الفصل التاسع والعشرون
ارجوحة خشبية طويلة مُتدلية بحبال غليظة من اعلى ساقي الشجرة العتيقة الموجودة بالجانب الخلفي للمنزل، تجلِسُ على مقعدها الخشبي وقدماها تلمس الأرض بصعوبة لتتحرك بها بتماوجٍ بطيءٍ للأمام والخلف بينما يتكئُ رأسها على جانب الحبل تُفكر في تلك الحكاية الغريبة التي لم تكُن بالحسبان، فقبل بضعة اعوام كانت ترقد على ارضية السجن الشبيهة بصفيحٍ ساخن، تحاول عبثًا رؤية بصيص نورٍ في ظلمتها الحالِكة ولكنها اليوم ببيتها.. مع ابن اختها الذي لم تشُك للحظة في خبر موته ليتضح انه على قيد الحياة.
كيف لم تُفكر بأن أُختها ليست بذلك الإنكسار، لم تكُن نوال لتقتُل صغيرها بل بحسب رواية العم جمال اتجهت به الى ابعد قريبٍ لوالده، جمال عم زوجها الذي لا تعرف عنه الكثير سوى انه صياد بسيط لا علاقة له بأحد، وصلت اليه بسهولة ما ان سألت عن كنيته التي يحملها ابنها، اتت لبيته، ووضعت الصغير مع هويةٍ جديدة لم تُغير فيها سوى اسمه من غيث لبلال، لم يفهم منها العم جمال سوى انها زوجة ابن اخيه المتوفي، وانها بحاجة ماسة الى المُساعدة.
آواها ببيته ليومين وفي اليوم الثالث تفاجأ برسالة انتحارٍ كتبتها توصيه فيها على ابنها الصغير ليتفاجأ مساء ذات اليوم من انتشال جثتها من عمق البحر، حاول ان يمنح الطفل لجدته التي هي والدتها الّا انها لم تكُن بحالةٍ سويّة فأخذ على عاتقه حِمل تربية بلال كإبنه تمامًا، حتى انه يعتبر كُلّ من ليلى وبحر إخوته، بلال الذي لا تدري ميرال لما غيرت والدته اسمه سيظل ابنًا لهذه العائلة.
وهي أُمّه، التي لا يدري الى الآن انها ماتت مُنتحِرة بل اكتفى الجميع بالقول انها ماتت بحادثة، لم تتحمّل ذلك الظُلم، ولم تدري انها افلتت من بين يديها اجمل لحظات حياتها وابنها يكبرُ امام عينيها، كانت جاحِدة لنعمةٍ منحت ميرال السعادة طوال تلك العشر سنوات، ففي كل لحظةٍ تشعُر فيها بالإستسلام تتذكر ذلك الوجه الصغير الضاحك وتتخيل انها عادت لماضيها من جديد، دون ألمٍ وقهر، فقط هي وغيث حبيبها الصغير.
وهي اليوم بالفعل تحيا ذلك الحُلُم المُستحيل مع ابنها الذي غدى صبيًّا رائعًا، تسهر معه معظم لياليها، تضحك عِوضًا عن كُلّ دمعةٍ انسكبت عليه.. تحتضنه بالرغم من حيائه منها، تقبل جبينه كل ليلة وتُعيذُ قلبه من الوجع، وعندما يغادر صباحًا لمدرسته تسبقه دعواتها وحبها وحنانها يحصنانه الى ان يعود، فقد غدى عائلتها الوحيدة بعد ان ظنّت انّها ساقًا مبتورًا بلا جذور.
اما بحر، ذلك الحبيب المُحارِب لن تستطيع مكافأته مهما فعلت، روحها وعمرها وانفاسها لا يساويان لحظةً تحمّل فيها عبء ماضيها، يعاملها بحنانٍ بالغ وكأنها قطعة زجاجٍ يخاف عليها من الخدش، يراعي مشاعرها في كل كلمةٍ تخرُج من بين شفتيه.. يحميها من مشاعره التي تعلم انها ستغرقها يومًا ما، تلك المشاعر التي يكبحها بصعوبةٍ الّا انها تلوّن عينيه بلمحةً وحشيةً تُحيي بداخلها رضًا انثويًّا لم تشعر به من قبل، وعميقًا تنبثِقُ رغبةٌ خجولة في قبول تلك العواطف بل ومُبادلتها، وربما قريبًا.. قريبًا جدًّا ستكون له كما تمنّى.
شعر فجأةً بأن وجهها يحترق، وكأنها تقِفُ امام بركانٍ لاهب، وقبل ان تفتح عينيها شعرت بأن احدهم يسحب الأرجوحة بخفّة لتتحرك بصورة اسرع، وعندما فتحت عيناها ابتسمت برقّة لوجهه الذي يقترب منها، ويعود ليبتعد بفعل حركتها، تحوّلت ابتسامتها لضحكة مُبتهجة وهي تشعر بأنها عادت طفلة، بريئةً وصافية كوجه اُم، وكانت في تلك اللحظة اجمل امرأةٍ في الدُنيا.
خفتت ضحكاتها مع توقف حركة الأرجوحة لتنظر نحوه بعينان ملؤهما عشقٌ مُستتر تخفيه بين اضلُعها كهدية غالية، وبدلًا عن النُطق به كانت تهمِسُ بأُغنيةٍ قديمة بصوتها الذي منحه الحُبّ عذوبةً اضافية ليبدوا كتراتيلٍ من الجنّة، يفقز صوتها كطفلٍ مُشاغب ليُلهِب روحه، إنها اغنيته المُفضّلة، دومًا ما يشغلها بسيارته عندما يكون بعيدًا عنها، يشعر بأنها تذكره بها بطريقةٍ ما، وهي اليوم من صوتها ستخلُدُ في ذاكرته الى الأبد.
استند على جِذع الشجرة مُتأمِلًا إياها بنظرة بطيئة تتغلغل لقلبها مُسريةً دغدغةً لذيذة، تلك النظرة التي تعلمها جيدًّا، نظرة تفجُّر حمم الشوق بداخله والذي لا يُشبِعه ألف عِناق، سكتت فجأةً ليقطب حاجبيه بإستفهامٍ وصمتها ينتشله من بحرٍ عذِب كان يطفوا فيه بلا مرسى، نهضت لتقترب منه فتتألق عيناها امام بقايا شعاع الضوء المنبعث في هذا الوقت من الظهيرة، ظلّت تناجي حدقتيه بصمتٍ الى ان همست بخفوت:
- لماذا اتيت باكِرًا؟!
ظهر الإستياءُ جليًّا على ملامحه الّا انها وضعت كفيها على صدره تحتضنه متمتمة بشوق:
- اقصد انني متفاجِأة بوجودك، فبالفترة الماضية لا تعود من العمل الّا ليلا.
ربّت على ظهرها وملامحه تصرُخ بغرامٍ طال كبته، أيُخبرها انّه لم يعُد قادِرًا على رؤيتها وهي تنتعشُ بروحٍ جديدة تشعل قلبه ام انّ قُربها بات عذابه الوحيد.
هو لا يحبها.. بل يهوى كل ما يخصّها، غارِقٌ بها الى أُذنيه ولكنها تضنُّ عليه برشفةً تروي ظمأه وهو غير قادِرٍ على الإقتراب اكثر، براءتها ومكرها الذي باتت تمارسه عليه ببراعة يثير جنونه، ولا يدري متى سترحم قلبه المُتيّم بالوِصال، تشتاقه، وتصرح بالحُب بكل ليلة ولكن عندما يوشك على ان يفقد سيطرته على نفسه يجدها توقظه من أكثر احلامه جموحا.
- هل هذا يعني انك تفتقدينني؟! جيد.
قال بفتور وهو يقبل وجنتيها لتقول بدفاع:
- ما الأمر يا بحر؟! انا بالطبع افتقدك واشتاقُ اليك في كُلّ لحظةٍ تغيبُ فيها عن ناظري.
رقّت عيناه بإبتسامةٍ حزينة قبل ان يسحبها هامسًا بهدوء وكأنه تعِب من كل شيء:
- هيا الى الداخل، ولن أُنبهكِ مرّةً أُخرى على ثيابك، فالحديقة مُطلّة على الشارع ولن اُحبّ ان يتفرج الجميع على زوجتي الصغيرة وهي تتأرجح كالأطفال.
زمّت شفتيها بعبوس وراقبته يفلت يدها فور دخولهما للمنزل ليتجه مباشرةً الى غرفته لتنظر اثره بحُزن، له كل الحق في ان يغضب منها فعبارتها تلك لا تستقبل بها اي امرأةٍ زوجها.. لماذا اتيت؟! حقًّا يا ميرال!
تأففت بضيق وهي لا تدري كيف تصالحه، فالأمر يبدوا اكبر من مجرد انزعاج طفيف، هو بالعادة لا يستقبلها بهذا البرود، لقد اعتادت دلاله، اعتادته الى ان غدى امرًا مُسلّمًا به في حياتها، بحر حبيبها لا يمكن ان يكون بهذه القسوة.
عزمت امرها وهي تصعد خلفه لتجد الغرفة خالية وتسمعُ صوت المياه بالداخل.. وقفت تنتظره تقضم اظافرها ندمًا وقلقا، لا تريد ان تبتعد عنه مُطلقًا.. عندما خرج كان شعره يقطُرُ ماءً على صدره العاري بينما يرتدي بنطالًا مريحا، تجاهلها ليستلقي على فراشه بصمت، وللمرّة الثانية اثار حزنها في اقلّ من نصف ساعة، انه بالفعل غاضبًا.
اقتربت لتندسّ بجواره دون ان تتكلّم، تُمرر اناملها على شعره الذي قام بقصّه موخرًا ليصل لمقدمه عنقه، لقد جعلته تلك التسريحة اكثر وسامة وكل شيءٍ يليق به.
- انت وسيمٌ للغاية.
ارتفع حاجبه دهشةً وهو يستمع لهمستها الهادئة بينما اكملت بصراحة واناملها تعبث بخصلاته:
- بحياتي لم اتوقّع ان اتزوّج برجُلٍ بهذه الهيئة الجذّابة، مُطلقًا لم يأتي بخيالي ان شابًا مثلك قد يلتفتُ اليّ واشعُر في كثيرٍ من الأحيان انّني لا استحِقُّك.
كاد ان ينهض ويخبرها كم هي جميلةٌ وغبيّة إن كانت تُفكّرُ بهذا الأمر الّا انها دفعته برفق ليعود ليستلقي بينما هي تستندُ على كتِفيه لتواجهه، لا تدري لماذا تبوح بهذا الحديث الآن بالذات، الّا انها اكملت تبتلِعُ غصّة باقصى حلقها:
- انت رجُلٌ رائع، من الصعب الحصول عليه في هذا الزمن، وان تدخل لحياتي بعد كل ما واجهته من صِعاب إنه لحظّ كبيرٌ بالنِسبة لي، ولكنني خائفة.
برقت عيناه بوجلٍ لتكمل بتأثُّر:
- لستُ خائفةً من الماضي بل من المُستقبل، لا ارغب بأن اخذُلك.
- لن تفعلي، انا بجواركِ.
- انا اجعلك حزينًا، انت غاضِبُ منّي حتى انّك لم تُقبلني قبلة "مساء الخير"
قالت بعبوس وعيناها تترقرقُ بدموعٍ حقيقية، دموع امرأةٍ مُدللة تُدركُ تمامًا كيف تخرجُه من حالةٍ لأُخرى، ليضحك بخشونةٍ وهو يميلُ نحوها هامسًا بمُشاكسة:
- ولكنها الظهيرة، وليس المساء.
تذمّرت بهمهاتٍ غاضبة لم ينتبه لأيّ منها وعيناه على تلك الشامة السوداء التي تُربِك كل كيانه، إنها تلمعُ كنجمةٍ اعلى شفتيها تدعوه لتحيّتها مِرارًا وتكرارا، صمتت فجأةً عن ثرثرتها وفمه يداهمها بما يشبه القُبلة، فقط سلامًا على شفاهٍ خُلِقت للتقبيل وشامةً تقِفُ على حافّة تلك النيران المُهلكة التي تُسري بداخله مشاعر لم يُجربها مُطلقًا، قد قبّل فتيات في مراهقته.. ربما واحدة او اثنتين ولكن شعوره لم يتجاوز الجانب الحِسّي.
اما وهو برفقة زوجته يشعر بأنّ روحه تتشكلّ بين يديها كيفما تشاء، واحتياجه المُلِحّ لها يكمن في إختبار ذلك التلاحُم العاطفيّ المجنون.. رفع وجهه عنها ليلمح محبوبتيه يظللهما إخضِرارٌ قاتِم ولهفةٌ واضحة، لهفة امرأةٍ ترغبُ بزوجها.. وكانت تلك الرغبة دائمة الإختباء تتألّق اليوم بعينيها وشفتيها تهمِسُ بذِهنٍ غائب:
- لا تتركني يا حبيبي، لا تبتعد مُطلقًا.
لم تدري انها بذلك النداء الخافت منحته تذكرة دخول جنّة احلامه التي طال انتظارها، ولم يكُن ليتركها مُطلقًا، ليس وكل كيانها ينطِقُ بإسمه.
وفي تلك اللحظات مرّت بباله كل حياته معها، منذ ان نثرت رمال البحر على وجهه ليُصبِح ضريرًا عن كُلّ نساء الدُنيا عداها، لتغدوا عيناها وجهته الوحيدة، يلاحقها بشوقٍ هادر كصيّادٍ يتربّصُ لغزالة.. وكم ارهقته تلك المُطاردة الى ان سقطت اخيرًا بين ذراعيه ليفترسها بنهمٍ وحشي، تلك الغزالة الصغيرة.. حبيبته الوحيدة التي اختصرت معاني الفرحة بحياته، بالرغم من حزنها الدائم وعيناها الباكية دومًا الّا ان روحها تطوقه بحنان افتقده طويلا، ولن يسمح لها ان تبتعد بعد تلك الساعات.
- نهاركِ سعيدٌ يا غزالتي.
وغدت تلك اجمل ظهيرةً في حياتهما، وستحمِلُ تلك العبارة سرّهما الصغير، سرُّ سقوط الفريسة بين يدي صيادها.
بينهما عمرٌ وبضع خيبات، حُبُّ وُلِد من رحم المُستحيل، حارب كل ظنونهما، حُزنٌ، بكاء، وفراق الى ان تمّ اللقاءُ بعد سنوات، لو اخبرها احدهم ان عزيز حلم مراهقتها سيكون يومًا اقرب اليها من روحها لما صدّقت، لا تدري كيف عاد ليتعلّق بها لتنسى معه كل شيء، قيود العقل والمُجتمع ومخاوف قلبها المجروح، لم تعلم لماذا قابلته اوّل مرّة يلتقيان بعد غيابٍ طويل، كل ما تدركه هو انّ قلبها انساق نحوه من جديد، وقلبها لم يكذِب مُطلقًا.. اخبرها ان هذا الرجُل هو مصيرها المحتوم، قدرها الذي خُطّ منذُ الأزل على جبينها، بكل مساوئه وخشونته وغموضه الذي يصيبها بالقلق صار عزيز زوجها وحبيبها ووالد طفلها الذي يحصِدُ محبّة الجميع قبل حتى ان يخرُج للحياة.
انهت فلك تحضير الإفطار ودلفت لتوقظ عزيز الذي تأخر بالنهوض هذا اليوم، اقتربت وجلست بجانبه تتأمل وجهه النائم بحُب، ملامحه التي لا ترتاح الّا عندما يغمض عينيه ليبدوا بريئًا للغاية، مررت اصابعها على شعره الصبياني لتزداد ابتسامتها عِشقًا وتدرك انها لن تمل من النظر اليه طوال حياتها، ولكن الآن عليه ان يستيقظ لكي لا يتأخر عن عمله، حبيبها يُرهِق نفسه بشدّة لأجلها ولأجل مستقبل طفلهما، منذ معرفته بخبر حملها وهو يعمل بجُهدٍ مُضاعف، فحياتهما بسيطة وسيحتاجان للكثير بعد ولادتها وهي اعلمُ الناس بعزّة نفسه وانه لن يتقبّل اي مُساعدةٍ من احد لذا يعمل ليل نهار ليوفر لها حياةً رائعة، آهٍ لو يعلم ان وجوده وحده يغنيها عن كل شيء!
- استيقظ يا حبيبي، عزيز، لقد اشرقت الشمس يا ضوء روحي.. هيا يا كسول.
همست وهي تُقبّل وجنتيه وعندما لم يستيقظ اضطرّت للكزه وهي تهتِفُ بإسمه لينهض هاتِفًا بفزع:
- فلك! ما الأمر حبيبتي أهنالك ما يؤلمكِ أستلدين الآن يا إلهي!
ضحكت بشدّةٍ وهي تنظر الى ملامحه المرتاعة لتقول من بين ضحكاتها:
- حقًّا؟! انت غير معقول يا عزيز! هل سألِدُ بمنتصف الشهر الرابع؟! انا فقط اوقظك فقد تأخرت عن العمل.
مسح على وجهه يهدئ من روعه ولكنه هتف بإنزعاج:
- هل هذه طريقة للأيقاظ يا فلك؟! كاد قلبي ان يتوقّف.
- آسفة!
همست بعبوس وقد فقدت ضحكتها تمامًا ليضرب على جبينه شاتمًا قبل ان يهتف بندم:
- بل انا من يتوجّب عليه الإعتذار، اللعنة عليّ وانا أُغضب حبيبتي الحلوة، آسِفٌ يا مرساتي، لا تغضبي ارجوكِ.
كادت ان تضحك على رجائه الصادق ولكنها اصطنعت ملامحًا اكثر حُزنًا ليقترب منها هامسًا بقلق:
- فلك! إياكِ ان تبكِ لا اريد ان تتأثري بما القيه من تراهات، اعتبريني مجنونًا.. ارجوكِ لكي لا يأتي طفلنا سيء المِزاج وكثير البكاء.
- يجب ان يأتي عصبيًّا لا يهدأ مُطلقًا ألست والده؟! يجب ان تتغير انت اولًا ليأتي اطفالنا هادئون.
همست بتبرُّمٍ ليلتقط يديها يقبلهما بصمت لتُردِف اخيرًا:
- سأُسامحك ولكن بشرط.
نظر الى ابتسامتها الماكرة ليقول بحدّة:
- ابدًا.. لا يا فلك لن افعلها.
نهض من الفراش وهو يرعد ويزبد بينما ظلّت هي مكانها تبتسم ببلاهة.
بعد ان تناولا افطارهما كانت تجلس على الأريكة بينما عزيز يجلس بجوارها، ترفع قدميها امام وجهه بينما يتأفف هو هامسًا بخفوت:
- من يُصدّق ان هذا الرجل بطول الباب يقوم بطلاء اظافر زوجته، صِدقًا لو علِم احدهم سأكون مزحة الموسم.
- بهدوء يا حبيبي، فلو قُمت بإفساده كالمرّة السابقة ستمسحه وتعيده من جديد.
همست فلك تكتم ضحكتها وهي تراقبه بسعادة، يفتح فمه وعيناه ترتكز على اظافر قدميها بينما يقوم بتلوينهما بالأحمر الداكن ببراعة، فقد بات ماهِرًا في الأمر بعد الكثير من المحاولات، وكان طلاء اصابعها عقابه الأكثر تعذيبًا عقِب كل شِجار بينهما ويكون هو المُخطئ في كل الأوقات بعصبيته الزائدة بينما تستمتع هي بتلك الرفاهية المُبهِجة.
- هاتي يدكِ.
انزلت قدميها عن الأريكة بحذر ليقترب منه ممسكًا بيدها الناعمة ذات الأصابع الرقيقة ليقبلها هامسًا:
- اصابعا كشموع الميلاد!
ضحِكت وعبارته التي لا تمتُّ للغزل بصِلةٍ تُلقي بقلبها اثرًا عنيفًا، إنه لا يستطيع ان يغدقها بكلماتٍ الغرام الّا ان افعاله تغرقها بمشاعر الذّ من العسل، وبمرور الوقت صارت تعرف تمامًا طباعه الصارِمة وتستغِلُّ ببراعة اهتمامه وخوفه عليها من غضبه.
- رائعة، شكرا لك حبيبي.
همست وهي تتثائب بنعاسٍ صباحي ليقبلها مُبتسِمًا ولا ينسى ان يُلقي تحيةً لطفله الذي بالكاد يستطيع تمييز وجوده بذلك الإنتفاخ الدائري الطفيف ببطن فلك.
يغادر وقلبه مُكتنزٌ بالسعادة ليحصد النجوم للمرأة الوحيدة التي اسرت قلبه، بينما تنتظره هي بشغفٍ كُلّ ليلةٍ لتُزيح عنه رهق المشاوير الطويلة، كمحطّة الوصول الأخير بعد مِضمارٍ طويل، يعود اليها في كُلّ مرّةٍ بلهفةٍ اكبر وشوقٍ يفترِسُ روحه قبل جسده، شوقًا يجعله يهمِسُ بإسمها مرارًا وكأن حروفها الثلاثة تعويذة امانه.
فتنةً بريئة
لؤلوةً غالية
كوثرًا عذبا
فلك مرساة عزيز وعزيز طفلًا تائهًا بدونها.
.
.
مساء ملونًّا كأزهار الربيع، تبدوا الأيام ككوب شاي دافئ ومُحلّىٰ، لكل لحظةٍ معه طعمًا مُختلفًا، لذيذًا كقطعة حلوى.
اغمضت ليلى عينيها وابتسامةً عذبةً تطفو على وجنتيها، ابتسامةً لم يرها جلال وهي توليه ظهرها تقوم بترتيب ثيابهم في حقيبة السفر، بينما لم يكن هو بحاجةٍ لرؤية وجهها ليدرك سعادتها، فقد باتت ككتابٍ مفتوح بالنسبة له، يشعر بها كنفسه تماما، ولا يمكن لها ان تختبئ عنه مُطلقًا.
التفتت اليه عندما شعرت بقدومه لتتعاقب انفعالتها ككل لحظةٍ يدخل البيت ليقف امامها، تتسع عيناها بحيرةٍ وكأنها لم تصدق الى الآن ان هذا الغريب الذي رأته بالصُدفة قد غدى زوجها، وسرعان ما تتسرب تلك الحيرة لتتحول الى ابتسامةً كبيرة مليئة بالفرح كطفلةٌ تنتظر قدوم والدها كل مساء بذات البهجة وكأنها تراه للمرّة الأولى.
اقترب منها وزاويتا عيناه تتغضن بإبتسامةٍ مُماثلة، وهو يحييها بقبلةٍ دافئة قبل ان يقول بحنان:
- مساء الخير يا وجه القمر.
- مساء الورد حبيبي، تأخرت اليوم.
قالتها وهي تُربّت على وجنتيه ليجيبها:
- كُنتُ أُنهي بعض الأعمال واتأكد من سير العمل قبل سفرنا، هل جهزت الجميلات اغراضهُن؟!
اجابته ضاحكة:
- حور تقفِزُ فرحًا منذ الصباح، لا تُصدق ان انتهاء امتحانتهن توافق مع موعد الرحلة، واصابت الصغيرين بالهوس الا ان سقطا نائمين.
ابتسم بحنان وهو يرى تلك السعادة التي تشتعل بعينيها، سعادةً مُختلفة خاصّة بأطفالها فقط، اولئك الصِغار الذين زينوا حياتهما.
- لماذا تنظر اليّ بهذه الطريقة؟!
همست فجأةً وعيناها تلتمع ببسمةٍ ماكِرة ليُجيبها ضاحِكًا:
- لا أُغازِلكِ انها ابتسامتي الدائمة.
نهضت باسمةً لتبتعد عنه بينما يطالعها هامسًا بمشاكسة:
- تعالي هنا يا عود الخيزران.
التفتت نحوه وشعرها يدور من حولها لتضع يديها على خصرها وتهزُّ وركيها هامسةً بلؤم:
- هل اشبه الخيزران يا جلال، سامحك الله.
علت ضحكته وهو يقول بهُيام:
- بل تشبهين غصون الفُل، ناعمة.. رقيقةً يعبثُ بها الهواء يمينًا ويسارا.
استندت على الباب وهي ترمق ابتسامته المشتعلة ولم تنتبه لأنها هي الأُخرى تبتسم بشدّة وتُقرُّ بداخلها انها في النعيم، لا شيء في الأرض يضاهي لحظةً برفقة هذا الرجُل.
وتذكّرت في هذه اللحظة انّ الشهر القادم سيكون عيد زواجهما الثاني، عامين قضتهما برفقته ولا تزال عطشى لحنانه وعطفه، عامان وقلبها يخفِقُ بإسمه، عامين حصادهما سعادةً دائمة وطفلين.
ايقظها صوت ملاكيها الصغيران قبل ان يهمسا بصوت، فقط مُجرد احساس بأنهما استيقظا لتخرج نحوهما مُسرِعةً قبل ان يشرعا في البكاء، تبعها جلال للغرفة الجميلة المليئة بالألعاب ليراقبها بهدوء، وقلبه يعود لما قبلهما،
قبل عامٍ وبضعة أشهُر، حيثُ كُتِبت له السعادة كاملةً دون نُقصان....
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يا ترى ما حكاية الصغيران؟ والى اين سيسافر جلال وعائلته؟!
ماذا حدث في السنتان الفائتتان لغيد وآدم والجميع؟!
ستعرفون البقية في الختام غدا بإذن الله
مع حبي
فايا ❤❤❤
كيف لم تُفكر بأن أُختها ليست بذلك الإنكسار، لم تكُن نوال لتقتُل صغيرها بل بحسب رواية العم جمال اتجهت به الى ابعد قريبٍ لوالده، جمال عم زوجها الذي لا تعرف عنه الكثير سوى انه صياد بسيط لا علاقة له بأحد، وصلت اليه بسهولة ما ان سألت عن كنيته التي يحملها ابنها، اتت لبيته، ووضعت الصغير مع هويةٍ جديدة لم تُغير فيها سوى اسمه من غيث لبلال، لم يفهم منها العم جمال سوى انها زوجة ابن اخيه المتوفي، وانها بحاجة ماسة الى المُساعدة.
آواها ببيته ليومين وفي اليوم الثالث تفاجأ برسالة انتحارٍ كتبتها توصيه فيها على ابنها الصغير ليتفاجأ مساء ذات اليوم من انتشال جثتها من عمق البحر، حاول ان يمنح الطفل لجدته التي هي والدتها الّا انها لم تكُن بحالةٍ سويّة فأخذ على عاتقه حِمل تربية بلال كإبنه تمامًا، حتى انه يعتبر كُلّ من ليلى وبحر إخوته، بلال الذي لا تدري ميرال لما غيرت والدته اسمه سيظل ابنًا لهذه العائلة.
وهي أُمّه، التي لا يدري الى الآن انها ماتت مُنتحِرة بل اكتفى الجميع بالقول انها ماتت بحادثة، لم تتحمّل ذلك الظُلم، ولم تدري انها افلتت من بين يديها اجمل لحظات حياتها وابنها يكبرُ امام عينيها، كانت جاحِدة لنعمةٍ منحت ميرال السعادة طوال تلك العشر سنوات، ففي كل لحظةٍ تشعُر فيها بالإستسلام تتذكر ذلك الوجه الصغير الضاحك وتتخيل انها عادت لماضيها من جديد، دون ألمٍ وقهر، فقط هي وغيث حبيبها الصغير.
وهي اليوم بالفعل تحيا ذلك الحُلُم المُستحيل مع ابنها الذي غدى صبيًّا رائعًا، تسهر معه معظم لياليها، تضحك عِوضًا عن كُلّ دمعةٍ انسكبت عليه.. تحتضنه بالرغم من حيائه منها، تقبل جبينه كل ليلة وتُعيذُ قلبه من الوجع، وعندما يغادر صباحًا لمدرسته تسبقه دعواتها وحبها وحنانها يحصنانه الى ان يعود، فقد غدى عائلتها الوحيدة بعد ان ظنّت انّها ساقًا مبتورًا بلا جذور.
اما بحر، ذلك الحبيب المُحارِب لن تستطيع مكافأته مهما فعلت، روحها وعمرها وانفاسها لا يساويان لحظةً تحمّل فيها عبء ماضيها، يعاملها بحنانٍ بالغ وكأنها قطعة زجاجٍ يخاف عليها من الخدش، يراعي مشاعرها في كل كلمةٍ تخرُج من بين شفتيه.. يحميها من مشاعره التي تعلم انها ستغرقها يومًا ما، تلك المشاعر التي يكبحها بصعوبةٍ الّا انها تلوّن عينيه بلمحةً وحشيةً تُحيي بداخلها رضًا انثويًّا لم تشعر به من قبل، وعميقًا تنبثِقُ رغبةٌ خجولة في قبول تلك العواطف بل ومُبادلتها، وربما قريبًا.. قريبًا جدًّا ستكون له كما تمنّى.
شعر فجأةً بأن وجهها يحترق، وكأنها تقِفُ امام بركانٍ لاهب، وقبل ان تفتح عينيها شعرت بأن احدهم يسحب الأرجوحة بخفّة لتتحرك بصورة اسرع، وعندما فتحت عيناها ابتسمت برقّة لوجهه الذي يقترب منها، ويعود ليبتعد بفعل حركتها، تحوّلت ابتسامتها لضحكة مُبتهجة وهي تشعر بأنها عادت طفلة، بريئةً وصافية كوجه اُم، وكانت في تلك اللحظة اجمل امرأةٍ في الدُنيا.
خفتت ضحكاتها مع توقف حركة الأرجوحة لتنظر نحوه بعينان ملؤهما عشقٌ مُستتر تخفيه بين اضلُعها كهدية غالية، وبدلًا عن النُطق به كانت تهمِسُ بأُغنيةٍ قديمة بصوتها الذي منحه الحُبّ عذوبةً اضافية ليبدوا كتراتيلٍ من الجنّة، يفقز صوتها كطفلٍ مُشاغب ليُلهِب روحه، إنها اغنيته المُفضّلة، دومًا ما يشغلها بسيارته عندما يكون بعيدًا عنها، يشعر بأنها تذكره بها بطريقةٍ ما، وهي اليوم من صوتها ستخلُدُ في ذاكرته الى الأبد.
استند على جِذع الشجرة مُتأمِلًا إياها بنظرة بطيئة تتغلغل لقلبها مُسريةً دغدغةً لذيذة، تلك النظرة التي تعلمها جيدًّا، نظرة تفجُّر حمم الشوق بداخله والذي لا يُشبِعه ألف عِناق، سكتت فجأةً ليقطب حاجبيه بإستفهامٍ وصمتها ينتشله من بحرٍ عذِب كان يطفوا فيه بلا مرسى، نهضت لتقترب منه فتتألق عيناها امام بقايا شعاع الضوء المنبعث في هذا الوقت من الظهيرة، ظلّت تناجي حدقتيه بصمتٍ الى ان همست بخفوت:
- لماذا اتيت باكِرًا؟!
ظهر الإستياءُ جليًّا على ملامحه الّا انها وضعت كفيها على صدره تحتضنه متمتمة بشوق:
- اقصد انني متفاجِأة بوجودك، فبالفترة الماضية لا تعود من العمل الّا ليلا.
ربّت على ظهرها وملامحه تصرُخ بغرامٍ طال كبته، أيُخبرها انّه لم يعُد قادِرًا على رؤيتها وهي تنتعشُ بروحٍ جديدة تشعل قلبه ام انّ قُربها بات عذابه الوحيد.
هو لا يحبها.. بل يهوى كل ما يخصّها، غارِقٌ بها الى أُذنيه ولكنها تضنُّ عليه برشفةً تروي ظمأه وهو غير قادِرٍ على الإقتراب اكثر، براءتها ومكرها الذي باتت تمارسه عليه ببراعة يثير جنونه، ولا يدري متى سترحم قلبه المُتيّم بالوِصال، تشتاقه، وتصرح بالحُب بكل ليلة ولكن عندما يوشك على ان يفقد سيطرته على نفسه يجدها توقظه من أكثر احلامه جموحا.
- هل هذا يعني انك تفتقدينني؟! جيد.
قال بفتور وهو يقبل وجنتيها لتقول بدفاع:
- ما الأمر يا بحر؟! انا بالطبع افتقدك واشتاقُ اليك في كُلّ لحظةٍ تغيبُ فيها عن ناظري.
رقّت عيناه بإبتسامةٍ حزينة قبل ان يسحبها هامسًا بهدوء وكأنه تعِب من كل شيء:
- هيا الى الداخل، ولن أُنبهكِ مرّةً أُخرى على ثيابك، فالحديقة مُطلّة على الشارع ولن اُحبّ ان يتفرج الجميع على زوجتي الصغيرة وهي تتأرجح كالأطفال.
زمّت شفتيها بعبوس وراقبته يفلت يدها فور دخولهما للمنزل ليتجه مباشرةً الى غرفته لتنظر اثره بحُزن، له كل الحق في ان يغضب منها فعبارتها تلك لا تستقبل بها اي امرأةٍ زوجها.. لماذا اتيت؟! حقًّا يا ميرال!
تأففت بضيق وهي لا تدري كيف تصالحه، فالأمر يبدوا اكبر من مجرد انزعاج طفيف، هو بالعادة لا يستقبلها بهذا البرود، لقد اعتادت دلاله، اعتادته الى ان غدى امرًا مُسلّمًا به في حياتها، بحر حبيبها لا يمكن ان يكون بهذه القسوة.
عزمت امرها وهي تصعد خلفه لتجد الغرفة خالية وتسمعُ صوت المياه بالداخل.. وقفت تنتظره تقضم اظافرها ندمًا وقلقا، لا تريد ان تبتعد عنه مُطلقًا.. عندما خرج كان شعره يقطُرُ ماءً على صدره العاري بينما يرتدي بنطالًا مريحا، تجاهلها ليستلقي على فراشه بصمت، وللمرّة الثانية اثار حزنها في اقلّ من نصف ساعة، انه بالفعل غاضبًا.
اقتربت لتندسّ بجواره دون ان تتكلّم، تُمرر اناملها على شعره الذي قام بقصّه موخرًا ليصل لمقدمه عنقه، لقد جعلته تلك التسريحة اكثر وسامة وكل شيءٍ يليق به.
- انت وسيمٌ للغاية.
ارتفع حاجبه دهشةً وهو يستمع لهمستها الهادئة بينما اكملت بصراحة واناملها تعبث بخصلاته:
- بحياتي لم اتوقّع ان اتزوّج برجُلٍ بهذه الهيئة الجذّابة، مُطلقًا لم يأتي بخيالي ان شابًا مثلك قد يلتفتُ اليّ واشعُر في كثيرٍ من الأحيان انّني لا استحِقُّك.
كاد ان ينهض ويخبرها كم هي جميلةٌ وغبيّة إن كانت تُفكّرُ بهذا الأمر الّا انها دفعته برفق ليعود ليستلقي بينما هي تستندُ على كتِفيه لتواجهه، لا تدري لماذا تبوح بهذا الحديث الآن بالذات، الّا انها اكملت تبتلِعُ غصّة باقصى حلقها:
- انت رجُلٌ رائع، من الصعب الحصول عليه في هذا الزمن، وان تدخل لحياتي بعد كل ما واجهته من صِعاب إنه لحظّ كبيرٌ بالنِسبة لي، ولكنني خائفة.
برقت عيناه بوجلٍ لتكمل بتأثُّر:
- لستُ خائفةً من الماضي بل من المُستقبل، لا ارغب بأن اخذُلك.
- لن تفعلي، انا بجواركِ.
- انا اجعلك حزينًا، انت غاضِبُ منّي حتى انّك لم تُقبلني قبلة "مساء الخير"
قالت بعبوس وعيناها تترقرقُ بدموعٍ حقيقية، دموع امرأةٍ مُدللة تُدركُ تمامًا كيف تخرجُه من حالةٍ لأُخرى، ليضحك بخشونةٍ وهو يميلُ نحوها هامسًا بمُشاكسة:
- ولكنها الظهيرة، وليس المساء.
تذمّرت بهمهاتٍ غاضبة لم ينتبه لأيّ منها وعيناه على تلك الشامة السوداء التي تُربِك كل كيانه، إنها تلمعُ كنجمةٍ اعلى شفتيها تدعوه لتحيّتها مِرارًا وتكرارا، صمتت فجأةً عن ثرثرتها وفمه يداهمها بما يشبه القُبلة، فقط سلامًا على شفاهٍ خُلِقت للتقبيل وشامةً تقِفُ على حافّة تلك النيران المُهلكة التي تُسري بداخله مشاعر لم يُجربها مُطلقًا، قد قبّل فتيات في مراهقته.. ربما واحدة او اثنتين ولكن شعوره لم يتجاوز الجانب الحِسّي.
اما وهو برفقة زوجته يشعر بأنّ روحه تتشكلّ بين يديها كيفما تشاء، واحتياجه المُلِحّ لها يكمن في إختبار ذلك التلاحُم العاطفيّ المجنون.. رفع وجهه عنها ليلمح محبوبتيه يظللهما إخضِرارٌ قاتِم ولهفةٌ واضحة، لهفة امرأةٍ ترغبُ بزوجها.. وكانت تلك الرغبة دائمة الإختباء تتألّق اليوم بعينيها وشفتيها تهمِسُ بذِهنٍ غائب:
- لا تتركني يا حبيبي، لا تبتعد مُطلقًا.
لم تدري انها بذلك النداء الخافت منحته تذكرة دخول جنّة احلامه التي طال انتظارها، ولم يكُن ليتركها مُطلقًا، ليس وكل كيانها ينطِقُ بإسمه.
وفي تلك اللحظات مرّت بباله كل حياته معها، منذ ان نثرت رمال البحر على وجهه ليُصبِح ضريرًا عن كُلّ نساء الدُنيا عداها، لتغدوا عيناها وجهته الوحيدة، يلاحقها بشوقٍ هادر كصيّادٍ يتربّصُ لغزالة.. وكم ارهقته تلك المُطاردة الى ان سقطت اخيرًا بين ذراعيه ليفترسها بنهمٍ وحشي، تلك الغزالة الصغيرة.. حبيبته الوحيدة التي اختصرت معاني الفرحة بحياته، بالرغم من حزنها الدائم وعيناها الباكية دومًا الّا ان روحها تطوقه بحنان افتقده طويلا، ولن يسمح لها ان تبتعد بعد تلك الساعات.
- نهاركِ سعيدٌ يا غزالتي.
وغدت تلك اجمل ظهيرةً في حياتهما، وستحمِلُ تلك العبارة سرّهما الصغير، سرُّ سقوط الفريسة بين يدي صيادها.
بينهما عمرٌ وبضع خيبات، حُبُّ وُلِد من رحم المُستحيل، حارب كل ظنونهما، حُزنٌ، بكاء، وفراق الى ان تمّ اللقاءُ بعد سنوات، لو اخبرها احدهم ان عزيز حلم مراهقتها سيكون يومًا اقرب اليها من روحها لما صدّقت، لا تدري كيف عاد ليتعلّق بها لتنسى معه كل شيء، قيود العقل والمُجتمع ومخاوف قلبها المجروح، لم تعلم لماذا قابلته اوّل مرّة يلتقيان بعد غيابٍ طويل، كل ما تدركه هو انّ قلبها انساق نحوه من جديد، وقلبها لم يكذِب مُطلقًا.. اخبرها ان هذا الرجُل هو مصيرها المحتوم، قدرها الذي خُطّ منذُ الأزل على جبينها، بكل مساوئه وخشونته وغموضه الذي يصيبها بالقلق صار عزيز زوجها وحبيبها ووالد طفلها الذي يحصِدُ محبّة الجميع قبل حتى ان يخرُج للحياة.
انهت فلك تحضير الإفطار ودلفت لتوقظ عزيز الذي تأخر بالنهوض هذا اليوم، اقتربت وجلست بجانبه تتأمل وجهه النائم بحُب، ملامحه التي لا ترتاح الّا عندما يغمض عينيه ليبدوا بريئًا للغاية، مررت اصابعها على شعره الصبياني لتزداد ابتسامتها عِشقًا وتدرك انها لن تمل من النظر اليه طوال حياتها، ولكن الآن عليه ان يستيقظ لكي لا يتأخر عن عمله، حبيبها يُرهِق نفسه بشدّة لأجلها ولأجل مستقبل طفلهما، منذ معرفته بخبر حملها وهو يعمل بجُهدٍ مُضاعف، فحياتهما بسيطة وسيحتاجان للكثير بعد ولادتها وهي اعلمُ الناس بعزّة نفسه وانه لن يتقبّل اي مُساعدةٍ من احد لذا يعمل ليل نهار ليوفر لها حياةً رائعة، آهٍ لو يعلم ان وجوده وحده يغنيها عن كل شيء!
- استيقظ يا حبيبي، عزيز، لقد اشرقت الشمس يا ضوء روحي.. هيا يا كسول.
همست وهي تُقبّل وجنتيه وعندما لم يستيقظ اضطرّت للكزه وهي تهتِفُ بإسمه لينهض هاتِفًا بفزع:
- فلك! ما الأمر حبيبتي أهنالك ما يؤلمكِ أستلدين الآن يا إلهي!
ضحكت بشدّةٍ وهي تنظر الى ملامحه المرتاعة لتقول من بين ضحكاتها:
- حقًّا؟! انت غير معقول يا عزيز! هل سألِدُ بمنتصف الشهر الرابع؟! انا فقط اوقظك فقد تأخرت عن العمل.
مسح على وجهه يهدئ من روعه ولكنه هتف بإنزعاج:
- هل هذه طريقة للأيقاظ يا فلك؟! كاد قلبي ان يتوقّف.
- آسفة!
همست بعبوس وقد فقدت ضحكتها تمامًا ليضرب على جبينه شاتمًا قبل ان يهتف بندم:
- بل انا من يتوجّب عليه الإعتذار، اللعنة عليّ وانا أُغضب حبيبتي الحلوة، آسِفٌ يا مرساتي، لا تغضبي ارجوكِ.
كادت ان تضحك على رجائه الصادق ولكنها اصطنعت ملامحًا اكثر حُزنًا ليقترب منها هامسًا بقلق:
- فلك! إياكِ ان تبكِ لا اريد ان تتأثري بما القيه من تراهات، اعتبريني مجنونًا.. ارجوكِ لكي لا يأتي طفلنا سيء المِزاج وكثير البكاء.
- يجب ان يأتي عصبيًّا لا يهدأ مُطلقًا ألست والده؟! يجب ان تتغير انت اولًا ليأتي اطفالنا هادئون.
همست بتبرُّمٍ ليلتقط يديها يقبلهما بصمت لتُردِف اخيرًا:
- سأُسامحك ولكن بشرط.
نظر الى ابتسامتها الماكرة ليقول بحدّة:
- ابدًا.. لا يا فلك لن افعلها.
نهض من الفراش وهو يرعد ويزبد بينما ظلّت هي مكانها تبتسم ببلاهة.
بعد ان تناولا افطارهما كانت تجلس على الأريكة بينما عزيز يجلس بجوارها، ترفع قدميها امام وجهه بينما يتأفف هو هامسًا بخفوت:
- من يُصدّق ان هذا الرجل بطول الباب يقوم بطلاء اظافر زوجته، صِدقًا لو علِم احدهم سأكون مزحة الموسم.
- بهدوء يا حبيبي، فلو قُمت بإفساده كالمرّة السابقة ستمسحه وتعيده من جديد.
همست فلك تكتم ضحكتها وهي تراقبه بسعادة، يفتح فمه وعيناه ترتكز على اظافر قدميها بينما يقوم بتلوينهما بالأحمر الداكن ببراعة، فقد بات ماهِرًا في الأمر بعد الكثير من المحاولات، وكان طلاء اصابعها عقابه الأكثر تعذيبًا عقِب كل شِجار بينهما ويكون هو المُخطئ في كل الأوقات بعصبيته الزائدة بينما تستمتع هي بتلك الرفاهية المُبهِجة.
- هاتي يدكِ.
انزلت قدميها عن الأريكة بحذر ليقترب منه ممسكًا بيدها الناعمة ذات الأصابع الرقيقة ليقبلها هامسًا:
- اصابعا كشموع الميلاد!
ضحِكت وعبارته التي لا تمتُّ للغزل بصِلةٍ تُلقي بقلبها اثرًا عنيفًا، إنه لا يستطيع ان يغدقها بكلماتٍ الغرام الّا ان افعاله تغرقها بمشاعر الذّ من العسل، وبمرور الوقت صارت تعرف تمامًا طباعه الصارِمة وتستغِلُّ ببراعة اهتمامه وخوفه عليها من غضبه.
- رائعة، شكرا لك حبيبي.
همست وهي تتثائب بنعاسٍ صباحي ليقبلها مُبتسِمًا ولا ينسى ان يُلقي تحيةً لطفله الذي بالكاد يستطيع تمييز وجوده بذلك الإنتفاخ الدائري الطفيف ببطن فلك.
يغادر وقلبه مُكتنزٌ بالسعادة ليحصد النجوم للمرأة الوحيدة التي اسرت قلبه، بينما تنتظره هي بشغفٍ كُلّ ليلةٍ لتُزيح عنه رهق المشاوير الطويلة، كمحطّة الوصول الأخير بعد مِضمارٍ طويل، يعود اليها في كُلّ مرّةٍ بلهفةٍ اكبر وشوقٍ يفترِسُ روحه قبل جسده، شوقًا يجعله يهمِسُ بإسمها مرارًا وكأن حروفها الثلاثة تعويذة امانه.
فتنةً بريئة
لؤلوةً غالية
كوثرًا عذبا
فلك مرساة عزيز وعزيز طفلًا تائهًا بدونها.
.
.
مساء ملونًّا كأزهار الربيع، تبدوا الأيام ككوب شاي دافئ ومُحلّىٰ، لكل لحظةٍ معه طعمًا مُختلفًا، لذيذًا كقطعة حلوى.
اغمضت ليلى عينيها وابتسامةً عذبةً تطفو على وجنتيها، ابتسامةً لم يرها جلال وهي توليه ظهرها تقوم بترتيب ثيابهم في حقيبة السفر، بينما لم يكن هو بحاجةٍ لرؤية وجهها ليدرك سعادتها، فقد باتت ككتابٍ مفتوح بالنسبة له، يشعر بها كنفسه تماما، ولا يمكن لها ان تختبئ عنه مُطلقًا.
التفتت اليه عندما شعرت بقدومه لتتعاقب انفعالتها ككل لحظةٍ يدخل البيت ليقف امامها، تتسع عيناها بحيرةٍ وكأنها لم تصدق الى الآن ان هذا الغريب الذي رأته بالصُدفة قد غدى زوجها، وسرعان ما تتسرب تلك الحيرة لتتحول الى ابتسامةً كبيرة مليئة بالفرح كطفلةٌ تنتظر قدوم والدها كل مساء بذات البهجة وكأنها تراه للمرّة الأولى.
اقترب منها وزاويتا عيناه تتغضن بإبتسامةٍ مُماثلة، وهو يحييها بقبلةٍ دافئة قبل ان يقول بحنان:
- مساء الخير يا وجه القمر.
- مساء الورد حبيبي، تأخرت اليوم.
قالتها وهي تُربّت على وجنتيه ليجيبها:
- كُنتُ أُنهي بعض الأعمال واتأكد من سير العمل قبل سفرنا، هل جهزت الجميلات اغراضهُن؟!
اجابته ضاحكة:
- حور تقفِزُ فرحًا منذ الصباح، لا تُصدق ان انتهاء امتحانتهن توافق مع موعد الرحلة، واصابت الصغيرين بالهوس الا ان سقطا نائمين.
ابتسم بحنان وهو يرى تلك السعادة التي تشتعل بعينيها، سعادةً مُختلفة خاصّة بأطفالها فقط، اولئك الصِغار الذين زينوا حياتهما.
- لماذا تنظر اليّ بهذه الطريقة؟!
همست فجأةً وعيناها تلتمع ببسمةٍ ماكِرة ليُجيبها ضاحِكًا:
- لا أُغازِلكِ انها ابتسامتي الدائمة.
نهضت باسمةً لتبتعد عنه بينما يطالعها هامسًا بمشاكسة:
- تعالي هنا يا عود الخيزران.
التفتت نحوه وشعرها يدور من حولها لتضع يديها على خصرها وتهزُّ وركيها هامسةً بلؤم:
- هل اشبه الخيزران يا جلال، سامحك الله.
علت ضحكته وهو يقول بهُيام:
- بل تشبهين غصون الفُل، ناعمة.. رقيقةً يعبثُ بها الهواء يمينًا ويسارا.
استندت على الباب وهي ترمق ابتسامته المشتعلة ولم تنتبه لأنها هي الأُخرى تبتسم بشدّة وتُقرُّ بداخلها انها في النعيم، لا شيء في الأرض يضاهي لحظةً برفقة هذا الرجُل.
وتذكّرت في هذه اللحظة انّ الشهر القادم سيكون عيد زواجهما الثاني، عامين قضتهما برفقته ولا تزال عطشى لحنانه وعطفه، عامان وقلبها يخفِقُ بإسمه، عامين حصادهما سعادةً دائمة وطفلين.
ايقظها صوت ملاكيها الصغيران قبل ان يهمسا بصوت، فقط مُجرد احساس بأنهما استيقظا لتخرج نحوهما مُسرِعةً قبل ان يشرعا في البكاء، تبعها جلال للغرفة الجميلة المليئة بالألعاب ليراقبها بهدوء، وقلبه يعود لما قبلهما،
قبل عامٍ وبضعة أشهُر، حيثُ كُتِبت له السعادة كاملةً دون نُقصان....
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يا ترى ما حكاية الصغيران؟ والى اين سيسافر جلال وعائلته؟!
ماذا حدث في السنتان الفائتتان لغيد وآدم والجميع؟!
ستعرفون البقية في الختام غدا بإذن الله
مع حبي
فايا ❤❤❤