الفصل التاسع عشر

.
.

بعد بضعة ايام كانت فلك تستعد للقاء عزيز الذي سيصطحبها لرؤية شقتهما ووافق والدها بعد عناءٍ طويل شريطة ان ترافقهما والدتها.
كان عزيز يجلس برفقة ليلى وقد غادرت التوأمتان باكرًا الى المدرسة لتخرج فلك بعد فترةٍ قصيرة وتتقدم منه وتقول بسعادة:
- هيا بنا.
شملها بنظرةٍ متأنية قبل ان يقول بنبرة تجاهد الهدوء:
- اذهبي وابدلي ثيابك يا فلك.

نظرت الى ثيابها بحزن وقد فقدت ابتسامتها:
- ما بها ثيابي؟ أليست جميلة؟!
كانت ليلى تراقبهما بصمتٍ وهي تلاحظ لملامح عزيز المُشتدّة ومحاولاته الفاشلة لتصنُّع الهدوء لتدرك بأن شخصيته حادّة للغاية وسيكون من الصعب على ابنتها التأقلُم معه خاصّة وان فلك لم تعتاد على المعاملة القاسية، كانت ولا زالت مُدللة للغاية ولا يمكن لايّ كان تحمُّل طباعها الطفولية.
- ليست جميلة، ولا تناسبكِ ابدًا.

قالها بجفاء ولم يرد ان يناقشها في الأمر امام اي احد الّا انه تفاجأ بها تهمسُ بعناد:
- ولكنني أُحبُّها وارى انها تليقُ بي للغاية.
نظرت الى تنورتها السوداء التي تصلُ بصعوبة الى ساقيها وتلك البلوزة الحمراء ذات الأكمام السلكية تحدد معالم جسدها بدقّة.
- ارتدي سترة طويلة فوق ثيابكِ يا فلك لكي لا نتأخر.

قالت ليلى لتُهدئ الأوضاع وقد بدى عزيز يفقد صبره، تأففت بضيق وهي تغاد لغرفتها من جديد بينما زفر عزيز وقال بإنزعاج:
- أرأيتي يا خالتي، كيف تعاندني؟!
اجابته ليلى بحيادية:
- ولكنك مُخطئٌ يا عزيز، لم يكُن عليك ان تقول لها ان ثيابها ليست جميلة وعيناكَ ستخرُجُ خلفها.

تلجلج بحرج لتضيف بحنان:
- فلك بالعادة لا ترتدي ثيابًا من هذا الطراز ولكن بما انكما ستلتقيان ارادت ان تبدوا جميلة امام زوجها وهذا ليس امرٌ خاطئ، كان بإمكانك ان تثني على مظهرها وتخبرها بلُطف انك تغار من ان ينظر اليها احد وحينها ستذهب وحدها وتبدل تلك الثياب.
اطرق بندمٍ وقال وملامحه تتشح بالغضب:
- انا لا ارى امامي عندما اشعر بالغضب، وبالفعل اغار، بل اموت اذا شعرت بأنها محط اهتمام ايّ احد.

- ولكنك بهذه الطريقة ستؤذيها، ففلك لن تتحمل القسوة وستنهار بعد فترةٍ قصيرةٍ إن احكمت الخناق حولها.
إنها مُعضلة ليس لها حل!  فهما كالشرق والغرب، هي ناعمة ورقيقة كبتلات الزهور وهو صلبٌ شرِسٌ كأسدٍ مُفترس، كل تصرفاته خرقاء وهمجية، يستخدمُ يده قبل عقله، سريع الإشتعال.. ولكنه يحبها بشدّة.
- يجب ان تُهذّب طباعك لأجلها وإلّا ستخسرها ولا زلتُما في اوّل الطريق.

كانت كلمات ليلى تهديدًا له وبالفعل قد شعر بالخطر فأدركت حينها انه بالفعل يحبها وسيجاهد للحفاظ عليها وبالمقابل فلك بالرغم من هشاشتها الّا انها تملِكُ قُدرةً عظيمة على التحمُّل، وستكون بجانبه دائما.
- هيا إذهب وراضي زوجتك، فلا يليقُ بك ان تُزعجها بأول لقاء عقب زواجكما.

نظر اليها ببلاهةٍ لتشير الى الداخل:
- ثالث غرفة على يمينك، لديك عشر دقائق فقط وبعدها سأقتحم عليكما الغرفة.
ضحِكت وهي تراقبه يذهب مُسرعا لغرفة فلك، وتحولت ابتسامتها لأُخرى حزينة مُدركة بأن طريق ابنتها لن يكون محفوفًا بالورود كما تمنّت؛ فعزيز صعب المراس والحياة معه ستحتاج الى صبرٍ عظيم، ولكنها ضريبة الحُب.

.
.

دلف الى الغُرفة ذات الطابع الأنثوي المُميز لتلفحه رائحة عطرها المنعشة، اغلق الباب خلفه وتقدم ليرى ثيابها التي كانت ترتديها ملقاة على الأرض، اشتعلت عيناه ببريقٍ مشاكسٍ وهو يتخيلها تخلع ثيابها بغضبٍ وتُلقيها ارضًا وربما تجود عليه ببعض الشتائم وهي تسيرُ عارية لتختار ثيابا أُخرى.. ضحك بخفوتٍ والتقطت اذناه صوتها الهامس بتذمُّر فتبع مصدر الصوت ليجدها تخرج فجأةً من احد الأبواب وقد ارتدت ثوبًا طويلًا بأكمام قصيرة تعلوه كنزةٌ من الجينز.

وقفت متسمّرة امامه وبرمت شفتيها بإمتعاضٍ وقالت:
- هل هذه الثياب جيدة ام انها الأُخرى لا تليق بي.
كان يمسكُ ببلوزتها الحمراء الناعمة فقال مشيرًا اليها:
- هذه اجمل بكثير لذا سأحتفظ بها.
- حقًّا؟!
تسائلت بإستهزاءٍ لينقر على انفها بإصبعه هامسًا بمشاكسة:

- نعم، سآخذها معي وفي كل لحظة اشتاقُ فيها لصاحبتها سأعانقها بشدّة واقبلها واخبرها انني اغار منها بجنون لأنها تحتضن جسد حبيبتي بوقاحة.
دفعته من امامها وهي تذهب لترتدي حذاء جديد لتسمعه يقول من خلفها:
- فراشكِ ناعم.
رفعت حاجبها بغيظ وهي تراه يستلقي على الفراش بعشوائيةٍ لتقول بإنزعاج:
- اظنّ ان وجودك هنا لا يليق.

- انا بغرفة زوجتي اي انها غرفتي ايضًا.
قالها وهو يمرغ وجهه بوسادتها القطنية بلونها الزهري اللطيف، فإصطدم بصره بدُمية صغيرة حملها ليقول بنزق:
- ماذا يفعل هذا الشيء بفراشك؟!
تقدمت منه لتلتقط دُبّها الصغير وتُقبله هامسة بحُب:
- إنه ليس شيئًا بل عزيز.
علت الدهشة ملامحه لتردف بحرج:
- اسميته عزيز لأنه عزيزٌ على قلبي وليس لأي سببٍ آخر.

حاولت تجنُّب النظر اليه الّا انه اقترب منها بشّدة وملامحه الشريرةُ تتلوّن بشيءٍ آخر دفع باب قلبها المُشرع للحُبّ ليغلق عليه الى الأبد، لم يكن ينظر اليها، بل يسبحُ عميقًا بداخلها وكأنما يبحث بداخل روحها عن شيءٍ مفقود.
- كنتِ تحتضنينه كل يوم؟! تضُمّيه في نومكِ؟
قالها برهبةٍ ورفع ذقنها بأنامله لتواجه نظراته المُشتعلة وهو يقول:
- وتخبرينه كم كنتُ حقيرًا وانا ابتعد عنكِ فجأةً بلا مُبررات.

- لا!
همست بضعفٍ وهي ترى الألمُ مرسومًا على نظراته ليردف بندم:
- بلى، لقد كنتُ سافِلًا للغاية.
- كنا صِغارًا يا عزيز، لم يكُن لينجح ارتباطنا وقتها.
لم تكُن لتسمح له بالحزن على ما مضى بالرغم من ألمها منه الّا انه اردف بحزن:
- لقد كُنتِ صغيرةً بالفعل.

مرر يديه على وجهها واردف مبتسمًا لصورتها القديمة:
- مراهقة صغيرة بقلبٍ يرنو للحُب، وانا لم أكُن سوى شاب غبيّ طائش اعجبته ابنة الجيران ذات الضفائر السوداء.
كانت الذكريات تعصفُ بذهنه لتعيده لما قبل خمس سنوات، كانت حينها فلك بالسادسة عشر وهو بالثانية والعشرون من عمره، شابًّا فخورًا بنفسه ومغرورًا بمال والده، يسيرُ في الطريق فتلتفُ اليه المراهقات بولهٍ بينما يرتفع انفه الى عنان السماء.

هو يعرف فلك منذ طفولتها بحُكم انهما من ذات المكان بل ويعرف كل تفاصيل حياتها الى ان غدت بعمر الحُب، كانت تختلف عن الفتيات من حولها برقتها الزائدة التي تُضفي لها جمالًا خاصًّا لا يليقُ بسواها، وكان حُبها لهُ جليًّا كصفحة ماء.
- سامحيني حبيبتي.
قالها يلثُمُ وجنتيها لتهمس بلُطف:
- لا بأس، المُهم اننا الآن سويًّا وسنبقى طوال العُمر مع بعضنا البعض.
اومأ بصمت وعاد ليقول بعشق:
- الى الأبد يا مرساتي.

وكاد ان يوثق وعده بقبلةٍ صغيرة الّا ان الطرقات الشديدة على الباب وصوت ليلى المحذر -مخبرةً اياهما بأنها ستدخل في الحال لو لم يخرجا- دفعه للهمس بحنق:
- يبدوا اننا لن ننال لحظتان سويًّا الّا ببيتنا.
ضحكت بجذل وهو يسحبها من يدها بخشونة لتتبعه برضا وقلبها يذوب حُبًّا.

.
.

بعد مرور اسبوعين على عملها، كانت ميرال تطعم الصغير الذي اعتاد عليها بوقتٍ قياسي بينما سجى تصنع من قماش الصوف سترة لطفلها، قد عادت ميرال من عملها قبل بضعة ساعات وكعادتهما كانتا تسهران لبعض الوقت.
- ميرال، الا ترغبين بأن يكون لديك طفل؟
قالتها سجى وهي تراقبها تشدوا للصغير بلحنٍ رتيبٍ ليخلد للنوم لتجيبها ببساطة:
- بالطبع لا.


كانت اجابتها مفاجأة حتى لنفسها فمنذ ما حدث ووالدتها تزجُّ بها الى السجن بلا رحمة ولا تصدق كلامها شعرت بأنها تكرهُ كُل شيءٍ يرتبطُ بالأمومة، من المُستحيل ان تبني عائلة ويكون لديها اطفال، لن تسمح لنفسها بأن تحمل لقبًا ليس لها قُدرةٌ على تحمُّل عبئه، فالأُمهات ملائكة الأرض، وهي ليست كذلك.



- أتعلمي؟ هذا هو ردّي لزوجي بعد فترةٍ قصيرة من الزواج، لم أكُن راغبة بتحمُّل اي مسؤولية، كنت وقتها اعاني من مرارة ذكريات السِجن وبالرغم من ان زوجي استطاع ان يسعدني ويقف بجانبي لعلمه بأنني مظلومة وان من فعل ذلك وزجّ بي في السجن ليس سوى ابن اخي ليستولي على نصيبي من الميراث الّا ان فكرة الأمومة كانت امرٌ مُخجلٌ بالنسبة لي، فلم أكُن ارغب بأن أُنجب طفلًا ليناديه احدهم بإبن السجينة...



كانت سجى تنظر لطفلها الذي اغمض عينيه بسلام بين ذراعي ميرال واضافت بفرح:
- ولكن كل تلك الظنون تبخّرت ما ان جاء هذا الصغير الى حياتي، جاء رُغمًا عني ولكنه اكثر شيءٍ صائبٍ فعلته منذ فترةٍ طويلة.
- انتِ يا سجى حياتكِ لا تشبه حياتي، على الأقل حظيتِ بحُب والديكِ الى ان توفيا، ولكنني لم اشعر للحظة بالأمان... أُمّي التي اخجل من تسميها بهذا اللفظ الطاهر هي من سجنتني، بل وافشت سرّ أُختي المسكينة فقط لتضمن ان اتعفّن بالحبس.



تذكرت نوال الرقيقة ذات الإبتسامة الحالمة واضافت بحُرقة:
- لم يكُن ذنب نوال ان الحياة لم تبتسم بوجهها، فما ان استقرت حياتها برفقة زوجها اخذه منها القدر قبل ان يهنأ برؤية ابنه.

تذكرت ابن اختها الصغير الذي اصبح تحت رعايتها منذ ولادته، فقد تأثرت حالة نوال ومرّت بمرحلة إكتئآب حاد عقب موت زوجها المُفاجئ بحادثٍ مروري، في تلك الفترة السوداء كان الصغير يتعلق بها بصورةٍ غريزية ولا يعرف سواها، فوالدته قد التحقت بمصحة للعلاج النفسي لمدة عامٍ ونصف، وبعد عودتها بفترةٍ قصيرة حدثت تلك الكارثة...


- ميرال، انسي والدتكِ يا حبيبتي، أنسيها وابدأي حياتكِ من جديد.
قطعت سجى سيول ذكرياتها لتهمس بضعف:
- وإن نسيتها من يُنسيني وجه نوال، وغيث الصغير الذي لم يكُن له ذنب... لقد مات غريقًا برفقة أُمّه... لم توجد حتى جثته.

سالت دموعها بحزنٍ وقلبها يئن بآلامٍ لا تُحتمل، فبالوقت الذي ضحّت فيه بمُستقبلها وحياتها لأجل أُختها تفاجأت بأنها لم تتحمّل ثِقل المُصيبة فإنتحرت هي وابنها غرقًا في البحر دون ان تُلقي اي اهتمامٍ لها، وكان ان قضت طوال العشرة اعوام تدفع ثمن جريمةٍ لم ترتكبها ولكنها لم تكُن لتعترف بالحقيقة، ففي كلى الحالتين ستظلُّ مُذنبة ولن يُصدقها احد.




- أُختكِ كانت ضعيفة ولم تتحمّل وصمة العار التي لحِقت بها وانهت حياتها ظنًّا منها انها ستستريح ولكنها لم تُدرك انها قتلتكِ قبل ان تقتُل نفسها.
كانت سجى تشعُر بالحنق من نوال وتصرفها الأهوج الّا ان ميرال دافعت عن اختها وهي تهمس برأفة:
- لقد كانت مريضة، لم تكُن بوعيها بالتأكيد، انا لستُ غاضبة عليها ولكنني اتسائل هل تشعُر بالراحة هناك؟ واتسائل دومًا إن كان غيث الصغير مات على الفور ام تعذب طويلا.
- كنت تحبينه أليس كذلك؟
ارتسمت ابتسامةً عميقةً على شفتيها وقالت بألم:
- لقد كان ابني، ابني الذي لن احظى بمثله ابدا.

- لا تقولي هذا الحديث، بل ستحظين بالكثير من الأطفال وستمنحيهم حُبًّا عظيمًا، ستجدين الرجُل المُناسب الذي سيتقبلكِ كما انتِ بماضيكِ وكُلّ جروحك، سيداوي قلبكِ ويمنحكِ الأمان الذي افتقدته طوال تلك السنوات السوداء.



الآن وهي تسمع هذا الحديث لا يأتي ببالها سواه، ومُجرد ذكراه تثيرُ عواصفًا من الألم بقلبها، فبالتأكيد هو غاضِبٌ عليها، او ربما نسيها كما تُنسى كل الذكريات العابرة.
اما سجى فكانت تقِصدُ شخصًا آخر، شخصًا ابدى اهتمامه نحو ميرال منذ اوّل لقاء، شخصًا سيليقُ بها للغاية هذا بالطبع إن ارادت ان تبدأ حياتها من جديد.

.
.

عادت الصبيتان من المدرسة وعلى ملامحهما إرهاقًا طبيعيًا من عناء الدراسة الّا ان حور لم تكُن على طبيعتها، فعندما اقتربت لتقبل والدتها بدت شاحبة بصورة مخيفة وعندما سألتها عن السبب اجابت بأنها تعاني من بعض الإرهاق، فأخبرتها ان تبدل ثيابها وتستريح ريثما تُحضر لها مشروبًا باردًا ليعيد لها حيويتها.




الّا انّه بعد عدة دقائق هبط قلبها بذُعر وصرخة حلا تشقُّ سكون المكان، لا تدري كيف وصلت الى غرفة ابنتيها ولكنها لم تلمح سوى حور المتهاوية على الأرض بلا حِراك وقد فقد وجهها لونه تمامًا.. لم تدري انها كانت تصرخ بجنونٍ الّا بعد ان كُسِر باب الشقّة وآدم الذي كان يصعد الدرج عائدًا من عمله جنّ جنونه عندما سمع اصوات الصراخ.


اقترب منهنّ ليجد حور بين ذراعي والدتها فاقدةً لكل معالم الحياة، انهار ارضًا ينتزعها من بين ذراعي والدتها وحينها لم يعُد قادِرًا على النهوض بها فهمس بعجز:
- ابنتي! حور! ...

وبذات الوقت بشقّة غيد كانت صرخاتها من نوعٍ آخر، صرخات ألمٍ وطفلها يطرق جدران رحمها بلا رحمة راغِبًا في الحياة، وكان اللهُ رحيمًا، يأخُذ ويعطي... روحًا بدلًا عن أُخرى....

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
فصل بنكهة مختلفة.
كملت دموعي حرفيا وانا بكتب مشاهد معينة 

لا تزعلوا مني.

وانتظروا بقية الأحداث بفصل يوم الخميس او الجمعة 


مع حبي
فايا ❤❤❤
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي