء السفر اولًا.
.
.
ترتجِفُ الكلماتُ على شفتيها، تعضُّ اصابع الندم وهي تقُصُّ على صديقتها قصّتها الحمقاء المُثيرة للشفقة وهي تنجذِبُ الى رجُلٍ يصغرها عُمرًا، تتحدّث وتتحدّثُ بصورةٍ اكثر من المُعتاد وكأنما احتاجت لمن يسمع صوتها المُختبئ دائما وراء حزنها، وكانت سجى الوحيدة العالمة بكُل اسرارها، حتى تلك التي لا يعرفها احدُ عنها.
امرأة في مطلع الثلاثينات، قضت برفقة ميرال ستّة سنوات في السجن بتُهمة الإتجار بالمخدرات.
جذبت انتباهها منذُ مجيئها للزنزانه بقوّتها الظاهرة التي قضت على تجبُّر نادية ملكة المكان التي تدير الجميع حولها بسلطتها المُخيفة، وكانت هي ضعيفةً وتائهة لا تستطيع الدفاع عن نفسها الى ان اتت سجى وسحبتها بجانبها ومنذها تعهّدت كلاهما على القسم بالصداقة الأبدية وبالفعل لم تستطع ايّ منهما نكث هذا الوعد فقد كانتا بجانب بعضهما البعض في أقسى ظروف الحياة، فهل هنالك اقسى من مرارة الظُلم؟!
بالرغم من امتلاكها لرقم هاتف سجى شعرت بالخجل من مهاتفتها فور خروجها من السجن الّا انها عندما فكّرت بالهرب من بحر لم يأتِ ببالها سواها ووجدتها تصِفُ لها مكان سكنها لتجيئ اليها على الفور، فليس لديها احدٌ في هذه الحياة.
- لا بأس يا عزيزتي، لا بأس.
قالتها سجى بحُزن وهي تجذبها لحضنها لتستريح الأخيرةُ وتقول بأسى:
- انا اتألم، بل اموت ببُطء.
- لن اخبركِ ان كُلّ شيءٍ سيكون على ما يُرام، بل كل ما استطيع قوله لك انك ستعتادين على الألم، وسيُصبح حينها اخفّ وطأة.
وكانت هذه العبارة المؤلمة تدور برأسها الى ان استسلمت لشباك النوم لتتركها سجى تستريح وتخرج لعملها.
.
.
كشمسٍ تلاشت وسط الضباب اختفت ميرال تمامًا، انكرتها الشوارع والبيوت القديمة كأن لم تمُرّ بها من قبل، ولم يجب ندائه سوى صدى الرياح.
- ميرال، يا ابنة الحُزن، أهكذا تهرُبين من قدركِ المحتوم؟!
أسند رأسه على المقود بتعب وقد حلّ الليل ولازال يدورُ باحثًا عنها بلا ايّ فائدة.
وبالرغم من غضبه الشديد منها الّا انّ ما يجتاحه الآن ليس سوى الخوف... الهلع من ان يصيبها مكروهٌ وهي لا تملكُ عائلةً في هذا المكان، ماذا إن صدمتها سيارة.... تبعها مُختلٌّ او خطفها بائعُ ضمير... كيف يستطيع إخماد افكاره السوداء التي تنهشُ عقله بلا رحمة؟!
بيدان مرتجفتان اخذ يضغطُ على رقم هاتف ليلى وما ان جائها صوتهُ القلق حتى همس بتعب:
- لقد هربت... تركتني يا ليلى بعد ان احببتها.
من الجِهةِ الأُخرى كانت ليلى تفهم ما يقول فقد هاتفها العم جمال واخبرها بما حدث وبالرغم من فرحتها الواضحة بذهاب ميرال ولكنها الآن وهي تستشفُّ قهر اخيها وألمه تحزن رغمًا عنها، فبحر كُتلة من الإحساس المُرهف ولم يشعُر بحياته بالحُبّ سوى هذه المرّة لذلك تأثُّره يؤلمها للغاية.
- اين انت يا حبيبي؟ سآتي اليك الآن.
نظر للظلام الحالك من حوله وهدير البحر قد خفت تمامًا ليجيبها:
- لا تخرجي بهذا الوقت، انا سأبحث عنها الى ان يحِلّ الصباح.
- لا تجهد نفسك، ربما الفتاة لا تريد الزواج منك.
قالتها بيأسٍ ليهتف بغضب:
- لقد هربت بسببكِ، لأنها خافت من ان تكون سببًا في تدمير علاقتنا وانت تقولين ببساطة انها لا تحبني؟!، صدقا انا غبيُّ لأنني ظننتُ للحظة انك ستنسين كُلّ شيءٍ وتقفين بجانبي.
اغلق هاتفه بعُنف وهتف بجنون:
- اللعنة عليك يا ميرال... يا غبية... كيف تهربين بهذه البساطة.... كيف!
قاد سيارته مرّة أُخرى يُمشّطُ الشوارع كلها دون ان يغمض له جفنٌ الى ان سطعت شمس اليوم التالي ومعها تعالى رنينُ هاتفه ليظهر رقم صديقه وفور ردّه جائه الصوت:
- وجدتُ كُلّ المعلومات، وسآتيك بنفسي لأُخبرك بالتفاصيل.
اجابه بهدوء:
- سأنتظِرُك بالمنزل.
وبالفعل غادر الى بيته بسُرعةٍ جنونية وسيارته المسكينة وحدها ما تحمّل نوبة غضبه الحارق، في غضون ربع ساعة كان يخرج من سيارته بملامح واجمة يعلوها التعب، قامته الأبيّة منحنية بإنهاك وعيناه فقدت بريقها المشاكس لتغدوا لوحةً من الضياع.
بحياته لم يشعُر بهذه المشاعر تجاه ايّ امرأة ولم يعتقد ان حياته كلها قد تتوقف بسبب احد ولكنه الآن موقنٌ بأن ميرال توغّلت بداخله اكثر بكثير مما يظُن، وان ما اسماه ذات يومٍ حُبّ كان غرقًا ابديًّا لا نجاة منه، مهما كانت حياتها سابقًا ومهما ستكون عليه حالتها لن يستطيع النجاة من هذا الجنون، إنه يعشقها، وليس للعشق دواء.
.
.
اغلقت ليلى هاتفها بغضب عقب حديثها مع آدم، لقد اخبرها ببساطة ان الحفل غدًا لن يكون حفل خِطبة بل عقد قِران، كما اتفق مع عزيز قبل قليل، وسيكون الزفاف بعد بضعة اشهُر.. وقد بدى سعيدًا بالتخلُّص من إحدى بناته وربما بعد عامٍ او عامين سيفعل المثل ويزوج التوأمتين ليخلو بالهُ تمامًا ويتفرّغ لأبنائه الجُدد.
اغمضت عيناها بتعبٍ ورأسها ينشطِرُ لنصفين من فرط التفكير، لا تدري هل سيكون قرارها صائبًا ام لا ولكن في كُلّ الأحوال ستسطيع حينها رؤية البهجة على وجه حور، تلك الصغيرة التي تحمِلُ همّها منذ تلك الأيام السوداء، وقلبها يخبرها ان ابنتها ليست بخير بل تتصنع الفرح لكي لا يضغط احدهم عليها.
نهضت من فراشها وتوجهت لغرفة فلك لتجدها تغطُّ في النوم، اقتربت منها تطالع وجهها البريئ وتدعوا الله بأن لا تذُق ألمًا كألمها، وان يحافظ عليها عزيز ويحبها كما تستحق.
غادرت عقب إغلاق الأضواء لترى التوأمتان، كانت غرفتهما كبيرة الحجم بألوان بين الزهري والرمادي في خليطٍ غريب، على فراشها ذو الرسوم الملوّنة كانت حلا تنام كملاكٍ تحتضنُ دميتها المُفضّلة بينما حور مستيقظة تطالع سقف الغرفة بشرود.
- لماذا لم تنامي الى الآن؟!
قالتها وهي تقترب من حور ولم تغفل لحركة اناملها سريعا تمسح دموعها وتقول:
- لا شيء، لا اشعر بالنعاس.
- تعالي يا حلوتي، لأُهاديكي الى ان يأتي النوم.
استلقت بجانبها وجذبتها لأحضانها لترقُد بصمتٍ وتقولُ بعد وقتٍ طويل:
- اميّ، مُتعبة أليس كذلك؟!
اجابت ليلى بإرهاق:
- متعبة للغاية فطوال الأيام الفائتة ادور هنا وهناك لتجهيز حفل الخطبة.
- لا اقصد هذا التعب، بل هنا...
اشارت حور لقلب والدتها وقالت:
- قلبكِ مُتعب، انا اعلم ذلك، منذ ان صفعكِ ابي، ثمة شيءٌ هنا قد انكسر.
كانت حور مرآة مُخيفة لوالدتها ترى من خلالها نفسها بوضوح، دون تزييفٍ او تجميل، ترى المرأة المهزومة المنكسرة التي تحاول عبثًا لملمة شتات روحها.
لم تكُن بالنسبة لها مجرد ابنة بل كانتا متشابهتان بشدّة، لهما ذات القوّة، ذات التعابير وذات الملامح...
- نعم يا حور، انا متعبة من ابيكِ وتصرفاته.. متعبة من خوفي الدائم من الناس واقاويلهم... متعبةٌ من قلبي الخانع الذي يعصيني في كل مرة احاول فيها قتل حبه لأبيكِ.
نهضت حور وقد انتظرت هذه اللحظات طويلا ونظرت الى والدتها وهمست بحُب:
- نحن هنا بجانبكِ، انا وحلا وفلك سنكون دومًا معكِ، فقط عليكِ طلب الطلاق وسنكون جميعًا بخير.
صمت والدتها وشرودها الحزين دفعاها للقول بحدّة:
- لا تقولي انّكِ لا زِلتي تحبينه.. فهذا لن يكون حُبًّا بل مرض... إنه يؤذيكي مرارًا وتكرارًا، يؤلم قلبكِ ويتزوّج عليكِ ماذا تريدين اكثر من ذلك لتشعري بأنه لا يريدكِ بحياته وان وجودك وعدمه لا يهمّه بشيء.
واضافت وعيناها تلمع بكُره:
- وها هو سيحصُل على ابنٍ منها هل تريدين ان تظلّي الزوجة الخانعة على الدوام؟!
انحنت ملامحها بألم وهي ترى والدتها التي شحبت بشدّة من حدّة كلماتها حتى ان عيناها لمعت بدموعٍ خفيّة دون ان تفقد ملامحها هدوئها المُعتاد فهمست بندم:
- انا آسفةٌ يا أُمّي، لا اعلم كيف أُصبحُ فجأةً بتلك القسوة.
ابتسمت بحنانٍ وهي تجيبها بتفهُّم:
- انتِ لستِ قاسية يا حور بل صريحة وهذه ليست مشكلة.
اغمضت حور عينيها ودموعها تنساب ببُطء لتهمس بألم:
- بلى، انا أؤذيكي بشدّة بالرغم من انكِ اكثر من أُحب، اشعر احيانا بأنني اعاقبكِ على قرارتك وهذا امرٌ غير صائب، فأنتِ راشدة وقادرة على اتخاذ موقفك الخاص.
شعرت بأن ابنتها تتألّم اكثر منها فرفعت وجهها اليها لتقول وغصّةٌ تحبِسُ انفاسها:
- هل يمكنكِ ان تنفذي طلبي الوحيد منكِ يا صغيرتي؟!
اومأت حور بإيمائةٍ صغيرة لتكمل ليلى بتضرُّع:
- اريحي قلبكِ يا حبيبتي ولا تُقلقينني عليكِ.
الا انها همست بحزن:
- ولكن...
- ارجوكِ يا حور! اعدُكِ ان ينتهي كل هذا الألم قريبًا، سنخرج من هنا فور زواج فلك، وسنعيشُ حياةً هادئة انا وانتِ وحلا، أعدُكِ بذلك.
كانت ليلى مدركة ان هذا الوعد اصبح دينٌ واجب الإيفاء خاصّة عندما لاحظت لملامح حور وقد هدأت تماما وارتسمت على شفتيها ابتسامةً صغيرة واخبرتها نظراتها بأنها واثقة منها، ولن تخذلها مطلقًا... يكفي كرهها لآدم لن تجعلها رهينة ألمٍ آخر. ستتطلّق وتعيش حياةً سويّةً برفقة ابنتيها، وستنسى انها ذات يوم كُسِرت من احبّ شخصٍ اليها في الدنيا.
.
.
- إذن، ستتزوّجها اليوم؟!
قال عمرو لأخيه ذي المزاج المُبتهج، ليقول وعلى شفتيه ابتسامةً حقيقةً افتقدها طويلًا:
- نعم يا اخي، سأتحرر اخيرًا من افكاري السوداء، وسأُنشئ عائلةً صغيرة برفقة فلك.
- هل هذا يعني انّك تخليت عن افكارك الإنتقامية وعقِلت اخيرًا.
اومأ عزيز وقد خجِل للغاية من افكاره السابقة واضاف وقلبه يجيشُ بمشاعر جديدة:
- هل تُصدّق انني رأيتُ غيد بالأمس؟ وجهًا لوجه ولم اشعُر بأي شيء عدا شفقةً ضئيلةً على حالها.
اغمض عينيه وهو يتذكّر لقائه بآدم الذي دعاه لشقّة غيد ليتناقشا في امر الخِطبة، وبعد دقائق كانت غيد تتقدّم منه حاملةً القهوة، لقد صُدِمت لرؤيته ولكنه لم يُبدي ايّة ردة فعل وهو يرميها بنظرةٍ خاطفة، لاحظ على إثرها شعرها القصير المُحيط بوجهٍ واهن وسقطت عيناه على بطنها المُمتلئة ليقول له آدم بتفكير:
- ولكن يا عزيز، ألا تظُنّ ان عقد القِران سيكون طويلًا الى موعد الزفاف؟
اجابه مبتسمًا بلهفةٍ حقيقية:
- لا يا عمّي، فمن الأساس شقتي جاهزة وما على فلك سوى اختيار اثاثها، فكما تعلم بأموال عملي بالسنوات السابقة وما تبقى لنا من املاك اشتريتُ شقّة بعمارة جديدة الإنشاء وايضًا لا تبعد كثيرًا عن هنا لتكون فلك بجانب والدتها.
حينها فقط ادركت غيد ان الخاطب الذي سيتزوج ابنة آدم ليس سوى الرجُل الوحيد الذي تمنّت ان يكون زوجًا لها، ولكن هو قال شقة واملاك.. هل هذا يعني انه كان غنيًّا وهي لا تدري؟!
حينها فقط شعر عزيز بالإنتشاء وهو يراقب كوبي القهوة يسقطان عن يدها ليصدرا دويًّا عاليا...
رنين هاتفه جعله يستفيق من ذكرياته على اجمل اسمٍ بالكون، "مرساتي" كان هذا هو اسمها منذ فترةٍ طويلةٍ بحياته، مرساةً وضعته على برّ الأمان بعد ان كان على وشك الغرق.
- إنها فلك.
قال لأخيه واغمض عينيه بإنتشاء وصوتها الناعم المُتذمّر يغزو خلاياه فينعشها كمن ارتوى بعد صومٍ طويل.
- هل تعلمين كم اشتقتُ لهذا الصوت يا ظالمة.
اصمت اعتراضها بعبارةٍ واحدة لتهمس بتلعثُم:
- هل صحيح ستم عقد قراننا اليوم؟! نحنُ لم نتفق على ذلك، انا لم استعد كما ينبغي، لا اريد اي زواج الآن يا عزيز.
نهض ملوحًا لأخيه وخرج من المنزل متجها لبيتها هامِسًا بإنتشاء:
- لست مُستعدة؟! إذن ما رأيكِ ان اراكِ الآن واُخفف من توتُرك؟! لتُصبحي مُستعدةٌ بالكامل.
احمرّرت وجنتيها وهي مُدرِكة لطُرُقه في معالجة توترها لتهمس بخجل:
- توقف عن وقاحتك يا عزيز.
واضافت بحُزنٍ ناعم:
- وانا من الأساسِ غاضبةٌ منك، لذا لن التقيك ابدًا.
- اعلم، لذلك اردتُ ان تكوني زوجتي لأعتذر لكِ بطريقتي.
قالها ضاحكًا وسمع همستها الزاجرة ليركض الخطوات المتبقّية على طريق بيتها ويهتف بشوق:
- افتحي نافذتك يا اميرتي.
قطبت حاجبيها بحيرة وسارعت بإطاعة أمره لتجده هناك، ينظر اليها بشغفٍ في وضح النهار غير خائفٍ من نظرات الناس، فبعد ساعاتٍ قليلة ستكون زوجته امام الملأ.
- ماذا تفعلُ هنا؟!
همست وقلبها يتراقص على نغمٍ عالٍ وتفاجأت بإجابته المُبهمة:
- انظُرُ الى هديّتي.
- ماذا؟!
شعرت بوميضٍ دافئٍ ينسابُ من نظراته التي بدت غريبةٌ بعض الشيء وكلماته تزيد من تشتُتِها:
- انتِ هديتي... مكافأتي الثمينة بعد سنواتٍ من العذاب.
- لم اعهدك معسول الكلام، هذه بشائر الإرتباط الرسميّ ام ماذا؟!
همست بمُمانعةٍ وجنتاها تتوهّجُ بحُبٍّ ليجيبها بفخر:
- من ذاق رحيق شفتيك لا بد ان يغدوا معسول الكلام.
علت ضحكاته وهو يرمقها تتغلق الهاتف بإنزعاج وتختبئ خلف الستار... الا انه عاد ليهاتفها ولكنها لم ترُد فحسم امه واتجه مباشرة الى الاعلى ففتحت له حور الباب لتقول بفتور:
- عزيز، ما الذي تريده؟! أليس الحفل مساءً؟!
دفعها جانبا وهو يقول بغيظ:
- هل هذه طريقة تقابلين بها زوج اختك، هيا يا فتاة اذهبي واخبري فلك انني بإنتظارها.
زفرت حور بحنقٍ حقيقي وهي تستغرب كيف لفلك ان تُحب هذا الكائن اللزج.
اقتربت ليلى في تلك الأثناء لتستقبله وتقول لحور:
- احضري مشروبًا باردًا لخطيب اختكِ.
وقادته ليجلسا على الصالة وقبل ان يسألها عن فلك فاجأته بقولها:
- هل تُحب فلك يا عزيز؟!
بدت نظراتها المُسلطة نحوه مخيفةً بعض الشيء خاصة وقلبه يقرع بعنفٍ بين اضلُعه، ولكنه لم يظهر اي توتر وهو يجيبها ببساطة:
- نعم يا خالتي، أُحبُّها بشدّة... ربما فعل بالسابق اشياء احزنتها ولكن صدقيني في هذه اللحظة انا استطيع القول بكُل صدق انني أُحبُّها بشدّة وسافعل المُستحيل لاجعلها سعيدة.
سمعت اعترافه، سمعته وهو يقولها... إنه يحبها.
نهض عزيز فور رؤيتها، كانت تقف امامه بمنامتها البيضاء، ومظهرها البسيط، تنظر اليه بعينان دامعتان... حينها فقط انسابت الكلمات من بين شفتيه دون ان يجد القُدرة على كبحها فقالها بكل جوارحه:
- أُحبُّكِ يا فلك، آهٍ كم أُحبُّك يا روحي.
اقترب منها..وبخطوةٍ واحدة كانت امامه مباشرةً، يستنشِقُ رائحتها الصافية الخالية من ايّ شيءٍ.. عطرها الخاص، عطر جسدها الرقيق الذي يرغب بتقبيل كل شبرٍ منه، تتسع عيناها فتُصبحان قطرتا كراميل...
- انتَ يا ولد... ابتعد قليلًا عن الفتاة.
قالت ليلى وهي تقطعُ لحظتهما الفريدةُ ليجيبها بصوتٍ مُتأثّر:
- الوعد مساءً يا خالتي، وحينها لن يستطع احدٌ منعي عنها.
غادر بسُرعةٍ من امامهما فلو بقي لدقيقةٍ واحدة لن يستطيع النجاة من سهامها.
كانت فلك تنظر اثره وقلبها المُغرم يستريح اخيرًا من دوامة الإحتمالات التي تتقاذفه بلا رحمة، تصل اخيرًا الى برّ الأمان.
- يحبني؟!
همست بنشيجٍ لتقترب ليلى منها وتهمس بغرور:
- نعم يحبكِ يا فلك، وليس عليكِ ان تكوني بهذا الضعف.
رمشت بعيناها فسقطت دمعتان صغيرتان على وجنتيها وهمست بحزن:
- لستُ ضعيفة.
- بلى يا عزيزتي، انتِ ضعيفة... تنظرين اليه وكأنه حُلُمًا بعيد المنال وتجعلينه يرى كم هو عظيم وهذا ليس صائبًا يا فلك.
شعرت فلك بالغباء واستسلمت لوالدتها التي سحبتها لتجلسان على الأريكة وقال لها بحكمة:
- انتِ تجهلين قيمة نفسكِ... لا تدري بأنّك تستحقّين رجُلًا رائعًا بكُلّ المقاييس... رجُلًا يمنحكِ حُبّهُ وهو مُمتنٌّ لوجودكِ بحياته.
- ولكنني لا اريد سوى عزيز.
قاطعتها هامسة بصرامة لترد ليلى ببسمة:
- وها هو سيصبح زوجكِ عن قريب ولكن ماذا بعد ذلك؟!
- امي؟! انا لا افهم، ماذا تقصدين؟!
لم تكُن فلك ضليعة بفهم الأحاديث المُلتوية فطالما كانت واضحة.. شفافة كمياه البحر.
- ما تقصده امي يا ساذجة هو ان لا تُظهرين مشاعركِ دُفعةً واحدة، ان يكون هنالك شدٌّ وجذب لكي لا تكون حياتكِ مُمِلة.
قالت حور وهي تجلس امامهما وترتشفُ كوب العصير بتلذُذ وقد حمدت الله على ذهاب عزيز ثقيل الدم، فرفعت ليلى حاجبها بدهشةٍ لتردف حور ببراءة:
- انا ذكية يا اُمي، صدقيني هذا مجرد تحليل منطقي لحالة هذه الفتاة.
واقتربت من اختها وقالت بمكر:
- وايضا لا لقاءآت بعد عقد القران... ممنوع اي تجاوز حسي... اي لا قبلات او احضان او اشياء من هذا القبيل لكي يكون هنالك بعض التشويق ليلة الزفاف.
- حور!
ضحكت حور ووالدتها تشدّ اذنيها معاقبةً إياها على كلامها الذي لا يتناسب مع عمرها لتردف بأسف:
- اخبرتكِ يا ليلى إنها مجرد اجتهادات... صدقيني.
- هيا الى غرفتكِ يا فتاة، قبل ان اسمع منك المزيد من النصائح الفذّة.
غادرت حور متذمرة ولم يفُت ليلى تغير مزاجها منذ الصباح، فلأول مرّةٍ منذ فترةٍ طويلة تبتسم حور من قلبها دون تصنُّع.
- امي، ماذا تقصد حور؟! هل صحيح لن ألتقى بعزيز؟!
ضحِكت ليلى بيأسٍ وهي تنهض لتنهي اعمالها مدركة بأن فلك لن تكون مثلها ابدًا، ستُحبّ بكُلّ ما تملك من قوّة، ستنجرف نحو الأعماق دون ان تشعُر بالخطر، ولكن إن تألمت سيكون حينها الجرح اكثر عمقًا.
ولن تستطيع تقديم شيءٍ لها سوى ان تدعوا بأن لا تذوق مُرّ الحياة ابدًا، لأنها ضعيفة.. ورقيقة ولن تتحمل قسوة الدنيا.