الفصل الثامن والعشرون
عاد الجميع للجلوس وقد اقتربت لتجلس بجوار والدتها تُمسك يدها بمؤآزرةٍ صامتة الى ان طرد ذلك الصمت الخانق قول جلال:
- إذن يا غالية ما هي بقيّة شروطك.
نظرت اليه ليلى لا ترغب في تلك اللحظة سوى ان تتزوجه، وتشكره عن كل لحظةٍ دعم فيها ابنتها دون علمها، عن كل مرّةٍ عوّضها فيها عن فقد والدها، صدقًا لم ترغب بأكثر من ذلك الّا انّها نحّت مشاعرها جانبًا وهي تقول دون تردُد:
- مهري سيكون متجر والدي القديم.
- كان ليكون هديّة منّي لكِ ولكن لا بأس، وجودكِ بحياتي لا يساوي اموال الدنيا.
احمرّت وجنتاها بخجلٍ واضح من تلك العبارات المُربِكة التي يهمسُ بها ببساطةٍ وتهذيب بينما سعل بحر وعيناه تطالعهما بتجهُّمٍ حانق الى ان اضافت بصلفٍ انثوي:
- ولن أسكُن ببيتٍ سكنته امرأةً من قبلي، مع احترامي لها.
قالت كلمتها وهي تعلم ان زوجة جلال كانت تسكن من قبل بذات البيت عندما يأتون لزيارة المنطقة. ونظرت بإعتذارٍ الى كمال الذي ناب عن والده وردّ قائلًا:
- انا ووالدي نعيش بشقّة صغيرة لذا من المؤكد ان ننتقل لبيتٍ اكبر.
اومأ جلال بهدوء بينما قال بحر بتفكير:
- اظنّ انكم لستم بحاجة للبحث عن بيت، فلازال هنالك منازل خالية بهذه المنطقة، والجيد انها مكتملة البناء، وشركتنا هي الممول لهذا المشروع، اي انّ ليلى ستختار المنزل الذي يعجبها دون مقابل.
ارتسم الرفضُ جليًّا على ملامح جلال الّا انّه قال بإصرار:
- سآتي لمقابلتك في مكان عملك، ونتفق على الأمر كبائع ومشتري.
اومأ بحر بصمت ولكنه قال بتردُد:
- ثمّة أمرٌ يجبُ ان نناقشه.
انتبه له الجميع ليقول بهدوء:
- لا يمكن للفتيات ان يبقين برفقتكما يا ليلى، لا يجوز وهنالك شاب اعزب بذات المنزل، الأصول تقول ذلك.
شعرت ليلى بالقلق وهي تفطنُ لتلك المُعضلة الّا انّ قول جلال جعلها تطمئن عندما اوضح:
- كمال سيكون لديه عيادته الخاصة مرفقة بشقة بسيطة سيعيش فيها فعمله يتطلّب بقائه معظم الوقت، وحور وحلا هما ابنتاي واخواته بكل تأكيد، أليس كذلك؟!
- بالطبع!
قال كمال وهو ينظر الى حور التي استغربت موافقته الفورية لحديث والده، كيف له ان يتخلى عن ابيه بهذه السهولة؟! فهي تدرك مُسبقًا ان علاقتهما قوية للغاية نظرًا لأن كمال هو الولد الوحيد الباقي لجلال الّا انها لا تدرك ان كمال لم يكُن ليترك والده ولكن الظروف حكمته، حتى لو لم يكن لليلى بنات لا يمكنه البقاء معها بذات البيت احترامًا لها ولخصوصية العلاقة التي باتت تربطها بأبيه، وبالرغم من كل شيء هو سعيد لأن والده وجد امرأةً رائعة كليلى، امراةً جرّبت كل صنوف العذاب ولا زالت قادرة على العطاء، هي وحدها من سيرتضي مشاركتها في والده، اما تلك الحورية ذلك اللسان الطويل ستكون شوكة ببلعومه الّا انّه مُضطرًّا لتحمُّلها، وستكون هي ضريبة صغيرة لرؤية والده سعيدًا.
مرّت تلك الجلسة سريعًا وقد تحوّل التوتُّر السابق لمغادرة آدم الى إلفةٍ مُتبادلة وكأنهما عائلةً واحدة، وانتهى الأمرُ بتحديد موعد الزواج الذي سيكون بحفلٍ صغير يضم المقربين من العائلتين ولم يكُن الأمرُ بعيدًا، فقط اسبوعين وستكون ليلى زوجةً لجلال.
وبالفعل مرّا بلمح البصر، وتمّ كل شيءٍ بسُرعةٍ غريبة وكأنّ القدر سارع بتسهيل حياتهما، توفر المنزل بالمواصفات المطلوبة وبجواره عيادة كمال وشقته، بينما نقلت الصبيتان اغراضهما بصورةٍ نهائية لبيتهما الجديد، بالطابق الأعلى لذلك المنزل المكون من طابقين وحديقة واسعة.
ليلة الزواج، ارتدت ليلى ثوبًا قصيرًا بلون الليمون الناضج، اخضرًا زاهيًا جعلها مُنتعشةً كزهور الربيع، وكان شعرها الناعم مضمومًا بأناقة في لفّةٍ كثيفة مزينة بورود بيضاء صغيرة لتبدوا كباقة وردٍ مُغلفةً بعناية.
- أُمّي! تبدين مُذهِلة!
همست فلك لوالدتها التي تمتمت بإرتباك:
- لا ابدوا جميلةً الى هذا الحد، الفستان سخيف، يجعلني ابدوا كحبة ليمون، هل ابدله؟!
حاولت النهوض الّا انّ حور جذبتها لتجلس وقالت بلؤم:
- الفستان رائع يكفي انّ الغالي يُحبّ هذا اللون.
- لم ارتديه لأنه يحبه.
نفت ليلى بسُرعة واستدركت تقول بإنزعاج:
- حور، توقفي عن منادته بتلك الأسماء!
- ماذا قُلت؟ ألا يناديكِ يا غالية وهو صار الغالي لأنكما ستتزوجات بعد قليل! توقفي عن الغيرة منّي، فأنا مجرد ابنة مسكينة بينما انتِ حبيبة القلب.
همست حور ضاحكة وركضت عندما حاولت والدتها ضربها بينما ابتسمت ليلى بإرتباك، كانت خائفة للغاية، تشعر بأنها تسرعت ولكن قلبها يخبرها بأن جلال سيكون جزءً من حياتها عاجِلًا ام آجِلا، مهما حاولت التهرُّب من هذه الحقيقة تجد انها تغرق به من جديد،
- لا تقلقي، ستكون حياتكِ جميلة.
همست فلك وهي تحتضن والدتها التي ضمّتها بشدّة واغمضت عينيها بعذاب، تشعر بأنها آذت بناتها دون تنتبه، مهما ابدين سعادتهنّ بزواجها الّا انّ شعورًا من الحزن يجتاحهُنّ بسببها.
- آسفة.
همست وهي تشعر بأنّ شيئًا ما يقضمُ قلبها لتُكمل بأسى:
- آسفة لأنني فكّرت لأوّل مرّةٍ بنفسي دونًا عنكُنّ.
- لا تقولي هذا الحديث مُجددًا، ارجوكِ يا أُمّي، انتِ لا تعلمين مكانتكِ بحياتنا.
كفكفت فلك دموعها ونظرت لوالدتها، وضعت يدها على خدّ والدتها واضافت مُبتسمة:
- ليلى انتِ اجمل اُمّ قد يحصل عليها المرءُ بحياته، بكل ليلة اغمض عيناي وادعوا الله ان لا يحرمني من وجودكِ، لقد تحملتِ الكثير لأجلنا ورؤيتكِ سعيدةً بعد كل ذلك العناء امرٌ يفرحنا للغاية، لأنّك تستحقين كل ما هو جميل.
ابتسمت ليلى ودموعها تسيلُ بغزارة، وقلبها يخفق بسعادة، وكانت تلك الكلمات بلسمًا لكل جروحها، يكفي ان بناتها يحببنها هل ستتمنّى اكثر من ذلك؟!
عندما ترجلت للأسفل كان وجهها يشعُّ بجمالٍ خاص، جمالًا نابعًا من اعماقها، نهض جلال على الفور وهو يطالعها بفمٍ مفتوح، وقد تبخّر الكون من حوله، ولم تلمح عيناه سواها، تلك المرأة التي اشعلت الحياة بقلبٍ ظنّه ميّتًا منذ سنواتٍ طويلة.
لم يدري كيف لتكون حياته لو لم يرفع نظراته اليها ذلك اليوم، لو لم يأتي لذلك المتجر الذي لا يأتيه الّا ببداية كل شهر، لو لم يستيقظ من نومه ذلك اليوم، كان ليفقد اجمل لحظات عمره، ابتسم بعُمق وهو يمتنّ لتلك الصُدفة وما تبعها من احداث، كل تلك الظروف التي تضافرت بقسوةٍ لتنتهي بصورتها التي لن ينساها مُطلقًا، صورة وجهها المُحمرّ وهي تنظر اليه وكأنها ملكت نجمًا من السماء.
.
.
يفترش فادي سجادة غرفته الناعمة، يعبثُ بالألعاب بفوضى، إنه جميلٌ للغاية، يحملُ لون عيناها الزرقاء، تلك العينان التي اسقطت آدم صريعًا، عينان ملعونتان بجمالٍ فتّان، جمالًا يقتل صاحبه وكل من حوله.
ابتسمت تمسح دموعها التي لم تجف منذ تلك الليلة التي فقدت فيها جنينها، لقد قتل آدم طفله دون رحمة.. كما قتلها منذ ان كتب صكّ ملكيتها منذ سنوات.
جلست بجوار صغيرها الذي اقترب منها بفرحٍ ليسقُط بين ذاعيها يلاعبها بطريقته الخاصّة، تستلقي بجواره على الأرض ويزداد نحيبها.. تتجرع مرارة لحظة واحدة من الضعف والخوف، بضع دقائق دمّرت كل شيء، تحوّلت فجأةً من مظلومةً الى خائنة بعيني الرجُل الذي خنق حياتها واحلامها، يغمرها الخزي والعار بينما يترفّع هو عن كل سوء، ضربها.. قتلها.. وحبسها بين اربعة جُدران لا تستطيع رؤية الحياة الّا من تلك النافذة العالية التي تهمس اليها في كل لحظة:
- تعالي! هيا لتخرجي من هذه الحياة.. لتستريحي الى الأبد.
ولكنها في كل مرّة تلتفت لطفلها، تطالع ابتسامته البريئة وعيناه التي تجمدها مكانها فتتراجع.. تتراجع في آخر لحظةٍ لتضمه بين ذراعيها وتنتحب بأنين الى ان باتت دموعها رفيقة صغيرها.. يتحسسها ضاحكًا، يلعق طعمها المُرّ ويمسحها ناعسًا.
بكائها يتعالي في تلك الشقّة الخاوية التي لا يطئها احد سواه، مرّةً واحدة بالأسبوع تسمعُ صوت مفاتيح سجنها تُفتح ليدخُل جلّادها بصمتٍ كئيب، حامِلًا الكثير من الأغراض التي تكفي للإسبوع التالي، طعام.. شراب.. وبعض الأغراض الخاصة بالصغير.. تحبِسُ نفسها ككُلّ مرّةٍ بغُرفتها وتترك صغيرها يركض متعثِرًا ضاحكًا نحو والده، تستمر زيارته ساعة واحدة.. ستون دقيقة كأعوامٍ من العذاب قبل ان يتناهى صوت بكاء الصغير رفضًا لغياب ابيه متبوعًا بصوت قفل الباب مُسريًا بقلبها بعض الأمان، فعلى الأقل لم يرمي عليها يمين الطلاق.. لم يطردها ويأخذ ابنها.. فقط حبسها، وكان ذلك اكثر الخيارات راحة، فكل ما سواه سيكون موتًا محتومًا لها.
لم تكُن غيد وحدها من تموت ألمًا من ذلك التعامُل المُهين، فآدم يتلظّى بنيران الندم على إدخالها لحياته، يدرك انه حكم عليها بالبقاء معه الى الأبد منذ اوّل لحظةٍ امتلكها فيها، هو اكثر جُبنًا من ان يحررها هي الأُخرى وبذات الوقت من المُستحيل ان يأمن لها من جديد، ستكون وابنها ندبتان عميقتان بقلبه، ولن يستطع ايّ شيءٍ ان يزيلهما، ندبتان قُدّر ان يظلًا كوشمٍ ابدي.
صوت صرير الباب دفعها للنهوض بتعثُّر، ظلّت ترتعد وكأن شيئًا ما جمدها مكانها، زفرت انفاسًا مختنقة تأبى مبارحة رئتيها وتراجعت بذُعر عندما سمِعت صوت خطواته تقترب، التصقت على الحائط عنما فُتِح الباب بهدوء، امتلئت عيناها بالدموع وهي تراقبه يتقدم منها الى ان وقف امامها مُباشرةً ليستمرّ الصمت الكئيب سوى من انفاسها اللاهِثة المُتعبة الى ان قال بإنكسار:
- ليلى ستتزوّج.
ارتعدت اطرافها وهي تطالعه بعينين يملؤهما الإضطراب وسرعان ما صرخت بهلعٍ ويداه تمسكان بكتفيها يهزّها بعُنف متزامِنًا مع هتافٍ مبحوحٍ يائس:
- ليلى ضاعت مِنّي الى الأبد، ضاعت بسببكِ.
اخذ نحيبها يتعالى وهي تترجاه بإنهيار:
- آسفة.. لا تضربني.. ارجوك لا تضربني مُجددًا.. لا تؤذيني... اعتبرني ابنتك.. لا تضربني ارجوك!
تجمّد الدم بعروقه للحظة وهمستها الحزينة تنفذ لقلبه، "اعتبرني ابنتك! "
- ليتني اعتبرتُكِ ابنتي، ليتني فقط سمحت لكِ بالعبور بجوار حياتي ولم التفت اليكِ، لم أكُن لأُدمّر حياتي وحياتك.
همس وهو يفلتها لتتهاوى ارضًا تضُمّ وجهها بين كفّيها وتنتحب مُمزقةً قلبه من الألم، في تلك اللحظة فقط ادرك انه المُخطئ الأوّل بكل الحكاية، هو من ظنّ ان النساء ثيابًا يخلعها متى ما اراد ويرتدي أُخرى مع الإحتفاظ بالقديمة بحوزته دائما.. دفعته رغبةً لتجربة شعورٍ مُختلف غير آبهٍ لمن داس عليهم اثناء تحقيق تلك الرغبة الشبيهة بجمرةٍ صغيرة سُرعان ما انطفأت لتُخلّف فقط مُجرّد رماد باهت.
وأد بناته بلا رحمةٍ وهو يُبعدهما عنه ظنًّا منه ان سعادته مع تلك الفتاة التي لا تكبرهن بالكثير.. جرّع زوجته كأس الذُلّ مُتحججًا بكونه رجُلًا يجوز له كل شيء ناسيًا انها انسانة.. بشرًا من لحمٍ ودم لديه قُدرةً للتحمُّل لن يستطيع تجاوزها.. وعندما فاض الكيل تركته بقسوة، انتزعته كإصبعٍ تالف لن يؤثر موته على حياتها، وجدت سعادتها مع رجُلٍ آخر، رجُلًا يعترف الآن انه اكثر حقًّا بها منه.
رجُلًا اوّل ما فعله هو ان كان بجانبها في الوقت الذي غرِق هو فيه بلذّة الحصول على إبن من زوجةٍ صغيرة تُلبّي رغباته دون اعتراض، وسرعان ما خبت تلك الرغبات لينظر لذلك الجُرح الكبير الذي صدّع قلبه بفقد عائلته، جُرحًا ظنّ انه سيلتئم ما ان يطلب عودة ليلى لحياته ولكنه اخطأ للمرّة الثانية.. فليلى قد ضاعت الى الأبد، وغدت نجمةٌ بعيدة، لا هو قادرٌ على الوصول اليها او ابعاد عينه عنها ليحصد الألم.. فقط الألم والعذاب.
عاد لينظر الى غيد وبكائها الهستيري، جلس ارضا بجوارها يبعد كفيها عن وجهها المُلطخ بالدموع لتقاومه بضعف الى ان مات خوفها لتنظر نحوه بعينان مُتعبتان، ظلّ يطالعها بصمت وهي تراقب امتلاء عينيه بالدموع، بكى كلاهما دون صوت، بكاء مُذنِبٍ يعتذر عن اخطائه، فكلاهما ارتكب إثمًا فادِحًا، هي خانته وهو قتل طفلها، هي قبلت به وهو آذاها.. وكلاهما مُضطرّان للتعايش مع هذا الألم لأجل طفلهما، ذاك الذي جاء ليمنحهما فرصةً اخيرةً للصلاح، للبدء من جديد ولو كانت القلوب بندوبٍ لن تُشفى، ستكون حياتهما دومًا مشوّهة الّا انها تتنفّس، حياةً معطوبة القدمين ولكنها تستطيع الجلوس.. حياةً بنصف جُرح وطفلٍ صغير.
.
.
يبدوا الأمر كمشهدٍ غريب، إنها بالفعل تزوّجت من جلال، لم تعي الأمر الّا بعد رؤيته امامها، مساءً عقِب عقد قرانهما الذي كان قبل بضعة ساعات، وهي الآن في هذه اللحظة ببيتهما، بغرفةٍ ستضمهما هذه الليلة وكل ليلة.
ارتجّ كيانها بعُنفٍ وهي تشعر بوجوده، لترفع وجهها نحوه لتجده بالفعل يقفُ امامها، اقترن حاجبيها بحيرةٍ وهي تنظر نحوه بذهولٍ واضح، عيناها تهتزّ بنظراتٍ تائهة مُراقبة لملامحه لأوّل مرّة منذ اصطحابه لها، او لو صحّ التعبيرُ منذُ معرفتها به، كان مظهره انيقًا كالعادة بينما ملامح وجهه مُتحفزة كصيّاد يتأهب لإقتناص فريسته، وضع عصاه جانبًا بينما احتلّت يده عمامته التي لم تراه من دونها مُطلقًا ليظهر شعره الناعم بشدّة والمتناقض بين السواد الحالك اللامع والبياض الوقور، كان شعره يكمل لوحةً خيالية لأحد ملوك الزمان القديم.
جلس جوارها ليقشعِرّ جسدها بصورةٍ واضحة بينما سارع هو بجذب وجهها ليملأ شوقه من تلك العينان الجميلتان، وقد كانت في تلك اللحظة اجمل عينان في الدنيا بنظرتهما الضائعة التي تسترجيه صبرًا وتمهُّلا الّا انّه لا يستطيع ذلك، لن يملك القُدرة على رؤيتها بهذه الرقّة والجمال ويمتنع عنها.
مرر انامله على وجهها بتملُّكٍ يتحسس هديّته القيّمة التي منحها له القدر في اوّج لحظات احتياجه لتكون سكنًا له عقب سنواتٍ من الغُربة، وما اجملها من منزل!
حاولت التراجع عن مرمى لمساته الغريبة على انوثتها الخاملة منذ فترةٍ طويلة لتجد انّ يده الأُخرى تحتجزُ ظهرها مُقرّبةً إياها من جديد لتبقى تحت ذلك الحِصار.
- إهدأي!
همسته ترافقت مع مرور اصابعه على ذلك العِرق النابض بعنقها لتبتلع ريقها ودموعها تهدد بالهبوط، لم تتوقّع مُطلقًا ان يكون قربه منها بهذه الصورة، ارادت ان تقف امامه بغرورها المعهود وتُملي عليه شروط حياتهما ولكنها الآن تبدوا كفأرٍ حُشِر بمنتصف الزاوية، يا إلهي! هذا الرجل يخيفها جدا، واستجابتها لتلك المشاعر الهائجة تزيد من رُعبها.
كانت ترتعد فعليًّا وصوت انفاسه الخشنة يهدر بجوار اذنيها ولم تملك حينها بُدًّا من الهمست برجاء:
- جلال!
ولم يكن لحرف الجيم طعمًا قبل تلك اللحظة، فقد خرج رنانًا مُغريًا لدرجةٍ اربكت مشاعره وهو يدرك انه سيسمع اسمه من فمها كثيرًا وفي كل مرّة سيساوره ذات الشعور الذي يجعل من هذه الليلة ذكرى لا تُنسى.
- يا نوّارة قلب جلال.
كان هذا آخر ما تذكره قبل غيابها عن كل ما حولها، حياتها السابقة، بناتها، مخاوفها، وكل احزانها ليتلاشى كل شيء عداه.
مشاعره الهادرة كموجٍ يداعبه هواءٌ عنيف اسرت بداخلها احاسيسًا لم تُجربها مُطلقًا، شيئًا غريبًا جعلها تبدوا كفتاةٍ صغيرة بأولى لحظات زواجها، وكأنها لم ترتبط بآدم من قبل، شعورًا جديدًا نظيفًا كوليدٍ بلا ذنوب، غدى قلبها بِكرًا من جديد وصارت بذور حبه مدفونةً بداخلها الى الأبد.
عندما داهمت الشمس خلوتهما كان كلاهما يطالع الأخر بذهول، لا يصدق احدهما انّ ما حدث ليلة الأمس حقيقي، وكأنّ كل منهما خلع روحه القديمة ليرتدي أُخرى يانعة تنبضُ بالحياة، وكان شوقهما كطفلٍ مُتطلّب لا يهدأ بسهولة، شوقًا لإرتباطٍ وثيق تكلل به زواجهما وغدت به ليلى امرأةً لرجُلٍ جعلها ترى الكون بين ذراعيه، رجُلًا لا يشبه ايّ رجُلٍ رأته من قبل، صريحًا، جريئًا فجًّا ولكنه بنظرةٍ واحدة يحتويها، يثير روحها بلا لمس، ينظر الى عينيها فترى انها اجمل نساء الدنيا.
لعقت شفتيها بإرتبكٍ وهي ترى عيناه تلتمع مع الشمس لتتلألأ كجواهر ثمينة لتغمض عينيها بإستسلامٍ لتلك القُبلة التي سحبتها لدوامّةٍ بطعم العسل لتحيط وجهه بيدها تتلّمس ذقنه الخشنة المتناقضة مع نعومة شعره الذي اخذت تلمسه مرّةً بعد أُخرى مع تاجُج مشاعرها من جديد.
- صباحًا مباركًا يا عروسي الجميلة.
كادت ان تستسلم له من جديد الّا انها قالت برجاء خافت:
- جلال، نحن لم نتحدث بالأمس.
- لقد تحدثنا مُسبقًا يا وجه الخير، إسبوعين كاملين وانا اتعب كثيرًا لإنتقاء كلماتٍ تُخفي شوقي إليك، لا داعي للحديث بعدها، دعينا فقط نستمتع بدفء هذه اللحظات.
ابتسمت وهي تتذكر تلك الايام، كانت يهاتفها صباحًا ومساءً كمُراهقٍ يتلهّفُ لسماع صوت حبيبته، تعرفت عليه بصورة اكثر عُمقًا لتكتشف شخصيته المُحببة التي تميل للجرأة، لا زالت تذكر غزله السافر الذي ينمقه بعبارات مُهذبة بينما يلقى اثرًا عنيفًا على قلبها المُهشّم بالأحزان.
- ولكن يا جلال لا يمكن...
ضاعت بقيّة كلماتها بين شفتيه اللتان احتلّتاها وطنًا، فلم تستطع مقاومة قلبها الذي يأمرها بإحتواء هذا الرجُل المتعطش للحنان.
- فقط عوضيني عن كل ليلةٍ حُرمتُ فيها من هذا الجمال.
همسته كانت رجاء قلبه الوحيد الذي لن تعصي لهُ امرًا، ستكون له طوال حياتها، ستمنحه قلبها بيتًا، وروحها رفيقًا وجسدها سكنًا، فقد اهداها حياةً جديدة وهذا اقلّ ما تستطيع مكافأته به.
- إذن يا غالية ما هي بقيّة شروطك.
نظرت اليه ليلى لا ترغب في تلك اللحظة سوى ان تتزوجه، وتشكره عن كل لحظةٍ دعم فيها ابنتها دون علمها، عن كل مرّةٍ عوّضها فيها عن فقد والدها، صدقًا لم ترغب بأكثر من ذلك الّا انّها نحّت مشاعرها جانبًا وهي تقول دون تردُد:
- مهري سيكون متجر والدي القديم.
- كان ليكون هديّة منّي لكِ ولكن لا بأس، وجودكِ بحياتي لا يساوي اموال الدنيا.
احمرّت وجنتاها بخجلٍ واضح من تلك العبارات المُربِكة التي يهمسُ بها ببساطةٍ وتهذيب بينما سعل بحر وعيناه تطالعهما بتجهُّمٍ حانق الى ان اضافت بصلفٍ انثوي:
- ولن أسكُن ببيتٍ سكنته امرأةً من قبلي، مع احترامي لها.
قالت كلمتها وهي تعلم ان زوجة جلال كانت تسكن من قبل بذات البيت عندما يأتون لزيارة المنطقة. ونظرت بإعتذارٍ الى كمال الذي ناب عن والده وردّ قائلًا:
- انا ووالدي نعيش بشقّة صغيرة لذا من المؤكد ان ننتقل لبيتٍ اكبر.
اومأ جلال بهدوء بينما قال بحر بتفكير:
- اظنّ انكم لستم بحاجة للبحث عن بيت، فلازال هنالك منازل خالية بهذه المنطقة، والجيد انها مكتملة البناء، وشركتنا هي الممول لهذا المشروع، اي انّ ليلى ستختار المنزل الذي يعجبها دون مقابل.
ارتسم الرفضُ جليًّا على ملامح جلال الّا انّه قال بإصرار:
- سآتي لمقابلتك في مكان عملك، ونتفق على الأمر كبائع ومشتري.
اومأ بحر بصمت ولكنه قال بتردُد:
- ثمّة أمرٌ يجبُ ان نناقشه.
انتبه له الجميع ليقول بهدوء:
- لا يمكن للفتيات ان يبقين برفقتكما يا ليلى، لا يجوز وهنالك شاب اعزب بذات المنزل، الأصول تقول ذلك.
شعرت ليلى بالقلق وهي تفطنُ لتلك المُعضلة الّا انّ قول جلال جعلها تطمئن عندما اوضح:
- كمال سيكون لديه عيادته الخاصة مرفقة بشقة بسيطة سيعيش فيها فعمله يتطلّب بقائه معظم الوقت، وحور وحلا هما ابنتاي واخواته بكل تأكيد، أليس كذلك؟!
- بالطبع!
قال كمال وهو ينظر الى حور التي استغربت موافقته الفورية لحديث والده، كيف له ان يتخلى عن ابيه بهذه السهولة؟! فهي تدرك مُسبقًا ان علاقتهما قوية للغاية نظرًا لأن كمال هو الولد الوحيد الباقي لجلال الّا انها لا تدرك ان كمال لم يكُن ليترك والده ولكن الظروف حكمته، حتى لو لم يكن لليلى بنات لا يمكنه البقاء معها بذات البيت احترامًا لها ولخصوصية العلاقة التي باتت تربطها بأبيه، وبالرغم من كل شيء هو سعيد لأن والده وجد امرأةً رائعة كليلى، امراةً جرّبت كل صنوف العذاب ولا زالت قادرة على العطاء، هي وحدها من سيرتضي مشاركتها في والده، اما تلك الحورية ذلك اللسان الطويل ستكون شوكة ببلعومه الّا انّه مُضطرًّا لتحمُّلها، وستكون هي ضريبة صغيرة لرؤية والده سعيدًا.
مرّت تلك الجلسة سريعًا وقد تحوّل التوتُّر السابق لمغادرة آدم الى إلفةٍ مُتبادلة وكأنهما عائلةً واحدة، وانتهى الأمرُ بتحديد موعد الزواج الذي سيكون بحفلٍ صغير يضم المقربين من العائلتين ولم يكُن الأمرُ بعيدًا، فقط اسبوعين وستكون ليلى زوجةً لجلال.
وبالفعل مرّا بلمح البصر، وتمّ كل شيءٍ بسُرعةٍ غريبة وكأنّ القدر سارع بتسهيل حياتهما، توفر المنزل بالمواصفات المطلوبة وبجواره عيادة كمال وشقته، بينما نقلت الصبيتان اغراضهما بصورةٍ نهائية لبيتهما الجديد، بالطابق الأعلى لذلك المنزل المكون من طابقين وحديقة واسعة.
ليلة الزواج، ارتدت ليلى ثوبًا قصيرًا بلون الليمون الناضج، اخضرًا زاهيًا جعلها مُنتعشةً كزهور الربيع، وكان شعرها الناعم مضمومًا بأناقة في لفّةٍ كثيفة مزينة بورود بيضاء صغيرة لتبدوا كباقة وردٍ مُغلفةً بعناية.
- أُمّي! تبدين مُذهِلة!
همست فلك لوالدتها التي تمتمت بإرتباك:
- لا ابدوا جميلةً الى هذا الحد، الفستان سخيف، يجعلني ابدوا كحبة ليمون، هل ابدله؟!
حاولت النهوض الّا انّ حور جذبتها لتجلس وقالت بلؤم:
- الفستان رائع يكفي انّ الغالي يُحبّ هذا اللون.
- لم ارتديه لأنه يحبه.
نفت ليلى بسُرعة واستدركت تقول بإنزعاج:
- حور، توقفي عن منادته بتلك الأسماء!
- ماذا قُلت؟ ألا يناديكِ يا غالية وهو صار الغالي لأنكما ستتزوجات بعد قليل! توقفي عن الغيرة منّي، فأنا مجرد ابنة مسكينة بينما انتِ حبيبة القلب.
همست حور ضاحكة وركضت عندما حاولت والدتها ضربها بينما ابتسمت ليلى بإرتباك، كانت خائفة للغاية، تشعر بأنها تسرعت ولكن قلبها يخبرها بأن جلال سيكون جزءً من حياتها عاجِلًا ام آجِلا، مهما حاولت التهرُّب من هذه الحقيقة تجد انها تغرق به من جديد،
- لا تقلقي، ستكون حياتكِ جميلة.
همست فلك وهي تحتضن والدتها التي ضمّتها بشدّة واغمضت عينيها بعذاب، تشعر بأنها آذت بناتها دون تنتبه، مهما ابدين سعادتهنّ بزواجها الّا انّ شعورًا من الحزن يجتاحهُنّ بسببها.
- آسفة.
همست وهي تشعر بأنّ شيئًا ما يقضمُ قلبها لتُكمل بأسى:
- آسفة لأنني فكّرت لأوّل مرّةٍ بنفسي دونًا عنكُنّ.
- لا تقولي هذا الحديث مُجددًا، ارجوكِ يا أُمّي، انتِ لا تعلمين مكانتكِ بحياتنا.
كفكفت فلك دموعها ونظرت لوالدتها، وضعت يدها على خدّ والدتها واضافت مُبتسمة:
- ليلى انتِ اجمل اُمّ قد يحصل عليها المرءُ بحياته، بكل ليلة اغمض عيناي وادعوا الله ان لا يحرمني من وجودكِ، لقد تحملتِ الكثير لأجلنا ورؤيتكِ سعيدةً بعد كل ذلك العناء امرٌ يفرحنا للغاية، لأنّك تستحقين كل ما هو جميل.
ابتسمت ليلى ودموعها تسيلُ بغزارة، وقلبها يخفق بسعادة، وكانت تلك الكلمات بلسمًا لكل جروحها، يكفي ان بناتها يحببنها هل ستتمنّى اكثر من ذلك؟!
عندما ترجلت للأسفل كان وجهها يشعُّ بجمالٍ خاص، جمالًا نابعًا من اعماقها، نهض جلال على الفور وهو يطالعها بفمٍ مفتوح، وقد تبخّر الكون من حوله، ولم تلمح عيناه سواها، تلك المرأة التي اشعلت الحياة بقلبٍ ظنّه ميّتًا منذ سنواتٍ طويلة.
لم يدري كيف لتكون حياته لو لم يرفع نظراته اليها ذلك اليوم، لو لم يأتي لذلك المتجر الذي لا يأتيه الّا ببداية كل شهر، لو لم يستيقظ من نومه ذلك اليوم، كان ليفقد اجمل لحظات عمره، ابتسم بعُمق وهو يمتنّ لتلك الصُدفة وما تبعها من احداث، كل تلك الظروف التي تضافرت بقسوةٍ لتنتهي بصورتها التي لن ينساها مُطلقًا، صورة وجهها المُحمرّ وهي تنظر اليه وكأنها ملكت نجمًا من السماء.
.
.
يفترش فادي سجادة غرفته الناعمة، يعبثُ بالألعاب بفوضى، إنه جميلٌ للغاية، يحملُ لون عيناها الزرقاء، تلك العينان التي اسقطت آدم صريعًا، عينان ملعونتان بجمالٍ فتّان، جمالًا يقتل صاحبه وكل من حوله.
ابتسمت تمسح دموعها التي لم تجف منذ تلك الليلة التي فقدت فيها جنينها، لقد قتل آدم طفله دون رحمة.. كما قتلها منذ ان كتب صكّ ملكيتها منذ سنوات.
جلست بجوار صغيرها الذي اقترب منها بفرحٍ ليسقُط بين ذاعيها يلاعبها بطريقته الخاصّة، تستلقي بجواره على الأرض ويزداد نحيبها.. تتجرع مرارة لحظة واحدة من الضعف والخوف، بضع دقائق دمّرت كل شيء، تحوّلت فجأةً من مظلومةً الى خائنة بعيني الرجُل الذي خنق حياتها واحلامها، يغمرها الخزي والعار بينما يترفّع هو عن كل سوء، ضربها.. قتلها.. وحبسها بين اربعة جُدران لا تستطيع رؤية الحياة الّا من تلك النافذة العالية التي تهمس اليها في كل لحظة:
- تعالي! هيا لتخرجي من هذه الحياة.. لتستريحي الى الأبد.
ولكنها في كل مرّة تلتفت لطفلها، تطالع ابتسامته البريئة وعيناه التي تجمدها مكانها فتتراجع.. تتراجع في آخر لحظةٍ لتضمه بين ذراعيها وتنتحب بأنين الى ان باتت دموعها رفيقة صغيرها.. يتحسسها ضاحكًا، يلعق طعمها المُرّ ويمسحها ناعسًا.
بكائها يتعالي في تلك الشقّة الخاوية التي لا يطئها احد سواه، مرّةً واحدة بالأسبوع تسمعُ صوت مفاتيح سجنها تُفتح ليدخُل جلّادها بصمتٍ كئيب، حامِلًا الكثير من الأغراض التي تكفي للإسبوع التالي، طعام.. شراب.. وبعض الأغراض الخاصة بالصغير.. تحبِسُ نفسها ككُلّ مرّةٍ بغُرفتها وتترك صغيرها يركض متعثِرًا ضاحكًا نحو والده، تستمر زيارته ساعة واحدة.. ستون دقيقة كأعوامٍ من العذاب قبل ان يتناهى صوت بكاء الصغير رفضًا لغياب ابيه متبوعًا بصوت قفل الباب مُسريًا بقلبها بعض الأمان، فعلى الأقل لم يرمي عليها يمين الطلاق.. لم يطردها ويأخذ ابنها.. فقط حبسها، وكان ذلك اكثر الخيارات راحة، فكل ما سواه سيكون موتًا محتومًا لها.
لم تكُن غيد وحدها من تموت ألمًا من ذلك التعامُل المُهين، فآدم يتلظّى بنيران الندم على إدخالها لحياته، يدرك انه حكم عليها بالبقاء معه الى الأبد منذ اوّل لحظةٍ امتلكها فيها، هو اكثر جُبنًا من ان يحررها هي الأُخرى وبذات الوقت من المُستحيل ان يأمن لها من جديد، ستكون وابنها ندبتان عميقتان بقلبه، ولن يستطع ايّ شيءٍ ان يزيلهما، ندبتان قُدّر ان يظلًا كوشمٍ ابدي.
صوت صرير الباب دفعها للنهوض بتعثُّر، ظلّت ترتعد وكأن شيئًا ما جمدها مكانها، زفرت انفاسًا مختنقة تأبى مبارحة رئتيها وتراجعت بذُعر عندما سمِعت صوت خطواته تقترب، التصقت على الحائط عنما فُتِح الباب بهدوء، امتلئت عيناها بالدموع وهي تراقبه يتقدم منها الى ان وقف امامها مُباشرةً ليستمرّ الصمت الكئيب سوى من انفاسها اللاهِثة المُتعبة الى ان قال بإنكسار:
- ليلى ستتزوّج.
ارتعدت اطرافها وهي تطالعه بعينين يملؤهما الإضطراب وسرعان ما صرخت بهلعٍ ويداه تمسكان بكتفيها يهزّها بعُنف متزامِنًا مع هتافٍ مبحوحٍ يائس:
- ليلى ضاعت مِنّي الى الأبد، ضاعت بسببكِ.
اخذ نحيبها يتعالى وهي تترجاه بإنهيار:
- آسفة.. لا تضربني.. ارجوك لا تضربني مُجددًا.. لا تؤذيني... اعتبرني ابنتك.. لا تضربني ارجوك!
تجمّد الدم بعروقه للحظة وهمستها الحزينة تنفذ لقلبه، "اعتبرني ابنتك! "
- ليتني اعتبرتُكِ ابنتي، ليتني فقط سمحت لكِ بالعبور بجوار حياتي ولم التفت اليكِ، لم أكُن لأُدمّر حياتي وحياتك.
همس وهو يفلتها لتتهاوى ارضًا تضُمّ وجهها بين كفّيها وتنتحب مُمزقةً قلبه من الألم، في تلك اللحظة فقط ادرك انه المُخطئ الأوّل بكل الحكاية، هو من ظنّ ان النساء ثيابًا يخلعها متى ما اراد ويرتدي أُخرى مع الإحتفاظ بالقديمة بحوزته دائما.. دفعته رغبةً لتجربة شعورٍ مُختلف غير آبهٍ لمن داس عليهم اثناء تحقيق تلك الرغبة الشبيهة بجمرةٍ صغيرة سُرعان ما انطفأت لتُخلّف فقط مُجرّد رماد باهت.
وأد بناته بلا رحمةٍ وهو يُبعدهما عنه ظنًّا منه ان سعادته مع تلك الفتاة التي لا تكبرهن بالكثير.. جرّع زوجته كأس الذُلّ مُتحججًا بكونه رجُلًا يجوز له كل شيء ناسيًا انها انسانة.. بشرًا من لحمٍ ودم لديه قُدرةً للتحمُّل لن يستطيع تجاوزها.. وعندما فاض الكيل تركته بقسوة، انتزعته كإصبعٍ تالف لن يؤثر موته على حياتها، وجدت سعادتها مع رجُلٍ آخر، رجُلًا يعترف الآن انه اكثر حقًّا بها منه.
رجُلًا اوّل ما فعله هو ان كان بجانبها في الوقت الذي غرِق هو فيه بلذّة الحصول على إبن من زوجةٍ صغيرة تُلبّي رغباته دون اعتراض، وسرعان ما خبت تلك الرغبات لينظر لذلك الجُرح الكبير الذي صدّع قلبه بفقد عائلته، جُرحًا ظنّ انه سيلتئم ما ان يطلب عودة ليلى لحياته ولكنه اخطأ للمرّة الثانية.. فليلى قد ضاعت الى الأبد، وغدت نجمةٌ بعيدة، لا هو قادرٌ على الوصول اليها او ابعاد عينه عنها ليحصد الألم.. فقط الألم والعذاب.
عاد لينظر الى غيد وبكائها الهستيري، جلس ارضا بجوارها يبعد كفيها عن وجهها المُلطخ بالدموع لتقاومه بضعف الى ان مات خوفها لتنظر نحوه بعينان مُتعبتان، ظلّ يطالعها بصمت وهي تراقب امتلاء عينيه بالدموع، بكى كلاهما دون صوت، بكاء مُذنِبٍ يعتذر عن اخطائه، فكلاهما ارتكب إثمًا فادِحًا، هي خانته وهو قتل طفلها، هي قبلت به وهو آذاها.. وكلاهما مُضطرّان للتعايش مع هذا الألم لأجل طفلهما، ذاك الذي جاء ليمنحهما فرصةً اخيرةً للصلاح، للبدء من جديد ولو كانت القلوب بندوبٍ لن تُشفى، ستكون حياتهما دومًا مشوّهة الّا انها تتنفّس، حياةً معطوبة القدمين ولكنها تستطيع الجلوس.. حياةً بنصف جُرح وطفلٍ صغير.
.
.
يبدوا الأمر كمشهدٍ غريب، إنها بالفعل تزوّجت من جلال، لم تعي الأمر الّا بعد رؤيته امامها، مساءً عقِب عقد قرانهما الذي كان قبل بضعة ساعات، وهي الآن في هذه اللحظة ببيتهما، بغرفةٍ ستضمهما هذه الليلة وكل ليلة.
ارتجّ كيانها بعُنفٍ وهي تشعر بوجوده، لترفع وجهها نحوه لتجده بالفعل يقفُ امامها، اقترن حاجبيها بحيرةٍ وهي تنظر نحوه بذهولٍ واضح، عيناها تهتزّ بنظراتٍ تائهة مُراقبة لملامحه لأوّل مرّة منذ اصطحابه لها، او لو صحّ التعبيرُ منذُ معرفتها به، كان مظهره انيقًا كالعادة بينما ملامح وجهه مُتحفزة كصيّاد يتأهب لإقتناص فريسته، وضع عصاه جانبًا بينما احتلّت يده عمامته التي لم تراه من دونها مُطلقًا ليظهر شعره الناعم بشدّة والمتناقض بين السواد الحالك اللامع والبياض الوقور، كان شعره يكمل لوحةً خيالية لأحد ملوك الزمان القديم.
جلس جوارها ليقشعِرّ جسدها بصورةٍ واضحة بينما سارع هو بجذب وجهها ليملأ شوقه من تلك العينان الجميلتان، وقد كانت في تلك اللحظة اجمل عينان في الدنيا بنظرتهما الضائعة التي تسترجيه صبرًا وتمهُّلا الّا انّه لا يستطيع ذلك، لن يملك القُدرة على رؤيتها بهذه الرقّة والجمال ويمتنع عنها.
مرر انامله على وجهها بتملُّكٍ يتحسس هديّته القيّمة التي منحها له القدر في اوّج لحظات احتياجه لتكون سكنًا له عقب سنواتٍ من الغُربة، وما اجملها من منزل!
حاولت التراجع عن مرمى لمساته الغريبة على انوثتها الخاملة منذ فترةٍ طويلة لتجد انّ يده الأُخرى تحتجزُ ظهرها مُقرّبةً إياها من جديد لتبقى تحت ذلك الحِصار.
- إهدأي!
همسته ترافقت مع مرور اصابعه على ذلك العِرق النابض بعنقها لتبتلع ريقها ودموعها تهدد بالهبوط، لم تتوقّع مُطلقًا ان يكون قربه منها بهذه الصورة، ارادت ان تقف امامه بغرورها المعهود وتُملي عليه شروط حياتهما ولكنها الآن تبدوا كفأرٍ حُشِر بمنتصف الزاوية، يا إلهي! هذا الرجل يخيفها جدا، واستجابتها لتلك المشاعر الهائجة تزيد من رُعبها.
كانت ترتعد فعليًّا وصوت انفاسه الخشنة يهدر بجوار اذنيها ولم تملك حينها بُدًّا من الهمست برجاء:
- جلال!
ولم يكن لحرف الجيم طعمًا قبل تلك اللحظة، فقد خرج رنانًا مُغريًا لدرجةٍ اربكت مشاعره وهو يدرك انه سيسمع اسمه من فمها كثيرًا وفي كل مرّة سيساوره ذات الشعور الذي يجعل من هذه الليلة ذكرى لا تُنسى.
- يا نوّارة قلب جلال.
كان هذا آخر ما تذكره قبل غيابها عن كل ما حولها، حياتها السابقة، بناتها، مخاوفها، وكل احزانها ليتلاشى كل شيء عداه.
مشاعره الهادرة كموجٍ يداعبه هواءٌ عنيف اسرت بداخلها احاسيسًا لم تُجربها مُطلقًا، شيئًا غريبًا جعلها تبدوا كفتاةٍ صغيرة بأولى لحظات زواجها، وكأنها لم ترتبط بآدم من قبل، شعورًا جديدًا نظيفًا كوليدٍ بلا ذنوب، غدى قلبها بِكرًا من جديد وصارت بذور حبه مدفونةً بداخلها الى الأبد.
عندما داهمت الشمس خلوتهما كان كلاهما يطالع الأخر بذهول، لا يصدق احدهما انّ ما حدث ليلة الأمس حقيقي، وكأنّ كل منهما خلع روحه القديمة ليرتدي أُخرى يانعة تنبضُ بالحياة، وكان شوقهما كطفلٍ مُتطلّب لا يهدأ بسهولة، شوقًا لإرتباطٍ وثيق تكلل به زواجهما وغدت به ليلى امرأةً لرجُلٍ جعلها ترى الكون بين ذراعيه، رجُلًا لا يشبه ايّ رجُلٍ رأته من قبل، صريحًا، جريئًا فجًّا ولكنه بنظرةٍ واحدة يحتويها، يثير روحها بلا لمس، ينظر الى عينيها فترى انها اجمل نساء الدنيا.
لعقت شفتيها بإرتبكٍ وهي ترى عيناه تلتمع مع الشمس لتتلألأ كجواهر ثمينة لتغمض عينيها بإستسلامٍ لتلك القُبلة التي سحبتها لدوامّةٍ بطعم العسل لتحيط وجهه بيدها تتلّمس ذقنه الخشنة المتناقضة مع نعومة شعره الذي اخذت تلمسه مرّةً بعد أُخرى مع تاجُج مشاعرها من جديد.
- صباحًا مباركًا يا عروسي الجميلة.
كادت ان تستسلم له من جديد الّا انها قالت برجاء خافت:
- جلال، نحن لم نتحدث بالأمس.
- لقد تحدثنا مُسبقًا يا وجه الخير، إسبوعين كاملين وانا اتعب كثيرًا لإنتقاء كلماتٍ تُخفي شوقي إليك، لا داعي للحديث بعدها، دعينا فقط نستمتع بدفء هذه اللحظات.
ابتسمت وهي تتذكر تلك الايام، كانت يهاتفها صباحًا ومساءً كمُراهقٍ يتلهّفُ لسماع صوت حبيبته، تعرفت عليه بصورة اكثر عُمقًا لتكتشف شخصيته المُحببة التي تميل للجرأة، لا زالت تذكر غزله السافر الذي ينمقه بعبارات مُهذبة بينما يلقى اثرًا عنيفًا على قلبها المُهشّم بالأحزان.
- ولكن يا جلال لا يمكن...
ضاعت بقيّة كلماتها بين شفتيه اللتان احتلّتاها وطنًا، فلم تستطع مقاومة قلبها الذي يأمرها بإحتواء هذا الرجُل المتعطش للحنان.
- فقط عوضيني عن كل ليلةٍ حُرمتُ فيها من هذا الجمال.
همسته كانت رجاء قلبه الوحيد الذي لن تعصي لهُ امرًا، ستكون له طوال حياتها، ستمنحه قلبها بيتًا، وروحها رفيقًا وجسدها سكنًا، فقد اهداها حياةً جديدة وهذا اقلّ ما تستطيع مكافأته به.