الفصل السابع والعشرون

- ما الذي اتى بك الى هذا المكان؟!
تسائلت ليلى وصوتها يرتجفُ بوضوح ولكن جلال وقف ليغطيها بقامته متقدّمًا من آدم وعيناه تحتدّ بشدّة وقبل ان يجد آدم ما يقوله بادر جلال بخفوتٍ حاسِم:
- وجودك هذه الليلة بالذات غير مُرحّب به، من الأفضل ان تغادر.

اتسعت عينا آدم بجنون وهو يستمع لرجل آخر يطرده من بيت زوجته، رجُلًا طالما شعر بالخطر منه وقد كانت مخاوفه بمكانها، ذلك الحقير رمى شباكه حول ليلى قبل طلاقهم، وهذا التفكير وحده جعل يده ترتفع نحو خصمه بلكمةٍ لم تصل الى جلا اذ انه امسك بكفّه بعنف والقاها بعيدًا وعاد يهمس بذات النبرة المُهذّبة:
- احترم نفسك يا آدم، يكفي الى هذا الحد، لا تجعلني اتعامل معك بحضور الفتيات، لا ارغب بأن يروني وانا ابرح والدهُنّ ضربا، صدقني هنّ اغلى لديّ من ايّ موقفٍ سخيف سيجعلهُنّ يكرهنني.

اخذت انفاس آدم تتعالى بتحشرُجٍ مُثيرٍ للشفقة وكم بدى في تلك اللحظة اكبر بسنواتٍ من عمره الحقيقي، عيناه غارت بصورة مُفزِعة وكأنه مريضٌ منذ سنوات بينما الألم منهما يكاد يمزق من يراه رأفةً به، منذ متى لم يذُق طعم النوم؟! منذ تلك الليلة التي اخذ فيها شعرةً من ابنه وقام بتحليلها للتاكُّد من نسبه وهو قد انكسر للأبد، بكى يومها بحُرقةٍ وهو يعترف بأنه اكثر حقارةً من غيد، لقد شكّ بأبوّة الطفل الذي منحه له الله بعد سنواتٍ طويلة ظنّ فيها انّه لن يحصل على من يحمل اسمه، ذلك الصغير الذي لم يغدقه يومًا بحنان الأباء، ولن يستطيع بعد اليوم ان يرفع وجهه امامه، واليوم.. آهٍ من هذا الألم، كيف لجلال ان يخاف على مشاعر بناته بهذه الصورة؟! بل متى اصبحن جزءً من حياته؟ اين كان هو وذلك الغريب يغدوا اكثر قُربًا منه لعائلته؟!

- كلامي ليس معك، ليلى ستعود لي لأجل ترميم عائلتنا، لأجل بناتنا.
صدرت ضحكة هازئة من حور فإلتفت اليها كلّ من جلال وآدم، فتقدمت لتقول بقلبٍ نازِف:
- إياك ان تدخلنا بهذه المُعادلة الخاسِرة، لا تتحدث وكأننا نُهمّك.
نفذ حديثها كسهمٍ صوّب مباشرةً الى قلب والدها الذي شحبت بملامحه بوضوح وقال بتلجلُج:
- ما الذي تهذين به، انتُما بناتي مهما حدث وانا سأظلّ والدكما.

- من ايّ منظور؟!
هتفت حور بحدّة وقد بدأت بالإنهيار لتسقُط دموعها تزامنًا مع كلماتها التي انسابت من جرحٍ قديم لم يندمل بعد:
- ارجوك كيف تُقاس عندك الأبوّة؟! هل بذلك المال الذي ترميه لنا كل اسبوع وكأنك تريد ان تشتري بُعدنا، ام بغيابك الكُلّي عن حياتنا؟!

اقترب جلال يضح يده حول كتفيها يسترجيها ان لا تكمل حديثها، فآخر ما يرغب به هو حدوث تلك المواجهة، صحيح انه يكره آدم بشدّة ولكنه لا يريد لحور ان تفقد وجوده في حياتها حتى إن كان مُجرد ظهورٍ باهت، الّا انها لم تستمع لأحد وهي تطالع وجه ابيها الغارقِ بالأسف لتهمس من بين دموعها:
- عندما كنتُ احارب الموت وحدي لم اجدك بجانبي، ذلك اليوم الوحيد الذي احتضنتني فيه اخبرتني انّك ستكون بجانبي، أتذكُر؟! تلك الليلة التي اخذت فيها اوّل الجرعات، كان الألم يقطّع كل خلية بجسدي ولكنني لم ابكِ لأنّك كنت بجواري، اردتُ ان أُثبت لك انني قويّة وسأُحارب كل شيءٍ لأنّك معي ولكنّك لم تأتي بعد ذلك اليوم، لم تأتي مُطلقًا.

لم تقوى على الحديث لتضع كفيها على وجهها وتنتحب كطفلةٍ تاه والدها في الزِحام، ولم تجد حُضنًا ادفأ من ذراعا جلال فإندسّت بينهما ليزداد بكائها وتتضخّم تلك الغصّة بحلق والدها والذي تهدّل كتفيه وكأنّ حِملا ثقيلًا يجثم عليه.. بينما اقتربت ليلى من ابنتها وربتت على ظهرها برفق لتلتقي عيناها بعيني جلال اللامعتين بدموعٍ خفيّة لتخبرها نظرته بإمتنانٍ عظيم لهذا الشعور الذي تلبّسه في هذه اللحظة فبعناق تلك الصغيرة شعر بأنّ روح ابنائه تعود للحياة لتشعل بداخله ابوّةً جارفة.

وكان كمال يقف في تلك اللحظة امام الباب ينظر الى آدم بكُرهٍ عميق، ازدادت عيناه قسوةً عندما همست حور وشهقاتها تتعالى:
- لقد قصّ المرضُ شعري ولكنني لم ابكِ كتلك الليلة التي قصصته لي انت لأجل زوجتك، لم ابكِ مُطلقًا الّا عندما لمحت نظرة الإنكسار بوجه اُمّي عندما عادت...
صمتت غير قادرة على الكلام وهي لا تدري ماذا حدث في تلك الفترة لوالدتها التي كانت تتهرّب من هذا السؤال دائمًا الّا انها تعلم انّ والدتها فقدت جُزءً من روحها في تلك الأيام.

اغمض كمال عينيه بشدّة وجنونا خطيرًا يشتعل بداخله، لا يريد تصديق انّ هذا الرجُل المعتوه قد قصّ شعر ابنته. وكانت تلك الحلقة المفقودة في حياة حور التي بات يعرفها كخطوط يديه، إنها عانت من صدمة نفسية قوية هي ما زادت حالتها سوءً، لم يستطع الإسترسال بتفكيره وهو يسمعها تقول بحُزن:
- هذا الرجُل الذي تريد ان تُقصيه عن حياتنا كنت اراه امام زجاج غرفتي، ينظر اليّ بإبتسامةٍ مُشجّعة وكأنه يخبرني بأن كل هذا الألم سيمضي، في كثيرٍ من الأحيان تتشوّش رؤيتي واتخيله انت ولكنني مُخطئة، لقد كان ابي جلال هو من يقفُ بجانبي في كل لحظةٍ تمنيتُ فيها وجودك.

هل قالت "ابي جلال؟!" هل نعتته بهذا اللفظ المُقدّس الذي حرمته منه طويلًا؟!
نظر اليها وحاجبيه ينعقدان بألم لتُردف بقسوة:
- لقد كان ابي في الوقت الذي انشغلت فيه بالتسلية بإبنك الجديد ماسِحًا إيانا من حياتك، وكما اخترت ذات يومٍ غيد وابنها نحن اتخذنا قرارنا، انا وحلا وامي سيكون لنا حياةً جديدة.
- انتِ وحلا ستكونان برفقتي.
بقسوةٍ شديدة هتف آدم عندما شعر بأنه قد خسرهُنّ الى الأبد فإتخذ العُنف سبيلًا الّا انّ ليلى قالت بنبرةٍ مُشتدّة:
- لم تحزِر، بناتي مكانهنّ معي انا، لا يمكنك ان تأخُذهُنّ بعد اليوم.

والتفتت الى جلال قائلة:
- هذا هو اوّل شروطي، انا لن اتخلىّ عن بناتي.
اومأ جلال مُبتسمًا بحنان الّا انّ آدم جذب حور بعنف ليجد يدًا قويًّا تنتزعها منه وكمال يهمسُ بحدّة:
- إياك!
تقدّم حينها بحر وهو يدرك ان ليلى بات لها ظهرًا يحميها دون حتى ان يشعر بالقلق نحوها واشعره ذلك ببعض الغيرة الّا ان سعادته كانت اكبر، فقال لآدم بهدوء:
- الأمور لا تؤخذ بالصُراخ، فلو لم تُرد الفتيات الذهاب معك فهذا خيارهُن ولن املك حينها سبيلًا لأبعادك عن حياتهنّ الى الأبد.

- انا لن اذهب، سأبقى مع أُمّي.
قال حور بحدّة بينما اتجهت الأنظار الى حلا التي اخذت تمسح دموعها وعيناها تأبى مُفارقة ابيها الذي لا يبدوا بخير، تصارعت بداخلها رغبتان قويّتان لن تلتقيا مُطلقًا، لم ترغب بأن تترك والدتها واختها ولكن بذات الوقت ثمّة شيءٌ بداخلها يمنعها ان تقسوا على والدها، شيئًا يشبه الشفقة على رجُلٍ عجوزٍ بحاجةٍ للرعاية الّا انّ حور قطعت شرودها وهي تسألها بحدّة:
- هل ترغبين بالبقاء مع زوجة ابيكِ؟! تلك التي دمّرت حياتنا؟!

- لا!  لا اريد.
همست ببكاء ليشعر آدم انه على وشك الإنهيار، فقد تداعت حياته امام ناظريه دون ان يجد القُدرة على إنقاذ اي شيءٍ منها، تلاشى كل شيءٍ بغمضة عين كبيتٍ من الرمل اعدمته موجة، يا الله كم هو مُرُّ هذا الشعور! من يُصدّق انّه قبل عامين من هذا اليوم كانت هذه العائلة متماسكة كسدّ منيع ولكنها اليوم... لم تعُد من الأساس موجودة، وسيتشكّل من حطامها عائلتين.. واحدة مكللة بالسعادة والحُب وأُخرى مشوّهة، مبتورة المعالم.

إنحنى ليلتقِط عصاه التي سقطت منذ وقتٍ طويل ليستند عليها ويخرج بصمت يجرجِر خزيه وحزنه وندمه حيث لن ينفع الندم.
بينما ركضت حلا لغرفتها وهي تبكِ بشدّة، وعندما حاولت حور اللحاق بها منعتها والدتها قائلة بحُزن:
- اتركيها وحدها، ستهدأ بعد قليل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي