الصقر

SaraElhalfawy`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-06-25ضع على الرف
  • 78K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول ليتني لم أقابلك في حياتي أبدًا

جالسةُ على فراشٍ يُرثى له، في غرفة لا تناسب الحياة الآدمية، ممسكة بكتبٍ تخُص جامعتها "الطب"، والتي أشترتهم بعد عناءٍ بمُرتبها لتستذكر بهم، تذاكر بجدٍ كعادتها، ممسكة بقلمٍ ندون به ملاحظتها بالكتاب، لينتفض جسدها برعبٍ عندما وجدت أبيها "رياض" فتح الباب المهترئ بهمجية شديدة، ينظر لها بعينان زائغة و رائحة الخمر المُنفرة تفوح منه، نظر له بإرتياب تقول بألمٍ:
ـ بابا! أنت بردو بتشرب القرف دة!

طالعها أبيها بضيقٍ شديد ثم مضى نحوها هادراً بها بقسوة:
ـ و أنتِ مالك يا بنت ال***!!! قومي يلا أنزلي أشتغلي وسيبي الكتب و الزفت اللي في إيدك دول!! يلا أنجري!

أرتعش جسدها تحتضن كتبها إلى صدرها و هي تقول:
ـ حاضر يا بابا هنزل والله!!

أقترب منها صارخاً بها بصوتٍ أعلى و هو يجذب منها الكتب بعنف:
ـ قولت سيبي القرف دة أنتِ مبتفهميش!!

جذب الكتب من بين أحضانها وسط بكائها و مزقهم! مزقهم بقسوة أمام أعينها وسط ترجيها له متوسلة إياه و هي متمسكة بذراعه:
ـ لاء يا بابا أرجوك متقطعهمش لاء أرجوك يا بابا سيبهم أنا مصدقت دفعت حقُهم!!

دفعها بعيداً عنه فأرتطم رأسها بظهر الفراش مسبباًَ لها آلام قوية، ولكنها لم ترى شئ سوى الكتب التي سقطت على فراشها أشلاء، وتلك البسمة المتوسطة ثغره و كأنه يتحداها، بكت، بكت كما لم تبكي من قبل، لم يشفق عليها، ولم يرفق لحالها، بل أقترب منها أكثر ممسكاً بخصلاتها يكورها حول كفه بحدة يهُزها بعنف:
ـ فين مُرتبك يابت!! أول الشهر جيه ومشوفتش منك مليم أحمر!! قوليلي فين الفلوس بدل ما أنتِ قاعدة كدا زي قلِتك!

طالعته والدمعات تتساقط مندفعة من عيناها، ترجوه بصوتٍ ينفطر له الحجرِ:
ـ سيبهوملي الشهر دة بس يا بابا! كل مرة بتاخودهم مني و أنا و براء حتى اللُقمة مبنلاقيش ناكُلها! أنا مش عايزة حاجة بس الطفل دة مش ذنبة حاجة انه مياكولش أرجوك يا بابا!!

لم يرحمها، بل شدد قبضته على خصلاتها يقول بحدة شديدة:
ـ ما تولعوا أنا مالي بيكوا! قومي يا بت هاتي الفلوس بدل ما أخلي الحزام يعلِم على جسمك!!

شهقت ببكاءِ كالأطفال تقول بألمٍ:
ـ لاء لاء خلاص هقوم أهو!

تركها تنهض فـ أتجهت ناحية خزانتها التي إن هزتها قليلاً ستسقط أشلاء خشبِ، أخذت من تحت الشرشف الممزق ألف جنيهاً و هو مرتبها، ثم ألتفتت إلى أبيها و أعطتهم إياه و هي تقول بحزن شديد:
ـ أتفضل يا بابا! مينفعش طيب أخُد مية جنيه بس عشان أجيب لبراء حاجة ياكولها!!

لم تشعر سوى بصفعة هوت على وجنتيها جعلت وجهها يلتفت للجهة الأخرى، ثم أختطف منها المال و ذهب صافعاً الباب خلفه، فأنهارت أرضاً تبكي بحُرقة شديدة، تنظر للكتب، تلك الكتب لن تستطيع شرائهم مجدداً على الأطلاق! ظلت تبكي دون توقف حتى شعرت بخطوات رقيقة تتجه نحوها، فرفعت عيناها وجدته أخيها ذو الستة أعوام والذي يقاربها في الشكل للغاية، أسرعت تزيل دمعاتها ثم فتحت ذراعيها على آخرهما له تقول بحنان:
ـ براء! تعالى يا حبيبي!

أتى براء اللذي كان له نصيب من أسمه، فالبراءة المرتسمة على ملامحه تجعل من يراه يقع في حُبه على الفور، أرتمى براء في أحضانها ثم ربت على خصلاتها الناعمة المنسدلة على ظهرها يقول بحنوٍ برئ:
ـ سيلا! متسعليش "متزعليش" يا حبيتي أنا جنبك!

أبتسمت بعد بكاء طويل، فأخيها بكلماته المبعثرة تجعلها تضحك، ربتت على خصلاتها الناعمة تردف بحنان شديد:
ـ لاء أنا مش زعلانة يا براء أنا عمري ما أزعل و أنت جنبي يا حبيبي أبداً!

ثم أبعدته عنها قليلاً تقول بلُطف:
ـ هو بابا مشي صح يا براء؟!

أومأ لها براء بضيق:
ـ أيوا يا سيلا الحمدلله مشي!

قبلت جبينه بحنان:
ـ طيب يا عُمر سيلا أنا هوديك تُقعد مع طنط نادية جارتنا تلعب مع أبنها شوية و أنا هنزل أشوف شغلي! أتفقنا يا حبيبي؟!

أومأ لها براء وهو يربت على إحدى وجنتها شديدة الأحمرار بكفُه الصغير قائلاً بحزن شديد:
ـ بابا ضربك بردو يا سيلا! أنا مس عارف هو ليه بيعمل معاكي كدا! أنا بكرهُه أوي يا سيلا!

أمسكت بكفه الصغير تقبله بحنان و هي تقول:
ـ لاء يا برا متقولش كدا بابا بيحبنا بس هو مدايق شوية!

تنهد بضيق ثم قبلها على وجنتها الحمراء قائلاً بحنو:
ـ ماسي يا سيلا، ألبسي و أنا هروح عند طنط نادية و مروان!

ـ ماشي يا حبيبي روح!

ذهب أخيها ركضاً من أمامها فأسرعت تنهض تتنهد بألمٍ يغزو قلبها، ثم فتحت خزانتها لتنظر للملابس المحدودة جداً بداخلها، أنتقت واحداً ثم بدلت ثيابها، كانت ملابسها عبارة عن بنطال جينزضيق تعلوه كنزة خفيفة بأكمام أرتدت فوقه جاكت ثقيل ترتديه دائماً في الشتاء، نظرت لهيئتها في المرآة، رأت جسدٍ نحيل من قلة الطعام، ووجه رغم شحوبه إلا أنه لازال محتفظ بجمالٍ طبيعي و هو ما يميزها، ويجعل من حولها يتقربوا منها، أعين بلون أحجار الزمرد الخالص، واسعة و مُحاطة بأهدابٍ كثيفة، و أنف صغير رقيق، و شفاة مرسومة بجمالٍ جذاب، بشرة بيضا مُحمرة، و خصلات ناعمة بنية تنسدل على ظهرها بالإضافة إلى تلك الغرة الجميلة الساقطة على عيناها ملئت جبهتها معطية إياها جمال ملائكي برئ، طالعت ذلك الأحمرار المطبوع على إخدى وجنتيها، أخذت نفساً عميقاً ثم أمسكت بهاتفها الصغير، و خرجت من الغرفة و من ثم من الشقة بأكملها، لتغلق الباب خلفها، ثم أتجهت إلى منزل جارتها "نادية" لتطرق برفق عليه، فـ فتحت نادية مبتسمة بـ بشاشة تقول بلطف:
ـ أزيك يا سيلا يا حبيبتي، تعالي يا ضنايا!

أبتسمت لها سيلا بأمتنان فهي تشعر بها و كأنها أمها، لتقول بطيبة:
ـ لاء يا خالتو نادية شكراً أنا بس كنت بطمن أن براء جالكوا

أومأت لها نادية قائلة بحنان:
ـ جيه يا ضنايا بيلعب جوا أهو مع مروان!

تنهدت سيلا تقول بأسف:
ـ أنا أسفة أوي يا خالتو نادية، أنا عارفة أني معظم الوقت ببقى سايبة معاكوا براء، بس والله لولا شغلي مكنتش هعمل كدا

وبختها نادية تقول بعتاب حقيقي:
ـ بقى كدا يا سيلا بتقولي لخالتك نادية كدا!، يا حبيبتي دة أنا بعتبره أبني والله زي مروان بالظبط، يلا يا حبيبتي روحي شغلك ومتشغليش بالك بـ براء خليكي في شغلك وخدي بالك من نفسك كويس أوي يا سيلا

نظرت لها سيلا بألم ثم أ{تمت في أحضانها تقول بأمتنان:
ـ شكراً يا خالتو بجد شكراً!

ربتت نادية على ظهرها بحنو شديد، فأبتعدت سيلا عنها ولكن وجهها كان قريب منها فلاحظت نادية أحمرار وجنتها فتضايق و هي تشير لهم:
ـ بردو أبوكي الله يسامحه ضربِك! لا إله إلا الله! مش عايزة أدعي عليه والله يا سيلا عشان متزعليش يا بنتي!

غيرت سيلا مجرى الحديث تقول:
ـ طب أنا همشي بقا يا خالتو عشان متأخرش!

اومأت لها نادية بقلة حيلة فذهبت سيلا تجاه الدرج المهترئ تنزل عليه، سارت في حارتهم تتغاضى عن كلمات الشباب حولها مغازلين إياها، فـ سيلا لم تكن جميلة فقط، هي جميلة بالشكل الذي يجعل الجميع طامعين بها!! ظلت سيلا تسير رافضة أن تستقل أي وسيلة مواصلات لكي توفر، فكل جنيهاً تحتاجه هي و أخيها، وصلت لمقر عملها والذي كان محل بيع ملابس بعيداً عن حارتها في مكان شبه نائي، هي باتت تعمل في هذا المحل لمدة شهرين، رغم أنها مالكُه دائماً ما ينظر لها بنظرات ليست مريحة على الأطلاق، ولكنها مجبورة على العمل هنا حتى تهتم بأخيها، فـ في حقيقة الأمر مرتبها الشهري هو ألف وخمسمائة حنيهاً ولكنها تخفي عن أبيه تلك الخمسمائة لكي لا يطلبها منها، وليشهد الله أنها تصرفهم على أخيها من مأكل وملبس!

دلفت للمحل تنظر له فوجدته فارغ من الزبائن كعادته، و لكنها لم تجد الفتاة التي تعمل معها، بل وجدت مالك المحل، أستغربت في بداية الأمر ولكنها ألقت التحية عليه و لم تبالي، كان رجل أربعيني بدين، له نظرات تشبه نظرات الأسد لفريسته، بدأت ترتب الملابس فوق الشماعات بهدوئها المعتادة، و لم تلاحظ نظرات مالك المحل الذي كان ينظر لها من ظهرها متفرساً جسدها بنظراتٍ شهوانية، يعُض على شفتيه بطريقة مُقززة، عازماً على أنهاء أمر تلك الحورية اليوم و جعلها ملكُه، موصمة بلمساته، نهض من فوق مقعدُه ثم سار نحوها و هي توليه ظهرها غير منتبهة، ولكنه قبل الذهاب نحوها نظر لباب المحل الزجاجي مفتوحا، فأتجه نحوه بهدوء و أمسك بمفتاحه ثم أغلقه بحذر شديد لكي لا تنتبه لما يفعل، و لأن ذهنه لم يكن حاضراً ترك المفتاح في الباب متجهاً نحوها بلهفة، و على غفلةٍ وجد نفسهُ يحاوط خصرها النحيل يقربها من صدره برغبة شديدة، هُنا صرخت سيلا بفزعٍ شديد جاحظة بعيناها تلتفت له :
ـ أنت!! أنت بتعمل أيـــه أبــعــد عــنــي!!!

نظر لها برجاء محدقاً بشفتيها بشهوة:
ـ طاوعيني .. طاوعيني يا سيلا و أنا هعيشك في نعيم! هديكي خمس اضعاف المرتب دة صدقيني، بس سيبيلي نفسك!!

بكت بحرقة و هي تحاول دفع جسده البدين أمام جسدها النحيل ولكن لم تستطع، ظلت تصرخ بأعلى صوتها علّ أحد ينجدها، ولكن لأن المحل في طريق نائي لم تستطع، وهي تشعر بشفتيه تلمس عنقها بطريقة مقززة، فبكت بقهرٍ تدفعه من وجهه تنظر حولها علها ترى أي شئ تضربه بها، ولكنها أيضاً لم تجد، فحاولت أستعمال بعض قوتها المهدورة، لترفع إحدى ركبتيها ثم ضربته في مكانٍ حساس، جعله يبتعد عنها صارخاً بألم شديد واقعاً أرضاً! فأسرعت هي تمر من فوقه تركض لا بل تهرول ناحية الباب وفتحته ثم ظلت تركض دون توقف تحمد ربها مرة وراء اخرى:
ـ الحمدلله .. المحدلله .. أحمدك يارب أحمدك!!

ظلت تركض و تركض حتى شعرت بأنفاسها سوق تنقطع فتوقفت تضع كفها فوق صدرها بألم شديد و الدمعات تنهمر فوق وجنتيها، علاوةً على صدرها الذي يعلو ويهبط بقسوة، لم تستطيع الصمود لتنهار أرضاً فوق أحد الأرصفة في ذلك الشارع النائي و الذي لا يسير به أحد، أسندت رأسها على ركبتيها منهمرة في البكاء بتقطعٍ تشعر بقلبها سيتوقف من كثرة الكجهود الذي بذلته، ظلت على حالها لدقائق و لكنها أستمعت لأصوات ضحكات الشباب و خطوات تقترب منها، مما جعلها ترفع رأسها على الفور بهلع، وبالفعل وجدت خمسة شباب ممسكين بقارورات زجاجية يشيرون لها و علامات الثمل واضحة على محياهم، كانت بالنسبة لهم كقطعة ذهب تبرُق ملقاة في أرضٍ لا يسير بها أحد! أنتفضت سيلا تنظر لهم بأعين جاحظة وهي تنظر خلفها فوجدت الشارع مسدود بحائط، و هم أمامها بعرض الشارع يسيرون نحوها، ظلت تتراجع و أنفاسها مهتاجة، تشعر بقدميها على وشك خيانتها والسقوط أرضاً من كم الأحداث البشعة التي صارت لها هذا اليوم، لربما أستطاعت الهروب من مالك المحل ولكن كيف ستهرب من هؤلاء!!

أرتعشت عيناها المصوبة نحوهم و هم ينظرون نحوها بنظرات شديدة الخبث يهمس أحدهم للاخر:
ـ دي شكلها لُقطة!

نظر آخر لها بأعين زائغة متفرساً جسدها يقول:
ـ البت جامدة أوي بصراحة!!

لم تجد سيلا حل سوى الصراخ، الصراخ بأعلى صوتٍ لها رغم أنهم لازالوا لم يقتربوا منها، ولكن علها تجد أحد ينقذها، ظلت تصرخ و هي تسمع صدى صوتها في ذلك المكان، فأقترب أحدهم منها بغضب متجسداً بمحياه، فأنكمشت على نفسها تنظر له برعب شديد و هي تراه يمضي نحوها، حاولت الركض جانباً لتفلت منهم و لكن أمسكها أحد من الجاكت الخاص بها يهُزها بعنف و كأنه ممسكاً بخرقة بالية:
ـ رايحة فين يا و*** هتعملي دور الخضرة الشريفة علينا يا زبالة!!

دفعته من صدره تحاول الهرب مجدداً تصُم أذنيها عن تلك الكلمات التي كانت كالسهام بقلبها، و لكن أمسكها آخر يحاوط وجنتيها بيداه القذرة فوق بشرتها النقية الناعمة ملمسها كالأطفال:
ـ تعالي معانا! مش هنأذيكي!!

صرخت ببكاء متقطع تبعد يداه و هي تراهم يلتفون حولها على وشك الإيقاع بها، أخفت عيناها بكفها عندما رأت ضوء رهيب أتى نحوها، وسيارهة فارهة سوداء تتقدم منهم جعلت الشباب ينظرون لها بذعر، ثم نقلوا أعينهم إلى تلك السيارة الآتية نحوهم مُسرعة، فـ نظرت سيلا لسائق السيارة و جسدها بأكمله تُخالجُه رعشة رهيبة، بأعين تدمع متوسعة و كأنها تستجديه ألا يتركها هُنا!
أوقف السيارة ليصدُر أحتكاكاً بالأرضية، فأرتد الشباب للخلف بخوفٍ عندما ترجل منها بهيتُه العضلية الضخمة وبنيته القوية و  بقميصه ذو اللون الأسود مفتوح أول زريّن و بنطال بنفس اللون، و على وجهه علامات القسوة و الغضب و هو يرى خمسة شباب ملتفين حول فتاة يكاد ينقطع صوتها من كثرة البكاء!! هدر بصوت عالي صدح به صدى صوته في المكان:
ـ بتعملوا ايه فيها يا شوية أو***!!

نظرت له سيلا و صدرها يعلو ويهبط، وكأنه هو منقذها الوحيد مما يحدث لها، فلم تنتظر و هرولت ناحيته و الدمعات تأخذ مجراها على وجنتيها، فرآها هو تركض نحوه بتلك الحالة المزرية، ليمد كفه لها لكي تتمسك به وبالفعل فعلت، تشبثت بذراعه المشمر عنه أكمام قميصُه، فأسرع يخبئها خلفُه ليُخرج مسدس من جيب بنطاله الخلفي ثم سحب زناده و أطلق رصاصتين في السماء أنتفض لهم جسد سيلا مغمضة عيناها متشبثة في قميصه من الخلف، و أرتعب الشباب ينظرون لبعضهم بهلع، لاسيما عندما صاح بهم بصوته الجهوري والرجولي:
ـ مش عايز أشوف خلقة حد هنا!!

و بالفعل أسرعوا راكضين غير مصدقين أنه تركهم، فأغمض عيناه يحاول السيطرة على غضبُه، يضع ذراعه الممسك بالمسدس بجانبه، ثم أخذ نفس عميق و هو يشعُر بأصابعه تنغرز في ظهره من شدة الخوف، ألتفت لها ممسكاً بكفيها المرتجفين وعيناها المغمضة مظهرة عن جفونٍ ترتعش، نظر جانباً مشيحاً بوجهه عنها يقول بنبرة جامدة:
ـ أركبي!!

فتحت عيناها تنظر لكفيها القابضين على كفيه اللذان أمتلئا بالأوردة، لتتركهم على الفور تنظر له بأنفاس مهتاجة ونبرة بها بحة باكية:
ـ أنا .. أنا مش عارفة أقول لحضرتك أيه والله بجد شكراً!!

أعاد كلمته و كأنه لم يسمعها:
ـ أركبي .. هوصلك!!

أزدردت ريقها و هي تنظر لمحياه المتشنجة، ثم سارت بخطوات وهِنة إلى المقعد الذي يجاوره في السيارة ثم أستقلتها بهدوء تحاول السيطرة على وصلة بكاء مهددة بالأنفجار، فأستقل هو الأخر ثم سار بالسيارة قائلاً بجمود:
ـ عنوانك؟!

وصفت له عنوانها بإيجاز فسار على وصفها، ليتفاجأ بحارة بسيطة للغاية إذا شار بها بسيارته سيركض خلفه الأطفال حرفياً فأسرعت تقول بخوف:
ـ بس خلاص متدخلش الحارة، أنا هنزل هنا!!

توقف بالسيارة يُطالعها بأستخفاف:
ـ ليه؟! خايفة على سمعتك، هيقولوا عليكي أنك جاية في عربية واحد غريب! طب مـ هو دة العادي بتاعك!!

قطبت حاجبيها تنظر له بصدمة تقول و هي تشعر بعقلها قد توقف عن التفكير:
ـ نـ .. نعم! مش فاهمة اللي حضرتك بتقوله!

طالعها ساخراً و هو يقول:
ـ مش فاهمة حضرتي! لاء أنتِ ذكية وفاهمة كويس أوي أنا قصدي أيه! أصل الشارع اللي جيبتك منه دة البنات اللي بتمشي فيه بتبقى شمال، و بتبقى نازلة مخصوص تمشي فيه عشان تلاقي واحد مريّش تركب معاه!!!

ثم نظر لحارتهم مشيراً لها باستحقار:
ـ وطبعاً واحدة عايشة في مكان زبالة زي دة هتجيب فلوس منين غير من القرف اللي بتعملوه!

شعرت بسلاسلٍ من حديد رُبط به لسانها! شعرت لأول مرة أنها فاقدة للنُطق! لم تشعر سوى بدموعها تنهمر على وجنتيها و هي تنظر لعيناه الجامدة فوق عيناها، للحظة شعر بقلبُه يؤلمه و هو يرى تلك الدمعات تملؤ زرقاوتيها، فأشاح بوجهه عنها، يستمع لصوتها المملوء بالبكاء:
ـ مش عارفة أقول لحضرتك أيه، بس متشكرة أنك نجدتني من اللي كان هيحصل فيا، أنت ليك جِميل في رقبتي مش هنساه، وبالنسبة لكلامك دة أنا مسامحاك عليه! عارف ليه؟ عشان مقدرش مسامحكش و حضرتك أنقذتني من اللي كان هيتعمل فيا! سلام!!

ظل يستمع لكلماتها و هو ينظر أمامه بوجه متصلب رغم صدى وقوع الكلمات على أذنيه! و رغم أنه بالفعل تأثر بكلماتها، ظل ينظر لها و هي تسير أمامه تدلف لتلك الحارة، تحاول مسح دماعتها التي لم تتوقف، ثم رآها تدلف لبناية مهترئة يخمن أنها ستتنهار عن قريب!، أختفت عن مرمى عيناه، فسار بسيارته و بداخله غضب لا يستطيع تفسير، ونيران لن تُخمَد!!!

ما إن دلفت إلى بنايتها، حتى أنخرطت في بكاءٍ رهيب كانت تكتمه لفترة طويلة في جوفها، ظلت تبكي منزوية في ركنٍ بالبناية، حتى أفرغت ما بجوفها ثم صعدت على الدرج بأقدامٍ واهية، لا تريد سوى فراشها و الأستلقاء عليه براحةٍ، حتى و إان كانت تنهض من بعد ذلك و ظهرها يأن من صلابة ذلك الفراش، إلا أنها راضية، لا تود شئ آخر، صعدت حتى وصلت لشقتها في الطابق الرابع، طرقت الباب على نادية التي تفاجأت بها في حاله مزرية، و الدمعات تملئ وجنتيها بشكلٍ رهيب، علاوةً على أحمرار عيناها، ربتت على ذراعها تقول بخضة:
ـ سيلا!! في أيه يا بنتي خير يارب؟ مالك أيه الدموع اللي مغرقة وشك دي، و راجعة بدري من شغلك يعني!

أنهمرت الأسئلة فوق رأسها، فنظرت بها بوهن ترجوها قائلة:
ـ هقولك على كل حاجة يا خالتو بس مش دلوقتي أرجوكي، انا بس عايزة براء عشان أخده وننام!

قالت بأعيُن مُرهقة حمرواتين ترجوها أن تتركها ولا تسأل عن شئ الأن فهي في أصعب لحظاتها الأن!!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي