الفصل العاشر

أهل سوزي سوف يستلمون جثمانها اليوم، أريد
تغطية شاملة لهذا الحدث؛ مؤكد أنه سيكون
مشحونا
بالعديد من المشاعر، وهذا ما يفضله القراء ويثير
شغفهم؛ مما سيزيد من عدد الطبعات والمبيعات.
-  حاضر أستاذي، سوف أتجه إلى هناك حالاً.
أغلق أوراقه بعدما أنهى المكالمة ليتوجه إلى
المشرحة.

وقفت أسرة سوزي لاستلام الجثمان، خرج حارس
المشرحة من الداخل يطلب إحدى أناث العائلة
لحضور الغسل، أرادت فاطمة الدخول بدلا من
والدتها؛ خوفاً عليها من هذا المشهد، لكنها رفضت، وأصرت أن تحضر بنفسها، ما إن دخلت حتى شعرت
ببرودة تجتاح جسدها برغم ملابسها الثقيلة؛ فهذا
المكان يُثير الرهبة والخوف في قلوب أعتى الرجال، فما بالك بقلب أم مكلومة رأت ابنتها مسجاه على
طاوله رخامية لا حول لها ولا قوة، اختلَّ توازنها
فور رؤيتها، اتكأت على الحائط خوفا من السقوط،
اقتربت منها سيدة خمسينية ترتدي الأسود مثلها
(المغسلة):
-   هل أنتِ بخير؟
أشارت لها بيدها أنها بخير، اقتربت من جثمان ابنتها تلثم وجنتها بقبلة دافئة، بينما دموعها تتساقط:
-  آهٍ يا بنيتي، كم تمنيت أن ألبسك الأبيض لزوجك وأجهزك له، لم أكن أعلم أنني سأجهزك لمثواك
الأخير.
وضعت يدها تستشعر الماء الموجود بجانب تلك
السيدة فوجدته فاترا يقترب للبرودة، طلبت منها أن
تحضر الماء الدافئ؛ لأنها تخاف على ابنتها من هذا
الماء البارد أن يصيبها بالبرد، نظرت لها وهي تحوقل من كلماتها، ظنت أنها جُنت؛ فهذه جثة لن تشعر
ببرودة أو سخونة الماء، لكن لا يوجد ضرر، فوظيفتها جعلتها تقابل كافة أنواع البشر، واعتادت على
التعامل معهم، أحضرت الماء الدافئ، وبدأت
تغسلها كما ذكر في الشريعة الجانب الأيمن أولا
يليه الجانب الأيسر، حممتها كالأيام الخوالي حينما كانت صغيرة، وهي تذكرها:
-  هل تذكرين حينما كنت صغيرة، وكنت أساعدكِ
في الاستحمام، كنتِ دائما تطلبين مني الرفق
والعناية بشعركِ، وها أنا أفعل كما اعتدت، هل
تشعرين بأي ألم؟ هل تعلمين؟ لقد توقعت أن
تقومي أنتِ بتغسيلي وليس العكس.
اقتربت منها تلك السيدة قائلة:
-  يكفي هذا يا حاجة؛ كلنا لها.
نظرت لها بعيون مغرقة:
-  لا زالت شابة، لِمَ أخذها الموت مني، لِمَ لمْ
يأخذني بدلاً منها؟؛ فأنا عشت من الحياة ما يكفي.
ربتت علي يدها، وهي تقول:
-  وحّدي الله؛ إنها أعمار.
-  آهٍ يا بنت قلبي، لطالما كنتِ الأقرب إلىَّ حتى بعدما هجرتِ عيشتنا لم أنسكِ، كنت أتحسس أخباركِ من شقيقاتك، ومن الجيران، كنت سعيدة بنجاحكِ و
شهرتكِ، كم تمنيت أن يسمح لكِ والدكِ بالحضور
، وأن أزوركِ حتى أضمكِ إلى صدري كما كنت أفعل
عندما تنجحين.
سقطت دموع المغسلة غصباً عنها من هذه الكلمات التي تُقطر قهرا ومحبةً وألما، أنهت عملها، وطيبتها بالمسك، وكفنتها في خمسة أثواب، ثم طلبت من
الحارس إحضار النعش، حُملت سوزي لمثواها الأخير، ومن خلفها والدتها التي ظلت تنعي فِراقها، ودموع شقيقاتها التي لم تتوقف؛ فهي كانت العون لهن
والمأوى، لطالما أغدقت عليهن بالمال من خلف
والدهن لشراء كل ما يحتجن.
أمام المدفن وقف عمارة مكلوم القلب، دموعه تغرق وجهه، أدوا الصلاة وبينهم عصام الصحفي، ثم حملها مع الدفان، ونزلا إلى الأسفل، وقف صابر يسند والده
الذي كاد أن يسقط عدة مرات، جلست والدتها أرضاً
تؤمن التراب والقبر:
-  احفظها بين جنباتك يا قبر، كن أنيسا لها؛ فهي تخاف الظلام، يا قبر خذني بدلاً منها، أو دعني امض
الليلة معها لأساعدها وقت السؤال.
بكى الجميع من تلك الكلمات التي تخرج من فم
والدتها، وهي تُقبل تراب القبر الذي تسكنه ابنتها
الآن وتوصيه عليها.. غادر الجميع بعدما قدموا التعازي، وواسوا أهلها ماعدا عمارة ظلَّ بجانب المدفن
يبكي فراقها، ويدعو لها، وقف عصام يراقبه من
بعيد، اقترب منه قليلا ليسمع كلماته وبكاءه على
حبّ عمره التي تركته ورحلت بعيداً.
-  يا له من عاشق، سيكون حدثا جليلا عندما يعرف
السيد مرزوق أن لسوزي عاشقا ولهانا، والأكثر من
ذلك أنه زوج شقيقتها.
قالها عصام لنفسه، وهو يلتقط بعض الصور في
الخفاء، ثم غادر إلى الجريدة حيث يعمل، بعد ساعة
من الكتابة والتجهيز ابتسم عصام، وهو يرى مقاله
بين يديه بصورة مشوقة، بدأه بكلمات والدة سوزي
ونعيها لها، ثم لمَّح على دموع عمارة وعشقه
المخفي، عرضه على رئيس التحرير صفَّق له مشيدا
بمجهوده ونجاحه مما دفعه للإفصاح له عن المكالمة التي وردته صباحاً ورغبته في سلفة قدرها عشرة
آلاف جنية؛ حتى يستطيع الحصول على تلك
المستندات، والتي من شأنها تحقيق سبق صحفي
للجريدة وجعلها الأكثر مبيعاً:
-  أنت بارع تعرف كيف تقنعني بوجهة نظرك؛ لذا سوف أمنحك هذه السلفة، لكن إذا كان الخبر غير
صحيح فعليك سداد المبلغ بالكامل، والبحث عن
وظيفة أخرى.
-  موافق.
قالها عصام بكل حماسة؛ فهو متأكد من أن هناك
مافيا خلف تلك الحوادث واختفاء الفتيات، لكن هل
المستندات صحيحة وتستحق ذلك المبلغ؟
اتصل رئيس التحرير بقسم الحسابات، وأمرهم بمنح
عصام المبلغ، ثم اتصل بالمطبعة ليخبرهم:
-  أرسلت لك خبرا هاما أريد له مساحة كبيرة
بالصفحة الأولي تحت عنوان وداع معشوقة القلوب.
********
تململ آسر من نومه، وهو يشعر بألم يسكن كامل
جسده، نظر لحاله وجد نفسه لازال بملابس الأمس،
دلف إلى الحمام، وقف تحت الماء الدافئ؛ ليساعده على تجديد نشاطه وإزالة الألم الذي يشعر به، مرَّ
على المشفى للاطمئنان على حالة زوجته، ثم اتجه
بعدها إلى فيلا سوزي، وطلب من محمد مقابلته
هناك.
وقف أمام الفيلا يتفحص ما حوله وأماكن الكاميرات، دار حول الفيلا وهو ينظر تارة للأعلى وتارة أخرى
للأسفل، فحص الأشجار ليجد بابا خلفيا مغطى بشجرة الجهنمية الكبيرة ذات الورود الحمراء، وبين الأوراق وجد شيئا عالقا، اقترب آسر أكثر للحصول عليه فقد
كان عالقا بأحد الأسلاك الشائكة التي توجد بجانب أغصان تلك الشجرة الضخمة، أخرج من جيبه كيسا
صغيرا، وضع به ما وجده، ثم أكمل البحث.
دخل الفيلا بعد الانتهاء من الحديقة الخارجية، فحص الدور الأرضي وكل شبر بداخله بعيون كالصقر تدل على خبير مخضرم، لكنه لم يجد ما يثير حفيظته؛ حيث لا يوجد به سوى بعض من قطع الأثاث، وغرفة المطبخ التي لها باب يطل على الحديقة الخلفية..
صعد إلى الطابق الأعلى حيث غرفة نومها ومسرح الجريمة، تفحَّص الخِزانة بروية؛ فهو يشعر أن بداخلها سرا ما، صدق حدثه عندما لامس جنبات الخزانة لتكشف له عن سرها المخفي – وجد درجا سحريا- جحظت عيناه عندما فضَّ ما بداخله، خرج محمد من الغرفة الثانية حاملا ألبوما به عدة صور تجمع سوزي وتامر:
-  آسر، انظر إلى هذه الصور.
نظر آسر إلى الصور، ثم أشهر بوجه محمد الوثيقة التي وجدها داخل الخزينة السرية، ما إن مرت عيناه على محتواها حتى جحظت، ووجد نفسه يردد:
-  ما هذا؟ إذن هو القاتل؟
-  حتى الآن لا يوجد إثبات واضح، علينا زيارته أولا، هيا بنا.
قبل أن يغادرا جمع محمد ما وجده داخل تلك الغرفة، ثم رافق آسر في مشواره.
من بعيد وقف أحدهم يراقبهما حتى خرجا من الفيلا، بعدها اتصل برقم سُجّل على هاتفه المحمول باسمها:
-  لقد غادرا حالا، ولا يوجد أحد بالفيلا.
أملت عليه المطلوب، ثم أنهت المكالمة، نظر حوله يمينا ويسارا ليتأكد من خلو الحي؛ قبل أن يتحرك، في نفس اللحظة التي ضرب فيها محمد رأسه بيده في عصبية جعلت آسر يسأله عن السبب:
-  ماذا حدث؟
-  سقط هاتفي داخل الفيلا، علينا العودة لإحضاره.
عاد آسر ادراجه ليجد مفاجأة تنتظره داخل الفيلا.
داخل الفيلا كان ذلك الغريب يبحث عن مراده، في نفس اللحظة التي ترجل فيها محمد من السيارة لإحضار هاتفه، وما أن وطأة قدمه داخل الفيلا حتى شعر بالقلق؛ فقد سمع صوتا بالدور الأعلى، فأسرع إلى الباب، ثم أشار لآسر الذي أقبل نحوه يسعى، وهو يسأله بصوت خافت:
-  ماذا حدث؟
أجابه محمد بنفس الصوت المنخفض:
-  أظن أن هناك شخصا ما بالفيلا؛ سمعت صوتا بالدور العلوي.
تحركا معا في حذر للقبض على مَن بالداخل، حيث صعد آسر الدرج بخفةٍ حتى لا يُثير حفيظة الدخيل، بينما ترك محمد بالدور الأرضي لتأمين باب الفيلا؛ رأى آسر ظلا لذلك الغريب أمامه على الأرض يقف أمام الخزانة يبحث عن شيء، ردد آسر في أعماقه:
-  مَن هذا؟ وما الذي يبحث عنه؟
تحسس آسر سلاحه، وأخذ نفسا عميقا، وهو يتأهب للقبض على ذلك المتسلل، ليعرف حكايته، ومن وراءه؛ علَّه يكون سببا في حل ألغاز تلك القضية التي هو بصددها، والتي تزداد غموضا يوما بعد يوم.. ولكن وكما يقولون دوما ما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن؛ فما أن تحركت قدما آسر خطوة واحدة في اتجاه ذلك المتسلل الذي كان منهمكا بالبحث عن شيء ما داخل الخزينة، حتى رنَّ هاتف آسر، فأسرع المتسلل بالتقاط مسدسه، ولكنه فوجئ بصوت آسر يأمره في حزم، وسلاحه مصوَّب لرأسه:
-  لا تتحرك وإلا أرديتك قتيلا في موضعك
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي