الفصل الثاني والعشرون

- اتمنى ان تعيش بسعادةٍ مع زوجتك الصغيرة.
همست ليلى ببرودٍ ليقول بغيرة:
- لن استطيع  تمنّي المثل لكِ، عسى ان لا يدخُل ايّ رجُلٍ حياتك.
شحبت ملامحها بإزدراءٍ وهي تتشرّبُ انانيته المُقيتة ولكنها تطالعه بطرف عينها وتهمس وعلى شفتيها ابتسامةً لامُبالية:
- عندما يأتي النصيبُ لن تنفع دعوتك.

- ما الذي تقصدينه؟!
هدر بعُنفٍ وهو يقبِضُ على ساعدها وهتف بجنون:
- هل هذا يعني انّكِ وجدتِ البديل قبل طلاقنا؟! هذه تُسمّى خيانة...
يا الله كم ارادت ان تصفعه في تلك اللحظة الّا انها ارادت ان يجرحها اكثر ليكون نسيانه اسهل فيما بعد.
- ما الذي كنتِ تحيكينه من خلفي يا مُحترمة؟!
- يكفي يا ابي، يكفي! أُمّي اشرف من ان تتهمها بهذه الأمور.
هتفت فلك بعذابٍ وهي تشهدُ اسوأ ذكرى قد تمُرّ بحياتها لتسمع ليلى تقول وهي تنتزع يدها منه بعُنف:
- يدك هذه إن امتدّت اليّ مرّة أُخرى سأقطعها، فقد انتهى دورك بحياتي وغدوت غريبًا وانت اكثر من يعرف كيف أُعامل الغُرباء.


صمتت تلتقطُ انفاسها بعُنف واضافت بحزم:
- واتهاماتك التي تحاول نسجها لتبدوا انت الضحية لا تُهمني كثيرًا أتعلمُ لماذا؟! لأنني ليلى ابنة الزيات إن نسيت وشرفي واخلاقي يعرفها الصغير قبل الكبير لذا...
كادت ان تُفلِت كلمة قذرة من بين شفتيها الّا انها اكتفت بأن ابتسمت اليه بترفُّع وهي تدلفُ لغُرفتها ليظلّ هو شاردًا بوجوم، هل طلّقها بالفعل؟! هل سمح لها بالتحرُّر منه بعد كل هذه السنين؟!
جلس بتهالُكٍ على الأريكة واضعًا يداه على رأسه يهمس بأنين:
- يا إلهي! لقد افترقنا بالفعل.


شعر بدمعة يتيمة تسيلُ على خدّه مسحها بسُرعة وهو يلمح فلك تعود لتضع امامه صندوقًا مليئًا بالمجوهرات وتقول بخفوت:
- إنها زينة أُمّي، لن تأخُذ منها شيئًا.
- إنه حقها.
همس بجفاءٍ الّا ان ليلى خرجت في تلك الأثناء تحملُ صندوقًا آخر لتجيبه ببساطة:
- منك انت لا أُريد شيئا، بإمكانك إعطائه لزوجتك.

قامت بخلع اساورها الكثيرة المُحيطة بيداها وجلست لتخلع خلخالها وعندما تذكرت تلك السلسلة المُستريحة بصدرها سارعت بإخراجها هي الأُخرى وقد كانت آخر ذكرى قد تجمعها به، كانت تلك السلسلة هديّة منه بليلة زفافهما التي وعدته مسبقًا ان لا تخلعها بحياتها الّا انّه دفعها لفعل الكثير، ولم تدري انها كانت تعذبه بتلك اللحظة اكثر من ايّ وقتٍ وهي تخلعُ روحه التي لم تسكُن جسدًا سواها، تخلعُ كل ذكرياتهما الجميلة لترميها كخرقةٍ بالية.



في تلك اللحظة كانت تسكبُ ملحًا على قلبها، يقتلها الألم ولكنها تُخبر نفسها بأنّ الجُرح سيُشفى، مهما كان عُمقه سيندمل وحينها ستكون بخير، بالرغم من ان بناتها سيكونن الأثر الذي لن يزول الّا انها ستعتاد، ستعتاد العيش وحيدة، وستعيش كل تلك السنوات التي أُغتُصِبت من حياتها وستقفُ ذات يومٍ امام نفسها ولن تشعُر بالإنكسار، ذلك الإنكسار الذي كان هو سببًا فيه، لقد حاولت طويلًا ان تنسى انتهاكه لها الّا انها لم تستطيع، في كُلّ لحظةٍ تُغمضُ عينيها تشعُر بأنفاسه المسمومة على جسدها العاري، تحاولُ ستر نفسها وهي ترمق عينان غريبتان عن عيني زوجها ولكنها لا تستطيع، تتذكر همساته القذرةُ كأسطوانة مُكررة لتستيقظ فزعةً من نومها تتحسس جسدها لتُدرك انها ليست عارية ولكن ثمّة شيئٌ بداخلها قد كُشِف ولن يستره ألف ثوب.

رمشت وقد اوشكت على الإختناق لتُخرِج من الصندوق الآخر زينة والدتها التي لم ترتديها مُطلقًا، اخذت تحشر الأساور الذهبية ذات الطراز القديم على يديها وارتدت عقدًا جميلًا من الذهب لتنثر شعرها بنعومة على ظهرها وتنهض حاملة بيدها فقط ذلك الصندوق الصغير، اتجهت الى الباب بخطواتٍ سريعةٍ وقبل ان تغادر الى الأبد التفتت اليه، وطالعته بنظرةٍ آسفة على حالته مدركة انه خسِر شيئًا لن يستطع تعويضه، إنها بالفعل تشعُر بالشفقة نحوه.
رمش بتفكير قبل ان تعود اليه وتحمل الصندوق الآخر هامسة بإبتسامة غريبة:
- سأعطيه لغيد بيدي، واودعها فلن نلتقي مجددا.



وخرجت هذه المرة الى الأبد، ومع خروجها شعرت بأن شيئا ما بداخلها قد تغير، وكأنما كانت تعيش بسجن موصد الأبواب وتم اطلاق سراحها اخيرا.
- أُمّي، انتظريني، سأحزم حقائبنا لنغادر سويًّا.
قالت فلك وهي تمسح دموعها مدركة بأن هذا الحل سيكون أفضل لوالدتها، لا يهم ان يتشتتن ولكن ليلى تستحق ان تستريح من هذا العناء.
- لا بأس يا حلوتي، سنذهب للتسوّق الآن، سيكون كل شيءٍ جديد بعد اليوم.

اجابتها بحنان واضافت:
- هاتفي خالكِ ودعيه يبعث لنا سيارة أُجرة وبعض النقود وانتظريني لدى ميساء ريثما اُعطي غيد المجوهرات.
- أُمّي، ارجوكِ، لا تؤلمي نفسكِ اكثر.
همست فلك بعذاب الّا ان ليلى همست بكبرياء:
- يجب ان اودعها، لا يصح ان اخرُج دون ان أُلقي عليها آخر تحيّة.

.
.

سارت نحو شقة غيد وقد شعرت بأنها قد تنهار في ايّ لحظة الّا انها وقفت لثوانٍ تستعيد انفاسها المُشتتة وارتدت اجمل ابتساماتها المُتعالية وهي تضغط على الجرس وسرعان ما فتحت لها الخادمة لتدلف بهدوء وتسأل عن غيد لتجيبها الخادمة بأنها بغرفتها وحينها لم تستطع منع نفسها من التقدُّم وهي تقول ببساطة:
- حضري لي قهوة، وانا سأذهب لرؤيتها.


وقبل ان تمنعها الخادمة كانت قد سارت نحو ذلك الممر المؤدي الى الغُرف، يأخذها جرحها نحو آخر مكان ترغب برؤيته، ولكنها يجب ان تراه، يجب ان تدخل تلك الغرفة.
قادها حدسها لفتح احد الغُرف لتصطدم برائحة آدم التي تغرق المكان، كان الألمُ بقلبها اكبر من ان يوصف الّا انّها تحمّلت وخطت بتردُد وعيناها تقسو بنظراتٍ حارِقة، شعرت بأنها ستسقُط مغشيًّا عليها ولكنّ عقلها امرها بالصمود.


نظرت للفراش المُرتّب وستارةً شفافة بيضاء تسقط عليه من الأعلى ليبدوا كأسِرّة الأميرات، اقتربت لتزيح الستار لتلمح قطعةً نسائية ناعمة مُلقاةً به بإهمال، يبدوا ان غيد تركتها وهي تبدل ثيابها، وعلى جانب الفراش كانت الطاولة الصغيرة بها كوبًا من الماء ومزهريةً صغيرةً بها بعض الورود.. وعلى علّاقة الثياب بعضًا من ثيابه البيتية، على الأرجح كان يرتديها بالأمس.


وقفت بمنتصف الغرفة وعادت لتنظر لذلك الفراش فتزداد القبضة المؤلمة ضغطًا على انفاسها، تتخيّلهما قبل بضعة ساعات، ينامان سويًّا وعلى المهد الصغير بجانبهما يغفو ابنهما، يحتضنها على الضوء الخافت، يُقبلها ويهمسُ لها بكلمات الغرام كما كان زات يومٍ يفعل معها، يقتربُ منها... يلمسُ جسدها في تلك الثياب العارية، يشعر بالنشوة من مجرد نظرةٍ منها وربما يخبرها كم هو تعيسٌ مع زوجته الأولى وكم تختلفُ هي عنها.
وضعت يدها على فمها بتقزُز وهي تتخيل كم ضحكا ذات يومٍ عليها في اوّج لحظاتهما حميمية وهو يقارن بينهما.


التفتت للجهة المُقابلة لتلمح صورتها في المرآة، كم بدت مُخزيةً بطريقة مُثيرةٍ للشفقة.. مسحت دموعها بعنفٍ وهي توبخ نفسها لتدخل غيد الغرفة في تلك الأثناء تحمل ابنها وهي تهتف بسعادة:
- ها قد اتى بابا يا حبيبي...
فغرت شفتيها بصدمةٍ وهي تتفاجأ بوجود ليلى التي قالت ببساطة:
- مرحبًا غيد، ظننتُ انكِ هنا.

ونظرت للصغير وهمست بحنان:
- يا إلهي ما اجملك.
اقتربت لتلمس خده الناعم لتشعر بغيد وهي تضمه اكثر لتقول مُبتسمةً برقّة:
- لن اؤذيه يا غيد.
الّا ان غيد همست بتوتُّرٍ ونبرتها تميلُ الى الغضب:
- ما الذي أتى بكِ الى هُنا؟ وكيف تدخلين الى غرفتي دون إذن.

هزّت ليلى رأسها بملل وهي تجيبها بهدوء:
- اتيتُ من الباب، غرفتكما جميلة بالمناسبة.
اكتست نظراتها بالجليد وهي تعود لمواجهتها تنظر لعمق عينيها وتهمس بترفُّع:
- اتيتُ لأُعطيكي هذه الهدية البسيطة بمناسبة هذا المولود.
فتحت الصندوق لتلمح لمعان عيني غيد بدهشةٍ لتُضيف بإستهزاء:
- لقد غلبتِني يا صغيرة، وانتهت اللعبة اخيرًا لذا تستحقين هذه الجائزة.


- ما هذا؟ ما الذي تقصدينه؟!
همست غيد بحيرة ولازالت عيناها تتفرّس بالذهب واللؤلؤ بإنبهار لتقول ليلى:
- لقد اصبحتُ حُرّةً من هذا الرابط الذي يجمعنا سويًّا، لم أعُد زوجة آدم.
- هل طلّقكِ حقًّا؟!
تسائلت غيد وعيناها تتسع بمفاجأة ليأتيها رد ليلى بكبرياء:
- بل انا من اجبرته على تركي.
- ليس هنالك فرق فبالنهاية قد ترككِ.
قالت بتشفّي لتهمس ليلى وابتسامتها تتسع:
- ستعرفين قريبًا ما الفرق.


وبصورةٍ مُتعمّدة افلتت الصندوق ليسقُط ارضًا لتقول غير آسفة:
- اعتذر، بإمكانكِ جمعه، إنه ذهبي الخاص الذي جلبه لي آدم طيلة فترة زواجنا، بإمكانكِ إرتدائه.
واضافت وهي تعضُّ على اناملها بتفكير:
- وايضًا ثيابي كلها بغرفتي، اذهبي وانتقي منها ما تشائين، ولكن اشُكّ انها قد تناسبكِ.

مررت نظراتها عليها بإزدراءٍ واضح ووضعت يداها على خصرها لتنظر لها غيد بأعيُنٍ دامعة وهي تغلى من الغضب والذُلّ، تشعر بالهزيمة بالرغم من فوزها، يغمرها الشعور بالدونية امام ليلى التي لم يضعفها شيءٌ بحياتها حتى وهي تعيش اسوأ لحظات حياتها لم تسمح لأحد برؤية انكسارها.
دفعت الصندوق بقدميها وهي تخرج عن الغرفة وقالت وهي تعطيها ظهرها:
- الى اللقاء يا اُمّ الصبيّ.


ركضت مسرعةً الى الخارج ولم تنتبه لإصطدمها به امام باب الشقّة الى ان امسك بكتفيها لتنتفض مُبتعدةً عنه وتهمسُ بكُره:
- ابتعد عنّي، عسى ان لا يجمعنا اللهُ بأيّ مكان.
خرجت وهي تركض على درجات السلّم بأقصى سرعةٍ وقد اختنقت من هذا المكان... تريد التنفُّس، تريد الحياة التي سُلبت منها، ولا تريد ان تنهار امام احد الّا ان بحر الذي تفاجأ بالخبر وكان سيصعد لرؤيتها تفاجأ بها تركض باكية ليجذبها بقلق فتتداعى بين ذراعيه، تبكِ بصمتٍ غير قادرةٍ حتى على رفع صوتها، تخرج شهقاتها كإبرٍ مُسننة تطعن جوفها بلا رحمة، يلفّها دوار مُفزِع فتزداد تشبّثًا بأخيها الذي سحبها لتسير بجواره الى ان ادخلها بالسيارة لتركض فلك نحوهما ليتحركا من هذا المكان.


هذا المكان الذي جائت اليه عروسًا صغيرة، لتخرج منه الى الأبد بقلبًا غير قابلٍ للحياة، قلبًا هشمته الظروف الى ان افقدته النبض.. بقسوةٍ مُتعمّدة كانت الحياة تستمرُ بصفعها دون ان تعرف سبب خطأها، ولا تمنحها الراحة لتعود لتؤلمها من جديد ولكن هذه المرّة كانت الضربة أكثر وجعًا وقطعًا ستُخلّف اثرًا لن يُمحى بسهولة.

.
.

بعد ثلاثة اشهر


يقود سيارته وقلبه يلهجُ بالدُعاء لا يريد ان يفقد الأمل بعد ان وجد خيطًا قد يوصلها اليه، فها هو مُتجهًا لتلك المدينة النائية التي تسكنها صديقتها بالسجن والتي قيل انها كانت رفيقتها الوحيدة، ربما قد تكون برفقتها بما انها لم تذهب لوالدتها.
زفر بحُرقةٍ وهو يتذكر لقائه بوالدتها، لم يستفِد شيئًا من زيارتها فقد كانت تعيش في مشفى للأمراض النفسية.


شاردة البال لم تنتبه لأيّ كلمةٍ قالها الّا انه عندما ذكر لها اسم ميرال ونوال انتابتها حالة حادّة من البكاء واخذت تهذي بكلمات غير مفهومة ولم يستطع ان يُشفِق عليها فكيف لها ان تمتنع حتى عن توكيل محامي للدفاع عن ابنتها بل اكتشف اثناء بحثه انها اتهمت ابنتها الكُبرى بالجنون لكي تسقُط شهادتها دفاعًا عن ميرال، وطالبت بالقصاص لولا ان تكفلت محامية بالدفاع عن ميرال بشراسة الّا انها لم تستطع ان تُخفف من الحُكم الذي استمر تنفيذه لعشر سنوات... يشتعلُ الألمُ بقلبه وهو يتخيلها بعُمر اصغر، بريئة، شاحبة مُلقاةً في السجن بسبب تُهمةٍ لا يجب ان تُعاقب عليها، ليته لم يمُت ذلك الحقير، لم يكن ليتوانى عن قتله لما سببه من ألمٍ لحبيبته.



- آهٍ يا غزالتي، آهٍ من هذا الألم..
همس وعيناه تمتلئ بالدموع التي باتت سلواه الوحيد في اشهر غيابها الطويلة المليئة بالإحتمالات المؤذية، وبالرغم من غضبه الشديد منها وقسمه بمعاقبتها اشدّ عقابٍ على تركها له بهذه السهولة الّا انه لا يرغب بشيءٍ سوى الإطمئنان عليها وبعدها سيستريحُ هذا الخافق الذي لا يتوقف عن النبض.

وصل اخيرًا الى ذلك العنوان، وامام باب الشقة وقف لدقائق يُهدئ من روعه قبل ان يضغط على الجرس بأنامل مُرتجفة لا تقلُّ اضطرابًا عن كل جسده.
فتحت لهُ سجى الباب ليقول بتوتُّر:
- مرحبًا انت السيدة سجى أليس كذلك؟!
اومأت اليه بهدوء ليضيف وقلبه يصرخ بوجع:
- اين هي ميرال؟! ارجوكِ دُليني على مكانها انا فقط ارغبُ بأن اطمئنّ عليها.


- بحر؟!
لم يستطع كتم شهقته الملتاعة وهو يهتفُ بتعب كمن وصل لآخر المطاف:
- انا هو... انا حبيبها.. اين هي ارجوكِ.
نظرت اليه بإعجابٍ وهي تلمحُ صدق حُبه، ترى حالته التي يُرثى لها وتدرك ان ميرال قد سلبت لُبّ هذا الرجُل بلا شك، ولم تستطع حينها ان تُعذبه اكثر فقالت بخفوت:
- هي هنا، برفقتي ولكنها الآن بالعمل، تفضل لنتحدث قليلًا.


اختضّ قلبه بشعورٍ غريب وهدأت كل خليةٍ من جسده، فتقدّم ليجلس على اوّل مقعد وقعت عيناه عليه فلم يعُد عقله يعمل، قطعًا لا يشعُر بأي شيء الآن سوى ان ميرال بخير..  ظلّ لدقائق واضعًا يداه على وجهه يهدئ من تلك الإرتجافة الخائنة التي سرت بسائر جسده، نظرت اليه سجى بإشفاق قبل ان تمدّ له كوبًا من الماء التقطه بصعوبة قبل ان يفرغه كلّه بجوفه.
- هل اجلب لك المزيد؟
همست وهي تشعر بالبهجة، فيبدوا انه بالفعل يعشق صديقتها، ولم تكُن لتتخيل كيف مرّت عليه تلك الأشهُر الطويلة.. على الأرجح قاربت ميرال ان تكمل عامًا برفقتها.


اومأ بالنفي وقال:
- يجب ان اذهب اليها بأسرع وقت، لقد علمتُ كُلّ شيء ولم أكُن لأنبذها كما توقعت.
- ثمّة شيء لم تعرفه، شيئًا لا يعرفه سواي انا وهي وهذا الشيء من واجبي ان اخبرك اياه بما انك تقبلتها بالرغم من كل ما حدث.
شعر للحظةٍ بالخوف من هذا الأمر المُخبأ الّا انّهُ اومأ بصمتٍ لتقول سجى بحزن:
- ميرال لم تقتُل احد.


اتسعت عيناه بدهشةٍ لتكمل:
- ذلك اليوم، زوج والدتها الحقير كان سيعتدي على أُختها، وهي حاولت دفعه عنها ونجحت بالفعل الّا انّ نوال اختها قد ركضت للمطبخ وجلبت تلك السكّين وطعنته بظهره.
- ميرال لم تقتُله؟!
همس وقد جفّ حلقه فجأةً لتهمس سجى بتأثُّر:
- لقد سارعت بمسح بصمات اختها وامسكت بالسكين ليُقال بأنها هي القاتلة.


- لماذا تصرفت بهذا الشكل؟ لماذا حمّلت نفسها هذا الوِزر؟!
- لأجل غيث ابن اختها، لقد ارادت ان يعيش بسلام مع والدته ولكن اختها لم تتحمل الفضيحة، انتحرت بعدها بأشهُرٍ قليلة ولم توجد سوى جثتها، حتى الصغير لم يستطيعوا انقاذه من اسماك البحر.
احتدّت ملامحه واقصى رغباته في هذه اللحظة ان يجلبها من شعرها ويصفعها الى ان تعود لرشدها وتتوقف عن كونها ساذجةً بهذه الطريقة الموجعة.
- يجب ان اراها الآن.


قال وهو ينهض لتقف سجى بدورها وتقول برفض:
- لن اخبرك بمكان عملها الّا اذا وعدتني انّك لن تفتح معها هذه السيرة ولن تخبرها بمعرفتك بحقيقة الحادثة.
- لن اخبرها، لن افعل، فقط يجب ان اراها الآن.
قالها بخفوتٍ مُعذّب لتخبره بموقع المطعم ليغادر هامسًا بكل مفردات الغباء التي عرفها في حياتها..  تلك المعتوهة الساذجة  ستكون نهايتها بسبب قلبها الطيّب الذي يظُنّ ان الحياة لعبةً وردية.

.
.

تقدم بخطواتٍ مُغذبة يمشي على جمر الهوى فيحترقُ بلذّة القُرب بعد أشهُرٍ من الوجع، ها هي غزالته ذاتها، بقامتها القصيرة التي استطالت قليلا بسبب ذلك الكعب العالي، وجهها دائم الحُزن يشعُّ بالسعادة.. عيناها مُغمضتان بشرودٍ وصوتها، صوتها والجنّة سيّان.
إنها تغنّي، بل تُغرّد كبُلبُلٍ شجيّ.

لم يدر كم بدى مُتعبًا وهو يتأملها بجنون، لقد كاد الشكُّ ان يقتُله وهو يتخيلها بأسوأ احوالها، لا يشعُر بطعم الزاد الذي ظنّ انها محرومةً منه، لا يغمضُ جفنه وهو يشعر بأنها تسيرُ في الطرقات بلا مأوى، ولكن كل ظنونه قد بائت بالفشل، وتنهيدة راحته سرعان ما تحوّلت لجمرة اشعلت قلبه الساذج، إنها هربت وتركته دون اي تبرير وها هي تعيشُ حياتها بسعادة بل وتغني ايضًا، يا لها من ظالمة.


توقّف فجأةً وكاد ان يعود ادراجه بخُذلانٍ وخوف من انها لم تُحبّه مُطلقًا الّا انها لمحته، من بين كل جموع البشر وبالرغم من الإضائة الليلة الخافتة الّا انها استطاعت معرفة عيناه التي دفعت قلبها للصراخ بشوق.

ربّاهُ كم هو مُضنٍ هذا الحُب، إنها على وشك الموت وبالرغم من ذلك تغمرها سعادةٌ تكفي الكون بأكمله، نزلت عن المنصّة تاركةً اللحن مُعلّقًا في الهواء كحالها في غيابه لتنحني وتخلع حدائها العالي الذي يمنعها من الركض نحوه لتصل اليه في ثوانٍ ولا تدري بعدها ما حدث، كل ما تذكره هو انها همست بإسمه بهُيامٍ ، ولم تدري ان جميع روّاد المكان كانوا يرون جنون الحُبّ بعينيها، واخذوا يصفّقوا لهما عاليًا وهما يحتضنان بعضهما بشوقٍ جارف.


يقتصّان من كل لحظات الفراق المؤلمة، يتمسّكُ كلاهما بالآخر بعدم تصديق الى ان سمحت اخيرًا لعقلها بالعمل وغاصت بعالمٍ آخر، رفعها حينها بحر لا يشعر بشيءٍ سوى انها هنا اخيرًا، بين ذراعيه فاقدةً لوعيها ولكن لا يهم فهي امام ناظريه، ولن يسمح لها بالفرار مرةً أُخرى، هي من ركضت اليه ولم يفعل شيئًا سوى ان فتح ذراعيه لها لتظلّ هناك الى الأبد.



بعد ساعات كانت تفتح عيناها بتردُد خشية ان يكون مُجرّد حُلم ولكن يده المتملكة المُمسكة بيدها اخبرتها انها لا تحلم، بل حبيبها قد وجدها اخيرًا، نظرت اليه بوهن لتصطدم بنظرته الباردة بالرغم من انقباض يده حول كفها، شتت عينيه بعيدًا عنها وهمس بصوته الذي يرافق احلامها كُلّ ليلة:
- الطبيب غير مُطمئن على حالتك، يبدوا انك كالعادة تُهملين صحتك.
- بحر، انا آسفة، لأنني تركتك دون وداع.

.

قالتها وهي تحاول النهوض وعيناها الباكية ترمقه بحنين ليقول بحزم:
- ستبقين هنا تحت الملاحظة الى ان تظهر نتائج التحاليل.
اعادها لتستلقي على ظهرها لتُمسك بيده تُقبّلها بندمٍ على كل لحظةٍ قضتها بعيدةً فيغمض عينيه بشدّة وقلبه يغرقٌ بذلك الألم اللذيذ، اقصى رغباته ان يضع يده على قلبها الذي يشعر بخفقاته المُرعِبة مُصاحبةً لأنفاسها المُضطربة التي تلتقطها بصعوبةٍ الّا ان حزنه يظهر بوضوح، لقد تركته وحيدًا ولم تعلم انه كاد ان يجنّ بسببها.



- بحر!
- يكفي يا ميرال، سنتحدث بكل شيء ولكن اولًا يجب ان تستريحي، وجهكِ شاحبٌ للغاية وعيناكِ غائرتان، نامي قليلًا وانا سأبقى بجوارك.
اغمضت عينيها بيأس، ألن تستطيع مواجهته دون ان تشعر بذلك الضعف؟! إنه غاضبٌ منها للغاية وهي مُتعبة من كُلّ شيء ولم تُصدق انه هنا امامها لتنهار بين ذراعيه طالبة الأمان الذي لم تشعُر به برفقة احدٍ سواه، بالرغم من كُل من حولها الّا انّهُ وحده من منحها دفئ السكينة بعد اعوامٍ من القلق.


غفت بالفعل ووجهها يستريح على كفّه وكأنما تخبره بأنها خائفة من ان تفقده مجددًا ولم يكُن هو اقل قلقًا منها، ولو كان بإمكانه ربيط يديهما بقفلٍ حديدي لفعل لكي لا تبتعد عنه ابدًا.
جلس على الكرسيّ المجاور لفراشها واراح رأسه بجانبها مستمعًا لأنفاسها المُرهقة وهي تستريح اخيرًا ورائحتها البريئة تُنعش روحه بسعادةٍ غامرة، شعر حينها بعينيه التي تحترقُ من الأرق الطويل ولم يعلم متى راح في سُباتٍ عميقٍ ويده على خدها، قلبه بين اضلُعها، وروحه تسكن بداخلها الى الأبد.



عندما جائت سجى ورأتهما بتلك الهيئة انسحبت على الفور لتتركهما ينالان الراحة التي افتقدها كلاهما، وحينها فقط شعرت بالندم لأنها كانت تطلب من ميرال نسيان هذا الرجُل والبدء من جديد برفقة خليل الذي وجدته امامها يبدوا على ملامحه الريبة لتقول له بأسف:
- هذا الرجل يكون حبيبها يا خليل، يبدوا ان كلاهما لا يقوى على البُعد.
اومأ خليل بهدوء وتسائل بحرج بالغ وقد شعر بأن وجوده الآن بات غير مرغوب فيه:
- هل هي بخير؟


اجابته بيقين:
- ستكون بخير بما انه عاد لحياتها.. انا اعتذر يا خليل، لم علم انها تعشق بحر لهذه الدرجة.
اومأ بالرفض وهو يقول بنبرة باهتة:
- لا شيء يدعوا للحزن، يكفي ان تكون سعيدة، فميرال تستحق ان تعيش حياةً رائعة.
واضاف بداخله:
- ولكن ليس برفقتي.
نظر الى سجى وهمس بمرح:
- بما ان بطلها قد عاد اخيرًا سأذهب انا، فوالدتي لن تنام قبل تطمئن لوجودي.


ودعها مغادرًا حياة ميرال الى الأبد داعيًا لها بالسعادة التي تستحقها ولكنها ستظلُّ بداخله كحُلمٍ جميل، لن ينسى صوتها ابدا، ذلك الصوت المليئ بالعشق، سيظل يسمع اغانيها التي كان يسجلها خلسة ويشعر بالأسف لأنها لم تكُن من نصيبه.
- انا ايضًا ذاهبة الى البيت، فقد تركتُ الصغير مع والده، وميرال لن تستيقظ الآن، سأعود لها صباح الغد.
- إذن فأوصلك بطريقي.
قالها وهما يغادران ولم ينسى ان يضع مبلغًا من المال بالمشفى بالرغم من رفض سجى الّا انّه اخبرها ان ميرال صديقته مثلها تمامًا ولم يكُن ليتأخر عليها اذا احتاجت للمساعدة.



بينما بالداخل كانت ميرال تنام بعُمق دون ان تشعُر بما حولها يعود ذات الحُلُم الغريب ليتكرر عليها، ترى بلال ينظر اليها مُبتسمًا وتطالعه هي بحنانٍ وبحر بجوارها، لا تعلم تفسيرًا لهذا الحُلُم الّا انها تستيقظ منه دومًا وهي تبتسم، وكأن روحًا غير مرئيةٍ تربت على قلبها الحزين، ولكنها اليوم عندما استيقظت بأولى ساعات الصباح كان مصدر امانها وبطل احلامها يرقدُ بجانبها، يجلس على الكُرسيّ ورأسه بجانب رأسها، يحتضنها بيده غير سامحٍ لها بالتحرُّك وكأنما يخشى فرارها من جديد.




مررت اناملها على شعره المتمرد وابتسمت بعشق، يا إلهي! إنه بالفعل معها اقرب منها لنفسها، كما كان دائمًا منذ ان عرفته، مهما حاولت نكران ما يربطها به الّا انه ومنذ اللحظة الأولى التي اصطدمت فيها بعينيه ادركت انه قد اسرها الى الأبد.
- صباح الخير آنستي، كيف حالكِ اليوم؟ أتشعُرين بأي شيء؟!
دلفت الطبيبة ليستيقظ بحر على صوتها وهي تجيب بخفوت:
- اشعُر ببعض الدوار، وقلبي..قلبي يخفقُ بصورةٍ شديدة الى درجة انني اعجزُ احيانًا عن التنفُّس.





نهض ليطالعها ولا زال النعاس يسكن عينيه، واقترب ليمسك بيديها والطبيبة تقول لها:
- هذا لأنك مُصابة بفقر دم حاد، وقلبكِ بدأ بالتأثُّر ولكن ستزول كل تلك الأعراض مع اهتمامك بتناول الدواء، وايضًا الإلتزام بنظام غذائي صحي.
ونظرت الى بحر مُضيفة بإبتسامة:
- انتَ زوجها أليس كذلك؟!
اومأ وهو يجيب بقلق:
- انا خطيبها، هل هنالك خطر على حياتها.


- لا يوجد خطر فقط بعض الإرشادات وستكون بأفضل حال، وايضًا لا يجب ان تُجهد نفسها بأي صورة، ويُفضّل ان تأخذ عطلة من عملها اذا كانت تعمل.
اجابت الطبيبة وهي تكتب لها الأدوية وتخبرها بإمكانية المغادرة ليخرج بحر بغية آنهاء الإجراءات.

.
.

وصلا الى شقتها الصغيرة التي استأجرتها قبل بضعة اشهُر لتعتذر سجى وتذهب لبيتها بينما جلس بحر على احد الأرائك القديمة لتتقدم وتجلس بجانبه، تنظر اليه بشوق بينما يتضخم الحنق بداخله وهو يهمس بخفوت:
- لماذا! لماذا اخترتِ الهروب بدلًا عن المواجهة؟
- لأنني أُحبُّك.
هتفت بنحيبٍ تواجه نظراته المُشتعلة بالغضب واردفت بحُزن:
- لم أكُن لأتحمّل ان تكرهني، لم استطيع ان اخبرك...
- انّكِ سُجنتِ لعشر سنوات لأنك قتلتِ زوج والدتك؟


هتف بجنون وهو يمسك بساعديها هادرًا وقلق كل الأشهُر الماضية يتفجر امامه وهو يراها بألف خير، لم تمُت مُتجمدةً من البرد ولم يتم اغتصابها بأحد الأزقّة الضيقة... بخير لدرجة انها تملِكُ بيتًا وعملًا..  بل وتغنّي بصوتها الذي لم يسمعه مُطلقًا لتُسلّي رواد المكان وهو يموت من الخوف عليها.
- لا يهمني ابدًا ما كنتِ عليه.. كنتُ على استعدادٍ لأكون بجانبكِ طوال حياتي.. امنحكِ اسمي وقلبي وروحي ولكن ماذا فعلتي؟! هربتي في الليلة التي تمنيتُ فيها ان تكونين زوجتي الى الأبد... هل شعرت للحظة بمقدار ما اقترفته من جنون؟!

ازدادت دموعها وقلبها يتمزقُ ألمًا وهو يهتف بوجهها بحرقة:
- استيقظتُ لأجد رسالةً باهتة غبيّة تخبرينني فيها انّك لن تسطيعين ان تمنحيني قلبك المعطوب وان لا ابحث عنك.
نفض يداه عنها لينهض واضعًا يداه على شعره يشدّه بجنون قبل ان يعود ليجذبها لتقف امامه بضعف ويهمسُ بحدّة:
- من اخبركِ انني اريدُ اكثر من ذلك القلب؟ لقد عشتُ طوال حياتي ابحث عنه لاجده بين أضلُع فتاةً جميلة غبيّة دامعة العينين تظُنّ بأنها لا شيء بالرغم من انها...



صمت لا يجد التعبير الموافق لما يراه امام عينيه ليجدها تهمهم بخفوت فيعقد حاجبيه هامسًا بغيظ:
- ماذا تقولين؟!
لم تدري انها كانت تتشبّث بيده عندما احنت رأسها بخزي وهي تعيد تساؤلها بنبرةٍ اكثر خفوتًا:
- انني ماذا؟ كيف تراني بعد كل ما عرفت؟!
وعندما لم تسمع ردّه ازداد تدفُّق دموعها فقالت بيأس:
- إذن لماذا اتيت؟ لماذا بحثت عني طوال الفترة السابقة؟ اتيت لتوبخني لأنني لستُ سوى كاذبة أليس كذلك؟


شعرت بأن خصرها سيحملُ علامة زرقاء من شدّة قبضته التي جذبتها نحوه بهمجيّة لتصطدم بصدره ولم تكد تفغر شفتيها بشهقةٍ مُتفاجأة حتى امتلك فمها بقُبلةٍ طال انتظارها، قُبلة اجابتها عن كل تساؤلاتها وارسلت نبضًا عنيفًا لقلبها البريئ، تغمض عينيها واناملها تقبضُ على قميصه بإرتجاف، يهتزُّ العالم من حولها ودوارًا غريبًا يجذبها لتزداد تمسُّكًا به، تستلم لهُ بضعف جائعٍ بينما يسلبُ انفاسها بلا هوادة.
- اتيتُ لأفعل هذا!


قالها بصوتٍ مليئٍ بالعاطفة وهو يبتعد فجأة لتشعر بأن روحها تتبعه وقلبها يهتفُ بإسمه ليعود مرّةً أُخرى، يحملها عاليًا ليودع بقبلاته شوقًا وخوفًا وعشقًا لم يعترف به، عشقًا لو وُزِع على اهل الأرض لأمتلئت بالورود.
صوت هاتفه بدى كصافرة إنذارٍ مُزعجة دفعته لتركها لتبتعد عنه وقد داهمها دوارٌ عنيف جعلها تجلس بتعثُّرٍ على الأريكة وهي تخبئُ وجهها عنه لم تُصدق انه قبّلها بالفعل.


اما هو فقد ظلّ واقفًا بمكانه يطالعها وقلبه على وشك السقوط من بين اضلُعه، لا يدري ماذا يفعل.. مشوّشٌ الى درجة رغبته بأن يحملها بين ذراعيه الى اقرب مأذون ليعود ويكمل شعوره بتلك الموجات العالية التي تطوّحُ بقلبه.
ظلّ هاتفه يرنّ بإستمرار ليخرجه هامسًا بعُنف:
- نعم!  ماذا حدث يا فلك؟!
لم يبدوا منتبها لأي مما قالته ابنة اخته ليقول بنبرة حاول جعلها حازمة:
- سأعود يا فلك، لا تقلقي انا بخير، لن اتأخر، مساء اليوم سأكون معكم.



اغلق الهاتف وقد كانت تنظر اليه بلهفةٍ خفيّة وجهها متورّدًا، ليجلس على ركبتيه امامها، يتأملها بشغف، وجهها قد عادت اليه نضارته وشفتاها مزدهرتان.. ناعمتان، عيناها تتألق بإتساعٍ بريئ ولكنهما غير مذعورتان كما كانتا دائمًا بل بدى وكأن عينيها تلمعُ بالحُب.


مرر انامله على شعرها ليزيحه بنعومة خلف اذنيها، واخرج علبةً صغيرةً من جيب بنطاله، فتحها امامها ليُظهِر خاتمًا من الألماس الخالص، وقبل ان تُبدي دهشتها وجدته يهمس بصوته المُثقل بالرغبة:
-  بالرغم من انني غاضبٌ منكِ للغاية ولكن هل تقبلين بأن تمنحيني نفسك دون هروب؟ ان تكونين امرأتي وابنتي وأُمّي؟ هل ستمنحيني الفُرصة لمداواة قلبك؟

نظرت الى عينيه وابتسمت ودموعها تأبى أن تجف، رأت بداخل عينيه ترقُّبًا وشوقًا والكثير من الخوف، خوفه ان ترفض ان تكون له، خوفًا من ان يفقدها بعد ان حصل عليها بعد عناء الّا انها لم تُخيّب ظنه، لقد اومأت ايمائةً صغيرة رآها قلبه قبل عيناه فهتف بنفاذ صبر:
- موافقة.

ازدادت ابتسامتها اتساعًا وهي تومئُ بحماس وضحكةً خافتةً تسلل من بين بكائها لتشعر بيداه ترتجفان وهو يخرج الخاتم ليضعه على اصبعها وهذه المرّة عندما احتضنها انسابت دموعه بفرح، فقد انتهى موسم عذابه اخيرا وابتدت سعادته برفقة غزالته ذات الوجه الباكي.

.
.

ذاع الخبر بسُرعة الريح، انتشر بين همسات النسوة الخافتة الى افواه الرجال، بخفوتٍ شديد تسلل الى ازقّة الحي والبيوت القديمة ليشارك الجميع في شتم آدم الذي ضيّع من يديه سيّدة النساء، إبنة الأصول التي لن يجد لها بديلًا ولو انجب مئة صبيّ.
- حسرةً عليكي يا ليلى! لقد تركها ناقص العقل وبرقبتها ثلاثة بنات، ماذا ستفعل يا تُرى؟!


همست إحداهُنّ بتعاطُفٍ لتُجيب الأُخرى وهي تُمصمِصُ شفتيها بحركةٍ تدُلّ على الضيق:
- ماذا ستفعل، سنجلس لتربّي بناتها بالتأكيد، واخيها سيتكفّل بمعيشتها فكما تعلمن هي لن تحتاج للمال مثلنا.
قفزت أُخرى وهي تُحصّن زوجها في سرّها:
- إنها لا زالت جميلة، أترينها وهي تسير بدلالٍ في السوق، لتُسيل لُعاب الرجال، من يدري ربما تخطفُ زوج إحداكُنّ.


واستمرّ الجدال طويلًا وكُلّ يدلي بدلوه وكأنما حياة ليلى مُجرد مسرحية يُشاهدها الجميع ويخمن ماذا سيحدُث تاليًّا الّا انّ ليلى لم تكُن تُعير ايّ احدٍ منهم اهتمامها، تسيرُ مرفوعة الرأس رُغمًا عن انف الجميع، تسيرُ جيئةً وذهابًا الى الأسواق، تبتاعُ ثيابًا شرقيّةً ناعمة لجهاز ابنتها، تنتقي الأثاث بدقّةٍ شديدة وبيوم الأحد عندما تنزِلُ لسوق السمك كما اعتادت دائمًا بثيابها الملوّنة الهفهافة تجد الكُلّ بإنتظارها، يتملّقها الرِجالُ بإحترامٍ زائف وتطالعها النِساءُ بحقدٍ دفين فقط لأنها غدت مُتاحة لأيّ رجُلٍ يمتك الجُرأة ليطلب يدها.


لم تكُن امرأةً اربعينيةٍ مُتهدلة الروح والجسد بل أُنثى بعُمر النضوج، تهتمّ بجمال روحها قبل جسدها ويظهر ذلك جليًّا بتلك الجاذبية الطاقية التي تشعُّ منها وتجعلها موضع الإهتمام بأي مكان تذهبُ اليه، يراها الجميعُ ايقونةً للنساء في زمنٍ مُشبّعٍ بالخضوع والإذلال تقفُ هي لتثأر لنفسها ولكُلّ امرأةٍ مثلها، لقد تركت زوجها غير آسِفة وستبدأ حياتها من جديد ولن يوجد عائقٌ امامها ابدًا.


بغرفتها ببيت اخيها وتحديدًا بذلك الحمام الذي تفوح منه عطور الياسمين كانت تقِفُ عاريةً اسفل المياه الدافئة، يمُرّ الماءُ على شعرها الطويل لتغلغل بين طيّاته الناعمة تُمرر اناملها بداخله تجذبه يمينًا ويسارًا لتتأكد بأنه اغتسل تمامًا، اغتسل من دنس آخر لحظةٍ قد تجمعها بآدم، انساب الماءُ بين نهديها اللذان ذاقا طعم الأمومة لثلاث مرات، آخرها لا زال كجرحٍ لم يُشفى، ابنتها الصغيرة التي اختارت لها اسم فداء ولكنها لم تعِش الى يوم عقيقتها، ماتت بعمر الثلاثة ايام ليظلّ حليبها مُتخثّرًا بصدرها كبئرٍ تأبى ان تجِف، كلما تذكرتها تحنُّ عليها وكأنما تواسيها بموت ملاكها الصغير.


تلمّست بطنها ترى اثر ذلك الجرح الذي غدى مُجرد خيطٍ اسمرٍ طويلٍ على جدار رحمها فتختلط دموعها مع المياه لتغسل وجهها مرارًا وتكرارًا تزيلُ اثر قبلاته اللزجة التي باتت مصدر تقزُزٍ لها، تفركُ عنقها بشدّة وتعود لتغسل منبع ألمها، موضع طفلها الذي لن تُنجبه مُطلقًا وتجلس على الأرض باكيةً بعُنف، بكاء امرأةٍ أُخِذت منها حياتها، صحتها، وقلبها وُرميت كبواقي الطعام بلا فائدة، بكت وبكت الى ان شعرت بأنها تعافت تمامًا فنهضت بتثاقُلٍ لتلفّ جسدها بمنشفةٍ كبيرة وتخرج لتجد فلك بإنتظارها، لم تعُد تملك القُدرة على فعل ايّ شيءٍ لتتجه لسريرها تسقُط فيه بتعب، تشعر بفلك التي تجفف شعرها بصمت لتهمس بإعياء:
- لقد انتهت العدّة يا فلك، وحُرّمتُ على والدكِ الى الأبد.



- لا بأس يا حبيبتي، لا بأس، نامي يا أُمّي، ستشعرين بالراحة.
قالت فلك وهي تكبح دموعها بصعوبة لتهمس ليلى وعيناها مُغمضة بتعب:
- نعم، سأنام... نومةً طويلة وسأستريح.. الى الأبد.
غفت بالفعل وابنتها تجلس بجوارها تدعوا الله بأن يزيل ألم والدتها بأسرع وقت فالثلاثة اشهُرٍ الماضية الرغم من تحسُّن حالة حور واستقرارهنّ ببيت بحر الّا انّ ليلى كانت تذبل بصورة تؤلم القلب، وكأنها زهرةً فقدت ساقيها، الّا انها ستكون بخير، كما تخبرهُنّ دائمًا، ستُحارب لأجلهنّ كما وعدتهُن.
   



.
.

تبقّت ليلتان على زفاف فلك، كانت ليلى تستعدُّ لمغادرة شقّة غيد عقب إضافة اللمسات الأخيرة للمكان، بدى البيتُ لطيفًا للغاية، ستعيشُ فيه ابنتها بسعادة مع زوجها المُحِب، على الأقل ثمّة شخصُ سيذوق طعم السعادة من عائلتها الصغيرة، حتى بحر الذي هاتفها بالأمس مُخبرًا إياها انه وجد حبيبته اخيرًا وسيعود بها الى الديار ويجب عليها ان تتقبلها





وللصراحة لم يعُد الأمر بتلك الصعوبة بعد ان شرح لها بحر كل شيء، لقد عاتبته على عدم إخبارها من البداية ولكنها عذرته، فبالسنة السابقة لم تكُن تدري بما حولها، لم تنتبه لأي شيءٍ في الدنيا سوى لحزنها.
تنهدت تزيل عن رأسها افكارها المُتعِبة لتبتسم وهي ترى اسم حور على شاشة هاتفها لتسمع وتها المتذكر الرقيق يقول:
- امي، لقد تأخرتِ، نحن ننتظركِ لنتناول الغداء سويًّا.
- لقد خرجت للتوّ عزيزتي، لن اتأخر، اخبري فلك ان تحضر لكِ كوبًا من العصير ريثما اصل.




قالتها وهي تغلق باب الشقة وتخرج للطريق واغلقت هاتفها ما ان لمحت غيد تسير ناحيتها تجر امامها عربة الصغير، لم تُعطيها اي اهتمام وهي تسيرُ بجوارها وقبل ان تتخطاها وجدت غيد تقول بمكر:
- مباركٌ زفاف فلك، اخبرني آدم انه سيكون بعد غد.
التفتت اليها لتهز رأسها بإيماءةٍ صغيرة قبل ان تقول غيد بعبوس:
- صِدقًا هذه الدنيا صغيرةٌ للغاية، من يظُنّ ان الفتاة وأُمّها ستحملان ذات القدر.




بدت ليلى تفقد هدوءها فهتفت بحدّة:
- لما التلوّي كالأفعى، قولي حديثكِ مُباشرة فليس لديّ وقتٌ لسماع تراهاتك.
- لا بأس، انا فقط اردتُ ان أُخبركِ ان زوج ابنتكِ المُنتظر كان واقعًا بغرامي، قبل ان يخطفني منه آدم.
رأت حينها نظرةً انعشت روحها، نظرة دهشة مُختلطةٍ بالحسرة والحزن، نظرة انكسارٍ رأتهُ اخيرًا بعيني ليلى لتبتسم بإنتشاءٍ وتهمس بداخلها:
- من يضحك اخيرًا، يضحكُ كثيرًا.
ومن الجانب الآخر كان احدهم قد سمِع حديث غيد، فأشتعلت عيناه بوميضٍ خطير...



..........................................

فصل اطول من المعتاد اتمنى ان ينال اعجابكم.

بالطبع تم كشف حقيقة ميرال كاملة ولكن بحر الى الآن لم يصارحها بأمر بلال 

ماذا تتوقعون ردة فعل ليلى على معرفة علاقة عزيز وغيد؟!

ومن سيكون الشخص الذي سمع حديثهما؟!


حور وجلال وكمال لم يظهروا هذا الفصل ولكن بالفصل القادم سيكون هنالك إضاءة حولهم وسنعرف المزيد عن حالة حور..

تبقى فصلان على النهاية سأسعد بمعرفة توقعاتكم للأمر


مع حبي  ❤❤❤


فايا 
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي