الفصل الثامن والعشرون
وعندما توقف أخيرا عن الكلام ، تكلمت ساندرا بمنتهى الهدوء فقالت:
" إنك تضيع وقتك سدى يا هاري
، مكاني هنا مع باريس، الذي بعد كل شيء
تزوجته بمحض إرادتي."
تدخل هاري بسرعة غاضبا :
" لا ، ليس بمحض ارادتك ! كيف تقولين ذلك؟ أنا من فعلت بك هكذا"
اجابت نفيا :
" لا ! أنا التي إخترت."
" لقد اجبرت على ذلك ساندرا"
بدت على شفتيها شبه إبتسامة ، فقد كان يبدو ان هاري نسي انه هو وحده
المسؤول عن القرار الذي إتخذته قبل شهرين ، على أية حال فقد وجدت أن لا فائدة
من تحويل الحديث الى جدال ، ولذا عادت وأكدت له أنها باقية مع زوجها ولن
تتخلى عنه ، وبعد فترة كان على هاري أن يرضخ للأمر الواقع ويرحل ، فودّعها وهو يؤكد
لها انها ستغير رايها قريبا ، وقريبا جدا.
خرجا من الغرفة ليجدا اولجا تنتظرهم بنظرات متلهفه، أومأت لها ساندرا برأسها وتركتها خلفها لتخرج هاري من الفيلا
وبينما كانا يعبران الفناء ، قال:
" عندما يأتي ذلك اليوم وتغيرين رأيك فلا تتواني عن الإتصال بي ، وسوف ارسل لك
ما تحتاجين من المال لعودتك، وليعرف زوجك أنه لم يعد له أي سلطان عليّ ،وخدعته
تلك قد إنكشفت ، وكذبه قد بان ."
لماذا سمحت له ان يستمر في هذا الكلام لا تدري ، وكل ما في الأمر أنها لم تكن تبالي الكلام لن يغير شيء
، او لعلها لم تكن تصغي اليه في الاساس، وفي اللحظة التي كان عليه ان يودعها سألته ساندرا:
" هل جئت بسيارة أجرة؟ ."
" لا لقد إستأجرت سيارة من الميناء ، وقد أوقفتها بعيدا في الممر ."
تعجبت ساندرا وسألته :
" لماذا أوقفتها هناك؟ ."
" اردت أن اصل الى البيت من غير أن يراني أحد ، وكنت أرجو ان أراك في
الحديقة مثلا "
تعني بذللك انك كنت لا تريد أن يعرف كونون بمجيئك ، وأن يتم الأمر بسرية
كاملة ، أليس كذلك؟ ."
قطب هاري حاجبيه ، وأجاب:
" طبعا لا ، لقد أخبرتك مسبقا أنني كنت مستعدا لمواجهة باريس خاصة بعدما تبينت من كذبه ."
وصلا الدرج الخارجي، ولم يعد برغبتها أن ترافقه مسافة أطول من ذلك وقفت و قالت:
" وداعا يا هاري ."
حدّق فيها طويلا ، ثم نظر الى يديها اللتين لا تزالان الى جانبيها ، وسأل:
" ألا تريدين أن تصافحيني حتى ؟ ."
مدّت يدها ووضعتها في يده مصافحة ، فهزها قائلا:
" كنت اتمنى أن تعودي معي يا ساندرا
."
لم تعلق ساندرا بشيء ولم تتأثر، فتابع يقول:
" هل انت حقا سعيدة بالحياة مع هذا الرجل؟."
أجابته ساندرا بهدوء :
" لقد عشت معه شهرين."
استنكر اجابتها قائلا :
" هذه ليست إجابة ، هل فكرت بالمستقبل؟ ."
" أنا أحب باريس ، ومستقبلي في هذه الجزيرة."
" ولكنه لا يحبك ، لقد تزوجك من أجل الإنتقام ساندرا هل تفهمين ؟ "!
" لكن ظني أنه تزوجني لنه يحبني."
" على الظن ؟ أنت إذن غير متأكدة ؟ لم يخبرك بذلك وهذا يبدو واضحا أليس كذلك ؟ "
" هاري ، من فضلك ، دعنا نقول وداعا ، وضع حدا لهذه المناقشة غير المجدية ،
آسفة لأنني لم أدعك لتناول الطعام ، ولكنني أظن انك توافقني على أنه من الأفضل أن
نقول وداعا ، وكما نوّهت قبلا يمكنك ان تأكل في أحد المطاعم ."
وبعد لحظات كانت تنظر وراءه وهو يمضي غاضبا في الممر الذي يؤدي الى الطريق
حيث ترك السيارة.
ظنت أنه سيلتفت ويرفع يده للوداع الأخير ، ولكنها كانت مخطئة . إستدارت وصعدت الدرج ، كان
ذهنها صافيا الان ، وقلبها منيرا ، أكثر من أي
وقت مضى في حياتها !!
عادت إلى الفيلا لترى أولجا أمامها وقد أشرق وجها، ابتسمت لها ساندرا مشجعة فقالت لها أولجا : لم تغادري معه سيدتي أليس كذلك ؟
وإن كنت غادرت من يقف أمامك الآن ؟
ضحكت أولجا على غباءها يبدو أن فرحتها طغت على تفكيرها، ربتت ساندرا عليها بهدوء وقالت : حتى الآن أنا لن اغادر هذه الجزيرة
للأبد، نريد منك ألا تغادري للأبد سيدة ساندرا
تركتها وصعدت لغرفتها مرة أخرى تفكر في باريس
أنه هو الذي يحكم على نفسه بالتعاسة الدائمة ولا يحاول ولو محاولة بسيطة ان
يخرج من احزانه ، حتى جدران غرفته تنطق بالمرارة ....
مع تسليمها بأنها تحب زوجها ، لم تعد تطيق إنتظار عودته ، على أن الخوف لم يفارقها
، وهي لا تدري كيف يمكنها أن تزيل الصعوبات الكثيرة التي تسد الطريق الى سعادتها
وسعادة باريس، فهناك الحزن العميق الكامن في أعماقه ، المرارة التي يعيشها ،
ذكرى ولده التي هي أقسى ذكرياته ، والعقبة الكبرى كيف يمكن أن تجعله يعترف
بحبها ؟ الحب الذي إدّعت انه يحمله لها في قلبه ، من غير أن يعترف به، وكيف يمكن
أن يفعل وهو لا يزال يلومها ، ويحملها مسؤولية كل ما يعانيه من اسى وحزن؟ وفي
لحظة ضعف ، تمنت لو أنها قبلت عرض هاري الذي قدمه لها ، وهمست في نفسها:
" أنا وباريس لا نستطيع أن نتجاوز كل ما حصل ، ولو كان يحبني حقيقة ، فهو
بالمقابل يكرهني ، فكيف لهذا الحب ان يتغلب على الكراهية؟ ربما كان من الأفضل أن
أعود الى أنجلترا ...
عند ذكر العودة ، احست ساندرا بالهزيمة ، فكيف تقبل الهزيمة بعد أن تحررت من الشك
وتأكدت من مشاعرها ؟ إذن عليها أن تحارب من أجل إنتصار هذا الحب ، وتزيل
كل العقبات ، وتضيء طريق باريس ، فيزول الضباب وتنقشع الغيوم، ويرى الحقيقة
الدفينة في اعماق قلبه ، يرى أنه يحب ساندرا ، نعم عليها ان تحارب من أجل سعادتهما ،
تلك السعادة التي أصبحت تتمناها من أعماقها.
على الأقل يجب أن تحاول ، وتقبل الهزيمة فقط عندما يظهر لها ان ساندرا غير قادر
على نسيان الماضي ، ولكنه سيفعل ، سيبدأ حياة جديدة ، فهو لا يزال شابا ، بالرغم
من السنوات التي أضافتها عليه الهموم ، لقد كان جميل الصورة في الماضي ، ويمكن
ان يعود كذلك عندما تزول عن وجهه إمارات الكآبة والحزن والكراهية ، لقد ضحك
مرة ، وبإمكانه ان يفعل من جديد إذا حاول أن يضحك ثانية.
بعد ذهاب هاري بفترة بسيطة، رن جرس الهاتف ، وجاء صوت باريس حنونا
عذبا على غير ما كانت تتوقع، يخبرها أنه سيعود في الليلة التالية، ردت ساندرا عليه
بلطف انها سعيدة لأنه انهى عمله بسرعة.
" سعيدة ! هل أصبحت مؤدبة ام دبلوماسية؟ ."
قالها لها متعجبا وليس ساخرًا كعادته
" لا هذه ولا تلك وأنما اقول الحقيقة."
مرت لحظات من الصمت وساندرا تنتظر ، ولكنها سمعت ضحكة سخرية قبل ان يقول
لها:
" يجب ان يكون العشاء جاهزا في تمام الساعة الثامنة."
" سوف افعل ."
واحست بشيء من القلق وهي تسمع سماعة الهاتف توضع مكانها ، وشعرت ان مثل
هذه البداية لا يمكن ان تبشر بأمل ، على أية حال فهي لم تكن تتوقع نجاحا مباشرا
هكذا ومن خلال الهاتف ، فهي تعرف أنه ليس من السهل ولا بهذه السرعة يمكن ان
يعود زوجها الى طبيعته الأولى ، فإن لديها الوقت .... ولديها الأمل ايضا.
وفي اليوم التالي
إغتسلت ساندرا وإرتدت ثيابها إستعدادا للعشاء الذي لم يحن ميعاده بعد ولكن لأمر ما
لا تعرف له تفسيرا ، سارت نحو غرفة نوم باريس القديمة والتي في الفترة الأخيرة اصبح ينام فيها، دفعت الباب ، ودخلت للمرة
الأولى ، كانت الغرفة قليلة الأثاث ، بسيطة جدا ، خالية من كل زخرف ، تنسدل
على نوافذها ستائر داكنة اللون، جالت ساندرا بأنظارها في الغرفة وهزت راسها
متعجبة من هذه القسوة التي يعامل بها باريس نفسه ، انه هو الذي يحكم على نفسه
بالتعاسة الدائمة ، ولا يحاول ولومحاولة بسيطة أن يخرج من أحزانه ، حتى في غرفته
الخاصة التي يأوي اليها ليرتاح، ترى الكآبة تغمرها ، والمرارة تنطق بها جدرانها ..
كان كتاب ملقى هناك على الطاولة ، وصورة من الممكن ان تكون قد سقطت منه،
وثار الفضول في نفسها ، تقدمت وإلتقطتها ، وشهقت وعلى شفتيها كلمة واحدة:
" الصبي ."...
إنه أبن باريس ، طفل جميل جذاب ، بشعر أسود متموج ، وعينين رماديتين لامعتين،
يشبه أباه حتى في هذه السن المبكرة ، أخذت تنظر الى الصورة ولكنها إستدارت
فجأة عند سماعها خطوات ثابتة هادئة خارج الباب ، تمتمت ساندرا بفزع:
" باريس ! لقد عدت مبكرا ، لم أكن أتوقع قدومك الان."
" ماذا تفعلين؟."
سألها وعيناه تستقران على الكتاب الذي كان لا يزال في إحدى يديها ، ثم تح ولت
نظراته الى الصورة التي كانت تمسكها باليد الأخرى ، وأضاف:
" ضعي هذه من يدك ."
" أنا آسفة باريس ."...
تكلمت بصوت منخفض ، وهي تضع الصورة على الطاولة وأضافت:
لم أكن اقصد أن .. ."
قاطعها غاضبا:
" ماذا تفعلين هنا؟."
" لا شيء ، دخلت فقط ، فوجدت الصورة ملقاة على الطاولة، وحسبت انها ربما
سقطت من الكتاب ، فاردت إعادتها ، باريس ، لا يوجد سبب يثير غضبك ."
ولكنه إقترب منها وأمسك بذراعها بقسوة ، صرخت ، ولما شدّد الضغط ، لم تستطع
أن تحبس دموعها.
عندما رأى الدموع في عينيها تخلى عن ذراعها ، وتراجع عنها قليلا الى الوراء ، بعد
أن أخذ الصورة من يدها ، ثم قال:
" أنها صورة ولدي ."
كان صوته يحمل كل معاني الرقة والحنان ، ثم اضاف:
" انت تعرفين انه كان لي إبن، أليس كذلك؟."
أحنت راسها بالإيجاب بعد ان مسحت دموعها بهدوء وكأنها لم تنزل من الأساس ، وعندئذ أراد ان يعرف كيف علمت بذلك ، ولما لم تكن تريد
ان تقحم أولجا في الموضوع حتى لا يطردها ، اخبرته أنها عرفت الأمر من الذين يسكنون القصر فيلبا وزوجها لويس
أحنى رأسه وهو يحس بدوار نسي معه أن يلومها على ذهابها الى القصر في غيابه ، مع
انه منعها من ذلك ، ولكنه تماسك وقال:
" نعم إنهم يعرفوون حكاية الطفل، ولكنني لا اعلم من أين لهم ذلك."
" كان طفلا جذابا محبوبا ." تكلمت ساندرا بلطف ، وتأثر عميق يشوب نبرات صوتها ، من اجل باريس الذي بدا
أمامها رجلا عجوزا ، رجلا يتمنى أن ينهي حياته لو يستطيع.
أمسك باريس الصورة وحدّق فيها هنيهة ثم وضعها في الكتاب ، ومن غير ان يضيف
اية كلمة اخرى ، ذهب الى الحمام. بقيت ساندرا فترة واقفة هناك ، تهزها العواطف ، قلبها يخفق بشدة من جنبيها، وفي
عينيها تترقرق الدموع ، ولما سمعت صوت الماء في الحمام ، إستدارت وذهبت الى
غرفتها.
كان من سوء حظها أنها لم تخرج من غرفته قبل مجيئه ، ولكن على اية حال يكفي أنه
علم بمعرفتها قصة ابنه .
خيم على العشاء جو من الكآبة والصمت المطبق ، ولكن بعد الإنتهاء منه ، اخذ
يتكلم كعادته ونبرات السخرية تبدو في صوته:
" ماذا كنت تفعلين في غيابي؟ لا شك كنت تتمنين ألا أعود بهذه السرعة."
اجابت ساندرا بلطف وهي تنظر في عينيه في محاولة منها أن توصل له مشاعرها
" لقد أخبرتك على الهاتف انني كنت سعيدة ، لأنك أتممت اعمالك بسرعة ، وكنت
اعني كل كلمة قلتها ."
قطب حاجبيه ، وقال:
" هل تتوقعين ان أصدقك؟ ." أمام عدم تصديقه ، سكتت قليلا، كانا في ذلك الوقت يجلسان على الشرفة ، يطل
عليهما البدر بوجهه الفضي ، يلقي على عتمة الليل وشاحا وضاء بين نسائم المساء
الدافئة العليلة ، المحملة بأريج الزهور ، ليلة تهز العواطف الكامنة ، يطمئن اليها
المحبون ، وينسون فيها جميع متاعب الحياة ، تلفتت ساندرا حولها ، وسألت بلطف وعلى
شفتيها إبتسامة عذبة:
" هل من الصعب عليك أن تصدقني؟ ."
كان اسلوبها يتناسب مع قرارها الجديد ، تحاول أن تقود زوجها في طريق أقل وعورة
من تلك المسالك الشائكة التي يسير فيها منذ مدة طويلة ، ولكنها لم تر في عينيه
إستجابة ، ومن الممكن أنه لم يلاحظ اية رقة في صوتها أيضا ، ولكنه بعد صمت قصير
، قال:
" من الصعب جدا أن أصدق، كما أنني لا أجد سببا يجعلني افعل ، أنا سألتك سؤالا
فاجيبيني عليه ."
" كنت أقرا كالعادة ، كما انني زرت فيلبا ولويس في القصر ."
" الم أقل لك ألا تعودي لزيارتهما؟ ."
" لقد قامت بيني وبين فيلبا رابطة صداقة ، انا سعيدة بها ، وأنني آسفة يا باريس،
فأنا لا أريد أن أقطع هذه الصلة."
قالتها بحذر ليرد عليها
" انت تفعلين فقط ما آمرك به."
تريثت قليلا لتحبس الغضب الذي ثار في داخلها ، ثم قالت بلطف:
" ما هو سبب عدم ميلك اليهما؟."
حول نظراته عنها ، ولاحظت ساندرا ان ملامح وجهه غدت تبدو أقل قسوة ، ثم
اجاب:
" إن أسبابي لا تخصك ، كل ما يخصك هو أن تلبي رغباتي فحسب ، أراك مختلفة هذه
الليلة ، هل حدث شيء جديد في غيابي؟ ."
" أجل باريس ."...
تسلل الإحمرار الى خديها ، وعيناها يشع فيهما بريق عجيب ، وعلى شفتيها إسترخت
إبتسامة ساحرة ، وخرجت الكلمات بأكثر ما تكون الرقة وأعمق ما يكون الحنان
عندما قالت:
" كل ما في الأمر ، باريس ، أنني إكتشفت أنني أحبك! ."
هل تراها تسرعت بنقل مشاعرها اليه؟ وأن الوقت لم يحن بعد؟ ما كان عليها أن
تطلعه على ما يجيش في صدرها ، ولذا تداركت ذلك بقولها:
" لم يحدث أي شيء يذكر."
" لقد كذبت يا ساندرا ، لقد حدث الشيء الكثير ولكن ."..
كانت ساندرا تفكر بزيارة هاري، وتمنت ألا يعرف عنها شيئا ."
أخذ باريس ينظر اليها ، تطل من عينيه نظرات غريبة لم تعرف ساندرا لها تفسيرا.
وتساءلت ترى ماذا كان وقع كلمات الحب على نفسه؟ فهو لم يقل شيئا ولم يبد على
وجهه أي تأثر... ولكنه اخيرا قال:
" هل أفهم من ذلك ، أنك إقتنعت أخيرا بأن الحياة افضل لو انك خضعت
لسلطتي؟."
فر اللون من وجه ساندرا، وإرتجفت شفتاها ، اهذا كل ما عنده ليقول؟
" إضغ اليّ ، وصدقني مرة واحدة".
ولما لم يجب وقفت وهي تقول:
" إذن سنتحدث في صباح الغد."
لكنها توقفت ، فقد رات زوجها يهز رأسه ، وقد تبدلت ملامح وجهه واحست أنه
يريدها أن تتكلم ، وان يصغي اليها
، فقالت:
" اتعني انك تريدني أن تكلم الآن؟ ."
بدأت افكر أنه إذا تكلمنا ، فهناك الشيء الكثير ليقوله احدنا للآخر ، اليس
كذلك؟ ."
وكانت المعجزة ، اخيرا يريدها ان تتكلم ، ويجب ان يسمعها ، يجب عليها قبل كل
شيء أن تبرر له زواجها المشؤوم ذاك ، وسبب قبولها به ، ولكنها بدل ذلك أخذت
تسمعه احاديث الهوى الكامنة في أعماقها ، كلماتها الرقيقة العذبة ، إنقطعت فجأة ،
وصرخة رعب حلت محلها ، فقد إصطدمت وبحركة غير مقصودة بشمعدان كانت
تقف بجانبه وسقط على الأرض . لحق اللهيب باطراف ثوبها الطويل ، ومع أن باريس قفز نحوها لحمايتها إلا انها كانت
أسرع منه ونزلت الدرج راكضة تبتعد عن الشمعدان.
تبعها باريس ، وهو يصيح:
" الانا... حبيبتي ! لا تركضي في الهواء."
حبيبتي ، يا الله ، لقد سمعته ينطق بالكلمة التي تنتظرها ، فإلتفتت بسرعة نحوه ،
ولكنها في تلك الحركة داست على طرف ثوبها فتعثرت وإصطدم رأسها بأحد
الأعمدة الرخامية ، رات النجوم عالية في السماء ، وكان هذا آخر ما رأت ، حتى
إستفاقت لترى فيلبا تقف الى جانبها ، فسألت والدهشة في صوتها:
" اين انا؟."
" في القصر ، كيف تشعرين الان؟."
رفعت ساندرا يدها الى راسها المصاب وتذكرت كل ما حدث لها وقالت:
" لماذا انا ها يا فيلبا؟ ."
" اهدئي، زوجك هنا ، وسيخبرك بكل شيء ."
" باريس ، هل هو أيضا هنا ؟ ما الذي حدث؟ ."
ولكن فيلبا ذهبت ، والباب أغلق ،وباريس إقترب من الفراش شاحب اللون ،
مسود الثياب تفوح منها رائحة الحريق.
نظرت ساندرا اليه ، وإلتقت عيناها بعينيه ، فرأت باريس الذي تعرفه منذ تسع سنوات
مضت يقف أمامها ويقول .
" ساندرا عزيزتي ، يا حبيبتي ."....
كان متعبا ، لا يريد أكثر من أن يكون قريبا منها ، جلس على حافة السرير ، وتناول
برفق يديها بين يديه، وعانقها بحنان
.
" باريس ، لماذا نحن هنا؟ ."
" لقد شبّ حريق في البيت !".
شهقت ساندرا وحاولت الجلوس لكنها امسك بها لتتمدد كما هي
" إحترق البيت؟ كيف؟ ."
فاخبرها ما حدث بإختصار ساعة كانت فاقدة الوعي وهو مشغول بإسعافها ، عن
لهيب الشموع التي سقطت مع الشمعدان ، إمتد واشعل النار في مقدمة البناء.
سكت لحظة يحدّق فيها بشوق ، ثم أضاف:
" ولكنني لم أنتبه للنار التي تلتهم المكان ويرتفع لهيبها في العلاء ، فقد كنت مشغولا
بك ، خائفا عليك ، ولولا أن لويس وزوجته كانا راجعين من زيارة احد اصدقائهما
، ورأيا اللهيب يرتفع من بين الأشجار ، وجاءا على الفور، لأصبحت الفيللا جميعها
رمادا ، ومن يدري ، كان من الممكن أيضا أن يذهب كلانا طعمة للنار."
ونظر اليها بعينين يشع فيهما بريق الحب وهو يتابع:
" المهم انت يا ساندرا ، كيف أنت الآن ؟ لقد كنت طيلة مدة إغمائك تهذين ."
" كنت أتكلم ؟ عن أي شيء؟ ." تطلعت اليه والحب يملأ عينيها، فإبتسم لها وقد إختفت من وجهه جميع التجاعيد التي
حفرتها آلام السنين الماضية ، وقال:
" عن كل شيء ، عن زواجك الذي أجبرت عليه ."
" آه لو انك تركت لي فرصة الكلام من قبل لوفرت علينا كثيرا من المتاعب ."
" بالله ، كم عانيت يا ساندرا أنا آسف ."
نظر باريس الى وجهها الذي إصطبغ بحمرة الخجل ، وإقترب منها أكثر ورفع يدها
الى شفتيه ، ثم أضاف:
ساندرا ، لماذا لم تحدثيني عن زيارة هاري؟ ."
" ألم تقل انني حدّثتك عن كل شيء
، وانا مغمى عليّ؟".
وضحكا معا ضحكة فرح مليئة بالسعادة ، ثم قال:
" وقد عرفت ايضا الحديث الذي دار بينك وبين أولجا، وانك عرفت منها سر
مأساتي ، حكاية ولدي ."....
وعند ذكر ولده ، مرت على وجهه سحابة الم وتوقف هنيهة عن الكلام ، ثم تابع:
" أريد أن أخبرك شيئا لا زلت تجهلينه ، ساندرا، لويس كان صديقا للطبيب الذي
كان يعالج ولدي في حالات مرضه ؟، وعرف منه ان ابني كان سيعيش عليلا طول
عمره لو بقي على قيد الحياة ، فهو كان يعاني من مرض في دماغه منذ الولادة ."
" هل أنت متاكد من ذلك؟."
قالت له بتعجب
" نعم ، لكن الشيء الغريب ، انني كنت أشعر في البدء ان هناك علة ما في الطفل منذ
الولادة ، ولكنني لم أستطع تحديد ما هيتها ، ولذا تغاضيت عن الأمر ويبدو ان
لويس كان يعرف ذلك طيلة الوقت ، ولم يخبرني سوى ليلة أمس ، لأن زوجته رجته
أن يفعل من أجل سعادتنا أنا وأنت."
وتذكرت ساندرا عند هذا القول ، يوم اخفت فيلبا عنها الحديث الذي دار بينها وبين
زوجها وشعرت حينذاك أن لويس منعها من الكلام ، لقد عادت فيلبا اليها عندئذ
وهي في غاية الإضطراب ، ولكنها لم تبح بأية كلمة، وها هي الان تطلب من زوجها
ان يخبر باريس.
ولما لم تقل ساندرا شيئا ، تنفس عميقا ، ثم قال:
" لقد كنت غبيا ، حملتك الأحزان كما فعلت ، وقسوت عليك كما قسوت على
نفسي ، سامحيني ، قولي انك ستسامحينني ."
إقترب منها فعانقها برقة فيها كل معاني الحب ، ثم قالت:
" لقد سامحتك يا باريس ، إنني احبك ."
قالت تلك الكلمات بكل بساطة وطيبة ، واضافت:
" هذا ما كنت اقوله عندما سقطت تلك الشموع."
" اجل ، وقد قلت واعدت كل هذا عندما كنت تهذين ."
" آه يا عزيزي ! هل تعرف أن هاري إكتشف خدعتك؟ . "
حقيقة كانت خدعة ، ولكن كان علي ان أفعل ذلك لتكوني زوجتي، مع انني كنت
أكرهك لأنك رفضت الزواج مني ولكن كرهي ذاك كان أقل بكثير من حبي لك."
إقتربت ساندرا أكثر فأكثر ، والقت براسها المجروح على صدره، وتمتمت هامسة:
" اما الان فالحب فقط ." وكانت موافقته المفضلة:
" إنه الحب والحب وحده ، الآن وإلى الأبد ."
*
*
*
تسألت في افكارها ثم قررت نقلها إلى هاري وتساءلت:
" هل هو متزوج؟."
إنطلق السؤال من بين شفتيها قبل ان تستطيع حبسه.
" لم يخطر لي ببال ان أسأله." أجابها رفيقها بجفاء ، ثم أضاف:
" على أية حال ستكتشفين ذلك عندما تصبحين هناك ." صعد الدم الى وجهها ملونا إياه بلون الورود، ولحسن حظها تقدمت العميلة منهما في تلك اللحظة وهي تعتذر:
" إنني آسفة."
بدأت القادمة في الكلام ، عندما هبّ هاري واقفا لإستقبالها:
" أخشى أن اكون قد تأخرت عليك قليلا، إنها دقيقتان ، أو ما يقارب ذلك."
ثم نظرت الى ساعة يدها ، وهي تؤكد:
" لا أكثر ، أليس كذلك؟ ."
" لا اكثر من ذلك ."!
ردد ماكس كلماتها موافقا ، بطريقته الجذابة المعتادة التي يؤثر بها على الزبائن ،
ويجعلهم يحسون بالإرتياح ، ثم تابع كلامه:
" على اية حال ، إنه لمن دواعي سروري ان أنتظرك."
نظر الى ساندرا وهو يغمز بطرف عينه، ثم رفع يده يدعو المستخدم ، ويسأل القادمة
عما تريد أن تشرب ......
ماذا حل بهذا الرجل الذي وصفته ساندرا ذات يوم بانه أجمل من رأته في حياتها ؟
هذا التحول المفاجىء لا يمكن أن يكون إلا نتيجة صدمة عميقة ..... كانت السماء لا تزال تتشح بالظلام عندما بدأت الطائرة رحيلها نحو مطار رودس،
فهاري و ساندرا إضطرا للسفر على أول طائرة تقلع قبل أن يبزع الفجر، لأنه لم يكن
هناك متسع لهما على الطائرة التالية، ولذا كان عليهما ان يقضيا في رودس طيلة بعد
ظهر ذاك اليوم وليلته.
ضيقت عينيها بإشمئزاز :
" آسفة... ربما لست في وضع يسمح لي أن أبرهن على ذلك، فعليك ان تثق بكلامي، أريد ان أدخل ."
" في مثل هذا الوقت؟ والليل لا يزال في أوله ، فتيا ، جميلا ، إنه ليل المحبين يا جميلتي ونحن محبون أليس كذلك ساندرا ؟!
" لا تكن سخيفا ."
صاحت ساندرا وقد إنقلب خوفها الى غضب ، وتابعت :
" يا للسخرية ، اتتحدث عن الحب وقد إعترفت انك تكرهني ؟ وانا ايضا متأكدة
أنني لا أحبك مثلك ولن أستطيع ."!
ولدهشتها لم يعلق على كلامها، بل قال في هدوء:
" إجلسي يا ساندرا إجلسي، فأنا الآن في حالة رومانسية لا احب فيها ان أكون وحيدا ."
فتساءلت ساندرا ، ترى لماذا يخشى أن يبقى وحيدا ؟ أيريد ان يهرب من افكار تقلقه ،
افكار شريرة مثلا ؟ وفجأة فكرت بزوجته الأولى وأحست برغبة شديدة ان تعرف
شيئا عنها ، وعن موتها!
ولكنها تخاف أن تسأله عنها، كلما جاءت سيرتها انقلب عليها مهددًا!
كان باريس لازال جالسا بنفس نظرة الكبرياء والغرور وهو يأمرها بالجلوس ، رفعت ساندرا وجهها إليه وبريق
الغضب يشع من عينيها وقالت:
" أنا متعبة ، ليلة سعيدة ."
" ستبقين في رفقتي ."
اجابت ساندرا وقد ضبطت اعصابها بصعوبة:
" لست مجبرة على ذلك باريس، فلو كنت أنت الذي يريد الذهاب الى الفراش لفعلت من
غير ان تسألني."
بالتأكيد ، فأنا السيد هنا ، أفعل انا ما اريد ، وتفعلين انت ما آمرك به"
كان كلامه قاطعا لا يقبل الجدل.
" إجلسي ."
وبعد تردد قصير فعلت لم تجد فعلا شيئًا آخر تفعله غير ما أمرت به ، ثم أضاف :
أرى انك تتعلمين بسرعة ، يا فتاتي ."
وبقيت ساندرا صامتة لا تجيب ، اما باريس فقد تابع كلامه تبدو في صوته نبرات
السخرية المعتادة:
أنا أعرف أن الغضب يغلي في صدرك ، ولكنك لا تجسرين على إظهاره ، الواقع
أنني أهنئك على حكمتك ."
إرتجفت ساندرا والكره المميت يملأ قلبها وعيناها تتقدان بالحقد العميق ، وقالت:
ربما لا أستطيع أن أكون حكيمة دائما ! ولو كنت انت تملك شيئا من الحكمة ، لما
إستعملت مثل هذا الأسلوب في معاملتي ، فبذلك تدفعني بعيدا عنك أكثر سيد فيليب
إبتسم باريس ثم سألها قائلا:
" بعيدا ، الى أي شيء مثلا ؟ ."
الى عدم القدرة على الإحتمال، انت نفسك إعترفت أن لي روحا عالية ."
" وإن كنت تذكرين ، فقد قلت أيضا انني اريد أن احطمها، عزيزتي ساندرا
نظرت ساندرا اليه بإزدراء ، وقالت: أعتقد أنني هنا ، حتى لا تكون وحيدا ، وبناء على ذلك فإنني اقترح ان نحاول ان
نجعل نقاشنا مسليا ، فتهديداتك المستمرة أصبحت مملة ."
توقفت أولجا فجأة عن الكلام، ونظرت نحو ساندرا معتذرة يبدو أنها استرسلت في الكلام بشكل لا يليق :
أنا آسفة سيدة ساندرا ."
" لا تعتذري ، أنا أعرف ان زوجي تغير شكله خلال السنوات التسع الأخيرة ."
كانت زلة لسان من ساندرا ، إذ لا يبدو على أولجا انها تعرف أن الفتاة الإنجليزية التي
تتحدث اليها الآن هي التي رفضت سيدها منذ سنوات!
أكملت أولجا ولم تنتظر أن تسألها ساندرا حتى وقالت :
" كان والد السيد باريس قلقا على امواله وأعماله ان تذهب الى أبناء أخيه من بعده
، ولذا ألزم السيد باريس بالزواج حتى ينجب وريثا ليحافظ على كل ذلك ويكمل سلسال العائلة، لقد حدثت بينهما مشاحنات
كثيرة ، لأن سيدي قال أنه لا يزال يحب تلك الفتاة الإنجليزية والتي لم يرفضها والده لكنه طلب "
ومرة أخرى سكتت أولجا عن الكلام وأخذت نفسا عميقا وهي تنظر الى سيدتها
بشيء من الشك ثم قالت:
" أنت التي طلبت مني ان أخبرك بكل شيء ، ولذا فإنني أفعل. "
" نعم أريد أن اسمع كل شيء ." أحست ساندرا بقلق أولجا لذا قررت أن تطمئنها لكي تكمل حديثها الذي لم يشبع فقط فضولها بل وضح لها كل شيء تقريبًا ولن تمانع في أن تستمع لخادمة
فهي تريد أن تعرف كل شيء عن باريس
أحست بالإشفاق على زوجها وشعرت بالذنب فلو أنها تزوجت منه لما حلت به كل
هذه المآسي ، ولما عانى كل هذه المعاناة ، ومن جهتها هي ، لكانت تفادت الزواج من
ذلك الرجل البغيض أليكس ماكسون
عادت أولجا للكلام ثانية وعرفت ساندرا المقتطفات الأخيرة من القصة
وهي أن
باريس عندما أيقن أنه لا يمكن أن يتزوج الفتاة الإنجليزية ، إختار فتاة يونانية وتزوج
منها ، وعزم على ان يكون زوجا صالحا ، وإستمرت أولجا في حديثها فقالت:
" كانت حياة السيد باريس سيئة للغاية، كانت سيدة بشعة لا تطاق وخائنه ثم أصبحت قاتلة، كان معه كل الحق لقتلها ولكننا انقذناه من السجن، وأخيرا قررت الحياة انهاء المعاناة وتوفت تلك الزوجة في حادث سيارة
هي والحبيب الأخير لها والذي كانت تخون سيدي معه برغم كل ما حدث لهم
صممت أولجا قليلاً تسبها بصوت خفيض لكنه وصل إلى ساندرا التي كادت أن تضحك ولكنها صمتت لأن الموقف غير مناسب بالمرة للضحك
تنهدت أولجا ثم أكملت كلامها قائلة : والآن نأمل أنا وزوجي أن يعيش سيدي معك حياة مليئة
بالسعادة سيدتي ف أنت تختلفين كليا عنها سواء في جمالك أو شخصيتك التي أحببناها كثيرا بسرعة"
احمرت وجنتا ساندرا وابتسمت ابتسامة مشرقة : شكرا اولجا أنا أيضا احببتكم كثيرا
أنا ممتنة لك كثيرا ، فالآن افهم زوجي بطريقة افضل ."
" سيدتي ، وأنا اكون شاكرة لك أكثر لو احببت سيدي ." ومن دون أية كلمة أخرى إستدارت لتترك الغرفة
وفي منتصفها تذكرت ساندرا شيئًا مهما فسألتها بسرعة
" أولجا ..... إرجعي! ."
" نعم سيدتي ."
" هل قدّمت والدة الطفل للمحاكمة ؟ ."
" أنها الحقت العار بسيدي، بتصرفاتها المشينة ، والسيد باريس كثيرا ما تحدث مع
والده ومع الطبيب ، ولكنهم قرروا أن هذا العار يجب أن يبقى سرا ، ولم تقدم
للمحاكمة ، وانا لم أخبر احدا بما قلته لك يا سيدتي ، فأنت لك الحق بأن تعرفي كل
شيء ."
" إذا كان الطفل قد قتل ، فكيف طمست القضية؟ ."
" لقد قالوا أنه سقط من الدرج الى الحديقة ، أنا أظن أن تلك المرأة كانت مجنونة
وشريرة ، وعلى هذه الحال يمكن أن تعفى من العقاب."
" وهكذا إذن قرر السيد باريس أن ينتقل نهائيا من بيموس؟ ."
" نعم هذا ما حدث بالضبط "
أومأت ساندرا برأسها وشكرتها قبل أن تذهب أولجا وتغادر الغرفة، وتترك ساندرا مع افكارها ، كان من الواضح ان باريس عزم
على ان يبدأ حياة جديدة في بيت جديد وزوجة جديدة أيضا ، مبتعدا كليا عن كل
شيء يذكره بالماضي.
أحست ساندرا بالحنان والإشفاق يملآن صدرها ، وتأكدت الآن أنه تزوج منها للإنتقام
، لأنه يعدّها مسؤولة عن كل ما حدث له حتى موت ولده
حقه يفكر بهذه الطريقة لو تزوجت منه ووافقت عليه حينها لما ألمت به جميع هذه المصائب ، ولكنها مع ذلك لن تسامحه لأنه تزوج
منها بهذا الاسلوب ورغم إرادتها، كان يمكنه أن يحدثها، يصارحها ويترك لها الاختيار، وكان الاختيار سيكون هو بالطبع، حتى مع رفضها للزواج لكنها الآن فقط تأكدت بأن كلامي هاري صحيح عندما قال لها لو عاد باريس وعرض عليها الزواج لوافقت
تنهدت ساندرا وجلست تفكر قليلاً ثم عزمت على ان تحاول ما إستطاعت أن
تعيد شيئا من البهجة الى حياة باريس على الأقل تعوض شعور الذنب الذي يقتلها نحوه الآن!
وفي هذه اللحظة اقتحم باريس الغرفة
نعم ستقول اقتحم لانه لا يعرف شيئًا عن طرق الأبواب!
أو يعرف أنها تكره الدخول هكذا بدون استئذان فلا يتردد أبدًا أن يضايقها بأي شيئ حتى لو كان بسيطًا مثل ذلك
تشعر وكأنه يستمتع بالدخول فجأة ويراها وهي عارية أو وهي ترتدي ملابسها أو أي شيئًا آخر
لكنها هذه المرة من حسن حظها كانت لازالت تجلس في الأريكة مكانها بعدما تركتها أولجا،
وقف أمامها كعادته يحاصرها بنظرات ساخرة غاضبة لا لأي شيء سوى أن يعكر عليها صباحها
وهو ما حدث فعلاً، وقف أمام خزينته يبدو أنه كان يبحث عن ورق ما ثم يعود إلى مكتبه، تلك النظرات التي يلقيها عليها أعادتها للواقع مرة أخرى وبدأت تمحي في مشاعر الشفقة التي غزت قلبها عندما سمعت القصة كاملة من أولجا، نعم كل شيء سيء وأنها كانت من ضمن الأسباب السيئة لكنها ما ذنبها في اختيارات أحدهم ؟ هل يجب على الانسان أن يختار لنفسه وحياته ولحياه الاخرين ؟
لم تكن تقصد أبداً أن يعاني كل ذلك البؤس، وعلى الرغم أنها لم تتراجع بشكل كامل عن قرارها لكنها خشيت على سلامتها بين يدي رجل مجنون كهذا ، ذات يوم قد يستبد به الحزن
الى درجة مرعبة بحيث لا يعرف ما الذي يفعل، يمكن أن يقتلها مثلا ؟!
اقشعر بدنها وكلمات هاري وأولجا تتردد في عقلها،
بالرغم من أن ساندرا حاولت الكثير لتبعد عن نفسها القلق والشعور بالذنب، إلا أنها
ايقنت ان ذلك مستحيل ، فالفكرة تلاحقها في كل لحظة ودقيقة كالحلم المريع الذي
يرفض أن يتراجع الى عالم النسيان ، بعد الذي سمعت وعرفت .
ولكنها مع كل ذلك لم تستطع أن تتغلب على شعورها بالكراهية نحو باريس أو لعلها
لا تريد، فهي لن تنسى أنها تزوجته مكرهه بدون اختيار ، وكانت إذا إلتقت به ، لا تتمكن من
إخفاء مشاعرها نحوه في أكثر الأحيان خصوصا مع محاولاته لاستفزازها طوال الوقت!
" إنك تضيع وقتك سدى يا هاري
، مكاني هنا مع باريس، الذي بعد كل شيء
تزوجته بمحض إرادتي."
تدخل هاري بسرعة غاضبا :
" لا ، ليس بمحض ارادتك ! كيف تقولين ذلك؟ أنا من فعلت بك هكذا"
اجابت نفيا :
" لا ! أنا التي إخترت."
" لقد اجبرت على ذلك ساندرا"
بدت على شفتيها شبه إبتسامة ، فقد كان يبدو ان هاري نسي انه هو وحده
المسؤول عن القرار الذي إتخذته قبل شهرين ، على أية حال فقد وجدت أن لا فائدة
من تحويل الحديث الى جدال ، ولذا عادت وأكدت له أنها باقية مع زوجها ولن
تتخلى عنه ، وبعد فترة كان على هاري أن يرضخ للأمر الواقع ويرحل ، فودّعها وهو يؤكد
لها انها ستغير رايها قريبا ، وقريبا جدا.
خرجا من الغرفة ليجدا اولجا تنتظرهم بنظرات متلهفه، أومأت لها ساندرا برأسها وتركتها خلفها لتخرج هاري من الفيلا
وبينما كانا يعبران الفناء ، قال:
" عندما يأتي ذلك اليوم وتغيرين رأيك فلا تتواني عن الإتصال بي ، وسوف ارسل لك
ما تحتاجين من المال لعودتك، وليعرف زوجك أنه لم يعد له أي سلطان عليّ ،وخدعته
تلك قد إنكشفت ، وكذبه قد بان ."
لماذا سمحت له ان يستمر في هذا الكلام لا تدري ، وكل ما في الأمر أنها لم تكن تبالي الكلام لن يغير شيء
، او لعلها لم تكن تصغي اليه في الاساس، وفي اللحظة التي كان عليه ان يودعها سألته ساندرا:
" هل جئت بسيارة أجرة؟ ."
" لا لقد إستأجرت سيارة من الميناء ، وقد أوقفتها بعيدا في الممر ."
تعجبت ساندرا وسألته :
" لماذا أوقفتها هناك؟ ."
" اردت أن اصل الى البيت من غير أن يراني أحد ، وكنت أرجو ان أراك في
الحديقة مثلا "
تعني بذللك انك كنت لا تريد أن يعرف كونون بمجيئك ، وأن يتم الأمر بسرية
كاملة ، أليس كذلك؟ ."
قطب هاري حاجبيه ، وأجاب:
" طبعا لا ، لقد أخبرتك مسبقا أنني كنت مستعدا لمواجهة باريس خاصة بعدما تبينت من كذبه ."
وصلا الدرج الخارجي، ولم يعد برغبتها أن ترافقه مسافة أطول من ذلك وقفت و قالت:
" وداعا يا هاري ."
حدّق فيها طويلا ، ثم نظر الى يديها اللتين لا تزالان الى جانبيها ، وسأل:
" ألا تريدين أن تصافحيني حتى ؟ ."
مدّت يدها ووضعتها في يده مصافحة ، فهزها قائلا:
" كنت اتمنى أن تعودي معي يا ساندرا
."
لم تعلق ساندرا بشيء ولم تتأثر، فتابع يقول:
" هل انت حقا سعيدة بالحياة مع هذا الرجل؟."
أجابته ساندرا بهدوء :
" لقد عشت معه شهرين."
استنكر اجابتها قائلا :
" هذه ليست إجابة ، هل فكرت بالمستقبل؟ ."
" أنا أحب باريس ، ومستقبلي في هذه الجزيرة."
" ولكنه لا يحبك ، لقد تزوجك من أجل الإنتقام ساندرا هل تفهمين ؟ "!
" لكن ظني أنه تزوجني لنه يحبني."
" على الظن ؟ أنت إذن غير متأكدة ؟ لم يخبرك بذلك وهذا يبدو واضحا أليس كذلك ؟ "
" هاري ، من فضلك ، دعنا نقول وداعا ، وضع حدا لهذه المناقشة غير المجدية ،
آسفة لأنني لم أدعك لتناول الطعام ، ولكنني أظن انك توافقني على أنه من الأفضل أن
نقول وداعا ، وكما نوّهت قبلا يمكنك ان تأكل في أحد المطاعم ."
وبعد لحظات كانت تنظر وراءه وهو يمضي غاضبا في الممر الذي يؤدي الى الطريق
حيث ترك السيارة.
ظنت أنه سيلتفت ويرفع يده للوداع الأخير ، ولكنها كانت مخطئة . إستدارت وصعدت الدرج ، كان
ذهنها صافيا الان ، وقلبها منيرا ، أكثر من أي
وقت مضى في حياتها !!
عادت إلى الفيلا لترى أولجا أمامها وقد أشرق وجها، ابتسمت لها ساندرا مشجعة فقالت لها أولجا : لم تغادري معه سيدتي أليس كذلك ؟
وإن كنت غادرت من يقف أمامك الآن ؟
ضحكت أولجا على غباءها يبدو أن فرحتها طغت على تفكيرها، ربتت ساندرا عليها بهدوء وقالت : حتى الآن أنا لن اغادر هذه الجزيرة
للأبد، نريد منك ألا تغادري للأبد سيدة ساندرا
تركتها وصعدت لغرفتها مرة أخرى تفكر في باريس
أنه هو الذي يحكم على نفسه بالتعاسة الدائمة ولا يحاول ولو محاولة بسيطة ان
يخرج من احزانه ، حتى جدران غرفته تنطق بالمرارة ....
مع تسليمها بأنها تحب زوجها ، لم تعد تطيق إنتظار عودته ، على أن الخوف لم يفارقها
، وهي لا تدري كيف يمكنها أن تزيل الصعوبات الكثيرة التي تسد الطريق الى سعادتها
وسعادة باريس، فهناك الحزن العميق الكامن في أعماقه ، المرارة التي يعيشها ،
ذكرى ولده التي هي أقسى ذكرياته ، والعقبة الكبرى كيف يمكن أن تجعله يعترف
بحبها ؟ الحب الذي إدّعت انه يحمله لها في قلبه ، من غير أن يعترف به، وكيف يمكن
أن يفعل وهو لا يزال يلومها ، ويحملها مسؤولية كل ما يعانيه من اسى وحزن؟ وفي
لحظة ضعف ، تمنت لو أنها قبلت عرض هاري الذي قدمه لها ، وهمست في نفسها:
" أنا وباريس لا نستطيع أن نتجاوز كل ما حصل ، ولو كان يحبني حقيقة ، فهو
بالمقابل يكرهني ، فكيف لهذا الحب ان يتغلب على الكراهية؟ ربما كان من الأفضل أن
أعود الى أنجلترا ...
عند ذكر العودة ، احست ساندرا بالهزيمة ، فكيف تقبل الهزيمة بعد أن تحررت من الشك
وتأكدت من مشاعرها ؟ إذن عليها أن تحارب من أجل إنتصار هذا الحب ، وتزيل
كل العقبات ، وتضيء طريق باريس ، فيزول الضباب وتنقشع الغيوم، ويرى الحقيقة
الدفينة في اعماق قلبه ، يرى أنه يحب ساندرا ، نعم عليها ان تحارب من أجل سعادتهما ،
تلك السعادة التي أصبحت تتمناها من أعماقها.
على الأقل يجب أن تحاول ، وتقبل الهزيمة فقط عندما يظهر لها ان ساندرا غير قادر
على نسيان الماضي ، ولكنه سيفعل ، سيبدأ حياة جديدة ، فهو لا يزال شابا ، بالرغم
من السنوات التي أضافتها عليه الهموم ، لقد كان جميل الصورة في الماضي ، ويمكن
ان يعود كذلك عندما تزول عن وجهه إمارات الكآبة والحزن والكراهية ، لقد ضحك
مرة ، وبإمكانه ان يفعل من جديد إذا حاول أن يضحك ثانية.
بعد ذهاب هاري بفترة بسيطة، رن جرس الهاتف ، وجاء صوت باريس حنونا
عذبا على غير ما كانت تتوقع، يخبرها أنه سيعود في الليلة التالية، ردت ساندرا عليه
بلطف انها سعيدة لأنه انهى عمله بسرعة.
" سعيدة ! هل أصبحت مؤدبة ام دبلوماسية؟ ."
قالها لها متعجبا وليس ساخرًا كعادته
" لا هذه ولا تلك وأنما اقول الحقيقة."
مرت لحظات من الصمت وساندرا تنتظر ، ولكنها سمعت ضحكة سخرية قبل ان يقول
لها:
" يجب ان يكون العشاء جاهزا في تمام الساعة الثامنة."
" سوف افعل ."
واحست بشيء من القلق وهي تسمع سماعة الهاتف توضع مكانها ، وشعرت ان مثل
هذه البداية لا يمكن ان تبشر بأمل ، على أية حال فهي لم تكن تتوقع نجاحا مباشرا
هكذا ومن خلال الهاتف ، فهي تعرف أنه ليس من السهل ولا بهذه السرعة يمكن ان
يعود زوجها الى طبيعته الأولى ، فإن لديها الوقت .... ولديها الأمل ايضا.
وفي اليوم التالي
إغتسلت ساندرا وإرتدت ثيابها إستعدادا للعشاء الذي لم يحن ميعاده بعد ولكن لأمر ما
لا تعرف له تفسيرا ، سارت نحو غرفة نوم باريس القديمة والتي في الفترة الأخيرة اصبح ينام فيها، دفعت الباب ، ودخلت للمرة
الأولى ، كانت الغرفة قليلة الأثاث ، بسيطة جدا ، خالية من كل زخرف ، تنسدل
على نوافذها ستائر داكنة اللون، جالت ساندرا بأنظارها في الغرفة وهزت راسها
متعجبة من هذه القسوة التي يعامل بها باريس نفسه ، انه هو الذي يحكم على نفسه
بالتعاسة الدائمة ، ولا يحاول ولومحاولة بسيطة أن يخرج من أحزانه ، حتى في غرفته
الخاصة التي يأوي اليها ليرتاح، ترى الكآبة تغمرها ، والمرارة تنطق بها جدرانها ..
كان كتاب ملقى هناك على الطاولة ، وصورة من الممكن ان تكون قد سقطت منه،
وثار الفضول في نفسها ، تقدمت وإلتقطتها ، وشهقت وعلى شفتيها كلمة واحدة:
" الصبي ."...
إنه أبن باريس ، طفل جميل جذاب ، بشعر أسود متموج ، وعينين رماديتين لامعتين،
يشبه أباه حتى في هذه السن المبكرة ، أخذت تنظر الى الصورة ولكنها إستدارت
فجأة عند سماعها خطوات ثابتة هادئة خارج الباب ، تمتمت ساندرا بفزع:
" باريس ! لقد عدت مبكرا ، لم أكن أتوقع قدومك الان."
" ماذا تفعلين؟."
سألها وعيناه تستقران على الكتاب الذي كان لا يزال في إحدى يديها ، ثم تح ولت
نظراته الى الصورة التي كانت تمسكها باليد الأخرى ، وأضاف:
" ضعي هذه من يدك ."
" أنا آسفة باريس ."...
تكلمت بصوت منخفض ، وهي تضع الصورة على الطاولة وأضافت:
لم أكن اقصد أن .. ."
قاطعها غاضبا:
" ماذا تفعلين هنا؟."
" لا شيء ، دخلت فقط ، فوجدت الصورة ملقاة على الطاولة، وحسبت انها ربما
سقطت من الكتاب ، فاردت إعادتها ، باريس ، لا يوجد سبب يثير غضبك ."
ولكنه إقترب منها وأمسك بذراعها بقسوة ، صرخت ، ولما شدّد الضغط ، لم تستطع
أن تحبس دموعها.
عندما رأى الدموع في عينيها تخلى عن ذراعها ، وتراجع عنها قليلا الى الوراء ، بعد
أن أخذ الصورة من يدها ، ثم قال:
" أنها صورة ولدي ."
كان صوته يحمل كل معاني الرقة والحنان ، ثم اضاف:
" انت تعرفين انه كان لي إبن، أليس كذلك؟."
أحنت راسها بالإيجاب بعد ان مسحت دموعها بهدوء وكأنها لم تنزل من الأساس ، وعندئذ أراد ان يعرف كيف علمت بذلك ، ولما لم تكن تريد
ان تقحم أولجا في الموضوع حتى لا يطردها ، اخبرته أنها عرفت الأمر من الذين يسكنون القصر فيلبا وزوجها لويس
أحنى رأسه وهو يحس بدوار نسي معه أن يلومها على ذهابها الى القصر في غيابه ، مع
انه منعها من ذلك ، ولكنه تماسك وقال:
" نعم إنهم يعرفوون حكاية الطفل، ولكنني لا اعلم من أين لهم ذلك."
" كان طفلا جذابا محبوبا ." تكلمت ساندرا بلطف ، وتأثر عميق يشوب نبرات صوتها ، من اجل باريس الذي بدا
أمامها رجلا عجوزا ، رجلا يتمنى أن ينهي حياته لو يستطيع.
أمسك باريس الصورة وحدّق فيها هنيهة ثم وضعها في الكتاب ، ومن غير ان يضيف
اية كلمة اخرى ، ذهب الى الحمام. بقيت ساندرا فترة واقفة هناك ، تهزها العواطف ، قلبها يخفق بشدة من جنبيها، وفي
عينيها تترقرق الدموع ، ولما سمعت صوت الماء في الحمام ، إستدارت وذهبت الى
غرفتها.
كان من سوء حظها أنها لم تخرج من غرفته قبل مجيئه ، ولكن على اية حال يكفي أنه
علم بمعرفتها قصة ابنه .
خيم على العشاء جو من الكآبة والصمت المطبق ، ولكن بعد الإنتهاء منه ، اخذ
يتكلم كعادته ونبرات السخرية تبدو في صوته:
" ماذا كنت تفعلين في غيابي؟ لا شك كنت تتمنين ألا أعود بهذه السرعة."
اجابت ساندرا بلطف وهي تنظر في عينيه في محاولة منها أن توصل له مشاعرها
" لقد أخبرتك على الهاتف انني كنت سعيدة ، لأنك أتممت اعمالك بسرعة ، وكنت
اعني كل كلمة قلتها ."
قطب حاجبيه ، وقال:
" هل تتوقعين ان أصدقك؟ ." أمام عدم تصديقه ، سكتت قليلا، كانا في ذلك الوقت يجلسان على الشرفة ، يطل
عليهما البدر بوجهه الفضي ، يلقي على عتمة الليل وشاحا وضاء بين نسائم المساء
الدافئة العليلة ، المحملة بأريج الزهور ، ليلة تهز العواطف الكامنة ، يطمئن اليها
المحبون ، وينسون فيها جميع متاعب الحياة ، تلفتت ساندرا حولها ، وسألت بلطف وعلى
شفتيها إبتسامة عذبة:
" هل من الصعب عليك أن تصدقني؟ ."
كان اسلوبها يتناسب مع قرارها الجديد ، تحاول أن تقود زوجها في طريق أقل وعورة
من تلك المسالك الشائكة التي يسير فيها منذ مدة طويلة ، ولكنها لم تر في عينيه
إستجابة ، ومن الممكن أنه لم يلاحظ اية رقة في صوتها أيضا ، ولكنه بعد صمت قصير
، قال:
" من الصعب جدا أن أصدق، كما أنني لا أجد سببا يجعلني افعل ، أنا سألتك سؤالا
فاجيبيني عليه ."
" كنت أقرا كالعادة ، كما انني زرت فيلبا ولويس في القصر ."
" الم أقل لك ألا تعودي لزيارتهما؟ ."
" لقد قامت بيني وبين فيلبا رابطة صداقة ، انا سعيدة بها ، وأنني آسفة يا باريس،
فأنا لا أريد أن أقطع هذه الصلة."
قالتها بحذر ليرد عليها
" انت تفعلين فقط ما آمرك به."
تريثت قليلا لتحبس الغضب الذي ثار في داخلها ، ثم قالت بلطف:
" ما هو سبب عدم ميلك اليهما؟."
حول نظراته عنها ، ولاحظت ساندرا ان ملامح وجهه غدت تبدو أقل قسوة ، ثم
اجاب:
" إن أسبابي لا تخصك ، كل ما يخصك هو أن تلبي رغباتي فحسب ، أراك مختلفة هذه
الليلة ، هل حدث شيء جديد في غيابي؟ ."
" أجل باريس ."...
تسلل الإحمرار الى خديها ، وعيناها يشع فيهما بريق عجيب ، وعلى شفتيها إسترخت
إبتسامة ساحرة ، وخرجت الكلمات بأكثر ما تكون الرقة وأعمق ما يكون الحنان
عندما قالت:
" كل ما في الأمر ، باريس ، أنني إكتشفت أنني أحبك! ."
هل تراها تسرعت بنقل مشاعرها اليه؟ وأن الوقت لم يحن بعد؟ ما كان عليها أن
تطلعه على ما يجيش في صدرها ، ولذا تداركت ذلك بقولها:
" لم يحدث أي شيء يذكر."
" لقد كذبت يا ساندرا ، لقد حدث الشيء الكثير ولكن ."..
كانت ساندرا تفكر بزيارة هاري، وتمنت ألا يعرف عنها شيئا ."
أخذ باريس ينظر اليها ، تطل من عينيه نظرات غريبة لم تعرف ساندرا لها تفسيرا.
وتساءلت ترى ماذا كان وقع كلمات الحب على نفسه؟ فهو لم يقل شيئا ولم يبد على
وجهه أي تأثر... ولكنه اخيرا قال:
" هل أفهم من ذلك ، أنك إقتنعت أخيرا بأن الحياة افضل لو انك خضعت
لسلطتي؟."
فر اللون من وجه ساندرا، وإرتجفت شفتاها ، اهذا كل ما عنده ليقول؟
" إضغ اليّ ، وصدقني مرة واحدة".
ولما لم يجب وقفت وهي تقول:
" إذن سنتحدث في صباح الغد."
لكنها توقفت ، فقد رات زوجها يهز رأسه ، وقد تبدلت ملامح وجهه واحست أنه
يريدها أن تتكلم ، وان يصغي اليها
، فقالت:
" اتعني انك تريدني أن تكلم الآن؟ ."
بدأت افكر أنه إذا تكلمنا ، فهناك الشيء الكثير ليقوله احدنا للآخر ، اليس
كذلك؟ ."
وكانت المعجزة ، اخيرا يريدها ان تتكلم ، ويجب ان يسمعها ، يجب عليها قبل كل
شيء أن تبرر له زواجها المشؤوم ذاك ، وسبب قبولها به ، ولكنها بدل ذلك أخذت
تسمعه احاديث الهوى الكامنة في أعماقها ، كلماتها الرقيقة العذبة ، إنقطعت فجأة ،
وصرخة رعب حلت محلها ، فقد إصطدمت وبحركة غير مقصودة بشمعدان كانت
تقف بجانبه وسقط على الأرض . لحق اللهيب باطراف ثوبها الطويل ، ومع أن باريس قفز نحوها لحمايتها إلا انها كانت
أسرع منه ونزلت الدرج راكضة تبتعد عن الشمعدان.
تبعها باريس ، وهو يصيح:
" الانا... حبيبتي ! لا تركضي في الهواء."
حبيبتي ، يا الله ، لقد سمعته ينطق بالكلمة التي تنتظرها ، فإلتفتت بسرعة نحوه ،
ولكنها في تلك الحركة داست على طرف ثوبها فتعثرت وإصطدم رأسها بأحد
الأعمدة الرخامية ، رات النجوم عالية في السماء ، وكان هذا آخر ما رأت ، حتى
إستفاقت لترى فيلبا تقف الى جانبها ، فسألت والدهشة في صوتها:
" اين انا؟."
" في القصر ، كيف تشعرين الان؟."
رفعت ساندرا يدها الى راسها المصاب وتذكرت كل ما حدث لها وقالت:
" لماذا انا ها يا فيلبا؟ ."
" اهدئي، زوجك هنا ، وسيخبرك بكل شيء ."
" باريس ، هل هو أيضا هنا ؟ ما الذي حدث؟ ."
ولكن فيلبا ذهبت ، والباب أغلق ،وباريس إقترب من الفراش شاحب اللون ،
مسود الثياب تفوح منها رائحة الحريق.
نظرت ساندرا اليه ، وإلتقت عيناها بعينيه ، فرأت باريس الذي تعرفه منذ تسع سنوات
مضت يقف أمامها ويقول .
" ساندرا عزيزتي ، يا حبيبتي ."....
كان متعبا ، لا يريد أكثر من أن يكون قريبا منها ، جلس على حافة السرير ، وتناول
برفق يديها بين يديه، وعانقها بحنان
.
" باريس ، لماذا نحن هنا؟ ."
" لقد شبّ حريق في البيت !".
شهقت ساندرا وحاولت الجلوس لكنها امسك بها لتتمدد كما هي
" إحترق البيت؟ كيف؟ ."
فاخبرها ما حدث بإختصار ساعة كانت فاقدة الوعي وهو مشغول بإسعافها ، عن
لهيب الشموع التي سقطت مع الشمعدان ، إمتد واشعل النار في مقدمة البناء.
سكت لحظة يحدّق فيها بشوق ، ثم أضاف:
" ولكنني لم أنتبه للنار التي تلتهم المكان ويرتفع لهيبها في العلاء ، فقد كنت مشغولا
بك ، خائفا عليك ، ولولا أن لويس وزوجته كانا راجعين من زيارة احد اصدقائهما
، ورأيا اللهيب يرتفع من بين الأشجار ، وجاءا على الفور، لأصبحت الفيللا جميعها
رمادا ، ومن يدري ، كان من الممكن أيضا أن يذهب كلانا طعمة للنار."
ونظر اليها بعينين يشع فيهما بريق الحب وهو يتابع:
" المهم انت يا ساندرا ، كيف أنت الآن ؟ لقد كنت طيلة مدة إغمائك تهذين ."
" كنت أتكلم ؟ عن أي شيء؟ ." تطلعت اليه والحب يملأ عينيها، فإبتسم لها وقد إختفت من وجهه جميع التجاعيد التي
حفرتها آلام السنين الماضية ، وقال:
" عن كل شيء ، عن زواجك الذي أجبرت عليه ."
" آه لو انك تركت لي فرصة الكلام من قبل لوفرت علينا كثيرا من المتاعب ."
" بالله ، كم عانيت يا ساندرا أنا آسف ."
نظر باريس الى وجهها الذي إصطبغ بحمرة الخجل ، وإقترب منها أكثر ورفع يدها
الى شفتيه ، ثم أضاف:
ساندرا ، لماذا لم تحدثيني عن زيارة هاري؟ ."
" ألم تقل انني حدّثتك عن كل شيء
، وانا مغمى عليّ؟".
وضحكا معا ضحكة فرح مليئة بالسعادة ، ثم قال:
" وقد عرفت ايضا الحديث الذي دار بينك وبين أولجا، وانك عرفت منها سر
مأساتي ، حكاية ولدي ."....
وعند ذكر ولده ، مرت على وجهه سحابة الم وتوقف هنيهة عن الكلام ، ثم تابع:
" أريد أن أخبرك شيئا لا زلت تجهلينه ، ساندرا، لويس كان صديقا للطبيب الذي
كان يعالج ولدي في حالات مرضه ؟، وعرف منه ان ابني كان سيعيش عليلا طول
عمره لو بقي على قيد الحياة ، فهو كان يعاني من مرض في دماغه منذ الولادة ."
" هل أنت متاكد من ذلك؟."
قالت له بتعجب
" نعم ، لكن الشيء الغريب ، انني كنت أشعر في البدء ان هناك علة ما في الطفل منذ
الولادة ، ولكنني لم أستطع تحديد ما هيتها ، ولذا تغاضيت عن الأمر ويبدو ان
لويس كان يعرف ذلك طيلة الوقت ، ولم يخبرني سوى ليلة أمس ، لأن زوجته رجته
أن يفعل من أجل سعادتنا أنا وأنت."
وتذكرت ساندرا عند هذا القول ، يوم اخفت فيلبا عنها الحديث الذي دار بينها وبين
زوجها وشعرت حينذاك أن لويس منعها من الكلام ، لقد عادت فيلبا اليها عندئذ
وهي في غاية الإضطراب ، ولكنها لم تبح بأية كلمة، وها هي الان تطلب من زوجها
ان يخبر باريس.
ولما لم تقل ساندرا شيئا ، تنفس عميقا ، ثم قال:
" لقد كنت غبيا ، حملتك الأحزان كما فعلت ، وقسوت عليك كما قسوت على
نفسي ، سامحيني ، قولي انك ستسامحينني ."
إقترب منها فعانقها برقة فيها كل معاني الحب ، ثم قالت:
" لقد سامحتك يا باريس ، إنني احبك ."
قالت تلك الكلمات بكل بساطة وطيبة ، واضافت:
" هذا ما كنت اقوله عندما سقطت تلك الشموع."
" اجل ، وقد قلت واعدت كل هذا عندما كنت تهذين ."
" آه يا عزيزي ! هل تعرف أن هاري إكتشف خدعتك؟ . "
حقيقة كانت خدعة ، ولكن كان علي ان أفعل ذلك لتكوني زوجتي، مع انني كنت
أكرهك لأنك رفضت الزواج مني ولكن كرهي ذاك كان أقل بكثير من حبي لك."
إقتربت ساندرا أكثر فأكثر ، والقت براسها المجروح على صدره، وتمتمت هامسة:
" اما الان فالحب فقط ." وكانت موافقته المفضلة:
" إنه الحب والحب وحده ، الآن وإلى الأبد ."
*
*
*
تسألت في افكارها ثم قررت نقلها إلى هاري وتساءلت:
" هل هو متزوج؟."
إنطلق السؤال من بين شفتيها قبل ان تستطيع حبسه.
" لم يخطر لي ببال ان أسأله." أجابها رفيقها بجفاء ، ثم أضاف:
" على أية حال ستكتشفين ذلك عندما تصبحين هناك ." صعد الدم الى وجهها ملونا إياه بلون الورود، ولحسن حظها تقدمت العميلة منهما في تلك اللحظة وهي تعتذر:
" إنني آسفة."
بدأت القادمة في الكلام ، عندما هبّ هاري واقفا لإستقبالها:
" أخشى أن اكون قد تأخرت عليك قليلا، إنها دقيقتان ، أو ما يقارب ذلك."
ثم نظرت الى ساعة يدها ، وهي تؤكد:
" لا أكثر ، أليس كذلك؟ ."
" لا اكثر من ذلك ."!
ردد ماكس كلماتها موافقا ، بطريقته الجذابة المعتادة التي يؤثر بها على الزبائن ،
ويجعلهم يحسون بالإرتياح ، ثم تابع كلامه:
" على اية حال ، إنه لمن دواعي سروري ان أنتظرك."
نظر الى ساندرا وهو يغمز بطرف عينه، ثم رفع يده يدعو المستخدم ، ويسأل القادمة
عما تريد أن تشرب ......
ماذا حل بهذا الرجل الذي وصفته ساندرا ذات يوم بانه أجمل من رأته في حياتها ؟
هذا التحول المفاجىء لا يمكن أن يكون إلا نتيجة صدمة عميقة ..... كانت السماء لا تزال تتشح بالظلام عندما بدأت الطائرة رحيلها نحو مطار رودس،
فهاري و ساندرا إضطرا للسفر على أول طائرة تقلع قبل أن يبزع الفجر، لأنه لم يكن
هناك متسع لهما على الطائرة التالية، ولذا كان عليهما ان يقضيا في رودس طيلة بعد
ظهر ذاك اليوم وليلته.
ضيقت عينيها بإشمئزاز :
" آسفة... ربما لست في وضع يسمح لي أن أبرهن على ذلك، فعليك ان تثق بكلامي، أريد ان أدخل ."
" في مثل هذا الوقت؟ والليل لا يزال في أوله ، فتيا ، جميلا ، إنه ليل المحبين يا جميلتي ونحن محبون أليس كذلك ساندرا ؟!
" لا تكن سخيفا ."
صاحت ساندرا وقد إنقلب خوفها الى غضب ، وتابعت :
" يا للسخرية ، اتتحدث عن الحب وقد إعترفت انك تكرهني ؟ وانا ايضا متأكدة
أنني لا أحبك مثلك ولن أستطيع ."!
ولدهشتها لم يعلق على كلامها، بل قال في هدوء:
" إجلسي يا ساندرا إجلسي، فأنا الآن في حالة رومانسية لا احب فيها ان أكون وحيدا ."
فتساءلت ساندرا ، ترى لماذا يخشى أن يبقى وحيدا ؟ أيريد ان يهرب من افكار تقلقه ،
افكار شريرة مثلا ؟ وفجأة فكرت بزوجته الأولى وأحست برغبة شديدة ان تعرف
شيئا عنها ، وعن موتها!
ولكنها تخاف أن تسأله عنها، كلما جاءت سيرتها انقلب عليها مهددًا!
كان باريس لازال جالسا بنفس نظرة الكبرياء والغرور وهو يأمرها بالجلوس ، رفعت ساندرا وجهها إليه وبريق
الغضب يشع من عينيها وقالت:
" أنا متعبة ، ليلة سعيدة ."
" ستبقين في رفقتي ."
اجابت ساندرا وقد ضبطت اعصابها بصعوبة:
" لست مجبرة على ذلك باريس، فلو كنت أنت الذي يريد الذهاب الى الفراش لفعلت من
غير ان تسألني."
بالتأكيد ، فأنا السيد هنا ، أفعل انا ما اريد ، وتفعلين انت ما آمرك به"
كان كلامه قاطعا لا يقبل الجدل.
" إجلسي ."
وبعد تردد قصير فعلت لم تجد فعلا شيئًا آخر تفعله غير ما أمرت به ، ثم أضاف :
أرى انك تتعلمين بسرعة ، يا فتاتي ."
وبقيت ساندرا صامتة لا تجيب ، اما باريس فقد تابع كلامه تبدو في صوته نبرات
السخرية المعتادة:
أنا أعرف أن الغضب يغلي في صدرك ، ولكنك لا تجسرين على إظهاره ، الواقع
أنني أهنئك على حكمتك ."
إرتجفت ساندرا والكره المميت يملأ قلبها وعيناها تتقدان بالحقد العميق ، وقالت:
ربما لا أستطيع أن أكون حكيمة دائما ! ولو كنت انت تملك شيئا من الحكمة ، لما
إستعملت مثل هذا الأسلوب في معاملتي ، فبذلك تدفعني بعيدا عنك أكثر سيد فيليب
إبتسم باريس ثم سألها قائلا:
" بعيدا ، الى أي شيء مثلا ؟ ."
الى عدم القدرة على الإحتمال، انت نفسك إعترفت أن لي روحا عالية ."
" وإن كنت تذكرين ، فقد قلت أيضا انني اريد أن احطمها، عزيزتي ساندرا
نظرت ساندرا اليه بإزدراء ، وقالت: أعتقد أنني هنا ، حتى لا تكون وحيدا ، وبناء على ذلك فإنني اقترح ان نحاول ان
نجعل نقاشنا مسليا ، فتهديداتك المستمرة أصبحت مملة ."
توقفت أولجا فجأة عن الكلام، ونظرت نحو ساندرا معتذرة يبدو أنها استرسلت في الكلام بشكل لا يليق :
أنا آسفة سيدة ساندرا ."
" لا تعتذري ، أنا أعرف ان زوجي تغير شكله خلال السنوات التسع الأخيرة ."
كانت زلة لسان من ساندرا ، إذ لا يبدو على أولجا انها تعرف أن الفتاة الإنجليزية التي
تتحدث اليها الآن هي التي رفضت سيدها منذ سنوات!
أكملت أولجا ولم تنتظر أن تسألها ساندرا حتى وقالت :
" كان والد السيد باريس قلقا على امواله وأعماله ان تذهب الى أبناء أخيه من بعده
، ولذا ألزم السيد باريس بالزواج حتى ينجب وريثا ليحافظ على كل ذلك ويكمل سلسال العائلة، لقد حدثت بينهما مشاحنات
كثيرة ، لأن سيدي قال أنه لا يزال يحب تلك الفتاة الإنجليزية والتي لم يرفضها والده لكنه طلب "
ومرة أخرى سكتت أولجا عن الكلام وأخذت نفسا عميقا وهي تنظر الى سيدتها
بشيء من الشك ثم قالت:
" أنت التي طلبت مني ان أخبرك بكل شيء ، ولذا فإنني أفعل. "
" نعم أريد أن اسمع كل شيء ." أحست ساندرا بقلق أولجا لذا قررت أن تطمئنها لكي تكمل حديثها الذي لم يشبع فقط فضولها بل وضح لها كل شيء تقريبًا ولن تمانع في أن تستمع لخادمة
فهي تريد أن تعرف كل شيء عن باريس
أحست بالإشفاق على زوجها وشعرت بالذنب فلو أنها تزوجت منه لما حلت به كل
هذه المآسي ، ولما عانى كل هذه المعاناة ، ومن جهتها هي ، لكانت تفادت الزواج من
ذلك الرجل البغيض أليكس ماكسون
عادت أولجا للكلام ثانية وعرفت ساندرا المقتطفات الأخيرة من القصة
وهي أن
باريس عندما أيقن أنه لا يمكن أن يتزوج الفتاة الإنجليزية ، إختار فتاة يونانية وتزوج
منها ، وعزم على ان يكون زوجا صالحا ، وإستمرت أولجا في حديثها فقالت:
" كانت حياة السيد باريس سيئة للغاية، كانت سيدة بشعة لا تطاق وخائنه ثم أصبحت قاتلة، كان معه كل الحق لقتلها ولكننا انقذناه من السجن، وأخيرا قررت الحياة انهاء المعاناة وتوفت تلك الزوجة في حادث سيارة
هي والحبيب الأخير لها والذي كانت تخون سيدي معه برغم كل ما حدث لهم
صممت أولجا قليلاً تسبها بصوت خفيض لكنه وصل إلى ساندرا التي كادت أن تضحك ولكنها صمتت لأن الموقف غير مناسب بالمرة للضحك
تنهدت أولجا ثم أكملت كلامها قائلة : والآن نأمل أنا وزوجي أن يعيش سيدي معك حياة مليئة
بالسعادة سيدتي ف أنت تختلفين كليا عنها سواء في جمالك أو شخصيتك التي أحببناها كثيرا بسرعة"
احمرت وجنتا ساندرا وابتسمت ابتسامة مشرقة : شكرا اولجا أنا أيضا احببتكم كثيرا
أنا ممتنة لك كثيرا ، فالآن افهم زوجي بطريقة افضل ."
" سيدتي ، وأنا اكون شاكرة لك أكثر لو احببت سيدي ." ومن دون أية كلمة أخرى إستدارت لتترك الغرفة
وفي منتصفها تذكرت ساندرا شيئًا مهما فسألتها بسرعة
" أولجا ..... إرجعي! ."
" نعم سيدتي ."
" هل قدّمت والدة الطفل للمحاكمة ؟ ."
" أنها الحقت العار بسيدي، بتصرفاتها المشينة ، والسيد باريس كثيرا ما تحدث مع
والده ومع الطبيب ، ولكنهم قرروا أن هذا العار يجب أن يبقى سرا ، ولم تقدم
للمحاكمة ، وانا لم أخبر احدا بما قلته لك يا سيدتي ، فأنت لك الحق بأن تعرفي كل
شيء ."
" إذا كان الطفل قد قتل ، فكيف طمست القضية؟ ."
" لقد قالوا أنه سقط من الدرج الى الحديقة ، أنا أظن أن تلك المرأة كانت مجنونة
وشريرة ، وعلى هذه الحال يمكن أن تعفى من العقاب."
" وهكذا إذن قرر السيد باريس أن ينتقل نهائيا من بيموس؟ ."
" نعم هذا ما حدث بالضبط "
أومأت ساندرا برأسها وشكرتها قبل أن تذهب أولجا وتغادر الغرفة، وتترك ساندرا مع افكارها ، كان من الواضح ان باريس عزم
على ان يبدأ حياة جديدة في بيت جديد وزوجة جديدة أيضا ، مبتعدا كليا عن كل
شيء يذكره بالماضي.
أحست ساندرا بالحنان والإشفاق يملآن صدرها ، وتأكدت الآن أنه تزوج منها للإنتقام
، لأنه يعدّها مسؤولة عن كل ما حدث له حتى موت ولده
حقه يفكر بهذه الطريقة لو تزوجت منه ووافقت عليه حينها لما ألمت به جميع هذه المصائب ، ولكنها مع ذلك لن تسامحه لأنه تزوج
منها بهذا الاسلوب ورغم إرادتها، كان يمكنه أن يحدثها، يصارحها ويترك لها الاختيار، وكان الاختيار سيكون هو بالطبع، حتى مع رفضها للزواج لكنها الآن فقط تأكدت بأن كلامي هاري صحيح عندما قال لها لو عاد باريس وعرض عليها الزواج لوافقت
تنهدت ساندرا وجلست تفكر قليلاً ثم عزمت على ان تحاول ما إستطاعت أن
تعيد شيئا من البهجة الى حياة باريس على الأقل تعوض شعور الذنب الذي يقتلها نحوه الآن!
وفي هذه اللحظة اقتحم باريس الغرفة
نعم ستقول اقتحم لانه لا يعرف شيئًا عن طرق الأبواب!
أو يعرف أنها تكره الدخول هكذا بدون استئذان فلا يتردد أبدًا أن يضايقها بأي شيئ حتى لو كان بسيطًا مثل ذلك
تشعر وكأنه يستمتع بالدخول فجأة ويراها وهي عارية أو وهي ترتدي ملابسها أو أي شيئًا آخر
لكنها هذه المرة من حسن حظها كانت لازالت تجلس في الأريكة مكانها بعدما تركتها أولجا،
وقف أمامها كعادته يحاصرها بنظرات ساخرة غاضبة لا لأي شيء سوى أن يعكر عليها صباحها
وهو ما حدث فعلاً، وقف أمام خزينته يبدو أنه كان يبحث عن ورق ما ثم يعود إلى مكتبه، تلك النظرات التي يلقيها عليها أعادتها للواقع مرة أخرى وبدأت تمحي في مشاعر الشفقة التي غزت قلبها عندما سمعت القصة كاملة من أولجا، نعم كل شيء سيء وأنها كانت من ضمن الأسباب السيئة لكنها ما ذنبها في اختيارات أحدهم ؟ هل يجب على الانسان أن يختار لنفسه وحياته ولحياه الاخرين ؟
لم تكن تقصد أبداً أن يعاني كل ذلك البؤس، وعلى الرغم أنها لم تتراجع بشكل كامل عن قرارها لكنها خشيت على سلامتها بين يدي رجل مجنون كهذا ، ذات يوم قد يستبد به الحزن
الى درجة مرعبة بحيث لا يعرف ما الذي يفعل، يمكن أن يقتلها مثلا ؟!
اقشعر بدنها وكلمات هاري وأولجا تتردد في عقلها،
بالرغم من أن ساندرا حاولت الكثير لتبعد عن نفسها القلق والشعور بالذنب، إلا أنها
ايقنت ان ذلك مستحيل ، فالفكرة تلاحقها في كل لحظة ودقيقة كالحلم المريع الذي
يرفض أن يتراجع الى عالم النسيان ، بعد الذي سمعت وعرفت .
ولكنها مع كل ذلك لم تستطع أن تتغلب على شعورها بالكراهية نحو باريس أو لعلها
لا تريد، فهي لن تنسى أنها تزوجته مكرهه بدون اختيار ، وكانت إذا إلتقت به ، لا تتمكن من
إخفاء مشاعرها نحوه في أكثر الأحيان خصوصا مع محاولاته لاستفزازها طوال الوقت!