الفصل السادس والعشرون

قالت ذلك بحماس ، ناسية للحظات ان فيلبا ايضا أكرهت على الزواج مثلها، وتابعت:
" هل يمكنك أن تحبي رجلا أجبرت على الزواج منه؟ ."
ضحكت فيلبا بالرغم من جدية الموقف ، وقالت:
لقد فعلت يا ساندرا ، وأنت تعرفين."
" نعم، نعم ."....
أحست ساندرا بأنها كانت بلهاء، فسكتت برهة ثم اضافت:
" اقصد أن وضعي يختلف عن وضعك تماما ."...
تدخلت فيلبا وقالت :
قد يختلف في بعض النواحي ، لكن لا بد وأن يكون هناك تشابه ، عل اية حال ،

سأعيد عليك السؤال : هل تحبين زوجك؟".
" لا ."

هزت راسها وهي تضيف أنه من المستحيل أن تحبه .
" حسنا ."
ونظرت في عيني ساندرا طويلا ، ثم قالت:
" أريد أن أسالك سؤالا آخر ، لو سمحت؟ ."
" نعم بالطبع تفضلي."
هل تكرهين باريس كما كنت تكرهينه في بدء زواجكما؟ ."
لم تجب ساندرا ، فهي تحس أنه حدث تغيير في مشاعرها نحو باريس ، اما فيلبا فقد

إبتسمت ، وعرفت الإجابة على سؤالها من سكون رفيقتها ، ولكن ساندرا بعد لحظة من

التفكير قالت:
" إنني أعترف أنني كنت أكره باريس في البدء ، ولكنني بالتأكيد لا أكرهه الان ."
أنت تشفقين عليه؟ ."
سالتها فيلبا بعفوية ،وكأن الفكرة ساورتها في تلك اللحظة .



" نعم ، إنني أفعل ، وكما اخبرتك أنه فقد ابنه الصغير بطريقة مرعبة ."

" ومن الغريب انه لم يذكر لك هذا الإبن ابدا!."
قالتها فيلبا وكأنها تسألها :
" أحس أنه لا يحتمل التحدث عنه
نعم هذا صحيح، مع انني اعرف انه يفكر فيه كثيرا ."
" كيف تعرفين ذلك؟ ."
سألتها فيلبا
فأجابتها موضحة :
" من الكآبة التي تبدو عليه ، من الحزن العميق الذي يطل من عينيه، فهو يطيل


التفكير ونظراته ترمي الى البعيد البعيد ."
برهة صمت مضت ، قطبت ساندرا حاجبيها خلالها ، ثم قالت:
" أنني أحس بانني الملومة دائمًا ، فلو انني تزوجت منه ، منذ ذلك الحين ، لما حلت عليه كل

هذه المصائب، حتى هو يراني كذلك ."

" هذا صحيح ، ولكن من أين لك أن تعرفي ذلك ؟ فقد كنت في ذلك الحين حرة
تختارين الحياة التي تريدينها ولست مسؤولة عما يحدث بعد ذلك."
" نعم ، ولأنه كان لي حرية الإختيار
، احس الآن بالذنب ، ما ضر لو أنني أخترته؟."
" أظن انك أسأت الإختيار ".
أحنت ساندرا راسها دلالة الموافقة.
" انا.... أنا ."...
وإنقطعت عن الكلام ، غير قادرة على إختيار الكلمات التي يمكن أن تعبر عن

مشاعرها في تلك الدقيقة ، فقد كان صراع عنيف يعتمل في نفسها ، بدت آثاره على

وجهها ولاحظت فيلبا ذلك، فقالت:
"ما بك يا ساندرا؟ ."
" إنني اسأل نفسي عن حقيقة ما أحس به نحو باريس."
" وهل خرجت بنتيجة جلية! ."
" في الواقع انه الإشفاق ما احس به نحوه ."
قالت ذلك هامسة وكأنها تكلم نفسها ، وهي تتطلع بنظرات غائمة من غير أن ترى

شيئا ، تتطلع نحو البحر ، وجزره العديدة ، الى الأفق البعيد ، ثم تابعت بنفس

الصوت الهامس:
" إنه.... إنه لا يمكن أن يكون الحب ."!

إلتفتت نحو فيلبا لتلاحظ ملامح الحنان بادية في عينيها وهي تبتسم وتمتم بلطف:
" إنه الحب.... إنه الحب يا عزيزتي ساندرا! ."
إحمرت وجنتا ساندرا، كانت تريد ان تتهرب من نظرات فيلبا لو إستطاعت الى ذلك

سبيلا ، فقالت:
" هل رأيت زوجي؟."
هذه هي الكلمات التي تمكنت من قولها ، وكانت إبتسامة فيلبا أقرب الى

الضحك ، وهي تجيب :
" لقد قلت أنه لا يمكن لإمرأة صحيحة العقل أن تقع في حب رجل خال من الجاذبية

مثله ، اليس كذلك؟ ."
" تماما ."
وعاد اللون يتسرب الى وجهها شيئا فشيئا ، وهي تستمتع لما تقوله فيلبا:
" وقد قلت أيضا انه كان يوم عرفته أجمل رجل قابلته في حياتك او يمكن أن تقابليه،

أليس كذلك؟."
" نعم ، لقد كان ، لكن أنظري اليه الآن ، فهو مخيف في أكثر الأحيان
."
" أظن أنك تقصدين ان إمارات مرعبة تبدو على وجهه."
قالت ساندرا
" نعم، يصبح قبيحا للغاية عندما يغضب ."
لا تدري ساندرا لماذا كانت تتكلم عنه بهذه الطريقة ، ولا شك أن كل همها كان أن

تحارب فكرة حبها له ، وتقنع نفسها أنه من غير الممكن أن تقع في حب رجل كهذا ."
" ساندرا ، ليس الظاهر ما هو المهم
.”

قالت جوليا ذلك بنفس الإبتسامة العذبة التي تبدو على شفتيها، واضافت:
" انا نفسي إكتشفت ذلك .".....

وعاشت فيلبا مع ذكرياتها فترة، ولما افاقت من شرودها ، غيّرت موضوع الحديث

، وبقيتا حتى وقت متأخر من النهار عندما كانت ساندرا تريد الذهاب بعد أن قضت

وقتا سعيدا خلال تلك الساعات مع صديقتها الجديدة .
تناول لويس طعام الغداء معهما ، فكان مؤدبا متزنا في جميع تصرفاته ، غير أن تحفظه

ذلك إختفى ، عندما أحضرت لمربية الطفل ، وتركته في الفناء حيث كان الثلاثة

يشربون القهوة بعد الغداء.

أعجبت ساندرا بالصبي الذي كان ذكيا وقد أنعم الله عليه بوجه جميل ، يشبه امه ، أما

شعره وعيناه الداكنتان فكان الشبه فيها لأبيه بالطبع و الذي ظهرت على وجهه

علامات البهجة والإفتخار في اللحظة التي جاء فيها الطفل الى الفناء وركض مباشرة

اليه وبمساعدته قفز الى ركبتيه .
لم تستطع ساندرا ان تبعد عنها التفكير بباريس وبالطفل الصغير الذي فقده ، وأغرقتها

كآبة حزن ، بينما كان لويس ينظر اليها.
" كنت افكر بإبن زوجي الصغير." قالت ساندرا ذلك لتجيب على التساؤل الذي بدا في عيني لويس
، واضافت:
" نعم أنني أعرف ، عزيزتي ."....
قاطعته فيلبا :
" ما دمت تعرف ، لماذا لم تخبرني؟." كانت علامات الإستنكار تبدو في عينيها ، مما جعل إبتسامة باهتة تظهر على شفتي

زوجها ، وقال:
" فضول النساء.... عزيز عليّ !".
كان يقصد مداعبة زوجته بتلك الكلمات ، ولما لم يجد إلا التقطيب في وجهها،

أضاف:
" ليس هذا من شانك أو شاني ، على أية حال."
كان كلامه قاطعا وضع حدا دون إستمرار زوجته في الأسئلة .
ولما عاد لويس الى غرفة مكتبه، إستأذنت فيلبا من ساندرا بضع دقائق ، تريد أن

تحدث زوجها ، تأخرت لدقائق وعندما رجعت كان التجهم يبدو على جبينها بدل الإبتسامة التي

كانت تلازم شفتيها ، ونظرت الى ساندرا نظرات غريبة فيها كلام كثير ، مما جعلها

تدرك أن موضوع الطفل قد نوقش بين الزوج وزوجته ، فقالت مستفسرة:
" ما بك يا فيلبا ؟ هل من شيء هناك؟ ."
هزت فيلبا راسها وإمارات الإستياء لازالت تلازم وجهها ، واجابت:
" لا، ليس هناك أي شيء ."
فعرفت ساندرا على الفور منع زوجته من الإفشاء بأي معلومات.

في الساعة الرابعة أحست ساندرا أنها أطالت الجلوس معها فإستأذنت ورافقتها جوليا حتى البوابة الرئيسية ، أرادت ساندرا أن تعود لسؤالها

قبل أن تودعها ، ولكن قبل ان تسأل قالت فيلبا ما جعلها تمتنع عن سؤالها :
" لا تحكمي على زوجك بقسوة ، ربما هناك أمور لم تدركيها بعد....
واشياء أخرى

هو أيضا لم يدركها. "
" ما الذي لا يعرفه باريس ؟ فانا قد عرفت ما تقصدين في الشق الأول من كلامك ،

وهو ان باريس لا يزال يحبني ، أليس كذلك؟."
هزت فيلبا رأسها إيجابا :
" نعم يا ساندرا هذا صحيح ."
" أما الشق الثاني؟."
" لا أستطيع أن أخبرك شيئا ، انه من الصعب جدا علي صدقيني ، فإلى اللقاء وعودي ثانية أنا في انتظارك دائما سعيدة بجلوسنا اليوم سويًا "
بناء على دعوة فيلبا الصادقة كانت ساندرا تحب بإخلاص أن تدعوها هي بدورها ،

ولكنها كانت تعلم انها لن تلبي دعوتها بالرغم من معرفتها بغياب باريس عن المنزل.
كانت الهواجس تدور في رأسها وهي في طريقها الى الفيللا ، تفكر فيما قال لويس

لزوجته ، ذلك السر الذي أخفته فيلبا عنها ، إن زوجها لا شك منعها من البوح به.
كم حاولت ان تجرها الى الكلام ولكن دون جدى ففيلبا كانت مصرة على الكتمان

، مما جعلها تحس بالإستياء من تلك السلطة التي كان لويس يفرضها على زوجته .
على أية حال فإن ساندرا أخيرا هزت كتفيها مذعنة للأمر وهي تعلم أن الرجل لا يحب

التدخل في مشاكل الآخرين ، واخذت تفكر فيما قالته فيلبا لها ،من ان باريس لا يزال يحبها

ولو كان يخفي ذلك ، وتذكرت عند ذلك غضبه كلما حاولت ان تسأله عن السبب

الحقيقي لزواجه منها ، فهل هذا يعني أنه يحبها بالفعل ، ولا يريد أن يبوح لها بذلك

حيال ما تبديه نحوه من كراهية ورفض دائم ؟ باريس يحبها .... ولكن ماذا عن عواطفها هي نحوه ؟ وكم ستكون الأمور سهلة لو

أن ما تحس به نحو زوجها هو الحب.
ولكنها أبعدت هذه الفكرة عن ذهنها وصارت تؤكد لنفسها أن مشاعرها نحوه لا

تزيد عن الإشفاق والتعاطف ، وأخذت تتخيله بصورته التي لا تحبها ، عملاقا يأمر وينهي ، على

شفتيه دائما إبتسامة سخرية ، مثقلا بالأحزان ، والشخص الذي كان وسيما مرحا

جذابا لطيفا راح ومضى .

ولكن كيف إنخدعت به طيلة هذه المدة؟ كيف صدقت انه يكرهها إلى هذا الحد
قالت امها لها ذات مرة : لا تغتري بالمظاهر بل أنظري الى

خفايا القلوب ، ولكن كيف يمكن للمرء أن يصل الى خفايا القلوب ؟
كيف كان يريدها أن تعرف بحبه وهو بنفسه ينكره في الاصل !!

وصلت إلى الفيلا وصعدت إلى غرفتها مباشرةً لتنغمس في التفكير أكثر إلى أن قطع تفكيرها طرقات على باب الغرفة
أذنت لها ووجدتها أولجا
" سيدتي ، هناك زائر في إنتظارك."
كانت اولجا تقف في منتصف الغرفة ويبدو الانزعاج على وجهها

فسألتها ساندرا : ما بك أولجا ؟ ومن هو هذا الرجل ؟!
" أنه الرجل الذي أتى برفقتك في البدء ."...
"هاري؟! ."!
نظرت ساندرا غير مصدقة ، وسألت بتعجب:
" هل هو من تعنين اولجا ؟ ."
" نعم هو الرجل."
كان صوت اولجا باردا وتبدو على وجهها علامات الإنزعاج ، وأضافت:
"أنه في الغرفة الصغيرة سيدتي ."
ما الذي حدث يا ترى ، ماذا يريد مني هذا الرجل بعد ما فعله معي ؟ سألت نفسها وهي

تستغرب مجيئه ،وقالت:
" سوف ادخل على الفور ، هل انتظر طويلا ؟."
" منذ ساعتين ، سيدتي ."
توقفت اولجا لحظة عن الكلام ثم تابعت:
" أرجو الا يزعج هذا الأمر سيدي ."...
قطبت ساندرا حاجبيها وهي تعبر القاعة الفسيحة نحو باب الغرفة حيث كان هاري ينتظرها

ومن قبل ان تفتحه إلتفتت الى اولجا فرأت الدموع تنزل من عينيها، فقالت:
" أنا لا أدري ما الذي جعلك تظنين ان سيدك سينزعج ولماذا تبكي اولجا؟ ."
فتنهدت الخادمة وقالت:
" لأن الرجل قال انه آت لياخذك معه ."




فتحت ساندرا عينيها بدهشة وقالت:
" ماذا ؟ لا تقلقي فسيدك لن ينزعج."
وبعد هنيهة كانت تواجه هاري في الغرفة الصغيرة الأنيقة الأثاث ، تطل على بركة

سباحة واسعة ومشهد الجبال. وقفت ساندرا شاحبة اللون وعلامات التساؤل على وجهها ، ووقف هاري ومن غير أن

يضيع وقتا أخبرها مباشرة عن السبب الذي جاء من اجله ، وهو انه آت ليصطحبها

معه ، ليحررها من الرجل الذي من أجله اجبرت على الزواج منه.
أصغت اليه صامتة حتى أنهى كلامه ثم قالت بجفاء:
" هكذا أذن جئت تصحح خطا إرتكبته ، أليس كذلك ؟ ."
هز هاري رأسه بالإيجاب وقال :
" نعم، للأسف لقد صدقت ذلك اليوناني عندما أخبرني انني سأحاكم وأقاد الى السجن بالإضافة الى
إعادة جميع الأموال التي قبضتها ثمن تلك الأرض ، فإكتشفت أن كلامه كان كذبًا ومحض من الخيال ،

أنه شخص ماكر حاذق ، على أية حال ، أعتبري نفسك حرة الان ، وسترتب أمور

الطلاق في بلدنا ، كما أنني قمت بجميع الترتيبات لأعود بك على الفور ، ومن حسن

الحظ أن باريس غائب عن البيت، علما انه لم يعد عندي فارق إن كان موجودا أو لم

يكن ، فسوف أعرف كيف اخضعه ."
سألته ساندرا لتتأكد :
" هل قلت انك وكّلت محاميا ليبحث الأمر؟ ."
قطعت ساندرا كلامها عندما أومأ بالإيجاب ، ثم تابعت:
" وذلك المحامي اكد لك ان باريس لا يستطيع ان يفعل شيئا؟ ."
" تماما ، كما قال أنني لا أخضع لقوانين اليونان."
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي