الفصل الثامن عشر

تُمسك بالمايكرفون وكأنها طوق نجاتها، تنسابُ المُوسيقى ناعمةٌ وديعة مثلها تمامًا فيخرُجُ صوتها الذي يحاكي شدو القماري، شجيًّا مُفعمًا بالحُزن والجمال، تغنّي للحُب الذي لم تنل منه نصيبًا فيطرب المُستمعين بصوتها العذب المُثخن بالشجن... فقد كان صوتها آخر استلحتها ولم يتبقى لها سواه لتحارب في هذه الحياة، كانت تغنى بالسجن، عندما تشعر بأنها ستموت من الحسرة فتواسيها الأغاني وتُربّت على من حولها فيجتمعن ليسمعن صوتها ويشرُدن بعيدًا عن الأسوار والأقفال الحديدية.

تغنّي للحُب والأمهات، للفراق وللغربة، تغني بكُلّ جوارحها علّ صوتها يتمرّد فيغادر تلك الزنزانة الحارقة..
اثناء غنائها اليوم تذكرت كُلّ شيء، تذكرت طعم الكلمات المُختلطة بالتعب والذُلّ، تذكرت رائحة الأقفال الصدئة، تذكرت رحلات العذاب الجسدي الذي تعرضت له طوال حياتها ولم يرحمها السِجن فأكمل على ما تبقى منها.

ولكنها الآن تشعُر بالفخر، بالسعادة لأنها بالرغم من كُلّ شيءٍ لا زالت تقِفُ على قدميها، ولن تنهار ابدًا، فليس لديها في هذه الدنيا سوى هذه الروح المُتعبة وستعمل جاهدةً لجعلها تستريح.
انتهت وصلتها الغنائية بتصفيقٍ حار وقد دمعت عيون المُستمعين بتأثُّرٍ من بحّة صوتها المُختنق بالحزن.

انحنت لتحيي جمهورها بلباقة ونظرت للعلبة الزجاجية الموضوعة امامها وقد امتلئت بالأوراق النقدية مما يعني انها اعجبت رواد المكان.. كادت ان تترجل الّا ان امرأةً اربعينية تجلسُ على احد الطاولات برفقة زوجها هتفت اليها باسم أُغنية اُخرى مطالبةً إياها بغنائها ترويحًا عن حزنهم وعندما التفتت لصاحب المطعم وجدته يشير اليها مبتسمًا بأن تغني وسجى تجلس هناك برفقة طفلها تلوّحُ لها بسعادة.

تغيرت موسيقى الحُزن لأُخرى مُفعمة بالبهجة، تراقصت قدماها على نغمٍ عالٍ وبدأت تترنم بصوتٍ كهديل الحمائم، ابتسم الجميعُ بدهشةٍ وهم يشاهدوا تحول نبرة صوتها الحزينة لأُخرى عالية مُشاكسة، تبدوا كلوحةٍ شديدة الفرح وهي تغني وتحرك اناملها على وقع الألحان.
من كان ليصدق ان ميرال الهادئة التي لا يُسمعُ صوتها تحمِلُ كل هذه الحيوية؟! كان الجميع منبهرين بجمال صوتها الذي يفوق في روعته اكبر المغنيات.

انتهت الأُغنية الثانية ووجهها ينبضُ بسعادةٍ طالما شعرت بها كلما رأت تاثير صوتها على احد، وهذه المرة كانت تحيتها الأخيرةُ وهي تنزلُ بخجلٍ عن المنصّة واول من هنّأها هو خليل صاحب المطعم الذي اشاد بصوتها قائلًا بدهشة:
- صوتك ملائكي، بحياتي لم اسمع صوتًا بهذا الجمال، إنه لا يشبه اي صوتٍ في العالم.
نظرت اليه بخجلٍ حقيقي بينما اردف بإعجاب:
- إنه صوت ميرال فقط، صدقيني انتِ خُلقتِ لتكونين نجمة، هذا المكان لا يليقُ بكِ.

اجابته بحرج ولا زالت سجى ملتهيةٌ عنها:
- انا لا ارغب بأن أُصبِح نجمة، يكفي فقط ان اجد مكانًا يأويني.
نظر اليها بعطف وقال وهو يدعوها للجلوس:
- لقد اخبرتني سجى بقصّتكِ.
اتسعت عيناها بذُعرٍ ليجيبها برأفة:
- انا اثِقُ بها فبالتالي من المؤكد ان اثق بكِ، سأمنحكِ العمل وقد سمِعتُ انكِ ماهرة في صُنع الطعام، ما رأيكِ ان يكون عملك بدوامين، صباحًا كطاهية مساعدة ومساءً كمُغنية وسيكون راتبكِ مُضاعف.

انفرجت اساريرها وهي تشكره بحرارة وقد قبلت العمل بالتأكيد وشجعها لطفه المبالغ على القول بخجل:
- هل يمكنني ان اطلب منك طلبًا صغيرًا؟!
- بالطبع يا ميرال، تفضلي.
اكتسى خداها بإحمرارٍ قانٍ وهي تقول:
- هل يمكنك ان تساعدني في الحصول على شقة صغيرة للإجار، لأنني لن استطيع الإثقال على سجى خاصّة وان زوجها سيعود قريبًا من سفره.

قاطعتها سجى التي سمعت نهاية الحوار لتقول بصرامة:
- انتِ لن تنقلين الى ايّ مكان، وسنتناقش في هذا الأمر بالمنزل، والآن ما رأيك يا خليل؟ هل وافقت على عملها؟!
- بالطبع موافق، ولن افرط بها ابدًا، ربما ستصبحُ ذات يومٍ مُطربة شهيرة وتذكرني في احد لقاءاتها.
قالها بمرح لتشكره مرة اُخرى بإمتنان وقد رسمت اخيرًا طريقا آخر بحياتها.

.
.

انتهت مراسم الحفل وعاد الجميع الى بيوتهم بينما بقي عزيز يتقلّبُ على مراجل الشوق؛ فإلى الآن لم يستطع الإنفراد بزوجته ويبدوا ان هذا الأمرُ مُستحيلٌ تحت مراقبة آدم المتحفّز، فبدلًا عن صعوده لزوجته الثانية اصرّ ان يبقى معهم بوجود ليلى التي تراقبه وعلى شفتيها ابتسامةٌ مُتسلّية.
- انا سأُغادر، تصبحون على خير.
قالها بيأسٍ ونهض لتطالعه فلك بطرف عينيها تكبحُ ابتسامتها بصعوبة، فهو يكاد يموت لقربها ولكن ابيها يقفُ لهُما بالمرصاد.

- تصبح على غير يا عزيزي، هيا يا فلك اوصلي زوجكِ الى الباب.
قالتها ليلى بإشفاق على حالته وقبل ان يعترض آدم سحبته من يده وقالت له برقّة:
- هيا لتستريح يا آدم، فمنذ الصباح وانتَ على قدميك.
لم يكُن ليرفض يدها الممدودة له وقد ظنّ انها سأمت الهجر مثله وارادت ان يعودا كما كانا في السابق.

فبالرغم من تحسُّن علاقته بغيد واهتمامها الشديد به ومحبتها التي بدأت بالظهور الّا انه يشتاق لحُبّ من نوعٍ آخر، يشتاق لمشاعر ليلى التي تغمره بنظرةٍ واحدة دون ان تهمس بكلمة، يشتاق لمعاملتها له وكأنه طفلٌ صغير، يشتاق لأن ينام بين ذراعيها فينسى الدُنيا وما فيها.

فعاطفة غيد طفولية... ساذجة ومتملكة الّا ان ليلى تملكُ مشاعر كبركانٍ خامل، هادئة.. ورصينة بالرغم من حرارتها، إنها تعرف متى تتحدث ومتى تصمُت، تعرف كيف تطوعه كما تشاء، ويحب هو ان يكون تحت لوائها.

بينما بالخارج وقبل ان تغلق فلك الباب عقب توديعه بتهذيب وجدته يسحبها بين ذراعيه في قبلةٍ مُهلِكة اودع فيها حبه الوليد الذي لم يحتفل به كما يجب، وكانت فلك تُضرِمُ نيران شوقه بهمسها الخافت بإسمه خائفة من ان يراهما احد بينما تراجع بها خارجًا بجانب الدرج ليحتضنها هامِسًا بخشونة:
- فلك، حبيبتي الحلوة، كنت سأموت لو لم أُهنئكِ على طريقتي.

ضحكت برقّةٍ ولا زالت مأسورةً بين ذراعيه تشعر بنبضات قلبه كمطرقةٍ بجانب اذنيها، ووجهها غارقُ بصدره في عناقٍ قويّ ولا تُصدق الى الآن انها بالفعل برفقته، برفقة عزيز الذي اعترف لها بالحُب وتزوجها.
- يجب ان نُعجل بحفل زفافنا يا حلوتي؛ فأنا لن اتحمل جوّ القبلات المسروقة هذا.. يجب ان تُصبحي ببيتكِ بأسرع وقت.

همس وهو يغرقها بدوامةٍ جديدةٍ من المشاعر الغريبة عليها وما ان كادت تستسلم له من جديد ابتعد عنها وقال ملتقطًا انفاسه بصعوبة:
- تصبحين على خير يا زوجتي، هيا الى الداخل يا فلك قبل ان احملك الآن الى بيتنا.
ركضت بتعثُّرٍ واغلقت الباب خلفها ليبتسم بإنتشاءٍ وقد حظى بقطرة من بحر رغباته ولم يرتوي بل زاد ظمأه نحوها، زفر انفاسًا مُشتعلةً وهمس بفرح:
- إنها زوجتي... فلك الحُلوة زوجتي... يا إلهي!
من المُستحيل ان ينام هذه الليلة، سيظلُّ هائمًا في شوارع الحيّ الى ان يُقنع قلبه الغبيّ بالحقيقة، لقد تزوجها بالفعل!

.
.

وصلا لغرفتهما لتفلت يده وتتجه لتخلع حذائها العالي وتقف امام المرآة، فسمح لنفسه بتأمُّلها بوقاحة وعيناه تهبط بعدم رضىً على فستانها القصير ذو اللون الأخضر وقد ارتسم على تعرجات جسدها بإتقان، تبًّا لعنادها.. لقد حذرها مُسبقًا من ارتداء ثياب غير محتشمة الّا انها تفعل بالفترة الأخيرة كل ما لا يريد.
- لن احتاج لتنبيهكِ من جديد، ما حدث بحفل اليوم لن يتكرر.

قالها بصرامة ولا زال واقفًا خلفها لتلتفت اليه وتهمس بحيرة:
- ما الذي حدث اليوم؟!
اجابها بحدّةٍ اكبر وقد بدى وكأنه لا يرغب بشيءٍ سوى التنفيث عن توتُّره:
- هذا الثوب القصير، والرقص الذي تعلمين مُسبقًا رأيي فيه..  وشعرك ال...
سكت فجأةً ونظراته تزدادُ اسودادًا وهو يدرك ان كُلّ سُكّان الحيّ رأوها بهذا الجمال... واتسعت الحسرةُ بقلبه وهي الآن امامه ولكنه لا يستطع الأقتراب منها، منذ تلك الليلة اقسم على ان لا يقربها الّا برضاها، ولكن الرضا مُستحيلٌ للغاية.

جمعت شعرها على جانبٍ واحد فظهر اتساع فتحة الفُستان المغوية للغاية، اقتربت منه بخطوات مدروسة ولا زالت تبتسمُ تلك الإبتسامة المُغيظة، بدى قربها اكثر عذابًا من البُعد وهو يستنشقُ بقايا عطرها المُنعش المُختلط بأنفاسها الدافئة، كانت تنظر الى عينيه مباشرةً بعينان مكتحلتان بحدّة السيوف، لطالما كانت عيناها العسليّةُ محطّ إعجابه، بالرغم من انها عادية ككل عيون البنات الّا انّ بها حكايا خفيّة، وكأنّ كُلّ ما بقلبها يُكتب على حدقتيها بلُغةٍ عويصة لا يفهمها الّا القليلون، وهو واحدٌ منهم.

- معك حق، ما كان عليّ عصيان اوامرك.
قالتها بشفتان مطليتان بلون التُفّاح ليهمس ببلاهة:
- ماذا؟!
- انا آسفة، لن يتكرر ما حذرت منه مُسبقًا.
قالتها ببساطةٍ وهي تُسبلُ جفنيها كطالبة مُهذبة قبل ان تلتفت وتعطيه ظهرها وتُردف:
- هلّا ساعدتني بحلّ العُقد؟
بدت قصيرةٌ ولا زالت حافية فإنحنى ليلمس عنقها بيدان متشنجتان قبل ان يزيح شعرها ويتعامل من تلك السلسلة الناعمة.

ارتجفت بشوقٍ وانفاسه تلهب عنقها، يتسللُ اليها الحنين كلصّ ماهر ليسرق نبضات قلبها، لا تصدق انها ستنفصل عنه قريبًا ولن تستطيع حينها ان تنعم بهذا القُرب، ستعامله كأنه غريبٌ عليها وهو الذي يحفظُ خبايا روحها ككف يده.
- ها قد حللته، ليلى! ما بكِ؟!
هتف آدم بخوفٍ عندما ترنّحت فجأةً ليمسك بخصرها ويجذبها نحوه بقلق لتجيبه بإنهاك:
- لا شيء، انا فقط لم اتناول شيئًا منذ الصباح.

قادها ليجلسها على الفراش ويقول بإنزعاج:
- ألن تكُفّي عن تصرفاتك الطفولية تلك، لم يكُن عليكِ الإنشغال الى هذه الدرجة.
- ساُخبر فلك بأن تحضر لكِ عشاء.
بعد دقائق عاد حاملًا الطعام وقد ابدلت حلتها لثوبٍ حريريّ ارجواني اللون.
تناولت عشائها بهدوءٍ وتناولها هو بنهم، عينيه فقط تفترسها بلا رحمة، ليتها فقط تعطيه ولو اشارةً صغيرةً بالقبول سيتكفل حينها بالباقي ولكنها لا تفعل، بل تتلذذ برؤيته يموت من شوقه.


اقترب وجلس جوارها ولم ترفع عينيها اليه بل استمرّت في الأكل وقالت بعد وقتٍ قصير:
- منذ الغد سأبدأ بتجهيز مستلزمات فلك.
- لا زال الوقتُ باكِرًا، تبقى شهران ونصف لموعد الزفاف.
قالها بغرابة لتجيبه:
- إنها اوّل فتاة سأزوجها ويجب ان اتأكد من ان كل شيء سيكون كما تتمنّى.

- وبعدها؟!
- بعدها يا آدم سننفصل كأي زوجين حضاريين ونُبقي بيننا مسافة احترامٍ لأجل بناتنا.
قالت وهي تنهضُ لتضع الطعام بالمطبخ وتعود لتسلقي على فراشها وتهمس بإرهاق:
- نم يا آدم، انا لم امنعك من البقاء معي بغرفة واحدة.
كان مذهولًا من كلماتها لا زال يطالعها بشكّ علّه يرى ولو القليل من الرأفة بملامحها الّا انها اضافت بجمود:
- تصبح على خير يا ابا فلك.

ونامت بعد وقتٍ قصيرٍ وقد فرغت طاقة تحمُّلها ليسلبها النوم لعوالم الراحة والهدوء الذي بات حُلُمًا صعب المنال في صحوها.
اما آدم فقد استلقى جوارها وعقله يأبى ان يكُفّ عن التفكير، فقد خيرتهُ مُسبقًا بينها وبين غيد ولم يستطع التفريط بالأخيرةِ ليكونها ردها الحاسم طلب الطلاق.
بغرارة نفسه يدرك بأنه ظلمها كثيرًا وآلم قلبها الّا انه لا يستطيع تحريرها، لا يمكنه تخيل هذا البيت من دونها.

.
.

طعم الفراق مُرٌ كالحنظل، ورائحة الذكريات خانقة كحبل مشنقة.. استيقظ بحر بعينان حمراوان من فرط الأرق وذهب ليجلس برفقة والده واخيه ليتناولون إفطارهم بالمطبخ، ذلك المكان الذي حوى معظم ذكرياته معها... ۤهنا كانت يختلسُ النظر اليها وهي تبكي، هنا عانقها لأوّل مرّة..هنا حملها بين ذراعيه...وهنا آخر مرّة لمس فيها جدران الجنّة بعناقها.
اطرق امام كرسيها الخالي وانحنت شفتاه بألم، فمنذ ذهابها وثمّة شيءٌ بداخله ينطفئ ببُطء، يأكُلهُ الحُزنُ برويّة...قضمةً قضمة.. ويجعل منه الحُبُّ كائنًا آخر اكثر كآبةً وجزع.

لقد بحث عنها طويلًا الى ان ملّتهُ الشوارع وكرهته البنايات، بحث عن امرأةٍ لا يملكُ عنها سوى وصفًا ساكنًا بحدقتيه، فلم يمنحه القدر فرصة التقاط صورة لها فظلّت مُجرد وهمٍ مرسومٍ على مخيلته... يشعر للحظات من شدّة الألم انّهُ قد جُنّ تمامًا ولا وجود لإمرأةٍ مثلها بحياته الّا ان بلال يعود ليذكره بها.. يراها في عينيه الخضراء، في ابتسامته الحُلوة، في ملامحه التي يدرك عميقًا بأنها تنتمي اليها ولم يعُد لديه مجالًا للنسيان.

- بحر، لماذا لم تتناول طعامك؟!
نظر الى اخيه وغمغم بشرود:
- لستُ جائعًا.
فربما تكون هي الآن جائعة، او ربما تقبعُ خلف حاوية قمامة تصطكُّ من البرد.
اغمض عينيه بأسى وصورتها القديمة تبرزُ بذاكرته لتزيد من ألمه وغصّة دمعٍ خائنٍ تقبعُ بمُنتصف حلقه فنهض بعُنفٍ غير قادرٍ على تحمُّل عصف الذكريات الّا ان صوت والده الصارم دفعه للوقف بمنتصف المكان ولم يستطع الإلتفات اليه بل همس بخفوت:
- سأذهب لزيارة أُمّي.

غادر بالفعل وقد بدأت دموعه بالهطول ولم يكفّ عن البكاء طوال قيادته للمقبرة، ففي مثل هذه اللحظات لن يستطع احدٌ مواساته فحتى والدته التي كانت تمسح على رأسه بحنان فتزيل احزانه قد ماتت منذ وقتٍ طويل، اخذها منه المرض في اوجّ لحظات احتياجه لها بعد رحلةٍ طويلةٍ من العذاب كان موتها راحةً لها من آلام الادوية الحارقة ولكن بالنسبة له ولوالده كانت اكبر خسائرهما.

وصل الى قبرها المليئ بالحشائش الخضراء التي ينفذ منها عبير رائحتها او هكذا دومًا يُخيل اليه، جثى امام شاهد القبر وربّت على اسمها الحبيب، "مُهجة" وقد كانت بالفعل مُهجة حياته، منذ مجيئه للحياة كان ابنها المُدلل الذي لم تحب احدًا مثله؛ فليلى اخذتها عائلة والدها منها ولم تستطع ان تكسب محبتها بالرغم من محاولاتها العديدة لتغرقه بحنانها العظيم، كان ابنها الوحيد ولم تكُن لتطلُب من الله سواه؛ فقد كان آخر ما حملت احشائها وبحكمةٍ من الله لم تنجب بعده ابدًا.

لقد منحته والدته رقّةً وحنانًا غريبًا على الرجال فدومًا ما كان مُرهفًا تجاه كل شيء، وكان مدركًا بأنه عندما يقع بالحُبّ سيمنح محبوبته عشقًا غير مشروط، وسيجعلها اميرةً متوجة ويحميها بروحه الّا انه لم يفعل... لم يستطع الحفاظ على المرأة الوحيدة التي دقّ قلبه لأجلها، لم يستطع ان يُشعرها بالثقة والأمان فهربت تطلبه من غيره.

- حبيبتي الغالية!  اشتقتُ اليكِ كثيرًا... اكثر من ايّ وقت.
همس وعيناه تفيض بدموعٍ تحرقُ الروح وعاد يقول بشرود:
- لقد كنتِ دومًا تخبرينني بأنني سأحظى باجمل فتاةٍ بالدُنيا وبالفعل وجدتها، لم تكُن جميلةً بل مُبهِرة كبستان ورود.. هادئة للغاية، وبريئةً مثلكِ تمامًا.

اغمض عينيه مُبتسمًا لطيف والدته واسترسل بالحقيقة الحزينة:
- الآن فقط علِمتُ لماذا احببتها بهذه الصورة، لأنها تشبهكِ! لقد بحثتُ عنكِ طويلًا في عيني كُلّ نساء الدُنيا ولكنني لم اجدكِ سوى بداخلها لذلك اشعُر أنني اموت من جديد.. فكما فقدتُكِ سابقًا تركتني هي الأُخرى بلا وداع.

- حبيبي!
إلتفت الى مصدر النداء ليجد ليلى تتقدم منه وهي تحملُ باقة ورود، جلست بجانبه فلم يلتفت اليها، راقبها وهي تدعو لوالدتها بخفوتٍ وتنثُر الورد قبل ان تلتفت اليه وتربّت بحنانٍ على ظهره، لم تكُن تدري بأنه هنا ولكن وجودهما بذات المكان يدلُّ على ان كلاهما متعبان.. ولا يمكن لأحد في الدنيا ان يزيل تعبهما سوى الوجود بهذا المكان.

- أتعلم يا بحر، انا احسِدُكَ لأنك قضيت معها وقتا كافيًا، كنت بالماضي اشعر بالغضب منها لأنها تزوجت وتركتني ولم استطع مسامحتها الّا بعد تلك الأيام.
استعادت ذكريات المرض السوداء وهي تسكُنُ معه في ممرات المستشفيات، تعب الإنتظار ومرارة الحقيقة وهما يدركان ان والدتهما لن تعيش طويلا.
- لقد كانت تُحبُّكِ للغاية ولم تنساكِ ولو للحظة. 
قالها بصدقٍ وهو يذكر حكايات والدته عنها وعن طفولتها، حتى انه كان يشعُر بالغيرة منها قبل ان يراها.

- اعلم، واشعر بالخجل لأنني عاقبتها ولم اسمح لها بزيارتي.
تمتمت بإختناقٍ ليقول لها بحنان:
- لا بأس، فكل ذلك الحزن قد انتهى، لقد جعلناها تعيش آخر ايامها بسعادة وكنا من حولها وهذا هو المهم.
- لقد رحلت مبتسمة، وهي توصيني عليك.
لم يستطيعا تحمُّل الألم فبكيا بحُرقة وكلاهما يحتضن الآخر، فالذكريات مؤلمة.. كالموت.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي