الفصلرالثلاثون
تفكيرٍ عميق، ومُناقشات طويلة بينهما افضت الى القرار الذي بدّل حياتهما تمامًا، ذلك اليوم كان كلاهما خائفًا ومُتلهّفًا بذات القدر يقودهما شوقًا فطريًّا لتجربة هذا الشعور الجديد، شعور ان يُصبح جلال ابًا لطفلٍ لا يربطه به ايّ نسب وان تكون ليلى اُمًّا لصبي، بالرغم من انها تناست تماما تلك الرغبة واكرّست حياتها له وحده في تلك الفترة الّا انه لم يستطع نسيان ابتسامتها الحزينة كُلّما اهبرتها حلا بعفويةٍ عن اخيها الصغير، كيف يكبر في كل مرّةٍ تذهب لزيارته وكيف يخطفُ قلبها رُغمًا عنها، كانت ليلى تستمع دومًا لإبنتها وهي تدعي السعادة بينما بداخلها سؤالًا لم تجِد لهُ جواب، لماذا؟! لماذا صار آدم ابًا لطفلٍ بينما لم يرزقها اللهُ طفلًا يُفرِحُ قلبها، لم تكُن ترغب بصبي على وجه الخصوص، ارادت عوضًا عن سنوات قهرها على ابنتها الأخيرة، ولا زالت تذكُر قسوة آدم وهو يخبرها بكل هدوءٍ ان تكون التوأمتان آخر ابنائهما، قالها لها بذات البرود:
- لا نريد المحاولة من جديد، فلدينا ثلاث فتيات.
لم يسألها عن رأيها، لم يمنحها الفُرصة لإشباع امومتها وبالرغم من حزنها بسبب ذلك الإمر الّا انها امتثلت له بقلب ساذج، صدّقت انهم سيعيشون في سلامٍ الى ان صعقها عندما تزوّج باُخرى.
وكان فوزه اخيرًا بالصبيّ ينهش قلبها رغمًا عنها وتتسائل متى ستعرفُ هي سبيلا للراحة، بالرغم من ان كل ذلك كان يدور فقط بذهنها وهي ترى صور فادي الصغير مع حلا الّا انّه ادرك انها ستظلُّ بعيدةً عنه اميالًا في كل لحظةٍ تُخفي فيها هذه الرغبة.
ولحُسن حظّة برزت تلك الفكرة لعقله وكأنّ الله فتح لهُ بابًا من الرحمة، بقريته البعيدة حيث تتزوّج الفتيات وهُنّ بسِنّ الطفولة تموت اغلبهُنّ اثناء حملهن او بآلام المخاض، ويتزايد عدد الأطفال دون ان يملك ابائهم القُدرة على تربيتهم، وعقب فقده لأطفاله قرر اخيرًا ان يبني مكانًا تخليدًا لروح زوجته وابنائه فكانت دار ايتام.. ايتامًا من نوعٍ آخر، لهم عوائل ولكنهم لا يستطيعون الإعتناء بهم، صِغارًا لاُمّهاتٍ قتلتهُنّ التقاليد التي لا زالت مُنتشرِة كجلدٍ يكسوا عظم المُجتمع لا يمكن انتزاعها مُطلقًا.
سنواتٍ والمكان يزدحم، والصغار يكبرون ويركضُ هو جاهِدًا ان يغُطي احتياجاتهم ومع انتشار سيرة الدار اصبحت ملجأ للكثر من الأطفال كن المناطق المُختلفة وصارت الكثير من التبرعات تأتي لحساب الدار، الى ان صار وجوده بذلك المكان امرًا دوريًا بعد كل ثلاثة اشهُر يذهب للإجتماع مع المسؤولين ويتأكد من ان حلمه الصغير يتحقق بصورةٍ مُبهِرة، فأوّل اطفاله سيلتحقون بالجامعة بعد سنتين.
وفي خِضمّ تلك الأحداث قرر ان يخبر زوجته بأمرًا ارّقه طويلًا، لا زال يذكر الى الآن نظرتها له عندما قال ببساطة:
- هل بإمكانكِ تحمُّل هذا العبء؟! هل ستُحبّين طِفلًا بحاجةٍ للحنان؟! إن كنتِ موافقة فأنا سأسعدُ جدًّا بأن نتبنّى ابنًا لنا.
يومها نظرت اليه نظرة نفذت لروحه، بحياتها لم تطالعه كتلك المرّة بعينان دامعتان عاشقتان، لم ترُدّ عليه ليلتها بل ضمّته وبكت، بكت كما لم تبكِ من قبل وشكرت اللهُ لوجوده بحياتها، وادركت ان كل خسائرها لا تضاهي لحظةً برفقته.
وانتظر هو موافقتها بصمتٍ حارق الى درجة انه يئس منها ولكنه اقسم ان لا يضغط عليها، فوجود هذا الطفل يجب ان يكون بموافقتها ليمنحاه حياةً سليمة، وكانت موافقتها بعد شهرين كاملين.. عندما اخبرته بلهفةٍ انها مُستعدّة، وتريد ان تكتمل حياتهما بوجود صغير يمنحهما السعادة ويعطياه الحُب والأمان.
ذهبت معه الى قريتهما واثناء زيارتهما للدار تم المجيئُ برضيعٍ يبكي بشدّة بينما جدّته التي هي المتبقي الوحيد من عائلته تهرع به الى غرفة الأطباء، كان الطفل المسكين لم يتناول حليبًا منذ اسبوعين فهي فقيرةٌ للغاية ووالده تركه لها بحجّة حزنه على زوجته الجميلة التي لم يهنأ بها ظنًّا منه ان هذا المولود شؤمًا عليه، تنازل لها عن ابن ابنتها وذهب ليبحث عن اُخرى اصغر سِنًّا واكثر جمالًا لعيش ثورة شبابه، ناسيًّا بأن لديه صغيرٌ لم يتجاوز الاربعة اشهُر بحاجة للرعاية.
صغيرًا للغاية، بحجم مُثيرٍ للقلق، ولكن وجهه الذي لا يزيد عن كفّة يدٍ صغيرة جميلًا للغاية، به شيئًا حرّك قلب ليلى فور حملها له، وكأنهُ ابنها الذي لن تُنجبه.. روحًا ارتبطت بها وخرجت للحياة عن طريق امرأةٍ أُخرى، يومها ظلّت تُفكّر فيه طوال الليل وعيناه الصغيرتان لم تفارقا منامها، ولأوّل مرّة منذ عشر سنوات عقب جفاف ثدييها من لبن طفلةٍ لم تذُق طعمه شعرت بتلك القطرات الدافئةُ تُبلل ثوبها، واقسمت ان لا تفارق بشير الّا بموتها، فهو حامل البُشرى بحياتها، ذلك الأمل بمنتصف طريقٍ طويل، نسيمٍ في ظهيرةٍ ساخِنة، ضحكةً بعد بكاء، إنه ابنها الذي سيظلُّ دومًا منبع البهجة بحياتها.
لم تشعُر بالذنب وهي تُبعده عن بلدته بل شعرت بالظفر وهي تحصِدُ موافقة جدته التي كادت تُقبّل قدميها من سعادتها، فهي ارملة بعنقها اربعة اطفال تعتني بهم بصعوبة ليأتي ابن ابنتها ليزيد من ثِقل حِملها، وبتبنيه ستكون قد خففت القليل من احتياجات الأطفال التي لا تنتهي، ولكن إضافة لاخذ الصغير استطاعت ان تؤمن حياةً متوسطة لأطفالها بذلك المبلغ الذي يُرسله لها جلال شهريًّا امتنانًا منه لتلك الهدية التي منحتها لهم، الطفل على اسم والده وسيتصل دومًا بعائلته بل وسيسعى كل من جلال وليلى تجميل تلك العائلة بعينيه لكي لا يكرههم.
بعد شهرين من دخول ذلك الصغير الى حياتهم وما ان بدأت صحّته في التحسُّن شعرت ليلى ببوادر إرهاقٍ غريب، وآلامًا تعرِفُ تمامًا اسبابها الّا انها لم تُصدّق، دون ان تُخطِط للأمر بل وعندما افلتت ذلك الحُلُم تمامًا تحقق كمُعجِزة، وسكنت روحًا اُخرى جسد ليلى، روحًا تغذّت على شغفٍ نهِمٍ وامومةٍ جائعة، روحًا حقيقية لم تكُن لتُصدّق وجودها لولا رؤية ذلك البروز ببطنها، يا إلهي ما اكرمك! كيف لكل تلك الأوجاع ان تقود لهذه السعادة؟! كيف تدمّرت حياتها فجأةً امام ناظريها وظنّت انها خسِرت كُلّ شيء ليأتي جلال وبشير والأجمل على الإطلاق بهاء الصغير ليبنوا حياتها من جديد؟! ولكن هذه المرّة لن يكون بيت رمل، بل بناءً عاليًا اعمدته اطفالها وثقةً كبيرة بزوجها الحبيب، ثقةً ستربطها به الى الأبد، ستقيها امواج الحياة العاتية، ففي كلّ مرّة ستجده سدًّا منيعًا يحجِبُ عنها الأذى كما كان دائما.
- ما الأمر يا حبيبي؟! هل اشتقت لماما يا حلو الطلّة؟
استيقيظ من دوّامة ذكرياته على صوتها الشبيه بأهازيج الفرح لينظر اليها من جديد وهي تحمل بشير الذي اعتاد على احضانها حتى بات نومه صعبًا من دونها بينما تتقبُّل هي دلاله بسعادة، ذلك الصغير المُشاكس يثير غيرته بشدّة خاصّة بعد ان اصبح ابنها من الرضاعة، فعند مولد بهاء كان هو قد بلغ عامًا ونصف واصرّت ان يأخذ حصّته من حبها ويكون اخًا للصغير الذي انار حياتها لتُصبِح اُمًّا لطفلين، هل هنالك لذّةٌ اكثر؟!
رقّت ابتسامته وهو يراها بثوب الأُمهات، إنها احنّ امرأةٍ في الدُنيا واجمل اُمّ رآها في حياته، ويعترف بداخله ان ليلى من النساء المختلفات بشدّة، إنها تظهر امام الجميع كملِكة وببيتها كطفلة وامام صغارها كاُمّ رائعة، بينها وبين الأنوثة ميثاقٌ غليظ لن يزول مُطلقًا، كلما تزداد شموع حياتها تتألّق بحُلّةٍ اجمل، او ربما هو الحُبّ ما يُجمّلها بعينيه ولكن في كُلّ الأحوال إن ابنة الزيات هي اميرته التي انقذها من تلابيب الحُزن لتمنحه حُبًّا جعله يستمتع بحياته، هي لم تُعيده شابًّا من جديد بل جعلته شيخًا يحُبّ الحياة.
.
.
صباحًا كانت حور قد ارتدت ثيابها باكرًا وألبست بشير وحملته للخارج بإنتظار خروج البقيّة عندما افلت الصغير ذو القدمين الصغيرتين منها وراح يركض بسعادة، وما ان رفعت وجهها حتى رأت كمال يحمل بشير ويرفعه للأعلى ويمسك به للتعالي ضحكات الصغير.
- توقّف، ستصيبه بالغثيان لا تلعب به يا كمال.
هتفت وهي تتقدّم منه لتحمل الصغير وتضعه ارضًا ليركض للداخل بينما ظلّت هي تطالعه بعيناها الشريرتان الفاتنتان.
- إذن! هل ستذهبين بالفعل؟!
تسائل وعيناه تُسمّرها مكانها لتُجيب بخفوت وهي تتلاعب بسلسالها:
- جميعنا سنذهب عداك انت بالطبع، فلا يجوز ان تترك عملك لأي سبب حتى لو كان لأجل العائلة.
- هل هذا عتاب؟!
قالها وتقدّة خطوةً الى ان اصبحت امامه مباشرة لترفع وجهها اليه وسِحرًا غريبًا يجذبها لهذا الرجُل الذي انهت معه في العامين الفائتين كُلّ سُبل الخِصام والمُشاجرات لتكتشف انه غدى جُزءً لن ينفصم من حياتها، اكتست وجنتاها بحُمرةٍ قلّما تظهرُ عليها وهي تحرك كتفيها بلامُبالاة نافيةً ما يقوله من هذيان الّا انه ابتسم لها تلك الإبتسامة التي تُطيح بالعقول وغمز هامسًا ببحّة:
- بإمكاني تأجيل عملي والقدوم معكِ، اقصد مع العائلة.
قال كلمته الأخيرة مُشدِدًا على حروفها لتقول بحدّةٍ كقِطّةٍ مُتحفّزة:
- لا تأتي إطلاقًا.. فأنا لن امنحك فُرصةً لتُفسِد رحلتي.
ضحِك حينها ضحكةً مُشاكسة وهو يلتفِت خلفه لتنتبه لتوّها لحقيبة سفره، هو بالفعل سيأتي.. هل كان هنالك داعٍ لحديثها؟! الآن سيستمتِعُ بإذلالها طوال الرِحلة.
- إذن يا مبرد الخشب، اذهبي وابدلي هذه الثياب لأُخرى مُهذبة تليق ببلدتنا.
كادت ان تصرُخ بوجهه ككُلّ مرّة الّا انها اغمضت عيناها وهي تعدُّ بداخلها الى العشرة ثم فتحتها لتبتسم اكبر ابتسامةٍ مُغيظة وهي تقول بهدوء:
- لن أرُدّ على ألفاظك المُشينة مُطلقًا، انا مبرد خشب وشوكة حوت وحجرًا بمنتصف الطريق .. وماذا؟!
- طويلة اللسان.
اكمل قائمة الفاظه لتُكمل:
- لا يهم، فبالأخير سأظلُّ على قلبك الى ان تموت.
كانت تقصِدُ معنًا عاديًّا مُغيظًّا الّا انّهُ قال بوضوح:
- على قلبي كالعسل، هيا اذهبي سريعا لكي لا نذهب بدونكِ.
دفعها دفعًا لتدلف للداخل وهي تشتمه بحنقٍ لينظر لها هامِسًا بشرود:
- كالعسل يا عين الزيتون.
.
.
اوقف سيارته البيضاء الأنيقة امام مدخل الجامعة وخرج كبطلٍ سينيمائي هاربٌ من حفل جوائز، طويلًا ضخمًا كأمير.. ازاح نظارته الشمسية لتظهر عينان بلون الغيوم الشاحِبة، مرر إحدى يديه على شعره فتأوّهت إحدى الفتيات بإعجابٍ صريح، إتكأ على سيارته بحركةٍ شهيرةٍ لتهمِس أُخرى:
- ربّاه! متى اصبحت الملائكة تطوف الأرض، اقسمتُ انهُ ليس ببشر.
ضحكت صديقاتها بصوتٍ جذب انتباهه لينظُر نحوهُن ومن نظرةٍ واحدة ادرك ان فتيات الجامعة اُعجِبن به فغمز للأجمل فيهنّ مُرفِقًا غمزته بإبتسامةٍ ساحِرة لتدعي الفتاة الإغماء مُستنِدةً على صديقاتها غير مُصدّقة ان هذا الوسيم نظر نحوها، ومن هناك تقدمت ميرال وعيناها تُطلِقُ شرارًا، تبدوا كمُراهقة ببنطال الجينز وتلك الكِنزة الواسعة التي تخفي بروز بطنها، اقتربت من الفتيات اللاتي تركن كل شيءٍ واصبحن يعاكِسن زوجها الذي لم يُقصّر هو الآخر، عبس فجأةً كمن قُبِض عليه بالجُرم وهو يراها تزيحهُن لتقف بمنتصفهنّ تمامًا ووسط حيرة الفتيات اللآتي لا يعرفنها وجدنه يتقدّم منهُن لتقول ميرال بهدوء:
- مرحبًا يا زميلاتي العزيزات، بالطبع اعجبكُنّ هذا الوسيم، إنه زوجي.
انهت عبارتها وهي ترفع يده التي يزينها خاتم الزواج قبل ان تضع ذات اليد على بطنها وتقول بصوت اكثر حدّة:
- ونحن ننتظِرُ طفلينا، توأمان لم نعرف جنسهما بعد، ستكون مُفاجأة، إذن.. هل ارضيتُ فضولكُنّ؟!
تركته واقِفًا مكانه واسرعت لتصعد في السيارة ولم تنسى إغلاق الباب بكُلّ عُنفٍ وها هي الآن صامتة تمامًا وقد قاربا على الوصول للمنزل.
- آسف يا غزالتي.
- على ماذا تتأسّف؟! لا تتأسف ابدًا يا عزيزي بل كان يجب ان تأخذ رقم إحداهُنّ لتُكمِل تسليتك بما ان زوجتك لم تعُد تُعجبُك.
هتفت بشدّة الى ان خشي عليها من نفسها ليقول بخفوت محاولًا تهدئتها:
- ميرال، لا تُعقّدي الأمور ارجوكِ!
- انا أُعقّد الأمور؟!
صرخت تشير لنفسها لتُكمل قبل سماع صوته:
- إذن لن ابقى معك ولو لثانية، خُذني الى فلك، الآن!
المسكين شعر بأن طبلة اُذُنه قد ثُقِبت تمامًا من صُراخها فقاد بتخاذُلٍ الى ان اوصلها لبيت فلك وتم طرده كالعادة الى ان يتم تهدئة السيدة المجنونة التي كانت قبل ساعاتٍ زوجته الجميلة قبل ان تلعب بها هرمونات الحمل.
بعد عدّة ساعات كانت ميرال ترتدي بيجامة ملوّنة وتحملُ مالك بين ذراعيه تتناول ثمار الفراولة بتلذُذ وفلك بجوارها تطالعها مُبتسمة، تشعر بالشفقة على بحر فميرال اذاقته الأمرين اثناء حملها الذي جعل منها كتلة من الإنفعالات.
- تخيلي يا فلك رأيته باُمّ عيني يغازل الفتاة، وليتها جميلة.. وجهها يشبه طبق بيضٍ بالطماطم.
ضحِكت فلك بشدّة وهي تحاول تخيُّل وجه الفتاة بينما اضافت ميرال بحُزن:
- هل يا تُرى احبّها؟!
عبست فلك وهي تثنيها عن تلك الأفكار المجنونة:
- ميرال حبيبتي، هل عقلكِ هذا يعمل؟! ألا تري كيف يُحبّكِ بحر؟! إنه مجنونٌ بكِ هو فقط اراد المِزاح معكِ، الا تذكُري كيف كانت سعادته عندما اخبرتيه بأنه سيُصبِح ابًا؟!
- حبيبي! كاد ان يفقِد عقله تماما.
شعرت بطعم الذكريات بفمها حلوةً كالسُكّر، يا الله كيف استطاعت السماح لخِلافٍ بسيطٍ بأن يحرمها من عناقه وقبلاته التي تُدمنها، صحيح انها لا زالت غاضبة ولكنها لن تُعطي فُرصة لأمرأةٍ أُخرى ان تُبعدها عنه، ستحرسه بروحها اذا لزِم الأمر.
وصلتها رسالةً على هاتفها فقرأتها وابتسمت كالحمقاء.
" تبقى للمساء ساعتين، وانا الى الآن لم أُحييكِ تحية الظهيرة، هل يعجبكِ هذا؟!"
ردّت عليه بأنامل مُرتجفة كطالبةٍ تغلِبُ مُعلّمها:
- غاضبةٌ منك بشدّة يا بحر ولكن بإمكانك ان تحاول إرضائي وسأُفكّر فيما اذا سيكون مساءً سعيدًا ام ستقضي ليلتك بغرفة بلال.
- توقفي عن الإبتسام كالبُلهاء، لا تُصالحيه بسهولة بل حاولي ان تعاقبيه بحزم لكي لا يكررها.
هتفت فلك تشحنها بغيرةٍ انثوية لتهمس ميرال متنهّدةً بسعادة:
- لا استطيع، عندما انظر اليه فقط اهدأ وكأن ماءً بارِدًا سُكِب على نيراني.
بدت بالفعل هادئة تمامًا وهي تستقبله بإبتسامتها المُشرِقة وكأنها ليست تلك التي كادت تقتله قبل بضعة ساعات، وكانت بالفعل لا تعلم ماذا يحدُث لها، تُحبّه، تغار بجنون ولا تستطيع مقاومة حزنه منها لتعود اليه كل مرّة اكثر خنوعًا، لا تشعر بالخزي من ضعفها تجاهه فهو زوجها الذي تعلم تمامًا انه يحبها ولن يستبدلها بأُخرى بالرغم من الاعيبه التي تهدفُ فقط إثارة غيرتها.
فتحت له الباب كصبيّةٍ عاشِقة تختلِسُ لحظات الفرح بجانب حبيبها، تتقبّل باقة الورد الأحمر ببسمةٍ خجولة وتودع فلك وابنها بسُرعة غير قادرة على البُعد عن حبيبها.
بينما تنظر لهما فلك من النافذة مبتسمة قبل ان تلمح غزيز قلبِها يأتي من بعيد، حامِلًا بيديه اكياس الطلبات التي كتبتها له صباحًا كزوجٍ اصيل، صار اكثر نُضجًا، بل غدى ابًا لأجمل صبيّ بالكون، إذ منحته الأبوة هدوءً جعل منه اكثر جاذبيّة بعينها، ولكنه معها لم يتغير ابدًا، لا زال يُمضي الدقائق مُتأمّلًا إياها من النافذة كأميرةٍ تُناجي حبيبها من على البُعد، يخبرها في كل مرّة كم هي جميلةٌ بالأعلى، كنجمةٍ مُضيئة، فتدعي الغضب لأنه لا يغازلها الّا وهما في ذلك اللقاء البعيد ليجيبها في كل مرّة:
- البُعد ترياق المحبة، وانا لم اعشقكِ الّا عندما افترقنا.
.
.
كانت اجازةً رائعة استمرّت لخمسة عشر يومًا زار فيها جلال وعائلته القرية ليلتقي بشير بجدته، وكانت رفقة كمال اكثر مُتعةً لحلا وحور، وجمعت العائلة ذكريات جميلة ستُخلّد بحياتهم الى الأبد وفي نهاية الرِحلة زار الجميع دار الأيتام التي غدت مدرسةً داخلية اكثر من كونها دور رعاية يتلقى فيها الأطفال تعليمهم وسكنهم بذات الوقت، وعندما عادوا من البلدة ارتفعت حرارة بشير لتغيُّر الأجواء فإضطرّت ليلى ان تأخذه للطبيب ولم يكُن كمال موجودًا حينها.
بالمشفى واثناء انتظارها لدورها تفاجأت ليلى بأخر شخصين تتوقّع رؤيتهما، كان آدم يتوكأ عصاه وقد خطّ العُمر علاماته عليه ليغدوا جدًّا لغيد التي تُمسِكُ بيد ابنها، تقدّم آدم وعيناه تومِضُ بعشقٍ قديم لإمرأةٍ اضاعها من بين يديه ليقف امامها، يرى كيف وصلت لهذه الدرجة من الحياة، وكأنها صغُرت عشرات السنوات، بل في تلك اللحظة تذكّر صورتها وهي تحمِلُ فلك.. ابنتهما الأولى لتبدوا الآن اُمًّا من جديد.
- مرحبًا ليلى.
همس بصوتٍ حاول جعله قويًّا الّا انه خرج باهِتًا مُتحشرِجًا لتُجيبه بإبتسامةٍ هادئة:
- مرحبًّا آدم، اهلا يا غيد كيف حالك؟
وجهت سؤالها لتلك المرأة الهزيلة ذات العينان الغائرتان التي تبدوا كدُميةٍ مُهترئة لتجيبها بخفوت:
- مرحبا، انا بخير شكرا لكِ.
كانت ليلى هي آخر المرضى فجلس آدم بجوارها وغيد من بعده.
- كيف حالك؟!
تسائل آدم لتجيبه برِضا:
- انا بأفضل حال، فقط ابني مريض قليلًا.
- هذا الإبن الذي تبنيتيه أليس كذلك.
- بل ابني.
ردّت بقسوةٍ وهي تتذكّر كرهه القديم لبلال وعدم رغبته بأبنٍ مُتبنّى، وصححت بخفوتٍ صلب:
- ابني بالرضاعة، واخ بهاء صغيرنا الثاني.
في تلك اللحظة رنّ هاتفها بأسم الغالي جلال لترُدّ عليه بلهفةٍ غير مُصطنعة:
- مرحبًا حبيبي، لا لم يتحسّن.
صمتت تسمع ردّه قبل ان تقول بحنان:
- اخذته للمشفى، لا داعي لأن تأتي.
قبل ان تهمس بإستسلام:
- حسنٌ يا حبيبي، سنكون بإنتظارك.
اغمضت غيد عيناها بشدّة وهي تشعر بأصابع آدم تُحفر بكفّها، إنه يتألم وهي تموت حيّة بهذه اللحظات، لا تريد بأن تواجه ليلى وجلال فكلاهما كان شاهدًا على سقطتها التي كلّفتها كثيرًا ولازالت تدفع ثمنها، لقد حررها آدم من سجنها، فتح لها الباب على مصرعيه ولكنها عادت لتدخل لغرفتها وتُحكِم وِثاق قيدها، لا زالت زوجته ووالدة ابنه ولكن ما بينهما قد مات الى الأبد.
لم تحسب غيد كم مرّ من الزمن ولكنها تقريبًا خمسة عشر دقيقة ليأتي جلال من بعيد وعلى ملامحه القلق، وعندما لمح آدم توقف لبُرهةٍ قبل ان يعاود التقدُّم من ليلى التي سارعت للنهوض اليه ليجذبها وطفلهما في عناقٍ سريعٍ ويحمله عنها يقِفا ليتحدثا بكلامًا لم يسمعه آدم ولكنه رأى كُلّ شيء، واقسم انّ هذا المنظر لن يُمحى من حياته الى ان يموت، سيظل يذكرها كل ليلة ويعضُّ اصابِع الندم.
ابعد عينيه بصعوبةٍ عنهما ونظر لإبنه الذي غدى امله الوحيد في الحياة صحيح ان الفتيات يزُرنه دومًا الّا انه بينه وبينهُنّ شيئًا قد كُسِر الى الأبد، شيئًا لا يرغب بأن يموت بينه وبين فادي.
مساء تلك الليلة شعرت ليلى بتغيُّر مزاج جلال وكانت تعلم بأنه شعر بالغيرة عليها ولكن ما جعلها تعشقه اكثر هو انه لم يسألها عنه مُطلقًا، احترق بناره وحده لكي لا يؤذيها، هذا هو الرجُل الذي احبته.
- بماذا تفكرين؟!
صوته الخافت الناعس بجوار اذنيها دفعها للتنهُّد بعُمق وهي تتطلّع الى السقف بشرود، استمرّ صمتها طويلًا الى ان ظنّ انها قد نامت ولكنه تفاجأ بهمستها التي لم تظنّ انه سمعها:
- أُفكّر بأنني أُحبُّك.
- وهل الحُبّ يتطلّبُ كل ذلك التفكير؟!
غمغم وانامله تعبث بشعرها الطويل لتُجيبه برقّة:
- انا لا اُحبُّك بمشاعر مُندفِعة ساذجة، انا أُحبُّك بصدق، بهدوء، ببُطء، ظللت أقاوم هذا الشعور طويلًا الى ان ايقنت انني اُحبُّك حقًّا!
- يا غالية، كُفّي عن بعثرة روحي، فقط توقّفي عن كونكِ بهذا الجمال.
همس يترجاها لتقول ودمعةً وديعةً تُداعب عيناها:
- لن استطيع، ساُحبُّك اكثر، في كل لحظة.. ومع كُلّ دقّة قلب يا جلال ستكون حبيبي، عندما لن نستطيع الكلام، عندما نعجزُّ عن السير طويلا، سأتكئُ على كتفك واقول بسعادة:
- انتَ منزلي، ليس بيت الرمل...
مع حبي ❤️
- لا نريد المحاولة من جديد، فلدينا ثلاث فتيات.
لم يسألها عن رأيها، لم يمنحها الفُرصة لإشباع امومتها وبالرغم من حزنها بسبب ذلك الإمر الّا انها امتثلت له بقلب ساذج، صدّقت انهم سيعيشون في سلامٍ الى ان صعقها عندما تزوّج باُخرى.
وكان فوزه اخيرًا بالصبيّ ينهش قلبها رغمًا عنها وتتسائل متى ستعرفُ هي سبيلا للراحة، بالرغم من ان كل ذلك كان يدور فقط بذهنها وهي ترى صور فادي الصغير مع حلا الّا انّه ادرك انها ستظلُّ بعيدةً عنه اميالًا في كل لحظةٍ تُخفي فيها هذه الرغبة.
ولحُسن حظّة برزت تلك الفكرة لعقله وكأنّ الله فتح لهُ بابًا من الرحمة، بقريته البعيدة حيث تتزوّج الفتيات وهُنّ بسِنّ الطفولة تموت اغلبهُنّ اثناء حملهن او بآلام المخاض، ويتزايد عدد الأطفال دون ان يملك ابائهم القُدرة على تربيتهم، وعقب فقده لأطفاله قرر اخيرًا ان يبني مكانًا تخليدًا لروح زوجته وابنائه فكانت دار ايتام.. ايتامًا من نوعٍ آخر، لهم عوائل ولكنهم لا يستطيعون الإعتناء بهم، صِغارًا لاُمّهاتٍ قتلتهُنّ التقاليد التي لا زالت مُنتشرِة كجلدٍ يكسوا عظم المُجتمع لا يمكن انتزاعها مُطلقًا.
سنواتٍ والمكان يزدحم، والصغار يكبرون ويركضُ هو جاهِدًا ان يغُطي احتياجاتهم ومع انتشار سيرة الدار اصبحت ملجأ للكثر من الأطفال كن المناطق المُختلفة وصارت الكثير من التبرعات تأتي لحساب الدار، الى ان صار وجوده بذلك المكان امرًا دوريًا بعد كل ثلاثة اشهُر يذهب للإجتماع مع المسؤولين ويتأكد من ان حلمه الصغير يتحقق بصورةٍ مُبهِرة، فأوّل اطفاله سيلتحقون بالجامعة بعد سنتين.
وفي خِضمّ تلك الأحداث قرر ان يخبر زوجته بأمرًا ارّقه طويلًا، لا زال يذكر الى الآن نظرتها له عندما قال ببساطة:
- هل بإمكانكِ تحمُّل هذا العبء؟! هل ستُحبّين طِفلًا بحاجةٍ للحنان؟! إن كنتِ موافقة فأنا سأسعدُ جدًّا بأن نتبنّى ابنًا لنا.
يومها نظرت اليه نظرة نفذت لروحه، بحياتها لم تطالعه كتلك المرّة بعينان دامعتان عاشقتان، لم ترُدّ عليه ليلتها بل ضمّته وبكت، بكت كما لم تبكِ من قبل وشكرت اللهُ لوجوده بحياتها، وادركت ان كل خسائرها لا تضاهي لحظةً برفقته.
وانتظر هو موافقتها بصمتٍ حارق الى درجة انه يئس منها ولكنه اقسم ان لا يضغط عليها، فوجود هذا الطفل يجب ان يكون بموافقتها ليمنحاه حياةً سليمة، وكانت موافقتها بعد شهرين كاملين.. عندما اخبرته بلهفةٍ انها مُستعدّة، وتريد ان تكتمل حياتهما بوجود صغير يمنحهما السعادة ويعطياه الحُب والأمان.
ذهبت معه الى قريتهما واثناء زيارتهما للدار تم المجيئُ برضيعٍ يبكي بشدّة بينما جدّته التي هي المتبقي الوحيد من عائلته تهرع به الى غرفة الأطباء، كان الطفل المسكين لم يتناول حليبًا منذ اسبوعين فهي فقيرةٌ للغاية ووالده تركه لها بحجّة حزنه على زوجته الجميلة التي لم يهنأ بها ظنًّا منه ان هذا المولود شؤمًا عليه، تنازل لها عن ابن ابنتها وذهب ليبحث عن اُخرى اصغر سِنًّا واكثر جمالًا لعيش ثورة شبابه، ناسيًّا بأن لديه صغيرٌ لم يتجاوز الاربعة اشهُر بحاجة للرعاية.
صغيرًا للغاية، بحجم مُثيرٍ للقلق، ولكن وجهه الذي لا يزيد عن كفّة يدٍ صغيرة جميلًا للغاية، به شيئًا حرّك قلب ليلى فور حملها له، وكأنهُ ابنها الذي لن تُنجبه.. روحًا ارتبطت بها وخرجت للحياة عن طريق امرأةٍ أُخرى، يومها ظلّت تُفكّر فيه طوال الليل وعيناه الصغيرتان لم تفارقا منامها، ولأوّل مرّة منذ عشر سنوات عقب جفاف ثدييها من لبن طفلةٍ لم تذُق طعمه شعرت بتلك القطرات الدافئةُ تُبلل ثوبها، واقسمت ان لا تفارق بشير الّا بموتها، فهو حامل البُشرى بحياتها، ذلك الأمل بمنتصف طريقٍ طويل، نسيمٍ في ظهيرةٍ ساخِنة، ضحكةً بعد بكاء، إنه ابنها الذي سيظلُّ دومًا منبع البهجة بحياتها.
لم تشعُر بالذنب وهي تُبعده عن بلدته بل شعرت بالظفر وهي تحصِدُ موافقة جدته التي كادت تُقبّل قدميها من سعادتها، فهي ارملة بعنقها اربعة اطفال تعتني بهم بصعوبة ليأتي ابن ابنتها ليزيد من ثِقل حِملها، وبتبنيه ستكون قد خففت القليل من احتياجات الأطفال التي لا تنتهي، ولكن إضافة لاخذ الصغير استطاعت ان تؤمن حياةً متوسطة لأطفالها بذلك المبلغ الذي يُرسله لها جلال شهريًّا امتنانًا منه لتلك الهدية التي منحتها لهم، الطفل على اسم والده وسيتصل دومًا بعائلته بل وسيسعى كل من جلال وليلى تجميل تلك العائلة بعينيه لكي لا يكرههم.
بعد شهرين من دخول ذلك الصغير الى حياتهم وما ان بدأت صحّته في التحسُّن شعرت ليلى ببوادر إرهاقٍ غريب، وآلامًا تعرِفُ تمامًا اسبابها الّا انها لم تُصدّق، دون ان تُخطِط للأمر بل وعندما افلتت ذلك الحُلُم تمامًا تحقق كمُعجِزة، وسكنت روحًا اُخرى جسد ليلى، روحًا تغذّت على شغفٍ نهِمٍ وامومةٍ جائعة، روحًا حقيقية لم تكُن لتُصدّق وجودها لولا رؤية ذلك البروز ببطنها، يا إلهي ما اكرمك! كيف لكل تلك الأوجاع ان تقود لهذه السعادة؟! كيف تدمّرت حياتها فجأةً امام ناظريها وظنّت انها خسِرت كُلّ شيء ليأتي جلال وبشير والأجمل على الإطلاق بهاء الصغير ليبنوا حياتها من جديد؟! ولكن هذه المرّة لن يكون بيت رمل، بل بناءً عاليًا اعمدته اطفالها وثقةً كبيرة بزوجها الحبيب، ثقةً ستربطها به الى الأبد، ستقيها امواج الحياة العاتية، ففي كلّ مرّة ستجده سدًّا منيعًا يحجِبُ عنها الأذى كما كان دائما.
- ما الأمر يا حبيبي؟! هل اشتقت لماما يا حلو الطلّة؟
استيقيظ من دوّامة ذكرياته على صوتها الشبيه بأهازيج الفرح لينظر اليها من جديد وهي تحمل بشير الذي اعتاد على احضانها حتى بات نومه صعبًا من دونها بينما تتقبُّل هي دلاله بسعادة، ذلك الصغير المُشاكس يثير غيرته بشدّة خاصّة بعد ان اصبح ابنها من الرضاعة، فعند مولد بهاء كان هو قد بلغ عامًا ونصف واصرّت ان يأخذ حصّته من حبها ويكون اخًا للصغير الذي انار حياتها لتُصبِح اُمًّا لطفلين، هل هنالك لذّةٌ اكثر؟!
رقّت ابتسامته وهو يراها بثوب الأُمهات، إنها احنّ امرأةٍ في الدُنيا واجمل اُمّ رآها في حياته، ويعترف بداخله ان ليلى من النساء المختلفات بشدّة، إنها تظهر امام الجميع كملِكة وببيتها كطفلة وامام صغارها كاُمّ رائعة، بينها وبين الأنوثة ميثاقٌ غليظ لن يزول مُطلقًا، كلما تزداد شموع حياتها تتألّق بحُلّةٍ اجمل، او ربما هو الحُبّ ما يُجمّلها بعينيه ولكن في كُلّ الأحوال إن ابنة الزيات هي اميرته التي انقذها من تلابيب الحُزن لتمنحه حُبًّا جعله يستمتع بحياته، هي لم تُعيده شابًّا من جديد بل جعلته شيخًا يحُبّ الحياة.
.
.
صباحًا كانت حور قد ارتدت ثيابها باكرًا وألبست بشير وحملته للخارج بإنتظار خروج البقيّة عندما افلت الصغير ذو القدمين الصغيرتين منها وراح يركض بسعادة، وما ان رفعت وجهها حتى رأت كمال يحمل بشير ويرفعه للأعلى ويمسك به للتعالي ضحكات الصغير.
- توقّف، ستصيبه بالغثيان لا تلعب به يا كمال.
هتفت وهي تتقدّم منه لتحمل الصغير وتضعه ارضًا ليركض للداخل بينما ظلّت هي تطالعه بعيناها الشريرتان الفاتنتان.
- إذن! هل ستذهبين بالفعل؟!
تسائل وعيناه تُسمّرها مكانها لتُجيب بخفوت وهي تتلاعب بسلسالها:
- جميعنا سنذهب عداك انت بالطبع، فلا يجوز ان تترك عملك لأي سبب حتى لو كان لأجل العائلة.
- هل هذا عتاب؟!
قالها وتقدّة خطوةً الى ان اصبحت امامه مباشرة لترفع وجهها اليه وسِحرًا غريبًا يجذبها لهذا الرجُل الذي انهت معه في العامين الفائتين كُلّ سُبل الخِصام والمُشاجرات لتكتشف انه غدى جُزءً لن ينفصم من حياتها، اكتست وجنتاها بحُمرةٍ قلّما تظهرُ عليها وهي تحرك كتفيها بلامُبالاة نافيةً ما يقوله من هذيان الّا انه ابتسم لها تلك الإبتسامة التي تُطيح بالعقول وغمز هامسًا ببحّة:
- بإمكاني تأجيل عملي والقدوم معكِ، اقصد مع العائلة.
قال كلمته الأخيرة مُشدِدًا على حروفها لتقول بحدّةٍ كقِطّةٍ مُتحفّزة:
- لا تأتي إطلاقًا.. فأنا لن امنحك فُرصةً لتُفسِد رحلتي.
ضحِك حينها ضحكةً مُشاكسة وهو يلتفِت خلفه لتنتبه لتوّها لحقيبة سفره، هو بالفعل سيأتي.. هل كان هنالك داعٍ لحديثها؟! الآن سيستمتِعُ بإذلالها طوال الرِحلة.
- إذن يا مبرد الخشب، اذهبي وابدلي هذه الثياب لأُخرى مُهذبة تليق ببلدتنا.
كادت ان تصرُخ بوجهه ككُلّ مرّة الّا انها اغمضت عيناها وهي تعدُّ بداخلها الى العشرة ثم فتحتها لتبتسم اكبر ابتسامةٍ مُغيظة وهي تقول بهدوء:
- لن أرُدّ على ألفاظك المُشينة مُطلقًا، انا مبرد خشب وشوكة حوت وحجرًا بمنتصف الطريق .. وماذا؟!
- طويلة اللسان.
اكمل قائمة الفاظه لتُكمل:
- لا يهم، فبالأخير سأظلُّ على قلبك الى ان تموت.
كانت تقصِدُ معنًا عاديًّا مُغيظًّا الّا انّهُ قال بوضوح:
- على قلبي كالعسل، هيا اذهبي سريعا لكي لا نذهب بدونكِ.
دفعها دفعًا لتدلف للداخل وهي تشتمه بحنقٍ لينظر لها هامِسًا بشرود:
- كالعسل يا عين الزيتون.
.
.
اوقف سيارته البيضاء الأنيقة امام مدخل الجامعة وخرج كبطلٍ سينيمائي هاربٌ من حفل جوائز، طويلًا ضخمًا كأمير.. ازاح نظارته الشمسية لتظهر عينان بلون الغيوم الشاحِبة، مرر إحدى يديه على شعره فتأوّهت إحدى الفتيات بإعجابٍ صريح، إتكأ على سيارته بحركةٍ شهيرةٍ لتهمِس أُخرى:
- ربّاه! متى اصبحت الملائكة تطوف الأرض، اقسمتُ انهُ ليس ببشر.
ضحكت صديقاتها بصوتٍ جذب انتباهه لينظُر نحوهُن ومن نظرةٍ واحدة ادرك ان فتيات الجامعة اُعجِبن به فغمز للأجمل فيهنّ مُرفِقًا غمزته بإبتسامةٍ ساحِرة لتدعي الفتاة الإغماء مُستنِدةً على صديقاتها غير مُصدّقة ان هذا الوسيم نظر نحوها، ومن هناك تقدمت ميرال وعيناها تُطلِقُ شرارًا، تبدوا كمُراهقة ببنطال الجينز وتلك الكِنزة الواسعة التي تخفي بروز بطنها، اقتربت من الفتيات اللاتي تركن كل شيءٍ واصبحن يعاكِسن زوجها الذي لم يُقصّر هو الآخر، عبس فجأةً كمن قُبِض عليه بالجُرم وهو يراها تزيحهُن لتقف بمنتصفهنّ تمامًا ووسط حيرة الفتيات اللآتي لا يعرفنها وجدنه يتقدّم منهُن لتقول ميرال بهدوء:
- مرحبًا يا زميلاتي العزيزات، بالطبع اعجبكُنّ هذا الوسيم، إنه زوجي.
انهت عبارتها وهي ترفع يده التي يزينها خاتم الزواج قبل ان تضع ذات اليد على بطنها وتقول بصوت اكثر حدّة:
- ونحن ننتظِرُ طفلينا، توأمان لم نعرف جنسهما بعد، ستكون مُفاجأة، إذن.. هل ارضيتُ فضولكُنّ؟!
تركته واقِفًا مكانه واسرعت لتصعد في السيارة ولم تنسى إغلاق الباب بكُلّ عُنفٍ وها هي الآن صامتة تمامًا وقد قاربا على الوصول للمنزل.
- آسف يا غزالتي.
- على ماذا تتأسّف؟! لا تتأسف ابدًا يا عزيزي بل كان يجب ان تأخذ رقم إحداهُنّ لتُكمِل تسليتك بما ان زوجتك لم تعُد تُعجبُك.
هتفت بشدّة الى ان خشي عليها من نفسها ليقول بخفوت محاولًا تهدئتها:
- ميرال، لا تُعقّدي الأمور ارجوكِ!
- انا أُعقّد الأمور؟!
صرخت تشير لنفسها لتُكمل قبل سماع صوته:
- إذن لن ابقى معك ولو لثانية، خُذني الى فلك، الآن!
المسكين شعر بأن طبلة اُذُنه قد ثُقِبت تمامًا من صُراخها فقاد بتخاذُلٍ الى ان اوصلها لبيت فلك وتم طرده كالعادة الى ان يتم تهدئة السيدة المجنونة التي كانت قبل ساعاتٍ زوجته الجميلة قبل ان تلعب بها هرمونات الحمل.
بعد عدّة ساعات كانت ميرال ترتدي بيجامة ملوّنة وتحملُ مالك بين ذراعيه تتناول ثمار الفراولة بتلذُذ وفلك بجوارها تطالعها مُبتسمة، تشعر بالشفقة على بحر فميرال اذاقته الأمرين اثناء حملها الذي جعل منها كتلة من الإنفعالات.
- تخيلي يا فلك رأيته باُمّ عيني يغازل الفتاة، وليتها جميلة.. وجهها يشبه طبق بيضٍ بالطماطم.
ضحِكت فلك بشدّة وهي تحاول تخيُّل وجه الفتاة بينما اضافت ميرال بحُزن:
- هل يا تُرى احبّها؟!
عبست فلك وهي تثنيها عن تلك الأفكار المجنونة:
- ميرال حبيبتي، هل عقلكِ هذا يعمل؟! ألا تري كيف يُحبّكِ بحر؟! إنه مجنونٌ بكِ هو فقط اراد المِزاح معكِ، الا تذكُري كيف كانت سعادته عندما اخبرتيه بأنه سيُصبِح ابًا؟!
- حبيبي! كاد ان يفقِد عقله تماما.
شعرت بطعم الذكريات بفمها حلوةً كالسُكّر، يا الله كيف استطاعت السماح لخِلافٍ بسيطٍ بأن يحرمها من عناقه وقبلاته التي تُدمنها، صحيح انها لا زالت غاضبة ولكنها لن تُعطي فُرصة لأمرأةٍ أُخرى ان تُبعدها عنه، ستحرسه بروحها اذا لزِم الأمر.
وصلتها رسالةً على هاتفها فقرأتها وابتسمت كالحمقاء.
" تبقى للمساء ساعتين، وانا الى الآن لم أُحييكِ تحية الظهيرة، هل يعجبكِ هذا؟!"
ردّت عليه بأنامل مُرتجفة كطالبةٍ تغلِبُ مُعلّمها:
- غاضبةٌ منك بشدّة يا بحر ولكن بإمكانك ان تحاول إرضائي وسأُفكّر فيما اذا سيكون مساءً سعيدًا ام ستقضي ليلتك بغرفة بلال.
- توقفي عن الإبتسام كالبُلهاء، لا تُصالحيه بسهولة بل حاولي ان تعاقبيه بحزم لكي لا يكررها.
هتفت فلك تشحنها بغيرةٍ انثوية لتهمس ميرال متنهّدةً بسعادة:
- لا استطيع، عندما انظر اليه فقط اهدأ وكأن ماءً بارِدًا سُكِب على نيراني.
بدت بالفعل هادئة تمامًا وهي تستقبله بإبتسامتها المُشرِقة وكأنها ليست تلك التي كادت تقتله قبل بضعة ساعات، وكانت بالفعل لا تعلم ماذا يحدُث لها، تُحبّه، تغار بجنون ولا تستطيع مقاومة حزنه منها لتعود اليه كل مرّة اكثر خنوعًا، لا تشعر بالخزي من ضعفها تجاهه فهو زوجها الذي تعلم تمامًا انه يحبها ولن يستبدلها بأُخرى بالرغم من الاعيبه التي تهدفُ فقط إثارة غيرتها.
فتحت له الباب كصبيّةٍ عاشِقة تختلِسُ لحظات الفرح بجانب حبيبها، تتقبّل باقة الورد الأحمر ببسمةٍ خجولة وتودع فلك وابنها بسُرعة غير قادرة على البُعد عن حبيبها.
بينما تنظر لهما فلك من النافذة مبتسمة قبل ان تلمح غزيز قلبِها يأتي من بعيد، حامِلًا بيديه اكياس الطلبات التي كتبتها له صباحًا كزوجٍ اصيل، صار اكثر نُضجًا، بل غدى ابًا لأجمل صبيّ بالكون، إذ منحته الأبوة هدوءً جعل منه اكثر جاذبيّة بعينها، ولكنه معها لم يتغير ابدًا، لا زال يُمضي الدقائق مُتأمّلًا إياها من النافذة كأميرةٍ تُناجي حبيبها من على البُعد، يخبرها في كل مرّة كم هي جميلةٌ بالأعلى، كنجمةٍ مُضيئة، فتدعي الغضب لأنه لا يغازلها الّا وهما في ذلك اللقاء البعيد ليجيبها في كل مرّة:
- البُعد ترياق المحبة، وانا لم اعشقكِ الّا عندما افترقنا.
.
.
كانت اجازةً رائعة استمرّت لخمسة عشر يومًا زار فيها جلال وعائلته القرية ليلتقي بشير بجدته، وكانت رفقة كمال اكثر مُتعةً لحلا وحور، وجمعت العائلة ذكريات جميلة ستُخلّد بحياتهم الى الأبد وفي نهاية الرِحلة زار الجميع دار الأيتام التي غدت مدرسةً داخلية اكثر من كونها دور رعاية يتلقى فيها الأطفال تعليمهم وسكنهم بذات الوقت، وعندما عادوا من البلدة ارتفعت حرارة بشير لتغيُّر الأجواء فإضطرّت ليلى ان تأخذه للطبيب ولم يكُن كمال موجودًا حينها.
بالمشفى واثناء انتظارها لدورها تفاجأت ليلى بأخر شخصين تتوقّع رؤيتهما، كان آدم يتوكأ عصاه وقد خطّ العُمر علاماته عليه ليغدوا جدًّا لغيد التي تُمسِكُ بيد ابنها، تقدّم آدم وعيناه تومِضُ بعشقٍ قديم لإمرأةٍ اضاعها من بين يديه ليقف امامها، يرى كيف وصلت لهذه الدرجة من الحياة، وكأنها صغُرت عشرات السنوات، بل في تلك اللحظة تذكّر صورتها وهي تحمِلُ فلك.. ابنتهما الأولى لتبدوا الآن اُمًّا من جديد.
- مرحبًا ليلى.
همس بصوتٍ حاول جعله قويًّا الّا انه خرج باهِتًا مُتحشرِجًا لتُجيبه بإبتسامةٍ هادئة:
- مرحبًّا آدم، اهلا يا غيد كيف حالك؟
وجهت سؤالها لتلك المرأة الهزيلة ذات العينان الغائرتان التي تبدوا كدُميةٍ مُهترئة لتجيبها بخفوت:
- مرحبا، انا بخير شكرا لكِ.
كانت ليلى هي آخر المرضى فجلس آدم بجوارها وغيد من بعده.
- كيف حالك؟!
تسائل آدم لتجيبه برِضا:
- انا بأفضل حال، فقط ابني مريض قليلًا.
- هذا الإبن الذي تبنيتيه أليس كذلك.
- بل ابني.
ردّت بقسوةٍ وهي تتذكّر كرهه القديم لبلال وعدم رغبته بأبنٍ مُتبنّى، وصححت بخفوتٍ صلب:
- ابني بالرضاعة، واخ بهاء صغيرنا الثاني.
في تلك اللحظة رنّ هاتفها بأسم الغالي جلال لترُدّ عليه بلهفةٍ غير مُصطنعة:
- مرحبًا حبيبي، لا لم يتحسّن.
صمتت تسمع ردّه قبل ان تقول بحنان:
- اخذته للمشفى، لا داعي لأن تأتي.
قبل ان تهمس بإستسلام:
- حسنٌ يا حبيبي، سنكون بإنتظارك.
اغمضت غيد عيناها بشدّة وهي تشعر بأصابع آدم تُحفر بكفّها، إنه يتألم وهي تموت حيّة بهذه اللحظات، لا تريد بأن تواجه ليلى وجلال فكلاهما كان شاهدًا على سقطتها التي كلّفتها كثيرًا ولازالت تدفع ثمنها، لقد حررها آدم من سجنها، فتح لها الباب على مصرعيه ولكنها عادت لتدخل لغرفتها وتُحكِم وِثاق قيدها، لا زالت زوجته ووالدة ابنه ولكن ما بينهما قد مات الى الأبد.
لم تحسب غيد كم مرّ من الزمن ولكنها تقريبًا خمسة عشر دقيقة ليأتي جلال من بعيد وعلى ملامحه القلق، وعندما لمح آدم توقف لبُرهةٍ قبل ان يعاود التقدُّم من ليلى التي سارعت للنهوض اليه ليجذبها وطفلهما في عناقٍ سريعٍ ويحمله عنها يقِفا ليتحدثا بكلامًا لم يسمعه آدم ولكنه رأى كُلّ شيء، واقسم انّ هذا المنظر لن يُمحى من حياته الى ان يموت، سيظل يذكرها كل ليلة ويعضُّ اصابِع الندم.
ابعد عينيه بصعوبةٍ عنهما ونظر لإبنه الذي غدى امله الوحيد في الحياة صحيح ان الفتيات يزُرنه دومًا الّا انه بينه وبينهُنّ شيئًا قد كُسِر الى الأبد، شيئًا لا يرغب بأن يموت بينه وبين فادي.
مساء تلك الليلة شعرت ليلى بتغيُّر مزاج جلال وكانت تعلم بأنه شعر بالغيرة عليها ولكن ما جعلها تعشقه اكثر هو انه لم يسألها عنه مُطلقًا، احترق بناره وحده لكي لا يؤذيها، هذا هو الرجُل الذي احبته.
- بماذا تفكرين؟!
صوته الخافت الناعس بجوار اذنيها دفعها للتنهُّد بعُمق وهي تتطلّع الى السقف بشرود، استمرّ صمتها طويلًا الى ان ظنّ انها قد نامت ولكنه تفاجأ بهمستها التي لم تظنّ انه سمعها:
- أُفكّر بأنني أُحبُّك.
- وهل الحُبّ يتطلّبُ كل ذلك التفكير؟!
غمغم وانامله تعبث بشعرها الطويل لتُجيبه برقّة:
- انا لا اُحبُّك بمشاعر مُندفِعة ساذجة، انا أُحبُّك بصدق، بهدوء، ببُطء، ظللت أقاوم هذا الشعور طويلًا الى ان ايقنت انني اُحبُّك حقًّا!
- يا غالية، كُفّي عن بعثرة روحي، فقط توقّفي عن كونكِ بهذا الجمال.
همس يترجاها لتقول ودمعةً وديعةً تُداعب عيناها:
- لن استطيع، ساُحبُّك اكثر، في كل لحظة.. ومع كُلّ دقّة قلب يا جلال ستكون حبيبي، عندما لن نستطيع الكلام، عندما نعجزُّ عن السير طويلا، سأتكئُ على كتفك واقول بسعادة:
- انتَ منزلي، ليس بيت الرمل...
مع حبي ❤️