الفصل السادس والعشرون

اقتحمت حور غرفة والدتها تهتفُ بحنق:
- أُمّي، كيف لك ان ترفضي الزواج من عمّي جلال؟! هل انتِ مُدرِكة لما فعلته؟!
نظرت ليلى الى ابنتها واخفضت يديها عن كومة الملابس التي تقوم بطيّها لتُجيب ببرودٍ مُغيظ:
- هل ظنّ انّه قد يستدرّ عطفي بإخبارك؟! إذن هو لم يعرفني جيدًا.
وتحولت نبرتها الى حزمٍ حاد عندما قالت:
- هاتِ هاتفكِ.
بدت حور مترددة الّا ان ليلى هتفت بغضب:
- الآن.

مدّت لها حور الهاتف بصمت لتردف:
- لا هاتف بعد اليوم، ولا اريد سماع ايّ حديثٍ عن جلال مفهوم؟
- لا، ليس مفهومًا يا أُمّي، لا يمكنكِ ان تقرري امرًا كهذا دون الرجوع الينا.
شمخت نبرة حور وهي تناطح والدتها التي سارعت بالقول:
- الى غرفتكِ يا فتاة.

- لن اسمح لكِ بأن تحتجزي نفسكِ بهذا الشكل في الوقت الذي يمكنك فيه ان تحصلي على سعادتك.
نهضت ليلى لتغادر هي بضيق بينما اقتربت منها ابنتها تتشبّث بيديها تثنيها عن الهروب قائلةً بإصرار:
- ألم تقولي انّكِ تريدين طفلًا، بإمكانكِ المحاولة، ربما لم يفُت الأمرُ بعد.
- إخرسي يا حور.. إخرسي!
الّا انها لم تمتثل لأوامرها:
- هذا ليس عدلًا، لا يمكنكِ البكاء على ابي طوال حياتكِ، هو لا يستحقّكِ، متى ستفهمين هذا الأمر؟!


- يكفي! 
كانت صرختها هذه المرّة متزامنة مع يدها التي ارتفعت عاليًا ولكنها لم تسقُط على خدّ حور، بل ظلّت معلّقة لثوانٍ قبل ان تبتعد فجأةً وتعود الى فراشها، تجلس عليه وقد اوشكت اعصابها على الإنهيار، تسقط دموعها دون ان تملك القدرة على مسحها، كان في تلك اللحظة كلّ من حلا وبلال والعم جمال قد وصلوا الى الغُرفة وسمِعا نهاية الحوار، لينظروا لليلى التي تبكي بصمت فيسحبهم العم جمال  ليتركوها وحدها وعندما رفضت حور الخروج امسك بيدها قائلًا بحزم:
- هيا، والدتكِ تحتاج للبقاء وحدها، لا تضغطي عليها يا صغيرتي.

غادرت على مضض بينما دسّت ليلى وجهها بين كفيها وانتحبت بأسى، يتضاعف خوفها وكرهها لتلك المشاعر التي تطوق قلبها، ترفضه وتعود لتتألم وحدها، تريد الموافقة من جديد الّا انّ عقلها يأبى ان يريحها، لا تعلم ماذا تفعل، فكل الخيارات باتت اكثر صعوبة.

بالأسفل كان العم جمال يخبر حلا وحور بأن جلال طلب والدتهما منذ فترة الّا ان القرار الأخير يجب ان يكون من بحر، فهو وليّ امرها، حتى لو رفضت هو من سيُبلغ جلال كما تسري العادات، وللغرابة لم يبدوا على الفتاتين اي رفض للأمر ليدرك انْ الفتيات قد رأين من والدهنّ افعالًا جعلتهما يتمنيان ان تجد والدتهما السعادة مع شخصٍ آخر.

عقِب تلك الأيام لم يكن هنالك شيئًا جديدًا سوى معرفة فلك ايضًا ومحاولتها لإثناء والدتها عن رفضها ولكن بلا فائدة، الى ان حان موعد عودة بحر وميرال، لتنشغل ليلى بتجهيز غرفتهما بوضع حاجيات ميرال التي انتقتها مُسبقًا قبل زفافها، وللغرابة كانت في قمّة سعادتها وهي تنتظر قدومهما، فسعادة اخيها بليلة زواجه جعلتها تندم اشدّ الندم على رفضها لميرال وكونها سببًا لهروبها، وما يزيد بهجتها هو ان تلك الفتاة لم تعُد غريبة، بل إنها خالة بلال، ابنها الذي لم تنجبه، والذي كانت ذات يوم لتتبناه هي لولا رفض آدم القاطع وهو يخبرها برفض:
- لن أُدخل لبيتي طفلًا ليس من صلبي.
ليقتل لهفتها يومها الى الأبد.

.
.

- ميرال، توقفي عن التصرُّف كالأطفال، ليلى لن تأكُلكِ.
قال بحر متذمّرًا وهو يجُرّ يد حبيبته المُترددة ليُخرجها عن السيارة لتقف امامه تُشبِكُ يداها بتوتُّر، ترفع نظراتها نحوه تستمدّ منه امانًا لا تمتلكه، ليواجهها بنظرةٍ مُطمئِنة، يبتسم وهو يضُمّها بحنانٍ ويهمس:
- حلوتي، انا برفقتكِ لا تنسي ذلك.

زفرت تُنظِمُ انفاسها المُجهدة وسارت برفقته الى منزلهما الذي اعاد اليها ذكرياتٍ جميلة وأُخرى مُحزِنة الّا انها تناست كل شيء وذلك الباب يُفتح امامها من جديد، لتجد ان يدها قد تشبثت به دون ارادتها ليقبِض عليها مُبتسِمًا وكأنها منحته العالم اجمع، فحركتها العفوية تلك اشعلت بقلبه مشاعر مجنونة، لا تدري انها اليوم جعلته يُدرك كم هي تحتاج اليه وكم سيسعدُ بأن يُطمئنها مرّةً بعد مرّة بكُلّ الطُرُق المُمكنة.


- مرحبًا ميرال.
همست ليلى وهي تفتح لها الباب لتخفض بصرها بسُرعةٍ ويدها تزدادُ تمسُّكًا ببحر وكأنها غريبةٌ لا تعرف سواه، واضطرّت ان تقول بنبرةٍ خافِتة:
- مرحبًا سيدتي.
ابتسمت ليلى بلُطفٍ وهي تدعوها للدخول وتصحح قولها:
- على الأرجح لن ارغب بأن اسمع كلمة سيدتي منكِ بعد اليوم.
لتُضيف مازحة:
- ربما آنستي سيكون افضل، فقد غدوت آنسة بهذا العُمر.

ضحِكت حلا وهي تجذِبُ ميرال لتحتضنها فإبتعدت يدها تلقائيًا عن بحر ولكنها لم تُرِد ذلك إذ انها إلتفتت اليه وعيناها الجميلتان تتسِعان بقلق ليهمِس لها دون صوت:
- أُحبُّكِ.
حينها فقط ابتسمت ووجنتاها تزدهران وقلبها يهدأ قليلًا.

لقد قابلت الجميع بحفل زفاف فلك وتناولت معهم العشاء بمناسبة شِفاء حور وايضًا حضر جميعهم زواجها وباركت لها ليلى ببشاشة لكنها لم تستطع الإطمئنان لموافقتها الى الآن، ولا ترغب بأن تُحدِث اي مشاكل في حياتهم فجميعا سيعيشون كعائلة واحدة بهذا البيت.
-تفضلوا بالجلوس، هل انتما ضيفين؟
همست ليلى وهي تحتضن ذراع اخيها الذي ابتسم بلُطف وهو يشاهد ميرال تسلّم على والده بينما تسائل بريبة:
- اين بلال ومثيرة الشغب؟!


اجابته حلا بسعادة:
- حور اصطحبته ليختار معها الهدية.
لتضيف وهي تخرج من كيسٍ وردي علبة صغيرة:
- لدينا عروس جديدة انضمّت الى عائلتنا يجب ان نحتفل بقدومها لبيتها.
اقتربت من ميرال واخرجت العلبة صغيرة الحجم واعطتها إياها هامسة بخجل:
- انها هدية صغيرة اتمنى ان تنال إعجابكِ.


اتسعت عينا ميرال بسعادة وهي تأخذ العُلبة وتفتحها لتبتسم لرؤيا سوارًا ناعمًا من الفضّة فتقول بإمتنان حقيقي وعيناها تلتمع بالسعادة:
- إنه جميلٌ جدًا، شكرًا عزيزتي.
ابتهجت حلا بشدّة بينما قالت ليلى بلوم:
- ألم نتفق على ان الهدايا ستُقدم بعد العشاء؟! على العموم هيا يا بحر إصطحب زوجتك لغرفتكما لتستريح ريثما يأتي موعد العشاء.

وقالت لزوجة اخيها:
- تفضلي يا ميرال، فالمنزل منزِلكِ.
شعرت ميرال بالقلق يدُبّ بقلبها من جديد وفسرت حديث ليلى بأنه رفض لها ولكن بحر لم يعطها الفُرصة وهو يسحبها لغرفتهما وما ان دلفا حتى احتضنها بحر قائلًا بسعادة:
- ألم أُخبركِ بأنّ ليلى لن تعُضّكِ، أُختي وانا اعرفها، ألست متحمسة لمعرفة هديتها؟!


ضحكت بخفّة وتنفّست الصعداء، على الأقل لم يكُن لقاءً كارثيًّا، وشردت للحظة وعبوس لطيف يزين شفتيها، حقًّا ستفتقد لياليهما الفائتة، ببيته الصغير الذي شاركته فيه ذكرياتها ومخاوفها، ولم تستطع ان تمنحه فيه اكثر من تلك القبلات التي تُثمل روحها وتخدر آلامها، اعتادت في تلك الليالي على قربه، حكاياه التي شاركها اياها، طفولته المُدللة وشبابه المشاكس، ورغمًا عنها كان قلبها يشتعل بالغيرة وهي تسمع قصصه مع الفتيات، والتي لم تدري انه اختلق معظمها من خياله ليرى تلك النظرة المجنونة بعينيها.


- بماذا تفكرين؟!
التفتت اليه، ولا زالت محتجزةً بين ذراعيه، يرفعها بخفّة لتتراقص قدماها في الهواء، تنظر الى وجهه الوسيم تمرر اناملها المشاكسة على ذقنه الخشن وتردف بقلبٍ ذائب:
- أُفكّر بأنني اشتقتُ اليك في تلك الدقائق التي لم احظى فيها بعناقك، وافكر جديًّا كيف سأبقى من دونك عندما تغادر للعمل؟!

تلقى كلماتها كظمآنٍ يرتوي بنهرٍ عذب، كم بدت كلماتها اجمل من قصائد الغزل، إنها تتعلّق به وهذه خطوة مهمة بعلاقتهما، خطوة ظنّ انها ستحدث بعد فترةٍ طويلة الّا انّ حبه فعل المُستحيل ولم يخذله، وربما ستكون له اقرب مما يظن.
- لن تبقي وحيدةً اثناء عملي، ستكونين بالجامعة يا طفلتي المُدللة.
قال وهو يضعها على الفِراش ويخرس ترددها بقلبةٍ عميقةٍ صارمة تخبرها بأنه لن يتوانى في رسم حياةً تليقُ بها، حياةً تفتخر فيها امام العالم اجمع.


عندما ترجلا على العشاء كان بلال قد عاد من الخارج، و وما ان لمح ميرال حتى سارع بالتقدُّم منها، وقف امامها لبعض الوقت يطالعها بعينيه الخضراوان قبل ان يضمها لتتفاجأ بذلك الشعور الغريب الذي تجربه للمرّة الأولى بحياتها، هذا الصبي الذي يقاربها طولًا احيا بقلبها نزعةً اموميّةً غريبة الى درجة ان قلبها خفق بعُنف مجنون، وللحظة قارنت بين عمره وعمر غيث، لو كان صغيرها على قيد الحياة سيكونُ صبيًّا من عمره.

- مرحبًا بلال.
- بل غيث...
همس بلال وعيناه تمتلئ بالدموع ويعود ليحتضنها ويقول هذه المرّة وشهقةً تُفلِتُ من بين شفتيه:
- انا غيث، ابن اُختكِ يا خالتي، بل ابنكِ انتِ.
بدت ميرال غير واعيةٍ لما حولها فإبتعدت فجأةً عن بلال لتنظر اليه من جديد ولكن هذه المرّة رأت عينان بلون العُشب، إنهما عينا نوال.. بل عيناها هي بلمحتهما المُشاغِبة، إنه سرق شبهه منها، ملامحها.. انفها.. حاجبيها، رسمة فمها.. ربّاه! إنه يزيح شعره عن وجهه بذات الطريقة التي  تفعلها.

- كيف؟! من انتم؟! كيف اخذتموه؟! انا لا افهم؟!
همست بتلعثُمٍ وقد بدأ الدوار يكتنفها ليجذبها بحر ويهمس برجاء:
- إهدأي حبيبتي، لإجلي.. انا سأشرحُ لكِ كل شيء، فقط لا تبكِ.
اخذت تنظر للجميع بضياع لا يصلها ايّ صوت بل لا ترى سوى بلال.. كيف له ان يكون غيث؟! أليس أخ بحر؟! الم يمُت ابن اُختها مع والدته؟!
- ألم تستطع الصبر قليلًا يا بلال؟! لقد اخبرتكَ انني سأُمهّد لها الأمر ليس بهذه الصورة الصادِمة.


وبّخ بحر اخيه الذي اقترب من ميرال وامسك بيدها قائلًا بلهفة:
- لم أستطِع، لا يمكنني رؤيتها والتمثيل بأنني لا اعرفها بعد ما اخبرتموني بالحقيقة.
- ايّ حقيقة، نحنُ لا نفهم؟!
همست حور بدهشة بينما فقدت ميرال وعيها ليتلقّفها بحر يطرُقُ على خدّيها هامِسًا بقلق:
- ميرال، هل انتِ بخير؟! حبيبتي افيقي ارجوكِ!


حاول ايقاظها الّا انّهُ فشل ليحملها بين ذراعيه ويهتفُ بحدّة:
- اللعنة عليك بلال! ألم أُحذرك من ان تفتح فمك؟
وضعها على الأريكة لتضع ليلى القليل من العطر على كفها وتقربه من انف ميرال بلا فائدة لتقول بقلق:
- اجلب بعض المياه...
رشقتها ببعض المياه واغرقت عنقها بالمزيد بلا فائدة الى ان همس بحر بقلق:
- حبيبتي!  ميرال، افتحي عيناكِ ارجوكِ.

غمغمت ميرال بلهفة وكأنها تستفيقُ من حُلُمٍ جميل:
- غيث! غيث!
ضمّها بحر بشدّة وهي تبكِ وترتجف بشدّة، وعيناها معلّقة ببلال الذي يقفُ بعيدًا ناظرًا نحوها.. مبتسمًا ودموعه على خده، كصورته التي رأتها ذات يومٍ بالحُلم، لتتذكر حينها كل احلامها المشوشة، لتدرك ان عينا بلال هما تلكما العينان اللتان أرقتا نومها طويلًا.


إنه غيث.. إبن نوال..  بل ابنها هي.. ابنها الذي لن يستطع احدٌ منهم ان ينتزعه منها، صحيح انها لم تحمله بداخلها الّا انها منحته حُبًّها، اجبرتها الأيامُ على ان تكون امّه وتقبّلت هي الأمرُ بروحٍ تهفوا للحُب، اغدقته بالأمان الذي لم تمنحه لها والدتها، وضعته بحدقتي عينيها واغلقت عليه، لم تكُن تسمح لأحدٍ بأن يقترب منه خوفًا عليه من كل شيء، الى ان تعافت والدته، واخذته منها، اخذت منها روحها.

ابتعد بحر ليسمح لبلال بالجلوس بجوارها، وعندما احتضنها واستنشقت تلك الرائحة من جديد اخذت تهذي بنحيب:
- إنه أبني. ابني وحدي.. ليس ابنها.. لا يمكنها ان تأخذه منّي.
- إنه ابنكِ يا حبيبتي، لن يأخذه اي احد.

همس بحر بحسرة وهو يرى انهيارها، يتجرع كأس الندم لعدم إخبارها من البداية ولكن صوت بلال طمأنه قليلا وهو يهمس لها:
- كل شيء سيكون بخير!
وحينها فقط ابتسم بحُب، فكل شيءٍ سيكون بخير، هو موقِنٌ بذلك، حبيبته ستتعافى، وستكون بأفضل حال.

.
.
بعد عدة ايام

بشقتهما الصغيرة الدافئة فتحت فلك عينيها بنعاس، لا تدري كمّ مرّ من الوقت وهي نائمة، فقد عاد عزيز من عمله باكِرًا، بل جاء خِصيصًا ليخبرها كم اشتاق اليها اثناء الساعتين اللتين قضاهما بعيدًا عنها، وكما اعتادت كان شوقه جارِفًا، كبحرٍ لا نهاية له.
- لقد غادر!


همست وهي تغمر وجهها بوسادته لتُدرك انه عاد لعمله من جديد وسيعود مساءً كما وعدها، نهضت بنعاسٍ لتدرك ان الساعة قد تجاوزت الخامسة مساءً، لقد غفت لثلاث ساعات متواصلة.. نهضت لتغمر جسدها بمغطسٍ بارد لتنعش نفسها قبل ان تسير نحو مطبخها الصغير.. ضربت يدها على جبينها بهلعٍ وهي تتذكر انها لم تُحضر العشاء، يا إلهي!  لديها ضيوف سيحضرون بعد عدة ساعات ولم تحضر ايّ شيءٍ الى الآن!



سارعت بالركض لتخرج قطع الدجاج التي تبّلتها منذ الصباح لحُسن حظها، وضعتها بالفرن وهي تخرج عدة اشياء من الثلاجة لا تدري ماذا ستفعل اولا، عقدت حاجبيها بتوتُّر وقد بدى ان دموعها على وشك السقوط، إنها اوّل عزيمة ببيتها ويجب ان تكون رائعة كما تمنّت، الّا انّ مجيئ عزيز هو ما جعلها تنسى الدنيا وما فيها، اخذت هاتفها لتتحدث الى والدتها علّها تأتي وتنقذ معها ما يمكن انقاذه.
- مرحبا أُمّي، تعالي اليّ ارجوك، اليوم لديّ ضيفان ولم أُجهِز اي شيءٍ الى الآن، ماذا سأفعل.
انهت حديثها بهتافٍ حانقٍ لتبتسم ليلى مجيبةً إياها بهدوء:
- هلّا هدأتي قليلًا يا فتاة، لأفهم ما تقولين.



بعد ان اخبرتها فلك بأن اخ عزيز وزوجته سيتناولان العشاء برفقتها قالت لها ببساطة:
- لا زال هنالك وقت، لا تقلقي، سأساعدك بالهاتف الى ان تجهزي كل شيء.
تذمرت فلك طالبة منها المجيئ فهي اكثر براعةً منها الّا انّ ليلى همست برفضٍ حنون:
- يجب ان تكوني واثقة بقدراتكِ حبيبتي، ستصنعين طعامًا لذيذًا إنها اوّل عزيمة ببيتك، ويجب ان تكوني انتِ الطاهية.


اخذت تخبرها بما يجب فعله وتساعدها وقلبها يشع سعادةً وهي ترى ابنتها الصغيرة تعيش حياةً جميلة، ولم تعُد حينها تسألها عن علاقتها بعزيز، فالبهجة المُطلّة من صوتها كافية لطمأنتها.
وكانت فلك بالفعل سعيدة برفقة حبيبها، بالرغم من انّ حياتها قبل الزواج اكثر رفاهيّةً الّا انّ هذا الأمر لم يعُد يشكل فارقًا فهما يحبان بعضهما وكل شيءٍ عدا ذلك لا يهمها يكفي ان عزيز ينظر اليها وكأنها اغلى ما يملك، يحبها ويدللها ولا يرفض لها طلبًا، هل ستتمنّى اكثر من ذلك؟!




راحت تصنع الطعام بمحبة، فعمرو وزوجته هما ما تبقى من عائلة عزيز، وهي تقدرهما للغاية.
انتهت من تحضير كل شيء بوقت قياسي لتهمس لوالدتها بسعادة:
- لقد انهيت كل شيء، شكرا امي انتِ افضل اُمّ بالدنيا.
ابتسمت ليلى وهي تواسي نفسها بعذاب:
- انا أُم، امّ ثلاث اميرات وهذا يكفيني.
ازاحت افكارها بعيدًا وقالت بحنو:
- هيا اذهبي لتستعدي للقائهما، وإياكِ ان ترتدي ثوبًا غير محتشم، لكي لا تُغضبي عزيز.



اغلقت الهاتف بينما ظلّت تنظر لنفسها بالمرآة، كانت هنالك تجاعيد صغيرة بالكاد يمكن ملاحظتها حول عينيها، وشعرها الأسود لا زال لامعًا ولكن ليس لوقتٍ طويل، فسرعان ما سيكتسي بالشيب، ربما بعد اقل من عام ستجد خصلةً بيضاء بجدائلها، جسدها ناعمًا كغصنٍ أخضر سيجفُّ مع الزمن، نظرت الى بطنها المُسطحة لتربّت عليها برفق وحاجبيها مُقترنان بشدّة:
- لا يمكن، لقد تجاوزت سنّ الإنجاب!
- ولكن العادة لم تنقطِع الى الآن.
- لقد قاربتِ على بلوغ الثالثة والاربعين.
- لا شيءٍ مُستحيل.


يا الله اريد طفلًا..
همست ودموعها تغرق وجنتيها ولا شيء قد يوازي رغبة احتياجها لطفلٍ في هذه اللحظة، تريد الاعتناء بصغير، تريد ان تحتضن طفلًا الآن.. لو لم يكن الوقت مُتأخرًا لذهبت لميساء لتأخذ ابنها وربما ترجتها ليبقى معها طيلة الليل.
لا تدري لماذا ساورها هذا الهاجس في هذا الوقت بالذات الّا انّها تريد طفلًا.
تعالى رنين هاتفها، لتجد آخر اسمٍ تتمنّى ان ترد عليه الآن الّا انها كانت مُجبرة فردّت بصوتٍ واهن:
- مرحبا، ماذا تريد منّي يا جلال!



- لماذا تبكين؟!
نبرته القلقة دفعتها للقول بحدّة:
- إذهب وتزوّج فتاةً صغيرة تُنجب لك اطفالًا، انا لن انفعك.
- انا لن اسمح لكِ بالتحدُّث عن نفسكِ بهذه الطريقة، لستِ سِلعةً ستنتهي صلاحيتها ببلوغها زمنًا معينًا، انتِ امرأة من جسدٍ وروح لا تظلمي نفسكِ مُطلقا.
هتف بحدّةٍ مُماثلة ولو كانت امامه في هذه اللحظة لن يتردد عن إخراسها بطريقته لكي لا تثير غضبه مرّةً أُخرى.



- إنها مُجرد شعارات، صدقني ستملّ بعد عدّة اشهُر، ستبغض قُربي وستتزوج بأُخرى.
كانت تتحدث بحزن وهي تدرك انها رخّصت نفسها بشدّة عندما قبِلت بوجود غيد.. ولكنها اجفلت من نبرته المُزلزلة عندما هتف بجنون:
- اخرسي يا ليلى، فقط لا تتكلّمي الى ان اصل اليكِ لأُخرِس فمكِ بقُبلةٍ تُنسيكِ ما تتفوّهين به من تراهات.
- لا تأتي.. انا لا اريدك.
- بلى، سأستلُّ موافقتكِ رغمًا عن انفكِ المتغطرس.




اغلق الهاتف بوجهها وارتدي ثيابًا مرتبة بسُرعة بينما التقط الهاتف من جديد وقال لبحر:
- سأكون لديكم بعد دقائق لأسمع ردّك على طلبي.
وعندما حرّك سيارته ارسل رسالة لإبنه يخبره بضرورة مجيئه لبيت بحر الآن.
ظلّت ليلى تنظر لنفسها في المرأة وعيناها متسعتان بشدّة الى ان سمعت صوت سيارته، وعندما اتجهت الى النافذة تفاجأت بنظرته الظافرة تعانقها بتملُّكٍ ارعد اطرافها.


عادت لتجلس على الاريكة وقلبها ينتفِضُ بذُعر، يتجمّعُ عرقٌ باردٌ على جبينها وعيناها تشردان للبعيد، لم يمضي وقتٌ طويل عندما رأت بحر يتقدم ليجلس بجوارها، يسألها عن رأيها بجلال، لتنظر له بصمت وتنتبه لحلا وحور اللتان جلستا تحت قدميها، يترجينها ان توافق علّ الله يكتب لها السعادة مع هذا الرجل.


تمسك حور دموعها بصعوبةٍ وهي تدعوا بداخلها ان توافق والدتها على ذلك الرجُل الذي عوّضها عن والدها، والدها الذي لم يمُت ولكنه فارق حياتهم منذ وقتٍ طويل، وجلال احبها بحنانٍ ابويّ كان يغدقها به والدها في الماضي، الى درجة ان يومها بات باهتًِا من دون سماع صوته، تتخيل كيف ستكون سعادتها إن تزوج والدتها، سيكونون عائلةً رائعة.
- ارجوكِ وافقي يا أُمّي، إن كنتِ تحبيننا وافقي عليه.
همست حور وهي تقبّل يدا والدتها لتقول ليلى بهدوء:
- انتظروني بالأسفل، سأُبلغه بالردّ بنفسي.



غادرت الفتاتين بينما نظر اليها بحر وقال بحنان:
- جلال رجُل ذو سمعة حسنة، ولكنني لن ازكيه امامك، سأكون داعمًا لكِ مهما كان جوابكِ.
وغادر هو الأخر لتنهض ببُطء، وتعود لتقف من جديد امام المِرآة وهذه المرّة كانت عيناها شديدتي الحسم وقد اتخذت قرارها.


صوت حذائها العالي دفعه للنظر الى الدرج، فنهض مسلوب الإرادة يراقبها تنزل كأميرةٍ على عرشها، ترتدي ثوبًا اخضر اللون قصيرًا الى ركبتيها مُظهِرًا ساقيها بوقاحة بينما وجهها شاحبًا بصورةٍ تجعل منها اكثر جمالًا، عندما اقتربت منه انتبه لتوّه لشعرها المتماوج بعفوية وكأنها عبثت فيه لفترةٍ من الزمن، ربما كانت تلاعبه اثناء حديثها معه.


جلست فجلس الجميع، ظلّت تنظر اليه لفترةٍ من الزمن بينما كاد ان يفقد صبره وهو يطالع عيناها التي يعلوها احمرارٌ طفيف جعل غضبه بتشعّب كمفرقعاتٍ نارية لتقول اخيرًا:
- انا موافقة، ولكن لديّ شروط.
- اوامركِ على العين والرأس يا هناء القلب.


حينها ارتسمت على شفتيها ابتسامةً صغيرة، ابتسامةً كانت كرصاصةٍ نفذت لقلب ذلك الواقف بعيدًا عن الجميع، جاء اليوم ليطلب الغفران لخطاياه، جاء حامِلًا كفنه لتقتل قلبه بلا رحمة وتقتصّ منه عذابًا الحقه بها دون ان يدري، هل ستكون لآخر؟! هل سينعم بحبها وحنانه رجُلٌ آخر؟! لا والله! لن يسمح لها.
- لا يمكنكِ الزواج بهذه السهولة! على جُثّتي!

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
فصل جديد اتمنى ان ينال اعجابكم.
ستكون النهاية بالفصل القادم، وبعدها بعض مشاهد للخاتمة.

توقعاتكم للاحداث القادمة؟!

مع حبي  ❤❤❤

فاي
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي