الفصل السابع والعشرون

أطالت النظر في وجهه ، وراته كما رأته في تلك الليلة المشهودة عندما جعلها تقدم

نفسها ضحية بأسلوبه الملتوي وطرقه اللولبية ، حتى يتخلص من الإنتقام الذي كان

يهدده به باريس.
إمتلأ صدرها بالغضب ، والإحتقار لهذا النوع من الرجال ، وقالت:
" ألا تشعر أنك جئت متأخرا؟ ."
كان صوتها هادئا متزنا ، قبل وقت قصير كانت سترحب بما يعرضه عليها اما الآن

فقد جاء الأمر متأخرا ، وأضافت:
" لقد مضى شهران على زواجي ."!
هز كتفيه ، وقد بدا نفاد الصبر في صوته.
" هذه الأمور لا يمكن إتمامها بسرعة، فهي تحتاج الى وقت ، فقد ذهبت الى المحامي

فور وصولي الى لندن ، وكنت أهنىء نفسي على تلك السرعة التي تمت فيها جميع

المعاملات."
هز ساندرا رأسها تستنكر ما يقول

" كان يمكنك أن تكتب لي تخبرني بذلك."
" في الواقع لم أكن ارغب ان أبعث فيك آمالا قد تنهار في النهاية."
أطال النظر فيها ينتظر كلمة منها ولما لم تقل شيئا ، تابع يقول:
" لا ارى على وجهك علامات الترحيب بحريتك ، وعودتك الى وطنك ، تلك الخادمة الغاضبة

قالت أن باريس في أثينا ، وهكذا يمكنك أن تجمعي ملابسك وتهيئي نفسك من غير

إزعاج هيا بنا ساندرا لقد حان الوقت "

نظر الى ساعته ، وتابع:
" المركب يغادر في غضون ثلاث ساعات ، هل نتناول الطعام هنا ، أم تفضلين أن

نرحل على الفور ، ونتناوله في كاليمنوس ؟ من جهتي أفضل أن نأكل هنا ، لأنني لا

أرغب في رؤية تلك المطاعم الموجودة على الميناء ."

وبقيت ساندرا صامتة وهاري يتكلم ويخبرها عن إفتقاده لها ، وسروره وفرحه لأنه

سيستعيد سكرتيرته الجميلة مرة أخرى في مكتبها الصغير قرب مكتبه ، وأضاف:
" كما أنني لم أقطع الأمل في أن تكوني زوجتي ، فبعد هذه التجربة لا بد انك تحبين أن

تتزوجي رجلا أكثر تحضرا وإنسانية ، وليس من المبالغة في شيء أن أسمينا باريس

همجيا ، الا توافقينني على ذلك؟."
أصغت بهدوء ، فر اللون من وجهها ، بسبب وقاحته وجراته على التفكير في الزواج

منها بعدكل الذي حصل ، عيناها الزرقاوان رشقتاه بنظرات الإحتقار والغضب ،

وتراءى لها زوجها باريس ذلك الذي عانى الكثير...والذي احبها كثيرا من غير ان

تدري ، حتى أنه إنتهج طريقة مجرمة ليجبرها على الزواج منه لكي يستعيدها مرة أخرى وبأي شكل

قطب هاري حاجبيه وسالها ليقطع تفكيرها في زوجها قائلا :
" ما بك ، بأي شيء تفكرين ؟ هل هناك ما يقلقك؟ ."
وأحست أن كل همه وكل ما يفرحه كان نجاته من السجن الذي كان يهدده وليس لعودتها كما يقول ، وأخيرا

سألت:
" ما الذي يجعلك تظن أن هنا ك ما يقلقني؟ ."

كان صوتها هادئا كما حاولت ولكن حادا ، مما جعله يقطب جبينه أكثر فاكثر ، ويقول:
" أي امرىء يراك ، يظن أن فكرة حريتك لم تعد تعنيك
" الحرية من أي شيء ؟ ."
سألته بإستهجان ،
وأجابها بنفس الأسلوب:
" من هذا الجحيم ، طبعا ."
" مدة شهرين لم تفكر في هذا الجحيم الذي تتحدث عنه ، وتركتني هنا حتى من غير

كلمة مواساة! ."
خفض عينيه ، ولاحظت أن علامات الشعور بالذنب بدأت تظهر على وجههه ،
وقال:
" خجلت من نفسي ، شعرت انني كنت حقيرا ، صدقيني يا ساندرا ." أشاحت نظرها عنه ، تفكر ، تعجب كيف يستطيع أن يصف زوجها بأنه همجي ،

ويتغاضى عن فعلته الشنعاء ، ترى كيف أمنت في يوم من الأيام أنه رجل شريف أمين

! كيف إنخدعت به طيلة هذه المدة
؟ وتذكرت كلمات أمها عندما حذرتها بقولها : لا

تغتري بالمظاهر ، بل أنظري الى خفايا القلوب ، ولكن كيف يمكن للمرء أن يصل الى

خفايا القلوب؟
على أية حال فلعل هاري يكون قد تعلم درسا لا ينساه مدى

الحياة ...

" ساندرا ."...
كان صوت هاري حادا ولكن فيه رنة ألم وهو يتكلم:
ساندرا كلميني ، لقد قطعت هذه المسافة الطويلة دون إضاعة دقيقة واحدة من

الوقت ، لأزف لك البشرى ، وأنت تقفين هكذا دون أي كلمة ."
" دون أي كلمة شكر ، أليس كذلك؟ فهل هذا ما يغضبك؟ ."
سألته ساندرا بإستهزاء واضح
رد عليها :
" لست غاضبا ."
" متعجبا إذن ، لماذا تبدو بائسا ؟."
كتم ماكس غضبه ، وتجاوز الجدل الذي لا يجدي ، وقال :
" ألا تستعدين للرحيل ، لأصطحبك الى بيتك؟ ."
إلتفتت اليه وشملته بنظرات ثابتة ، وقالت:
هذا هو بيتي يا هاري."
" بحق السماء هل تحاولين أن تقولي لي ، أنك تريدين البقاء هنا ؟ مع ذلك الهمجي." !
وأخذ يذرع الغرفة جيئة وذهابا والغضب يشع من عينيه ، ثم أضاف
:
حسنا ، أعترف أنني عاملتك معاملة شنيعة ووضعتك في موقف لا تحسدي عليه ولكنني الآن جئت لأصحح غلطتي ،

والطلاق سيتم في غضون وقت قصير لا تقلقي."
الطلاق؟
كان صوتها باردا كالثلج وهي تتكلم
( ما اللذي جعلك تظن أنني أريد أن

أنفصل عن زوجي؟."
دار هاري على نفسه وأخذ يسير وظهره بإتجاهها ، وقال:
هل جننت ؟ لا شك أنك جننت! ماذا تقولين يا ساندرا ."
" أنا بكامل قواي العقلية هاري."
إتسعت حدقتاه ونظر اليها ، ولكن البريق الذي رآه في عينيها جعله يتراجع ويقول:
" إذن ، لقد وقعت في حب ذلك الرجل ، أخيرا!."

اخذت ساندرا نفسا عميقا وهي تحس بخفقات قلبها ، وبرودة يديها هي لا تعترف لهاري فقط بل تعترف لنفسها وبصوت عالي
أكدت على كلامها واجابت سؤاله وقالت:
" نعم ، هاري "......
الكلمات جاءت بطيئة وبصعوبة ، ولكن واضحة ، صادقة، دون أدنى ريب في

مشاعرها نحو زوجها ، لقد خرجت ساندرا من دوامة الشك ، وعادت تقول لتؤكد أكثر وتنفي أي صوت للشك داخلها :
" نعم ، هاري ، كما قلت ، لقد وقعت في حب زوجي ."...
" ولكن ماذا عنه هو؟ عن عواطفه؟ ."
قال ذلك مقاطعا إياها وهو يهز رأسه ، وكأنه لا يصدق ما يسمع، ثم أضاف:
" لكنه لا يحبك ، فأي أمل لك في السعادة؟ ماذا تفعلين في نفسك يا ساندرا ؟ "

وفجاة اختفى غضبه وتحول ثانية الى إنسان لطيف وأخذ يقنعها بالعودة معه الى انجلترا

وان تخرج باريس من تفكيرها الى الأبد.
وعندما توقف أخيرا عن الكلام ، تكلمت ساندرا بمنتهى الهدوء فقالت:
" إنك تضيع وقتك سدى يا هاري
، مكاني هنا مع باريس، الذي بعد كل شيء

تزوجته بمحض إرادتي."
تدخل هاري بسرعة غاضبا :
" لا ، ليس بمحض ارادتك ! كيف تقولين ذلك؟ أنا من فعلت بك هكذا"
اجابت نفيا :
" لا ! أنا التي إخترت."
" لقد اجبرت على ذلك ساندرا"
بدت على شفتيها شبه إبتسامة ، فقد كان يبدو ان هاري نسي انه هو وحده

المسؤول عن القرار الذي إتخذته قبل شهرين ، على أية حال فقد وجدت أن لا فائدة

من تحويل الحديث الى جدال ، ولذا عادت وأكدت له أنها باقية مع زوجها ولن

تتخلى عنه ، وبعد فترة كان على هاري أن يرضخ للأمر الواقع ويرحل ، فودّعها وهو يؤكد

لها انها ستغير رايها قريبا ، وقريبا جدا.
خرجا من الغرفة ليجدا اولجا تنتظرهم بنظرات متلهفه، أومأت لها ساندرا برأسها وتركتها خلفها لتخرج هاري من الفيلا
وبينما كانا يعبران الفناء ، قال:
" عندما يأتي ذلك اليوم وتغيرين رأيك فلا تتواني عن الإتصال بي ، وسوف ارسل لك

ما تحتاجين من المال لعودتك، وليعرف زوجك أنه لم يعد له أي سلطان عليّ ،وخدعته

تلك قد إنكشفت ، وكذبه قد بان ."
لماذا سمحت له ان يستمر في هذا الكلام لا تدري ، وكل ما في الأمر أنها لم تكن تبالي الكلام لن يغير شيء

، او لعلها لم تكن تصغي اليه في الاساس، وفي اللحظة التي كان عليه ان يودعها سألته ساندرا:
" هل جئت بسيارة أجرة؟ ."
" لا لقد إستأجرت سيارة من الميناء ، وقد أوقفتها بعيدا في الممر ."
تعجبت ساندرا وسألته :
" لماذا أوقفتها هناك؟ ."
" اردت أن اصل الى البيت من غير أن يراني أحد ، وكنت أرجو ان أراك في
الحديقة مثلا "
تعني بذللك انك كنت لا تريد أن يعرف كونون بمجيئك ، وأن يتم الأمر بسرية
كاملة ، أليس كذلك؟ ."
قطب هاري حاجبيه ، وأجاب:
" طبعا لا ، لقد أخبرتك مسبقا أنني كنت مستعدا لمواجهة باريس خاصة بعدما تبينت من كذبه ."
وصلا الدرج الخارجي، ولم يعد برغبتها أن ترافقه مسافة أطول من ذلك وقفت و قالت:
" وداعا يا هاري ."
حدّق فيها طويلا ، ثم نظر الى يديها اللتين لا تزالان الى جانبيها ، وسأل:
" ألا تريدين أن تصافحيني حتى ؟ ."
مدّت يدها ووضعتها في يده مصافحة ، فهزها قائلا:
" كنت اتمنى أن تعودي معي يا ساندرا
."
لم تعلق ساندرا بشيء ولم تتأثر، فتابع يقول:
" هل انت حقا سعيدة بالحياة مع هذا الرجل؟."
أجابته ساندرا بهدوء :
" لقد عشت معه شهرين."
استنكر اجابتها قائلا :
" هذه ليست إجابة ، هل فكرت بالمستقبل؟ ."
" أنا أحب باريس ، ومستقبلي في هذه الجزيرة."

" ولكنه لا يحبك ، لقد تزوجك من أجل الإنتقام ساندرا هل تفهمين ؟ "!
" لكن ظني أنه تزوجني لنه يحبني."
" على الظن ؟ أنت إذن غير متأكدة ؟ لم يخبرك بذلك وهذا يبدو واضحا أليس كذلك ؟ "
" هاري ، من فضلك ، دعنا نقول وداعا ، وضع حدا لهذه المناقشة غير المجدية ،

آسفة لأنني لم أدعك لتناول الطعام ، ولكنني أظن انك توافقني على أنه من الأفضل أن

نقول وداعا ، وكما نوّهت قبلا يمكنك ان تأكل في أحد المطاعم ."
وبعد لحظات كانت تنظر وراءه وهو يمضي غاضبا في الممر الذي يؤدي الى الطريق

حيث ترك السيارة.
ظنت أنه سيلتفت ويرفع يده للوداع الأخير ، ولكنها كانت مخطئة . إستدارت وصعدت الدرج ، كان
ذهنها صافيا الان ، وقلبها منيرا ، أكثر من أي

وقت مضى في حياتها !!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي