الفصل الخامس والعشرون

نهضت بعنف فإرتطم رأسها بحافة السرير لتتأوّه بألمٍ بينما هتف جلال بقلق:
- ليلى! ماذا حدث؟!
ارتبكت للحظةٍ امام صوته العميق الّا انها اجابت بغيظ:
- تحطّم رأسي.
ضوت ضحكته الخافتة جعلتها تبرمُ شفتيها بحنقٍ وهي تتسائل بحدّة:
- من اين جلبت رقم هاتفي؟! وكيف تتجرأ وتحادثني بهذا الوقت؟!

- اخذت رقمكِ من حور، واتجرأ لأنني سأكون زوجكِ عن قريب طبعًا بعد ان انال موافقتكِ.
اجابها بثقة لتهمس بجنون:
- لقد اخبرتُكَ مُسبقًا، انا لا اريد ان اتزوّجك، يكفي الى هذا الحد وتوقف عن التواصل مع ابنتي.
اغمض عينيه يتشربُ صوتها بشوقٍ مُهلِك ليُردِف بوداعة:
- ولكنني أحببت حور، واريدها ان تكون ابنتي، لا يمكنكِ ان تكوني بهذه القسوة وتبعدينني عنها.


لم تدري لماذا شعرت بالحُزن يتسرب الى قلبها من نبرته الهادئة الّا انها اجابته بحدّةٍ غريبة:
- وهل تريد ان تتزوجني لأنّك احببت ابنتي؟! هل يبدوا لك الأمرُ منطقيًّا؟!
ابتسم قليلًا وقال وكأنما يخاطِبُ طفلةً مُتمردة:
- انا ادافع عن حقي بتبنّي حور معنويًا، اما امر زواجي منكِ فقطعًا لا يرتبط بالصغيرات، وإن وافقتي على لقائي حينها سأُخبركِ بالمزيد عن حياتي واسباب طلبي للزواج منك.


- لا يمكننا ان نلتقي ألا تعلم وضعي؟!
همست وهي تقضِمُ اظافرها بتوتُّر وقد بدت للحظةٍ تائهة لا تدري ما تفعل وتحول فجأةً رفضها القاطع له لفضول عظيم لمعرفته عن قُرب، لتجده يهمس بالمُقابل:
- ما به وضعكِ يا غالية؟! انتِ لستِ اوّل امرأة مُطلقة تجلس في مقهى مُحترم لتلتقي مع خاطبٍ يريدها زوجةً له، كُفّي عن القلق.


لقد اراد ان يُبسّط الأمر ولكنه ضغط على جرحها دون ان يدري، فتلك الكلمة البغيضة التي وُصِفت بها فور طلاقها تكاد تخنقها، "مُطلقة" حروفها ذات حوافٍ سامّةٍ تُغرسُ بمُنتصف قلبها، تكاد تمتنع عن التنفُّس فقط لأنها مُطلقة، لتُدرِك بأن الحُريّة التي ظنّت انها ستعيشها فور تحررها من آدم باتت حبلًا يشنِقُ سعادتها في مُجتمعٍ لا يتهاون بأعرافه.


- سأكون بجواركِ، لن اسمح لأيّ كان بأن يؤذيكي، فقط لنلتقي يا عزيزتي وبعدها سيكون لكِ حرية الرفض.
زفرت بضيق وهو يحاصرها من جديد لتهمس بتردُد:
- لن ابقى اكثر من نصف ساعة.
- كما تشائين يا "سِت البنات".
ها هو يعود ليُصيب قلبها بلقبٍ آخر، لتهمس بإبتسامةٍ هازئة:
- بالله عليك من اين تجلب هذه الألقاب؟!


اجابها بعُمق:
- إنها مُجرد تعابير بسيطة احاولُ بها التغزُّل بكِ بأدب الى ان نتزوج لأُناديكِ باللقب الذي يليقُ بكِ.
انتفض قلبها بشعورٍ غريبٍ وجملته تُرسلُ لوجنتيها باقة وردٍ أحمر لتُغلِق الهاتِف وتُفلت تنهيدةً مُثقلةً بالقلق غير منتبهةً لإبتسامةً صغيرةً ارتسمت على شفتيها لترتمي على فراشها وهي تتسائل اي لقب قد يناديها به اذا تزوجته، تغمض عينيها بسكون علّ الصباح يأتي لتُشبِع فضولها الذي يئنُّ بداخلها كطفلٍ جائع.

بينما ألتحف جلال بصوتها الشبيه بنسماتٍ بمنتصف الربيع لينام على امل لقياها، وتأبى ان تبارح خياله فتترآى بأحلامه قريبةً منه الى درجة شعوره بأنفاسها الدافئة كموجةٍ عاتية، يمرر يداه بشعرها السافر فتجلجل ضحكاتها لتُقلق منامه كالعادة، تلك المرأة يجب ان تكون ببيته بأسرع وقت، فشوقه لحنانه مُضنيًا والأدهى انّ قلبه بات مُتطلبًّا لدفء العائلة بصورة ترعبه، يريد ان يضم ليلى وبناتها اليه، يتخيل كم ستكون حياته سعيدة بجوارها، هي والتوأمتان وابنه... وكم كان هذا التخيُّل يُبدد وحدة ايامه.

.
.

عندما استيقظت صباح اليوم التالي شعرت ميرال بأنها اكثر راحةً وكأن ذلك الجبل الثقيل الذي يطبقُ على انفاسها قد تساقطت عنه بضع صخرات فخفّ عنها الحِملُ قليلا، عيناها الناعستان اصطدمتا بنظرةٍ منه فأغمضت حدقتيها بشدّة واحداث الأمس المأساويّة تمُرُّ بخيالها بصعوبةٍ وتشويش كمخمورٍ يحاولُ تذكُّر حماقاته الى ان شعرت بأت قلبها يتمزّقُ وهي تفطن للحقيقة المُخزِية، لقد اخبرته بالأمس بأوّل كوابيسها، بعد ان اثارت رغبته خوفها لتعود لأيامٍ لم تشأ ان يعرفها عنها.

- بحر!
همست والدموع تخنِقُ مُقلتيها لتفتح عينيها فتُفلت دمعتان ثقيلتان على وجنتيها ويتشوّش امام نظراتها وجهه الحنون ولكن صوته يأتيها خشِنًا، دافئًا متأوّها:
- عسى ان لا يُحرَم بحر من هذا النداء ومن صاحبته.
مسح دموعها وهو يجذبها لتغرق بتجويف عنقه لتُفلت من بين شفتيها تنهيدةً حارّة فتستسلم لعذوبة ذلك الشعور الذي يطوّق قلبها كما تفعل يداه مع خصرها النحيل لتزداد قُربًا منه وانفها ينهل من رائحته كضريرٍ يتلمّسُ الطريق بحذر.

لم تدري انه في تلك اللحظة يكبحُ نفسهُ بصعوبةٍ عن قُربها لا يرغب بأن يُخيفها من جديد بينما روحه تصرخ شوقًا لها، سيكون عذابه طويلًا الى ان يُهدئ قلبها المذعور، والى ذلك الحين يجب ان يروّض ذلك الوحش الكامن بداخله والذي يحثّه على إلتهامها دُفعةً واحدة.
- انا جائع!
همسته غير بريئةٍ البتّة الّا انها لم تفهم فحواها لتهمس بخفوتٍ خجول:
- وانا ايضًا.

- جائعة؟!
اومأت وهي تبتعد عنه قليلًا لترى ابتسامته الماكرة تتحولّ لضحكةٍ قويّةٍ جعلتها تنظر اليه بهُيام قبل ان ينهض من جوارها سريعًا وهو يقول بمرح:
- دقائق فقط وستصتفُّ امامك كل انواع الطعام المُغذية، فسأحرص على ان اعتني بكِ كما يجِب بما انّكِ لا تهتميّن لنفسك.
- بحر!
عادت لتهمس اليه بذلك الرجاء الذي يخرُجُ كالشهد من فمها ليلتفت اليها فينقبِضُ قلبه بألمٍ لذيذ ويجيبها بحنانٍ بالغ:
- سنفطرُ أولا وبعدها سنتحدث طويلًا يا غزالتي، تصرفي براحة فأنا سأكون بالغُرفة المُجاورة.

اومأت بصمتٍ ليغادر تاركًا إياها تنظر إثره بشرود، لو تركت العنان لقلبها لركضت لتتشبّث بيديه خوفًا من ان يتركها الّا انها تتمسّكُ بالقليل من تعقُّلها، تعلمُ انها آلمته بالأمس ولكنها تألمت اضعافًا وهي تبوح بتلك الحقيقة، وستتألم اكثر وهي تشاركه كل ذكرياتها الّا انها ستتعافى، ستكون بخير وهو يضمّها بين ذراعيه بعد كل انهيار، ستحرصُ على ان تتحرر من كل ذلك الألم لتمنحه حياةً جديدة خالية من الهموم.
نهضت لتغتسل من دموع الأمس، فأمامها طريقٌ طويلٌ لن يسليها فيه سوى ابتسامته التي تنتزعُ الحزن عن قلبها.

بعد وقتٍ من الزمن ترجلت للأسفل تتبّع رائحة الطعام الزاكية، الى ان وصلت الى المطبخ لتغمض عينيها بتلذُذ وهي تسرع لتفتح علب الطعام التي فاح منها بخارًا دافئًا جعلها تمدُّ يدها لتلتقط قطعةً من محشو ورق العنب تضعه بفمها لتكتشف انها لم تتناول طعامها منذ صباح الأمس، وللحظة اخذت تلتهم المزيد بشراسةٍ وهي تفتح بقايا العُلب بينما يقفُ هو مُستندًا على جدار المطبخ يرمقها بنظرةٍ جائعة، وصورتها بتلك الهيئة البريئة العفوية بدت كأشهى وجبةٍ يتناولها في حياته.

انحنت نظراته بإشفاق ولا زالت تتمثّلُ امامه صورة الطفلة التي حكت عنها بالأمس، وكم تبدوا كذلك وهي تُصدِرُ اصواتًا نهِمةً كطفلٍ يقضُمُ حلواه المُفضّلة، تأنّت نظراته نحو مظهرها الذي لم يرها به مُسبقًا، ترتدي حلّةً رياضيّةً زرقاء تُظهر نحول ساقيها والإنحناءات الجذابة صعودًا وهبوطًا بين وركيها وخصرها لتبدوا كمُهرةٍ صغيرةٍ اكثر من كونها غزالة.

بينما شعرها المُبلل -الذي حوله الماء للون العسليّ الداكن- يجول حول ظهرها بنعومةٍ ليستريح على نهايته بعفوية، وها هو يتحرك بصورةٍ ساحرة وهي تنتبه اخيرًا لوجوده، لترفع وجهها اليه وفمها مليئٌ بالطعام، غصّت فجأةً ليقترب منها ويربّت على ظهرها هامسًا بقلق:
- تفضلي!

رفع كوب الماء الى فمها لترتشف منه القليل وشعور الخجلِ يغمرها، وللحظةٍ تذكرت اوّل مرّة اكلت فيها امامه، عندما كانت متسولة وللغرابة لم تشعر بالحزن بل ضحكت بخفوت ليبتسم هو الأخر ويقول بحُب:
- بإمكاني ان اتأملكِ لسنواتٍ دون ملل وانت بهذه الصورة.

اخفضت بصرها دون ان تملك القُدرة على الردّ ليجلس جوارها وهو يضع القليل من الطعام بصحنه ويبدأ بتناوله ولكنه لاحظ انها اخفضت يداها اسفل الطاولة بحرج الّا انّه وضع الشوكة جانبًا ليعود ينظر اليها برفق، يخشى عليها من نفسه، يخاف ان ترعبها نظراته، بالرغم من معرفته انه لن يؤذيها يوما الّا ان مشاعره نحوها والتي لن يستطِع كبحها طويلًا تصيبه بالقلق، لو كان بإمكانه مسح كل تلك السنوات من حياتها لفعل دون تردد الّا انّه لا يستطيع، يريد ان يسمع منها كل شيء ولكنه خائف.. خائفٌ عليها من غضبٍ سيطفوا على ملامحه لا محال وهو يتمنى لو كان بإمكانه قتل ذلك الرجل.

- الطعام جيد ولكنه ليس لذيذًا كالذي تصنعيه.
همس ناظرًا اليها لترفع عينيها نحوه فتُجفل من عمق نظراته، تبتسِمُ رُغمًا عنها، ابتسامةً صغيرةً مُرتعِشة كحال قلبها الآن وتقول بخفوتٍ رقيق:
- سأصنع لك كل ما تريد.
اغمض عينيه وقلبه وآهةً عميقةً تخرج من قلبه الذي يهتف بوجل " لا اريد سواكِ يا غزالتي"
الّا انه همس بشجاعة:
- اريد ان امسك بيدكِ لنتخطى كل صِعاب الماضي، اريدُ ان أعرف كل شيءٍ عنكِ مهما كان مؤلما.

- انا خائفةٌ عليك، لا ارغبُ بأن تتألّم بسببي.
كانت همستها اقربُ للحنٍ حزينٍ خرج من اعماق قلبها العاشق ليُطرِب مسمعه، آهٍ من جمال تلك الفتاة ونعومة روحها التي سترديه قتيلا، كم كان من الصعب عليه ان يكبح روحه عنها في تلك اللحظة، وبالفعل لم يستطِع، لا يمكنه ذلك.. جذبها بشوقٍ الى ذراعيه لتستقر بين اضلُعه في عناقٍ قويّ وكأنه سيدمغُ جسدها على قلبه، مجرد عناقٍ دافئٍ لثم فيه رائحتها المُثمِلة كعربيدٍ يهوى الكأس، وكم كانت في تلك اللحظة لذيذةً كرشفةٍ مُحرمة، الّا انها ليست كذلك.. إنها حلاله.. زوجته.. غزالته التي سيحميها من نفسه إذا لزم الأمر.

- ستحزن.
قالتها وقلبها يستسلم للمساته ولكنه هتف بجنون:
- سنكون بخير، لا تخافي، فقط تحدثي.
مررت اناملها بين خصلات شعره مُلتهيةً عن قبلاته التي تغرقها في عالمٍ آخر، وبعد وقت لا تدرك مداه ابتعدت عنه وانفاسها تتسربُ من بين رئتيها كلهاثٍ محموم بينما تستند على ذراعيه وقد وهنت عظامها وزلزالٌ ناعمٌ زعزع كل كيانها بينما ظلّ هو يراقبها بعينان شرِستان، لا يدري كيف استطاع ان يبتعد عنها، إنها قريبةٌ منه، قلبها المرتجف كأرنبٍ مذعور ينبضُ امام نظراته المجنونة، وعيناه القاتمة ترفضُ الفكاك عن ذلك المنظر المُغري للروح، تمتّد انامله لتغلق سحّاب كنزتها بإرتجاف، ليقول بعد بضعة دقائق:
- لا تخافي.

لتهمس ويدها تتمسّكُ بيده:
- أُحبُّك.
وقد كانت في تلك اللحظة تعنيها بكل معانيها، إنها تُحبّ هذا الرجُل، وستخبره بكل شيء، وستسعى جاهدة لأن تمنحه حُبّا يليقُ به. 

.
.

خرجت ليلى بعد ان تحججت بالذهاب لموعدٍ ضروري دون ان تُفصِح لبناتها عن وجهتها تحت انظار العم جمال الذي يعرف مُسبقًا انها ستقابل جلال، فقد هاتفه بالأمس واخبرها بضرورة لقائهما وقد طلبها للزواج قبل فترةٍ بحضور بحر الّا انّ الأخير كان مُنشغِلًا بترتيبات زواجه وآثر ان يفاتح اخته عقب مجيئه.

وصلت ليلى الى ذلك المقهى الهادئ والشمس الصباحية المنعشة تظلل المكان بينما رائحة القهوة تفوح في الأرجاء، ظلّت تبحث عنه لثوانٍ الى ان وجدته، ليقفُ ناظرًا نحوها وابتسامةً رجوليّةً جذّابة تزيّن وجهه لتعود عيناه عليها بنظرةٍ شاملة، ترتدي ثوبًا اسودًا طويل، تحيط عنقها بوشاحٍ ورديّ ناعم، تستريحُ على كتفها ضفيرةً مُرتخية تنساب منه خصلاتٍ سوداء ناعمة، بينما تختبئ نهاية الضفيرة بين طيات الثوب.. طويلة كعذاب انتظاره.

تقدّمت لتقف امامه ولم تجد بدّا من مصافحة يده الدافئة التي نقلت اليها شراراتٍ غير مرئية، جلست امامه بتهذيب ليجلس هو الآخر فتشعر بالتضائُل امامه، بالرغم من طوله الذي يزيد عن طولها قليلًا وهيئته ليست ضخمة بل لهُ جسدٌ رياضي متناسق وكأنه يمارس تدريباتٍ دائمة، الّا انّ به شيئًا يشعرها بأنه رجُل، رجُل حقيقي له مكانته.

- كنت متأكد بأنّكِ ستوفين بوعدكِ.
قالها ونظراته تأبى مبارحتها لتهمس بتوتر واصابعها تتشابكُ في حركةٍ طفولية واضحة:
- إذن دعنا نتحدث دون مُقدمات، لماذا تريد ان تتزوجني؟! ولماذا بهذا الوقت بالذات؟! على حسب علمي فزوجتك قد توفيت منذ قرابة العشرة اعوام، لماذا لم تفكر بالزواج منذ ذلك الوقت؟!
صمتت فجأة وهي تشعُر بالحرج، الّا انه اجابها بتباسُط:
- إنها حزمة من الأسئلة ولكن لا بأس سأُجيبكِ عليها كلها، دعينا نبدأ من البداية.

تفرّس في ملامحها وهو يكبح انامله بصعوبة عن إبعاد تلك الخصلات المشاكسة الى ان مرّت اصابعها ذات الطلاء الأسود بنعومةٍ لتزيحها خلف اذنيها، وفي تلك اللحظة الساحرة تقدم النادل ليضع امامهما قائمة الطعام ليبتلع ريقه بيأسٍ ويقول بعد ان طلبت لنفسها قهوة:
- لا يصح تناول القهوة دون حلوى.
والتفت للنادل ليمليه طلبي قهوة وقطعتان من قالب الحلوى الشهير بالمتجر.

عندما غادر النادل وجد انه عاد لتأمُّلها من جديد، كان وجهها صافيًا خاليًا من الزينة الّا انها بدت اكثر جمالًا، وكم هاله ذلك الحزن الواضح بعينيها، للحظة طغت عليه روحٌ بدائيةٍ فلم يرغب حينها سوى بالذهاب الى آدم وتحطيم رأسه لما فعله بها.
اخرجه من شروده تبرمها المستاء ليقول مُبتسِمًا بحنين:

- لقد وُلِدتُ وعشتُ معظم سنوات حياتي ببلدة صغيرة بأقصى الجنوب، تزوجتُ امينة وانا ابن العشرين، كُنّا وقتها في ذلك العُمر رِجالًا اشدّاء، وكانت هي مجرد طفلة صغيرة، ابنة خالي، فتاةً رقيقة وطيبة القلب، انجبتُ منها ثلاث صبيان، كمال ورضا وكريم، كانت حياتي عاديّةً للغاية الى ان جاء ذلك اليوم المشؤوم.

شعر بأنّ قلبه يحترق وهو يعود لتلك الذِكرى، فأضاف بروحٍ راضية بكل الأقدار:
- ارادت امينة ان تأتي هنا لتحضر زواج أُختها، وقتها كان كمال برحلة مدرسية برفقة زملائه وانا انشغلت ببعض الأعمال وبالرغم من انني اخبرتها انّ الزواج بعد ثلاثة ايام بإمكاني إنهاء اعمالي واصطحابها هي والاطفال الّا انّها اصرّت ان تذهب باكرًا، واخذت معها قطعتين من روحي.

حمد اللهُ على مجيئ النادل الذي حجب وجهه عنها ليمسح دمعة غافلته، بينما شعرت هي بقبضةٍ قويّةٍ تعتصرُ فؤادها عندما اكمل:
- كان اصغرهما سيكون اليوم بعمر حلا وحور.
راقب عيناها تمتلئُ بدموعٍ كبيرةٍ سارعت بالسقوط على خدها ليعطيها منديلًا لتمسح وجهها وهي تتكلم بعد صمتٍ طويل:
- آسفة للغاية، لم اشأ ان اثير احزانك من جديد.
- من قال انها هدأت، انا لم انساهم للحظة، ولكنني لا املك لهم سوى الدعاء.

صمت لدقيقةٍ كاملة قبل ان يقول:
- منذ ذلك الحادث وانا فقدت رغبتي تمامًا في النساءِ الى ان رأيتكِ.
تفاجأت من جرأته فإنعقد حاجبيها ووجنتاها تعلوهما حرارة الحياء الّا انه شرح موضحًا:
- لم اقصِد المعنى الحرفي.
اراد ان يوضح فأفسد الأمر اكثر ليعبس بإرتباك بينما قالت ليلى تربت على جبينها تخفي ضحكةً كادت ان تفر من بين شفتيها:
- ارجوك تخطىّ هذا المقطع.

- انا اريد ان أُنشيء معكِ عائلة، اريد ان اشعُر بدفء وجود احدٍ بحياتي، صدقيني ليس هناك ما هو اسوأ من معايشة الوحدة.
همس برجاء وكل كلمةٍ منه تصل لقلبها مباشرة، لا يمكن لأحدٍ ان يفهمه مثلها، إنها تُدركُ تمامًا معنى حديثه، فبالرغم من ان طلاقها لم يتعدى ستّة اشهُر الّا انّ الوحدة تنهشها، فقد شعرت بها منذ زواج آدم، وحدةً قاتلة بالرغم من وجود الجميع، حتى آدم كان في معظم الأوقات برفقتها الّا انّ ذلك الصعيق الذي شعرت به منذ رؤيتها لغيد لم يزول ابدا، وادركت انها ستظلّ وحيدة منذ تلك الحظة الى الأبد.

- وهل ابنك موافِقٌ على تِلك العائلة؟!
برق الأمل من حديثها ليقول بلهفة:
- كمال هو من اصرّ على ان الاحقكِ.
ارتفع احد حاجبها بدهشةٍ ليقول بتوتر كطفلٍ مُذنِب:
- اقصد، انني فقدت الأمل عقِب رفضكِ لي وهو حثّني على المُحاولة من جديد.
وعاد ليقول بتلجلُج:
- بحياتي لم أكُن بهذا التوتُّر، انا بالحقيقة اعرف تماما كيف اكون مُتزِنًا بكل تصرُّفاتي الّا انّ الأمر معكِ مُختلف.

اسبلت جفنيها بحركةٍ انثويّةٍ فتّاكة بينما كان قلبها يترنّح بذهول، ومجرد كلماته تجعلها تشعر بأنّها مُراهقة صغيرة تتعلّمُ خبايا الحُب لأوّل مرّة لتجد لسانها يهمسُ دون ارادتها بإرتباك:
- بناتي لن يوافِقن على هذا الأمر.
حينها رقّ قلبه عليها لدرجة انّها شعرت بدموعها ستنساب من عينيها، ليقول بلُطفٍ مسّ اقصى عُمقٍ بقلبها:
- بناتكِ يُردنكِ سعيدة، وانا لن أُخيّب املهُنّ، سأمنحكِ قلبي وروحي وكل حياتي.

شعرت بأنّ كلماته ترهقها، تُشقِقُ تلك القِشرة الصلبة التي حاولت ان تحيط بها قلبها، هذا الحنان الذي يعاملها به يجعل منها ضعيفة، يُظهر روح امرأةٍ بداخلها تهفوا لهذا الدفئ، وبذات الوقت تخافُ من ان يكون مجرد رجُل يُطلِقُ اكاذيبًا وردية ليستقلّ ضعفها وتُصدم بعد وقتٍ قريب، حينها ستموت.. يكفي ما نالها من آدم، لن تتحمّل خيانةً أُخرى.
- انا اعتذر، لن استطع الموافقة عليك.

قالتها وهي تستعد للمغادرة وقد حسمت قرارها وارادت الهروب بسُرعة لكي لا تجبُن الّا انه قال يقسوا على روحها المُترددة:
- لن تستطيعي ام لا تريدين الموافقة؟!
اجفلت من سؤاله ورمقته بنظرةٍ خاطفة، اخافتها عيناه المُصمِمة على نيل الإجابة لتبتعد مُسرعةً بينما ينظر اليها هو بصمت، ويهمس بعد تفكيرٍ عميق:
- إذن ساُساعدكِ لتتمكني من الموافقة يا غالية.
وكان موقنًا انّهُ التقط في ذلك اللقاء خيطًا يجذبها نحوه، خيطًا سيسعى جاهدًا ليحيله الى حبلٍ غليظ.

.
.

- عزيزتي حور، هل اخبرتكِ والدتكِ بأيّ شيءٍ عنّي؟!
بنهاية مكالمته تسائل جلال لتجيبه حور بحِيرة:
- عن اي شيءٍ ستخبرني؟ لا افهم؟
حينها قال بحُزنٍ ظاهريّ:
- هذا يعني انها رفضت طلبي دون ان تستشيركما، هل ابدوا غير لائقٍ بها الى هذا الحد؟
كان مُدرِكًا بأنّ حور هي الوحيدة القادرة على تغيير رأي ليلى، كما انّه يعرف مُسبقًا انّ الفتيات من المُستحيل ان يرفضن زواجها خاصّة بعدما استطاع ان يتقصّى عن حياة ليلى قبل طلاقها بصورةٍ غير مُباشرة ليوقع حور بالحديث فتبوح له عن حزن والدتها وكراهيتها لغيد ولأفعال ابيها.

وكان في الكثير من الأحيان يرى لهفة حور لفعل كل ما يُسعد والدتها، ويدري الآن انه يستخدمها للحصول على موافقة ليلى الّا انه لا يشعر بالذنب، حبه لليلى جعله يسلُك كل السُبُل التي قد توصله اليها.
- عمي، انا لا افهم ما تقول؟ ماذا تقصد بأنها رفضتك؟!
سؤالها جعله يجيب بلهفة:
- لقد طلبتها للزواج، ولكنها رفضت بالرغم من انني طلبتُ منها التفكير برويّة، ربما ظنّت انكما لن توافقا على الأمر فرفضت دون ان تعود اليكما، ولكنني اتمنّى ان يحدث شيئًا يثنيها عن قرارها.

واكمل بحُزن:
- لا يمكنها ان تكون بهذه القسوة بعد ان وجدتها اخيرا.
واكمل بداخله بحُرقة:
- لقد انتظرتُ انفصالها طويلًا، بترقُّبٍ مُحرّم، لا يمكنني تركها بعد ان اصبحت حلالًا لي. لن استمرّ في مراقبتها كمراهقٍ خجول بينما بإمكاني ان اجلبها لبيتي الى الأبد.
كان قلبه في تلك اللحظة يتمزّقُ ألمًا، منذ تلك اللحظة التي غادرت فيها بنظرةٍ حائرة مُترددة وهو يتقلّب على الجمر، لا يرغب بشيءٍ سوى ان يطمئنها، يزيل ذلك الخوف الذي يفترش قلبها، يخبرها انه ليس كآدم ولن يكون.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي