قَضيّة شائِكة

funfugaa`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-02-01ضع على الرف
  • 2.5K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

كان" جانغ بينغ" محض طالب علم فقير إلى أن إلتقى صدفة بوزير المراسم "لان جوي" و كانت هذه ضربة الحظ التي غيرت حياته، فمن مثقفِِ ليس بحوزته غير
علمِِ في جوفه إلى خادم في القصر و من ثمَّ إلى مسؤول حكومي ليرتقي إلى رتبة وزير الوزراء، الأمر الذي ألقى بظلاله على حياته فإكتست تفاصيلها ثوب الفوضى.

الفصل الأول :
سماء حُبلى بالغيوم ، هذا كانت تبدو أجواء العاصمة في عيد "كنس القبور"، وزير المراسم "لان جوي" خرج مسرعاً من منازل المسؤولين رفيعي المستوى عبر زاوية صغيرة فالوزير "لان جوي" هذه الأيام في عُجالة من أمره، "الإمتحان العلمي" على الأبواب و هنالك الكثيرون ممن يأتوا إلى قصره لقضاء بعض الأمور، ليس هذا فحسب إذ أن المحكمة العُليَّا للدولة هذه الأيام تقوم بتصفيات لمسؤوليين حكوميين فإسمه كان موجوداً ضمن القوائم التي إحتوت عليها مراسيم عزل المسؤوليين على طاولة المكتب الرقابي، و كيف لا يوجد إسمه بينها و هو لا يتورع عن قبول الرشوة و إختلاس الأموال و الإخلال بالأنظمة و القوانين، ليس هذا فحسب بل إستغل سلطته في تحقيق مآربه الخاصة لذا إعترى جلالة الإمبراطور الخوف إذا ترأس "لان جوي " إدارة "الإمتحان العلمي" لا محالة أنه سيقوم بأفعال مخزية لا تُرضي جلالة الإمبراطور و لا الشعب، الأمر الذي سيؤدي إلى أن يصيب جذور أسس الدولة العفن و تتآكل هياكل البلاط الإمبراطوري من جراء هذه الأفعال.

لذا ما كان من جلالة الإمبراطور إلاَّ أن قام بتوكيل شخص بحذف أسماء الأشخاص من كتيب الحسابات المالية التي تفضح الفساد المالي فضحاً تاماً ومن ثمَّ أعاد نسخها وإرسالها إلى "لان جوي" مرفق معها ورقة خطَّ عليها جلالته بحبر السينابار الأحمر قائلاً له فيها : (كلنا ثقة أن الوزير "لان جوي" قادر على إختيار الأشخاص الأكفاء بعناية فائقة و إدارة "الإمتحان العلمي" لهذا العام إدارة جيدة).

الطريقة التي كُتبت بها الرسالة ولهجتها كانا فيهما من الحدة ما فيهما ، حدة لم تخل من بعض عنفوان الشباب إنها و بكل تأكيد لريشة جلالة الإمبراطور ، نعم لم يَخَفَ عليه كاتب الرسالة ولا مضمون الرسالة والقصد منها .

عندما أدرك "لان جوي" فحوى الرسالة شعر بتلك الأوراق المطوية بين يديه مثل صخرة ضخمة ، في تلك اللحظة أحس أن رسغيه يُؤلمانه بشده ، كيف لا و كل وقائع جرائم الفساد هذه إجمالاً شخصه الكريم ممن قد تلطخت أيديهم بها، و كأنَّ الفساد أضحى لعنة تُصيب كل من جلس على الكرسي حتى تلك النخب السياسية التي تتباهي و تتعنجه بإستقامتها و نزاهتها لم تسلم منه فهي ليست في مأمن من التصفيات التي ستطال كبار المسؤوليين فكل ما بين يديه "لان جوي " من وقائع فساد لها ضلع فيها ، فوجود هذه الأدلة بحوزة "لان جوي" ستمكنه من إدارة "الإمتحان العلمي" بتروّي و يقظة و لن يسمح بحدوث أي أمور قذرة من شأنها جعله في مصاف المسؤوليين المعزولين.

كاتب الرسالة التي أربكت "لان جوي " هو جلالة الإمبراطور الذي لم يتعدى عمره هذا العام الخامسة عشر رغم أنه قد تولى زمام الأمور للتو إلاَّ أن طريقته في الحكم أخذت تنقشع شيئاً فشيئاً معلناً أنه لم يعد ذلك الشبل الصغير فهو قد بدأ يشحذ همته و يشد ساعده و يصدر قرارته .

عندما أرفق وزير المراسم "لان جوي" موافقته الإمبراطوري على هذه الوثائق المالية بدأ رأسه يُؤلمه من شدة التفكير فقد وقع فريسة في المصيدة التي نصبها له الإمبراطور وأي حنكة أكثر من إخبار اللص مراقبة اللصوص الآخرين فموافقته بمضمون هذه السجلات لن يتثنى له بعد الآن أخذ قيراط واحد من الكنوز المقنطرة التي أمام ناظريه فله أن يطالعها لكنه لن يستطيع أن يمد يده إليها ، كما بإرجاع هذه الوثائق المرفق معها موافقته لجلالة الإمبراطور عليه من الآن وصاعدا أن يكون حذر في كل تحركاته وأن يشد عضده بنفسه فمن شأن موافقته على وقائع الفساد المدرجة في السجلات المالية هذه أن تقلب عليه الكثيرين ممن قد صنعوا له معروف من قبل فالوزير "لان جوي" الآن حقاً في وضع لا يُحسد عليه.

لذلك أحس الوزير "لان جوي" أنه مُثقل الصدر والجو من حوله كأنَّما يُطبق على صدره فلبس ثياب مدنّية و خرج بمفرده يُروح عن نفسه و بينما كان "لان جوي" خارجاً من إحدي الممرات الطويلة وقعت عيناه على شخصِِ واقف تحت شجرة كبيرة على جانب الطريق إذ أن نظراته تحدق بمدخل القصر، ذلك الشخص في العشرين من عمره كان طويل القامة، نحيف الجسم يرتدي جلباب رثّ ذو ألوان باهتة وبشرة شاحبة وخدان غائران وحاجبان مقطبان وعينان كعينيَّ نسر جائع أخذت تراقب مدخل قصر سيادته.

فطن معالي الوزير"لان جوي" أن هذا الشخص لم يأتي للتودد إليه وإهدائه الهدايا و في الحال إسترجع كل الأفعال الشنيعة التي ارتكبها في حياته بَيَدَ أنه لم يعرف أي أمر له صلة بهذا الشخص الماثل أمامه.

لم يعرف "لان جوي " أي حِقبة من ماضيه الأسود لها علاقة بهذا الشاب فإسترجع أيضاً كل الأفعال الماجنة التى أقترفها في مطلع العمر لكن حتى إذا افترض أن أول فعل شائن قام به كان عمره ستة عشر عاماً على هذه الحسبة أيضاً لن يكون لديه ابن بهذا العمر.

كانت الأفكار تعصف به يُمنةً و يُسرى مثل سفينة في عَرَض البحر يعصف بها موجٌ كالجبال و بينما معالي الوزير غارق في التفكير أخذت نظرات الشاب المحدقة بمدخل قصره تدبُ الخوف في قلبه، و في هذه اللحظة لمح بِضِع من الطلاب في الجهة المقابلة من الشارع إذا بهؤلاء الفتية بعد أن تخطوا ذلك الشاب إستداروا برؤوسهم و رمقوه بنظراتهم ثم أتبعت تلك النظرات ضحكات و عبارات قيلت بصوت خافت تنمُ عن شيء ما.

قام "لان جوي" بالإلتفاف من حول قصر لتجنب الشاب و قد وصلت عُصبة طلاب العلم تلك إلى محل شاي و عندما كان يفضلون بعضهم البعض أيهم يدخل أول تقدم "لان جوي" نحو الأمام و ألقى عليهم التحية ثم قال : (هل أنتم من ممحتني الإمتحان العلمي لهذا العام ؟) .

بادلته عُصبة الطلاب التحية واحداً تلو الآخر و جلسوا معاً يحتسون الشاي و يتسامرون الأحاديث المتعلقة بالإمتحان ، فقال الطالب ذو الرداء الأزرق : ( لقد طرق مسامعي أن حفيد معلمة قديرة من أسرة لياو سيجلس معنا للإمتحان ، يبدو يا أعزائي أنه لم يتبقى من المراتب الثلاث الأولى غير مرتبتين لنتنافس عليهما ) .

و في الحال قاطعه طالب ذو الرداء الأسود قائلاً : (رحم الله إمرئِِ عرف قدر نفسه ، أما المراتب الثلاث الأولى لا يمكنني حتى أن أحلم بها مجرد حلم و إنه ليرضي طموحي أن أكون ضمن المراتب الثلاثين الأولى و حتى إن كنت الأخير في الإمتحان سأكون راضي كل الرضا فلا يهمني أي مرتبة سأحصل المهم عندي المشاركة في الإمتحان).

ضحك الطالب ذو الرداء الأزرق ضحكة مصطنعة بعض الشيء و قال في قنوط : ( لا حسب و لا نسب ، و لا جاه و لا سلطة يخولَّنا أن نطأ عتبة باب قصر سعادة الوزير "لان جوي" ، ليتني كنت من أسرة لياو أو أسرة وانغ أنها لأقدار و حظوظ) .

خرج الوزير "لان جوي " من صمته قائلاً : ("لان جوي" الذي ذكرتم ذاك لربما ليس كما يُشاع عنه من جاه و نفوذ ، و على سيرة الوزير"لان جوي" للتو رأيت شاب قاتم البشرة يقف عند باب قصره و لايبدو أنه من ذوي الجاه والنفوذ ).

ضحك ثلاثتهم في آنِِ واحد، ثم قال صاحب الرداء الأزرق سائلاً إياه : (هل تقصد الشاب الطويل القامة ، نحيل الجسم قاتم البشرة ذو الثياب الرثَّة و الهيئة البدوية ؟).

فأجاب "لان جوي" بلهفة باحثِِ وجد ضالته : ( بلى ، بلى) .

قهقه صاحب الرداء الأزرق و قال : (هو يريد الدخول لقصر الوزير"لان جوي" و يخشى أن يتم إعتراض طريقه و لا يُسمح له بالدخول، فليخشى أنه لن يستطيع حتى تجاوز نصبيَّ الأُسود الحجرية أمام بوابة قصر الوزير، يبدو أنك قدمت حديثاً للعاصمة و لا تعلم من يكون هذا الشاب، لا بأس سأُخبرك قصته، هذا الشاب من ولاية "شي تجوان" يتيم الأبوين ترعرع في معبد "إله المدينة" و عندما كبر تلقى تعليمه في المدارس المجانية التي يمولها وجهاء الريف ولحسن حظه كان ضمن قائمة الطلاب اللذين أُشيد بهم و أُوصي بهم للقدوم للعاصمة لكن من المحزن أنه قام بأفعال شنيعة أفسدت سمعته، أكثرها إثارة للسخرية أنه أخذ يبيع المكرونة على الرصيف في سوق المدينة ، فهو بفعلته هذه لم يحفظ لفئة المتعلمين ماء وجهها، فلم يعد أحد يرغب بالتواصل معه حتى اللذين قدموا معه من "شي تجوان").

أخذ الوزير يسمعُ في صمتِِ وإصغاء شديدين لصاحب الرداء الأزرق و هو يسرد قصة الشاب البائسة ، فإعترى "لان جوي" خواء في نفسه لم يعرف مثله قط ، فما لبث إلاَّ أن يُلقي نظرة على ماضيه مسترجعاً كل الأشياء التي فعلها في الخفاء سائلاً نفسه التي عفى عليها الفساد و الظلم إن كانت يوماً قد تسببت في جعل شخص ما بلا أهل و لا مأوى و أستمر ينبشُ في ماضيه لا تفتأ تغشاه أشباح أفعال الماضي بوتيرةِِ ملؤها الشك والتساؤل.

و قاطع تفكيره اللوَّام لنفسه سؤال صاحب الرداء الأزرق حين قال : (هل يعتقد الأخ الفاضل أن بيع المكرونة تصرف غير لائق ؟). فرد عليه " لان جوي " قائلاً : (بالتأكيد هو أمر غير متوقع من شخص متعلم مثله أن يقوم بشي كهذا) .

فأتبع صاحب الرداء البني قائلاً : ( هذا التصرف أوقع "جانغ بينغ" في ورطة لا مخرج له منها ، و سمعت أنه عندما قدم للعاصمة تواً قام بإستئجار غرفة خربة ليقيم فيها ، مالكها كان من أصحاب مخازن الأرز ممن أُغدق عليهم رزقهم و قد ظنَّ به ظن الخير فرأى في " جانغ بينغ " الإستقامة والنزاهة فأكرم منزله و قدم له الزاد والمسكن مقابل أن يقوم له بجرد حسابات دكانه و كان لصاحب المحل ابنة وحيدة طيلة فترة إقامة "جانغ بينغ " عندهم و عمله لديهم كانت له كظله لا تنفك عنه و كان مبتغى أباها من توظيف "جانغ بينغ " و إكرامه إستمالته لإبنته و أن يكون له صهراً لكن الأب لم يكن يتوقع أن يرفض "جانغ بينغ" رفضاً باتاً هذه الزيجة ، و كان وقع الصدمة على الفتاة شديداً حتى كادت أن تنحر نفسها).

حَمَل رد "لان جوي" في طياته الإنصاف حين قال : (في أمر كهذا لا مجال أن نحكم أيّهم المصيب و أيّهم المخطئ، بلا شك أن لصاحب المنزل أفضال على "جانغ بينغ" فإذا كان لا يحب ابنته يُستحسن أن لا يرغمه على الزواج بها بالقوة) .

رد عليه صاحب الرداء الأزرق و كأنه يستنكر ذلك الإنصاف : (يالك من أخِِ كريم الأخلاق! "جانغ بينغ" رفض الزواج بها لأنه يمقت علةََ بساقيها فهي كانت تجد صعوبة في المشي و إذا إلتحق "جانغ بينغ" بالتعليم الثانوي حَرَم كهذه لا تليق بمكانته و لن تحفظ له ماء وجه أمام الناس ، فما كان من الفتاة إلاَّ أنَّ أقدمت على الإنتحار لكن هذا لم يحرك ساكناً فيه، و إنتشر الخبر إنتشار النار في الهشيم فأصبح الجميع يحتقره و ينظر له بإزدراء و أما سمعته أضحى الناس يطأون عليها بنعليهم ، و هنالك من أقسم إذا نجح في الإمتحان و إلتحق بالمرحلة الثانوية سوف يفضحون كل ما بدر منه لجلالة الإمبراطور، سيقولون أستهزأ بشخص أنه أعرج و هذا كفيل أن يُدمر حياته و أن لا تقوم له قائمة للأبد ).

خالج إنصات "لان جوي" إبتسامة إرتسمت على شفتيه و كأنه قد كشف خبث من يريد بـ "جانغ بينغ" شراً، إذ أن الإمبراطور بجلالة قدره الذي في قبضته سلطة الجيوش و ينحني له الجميع سمعاً و طاعة عندما كان صغيراً وقع من الفرس فكسر رجله لذلك أصاب رجله اليُمنى بعض من عرج، و إن من كَادَ لـ"جانغ بينغ" هذه الشكوى لعلم كيف يُسدد له ضربة قاضية، رغم أن إحاكة المكائد بين طلاب "الإمتحان العلمي" لإزاحة بعضهم البعض ليس بالأمر الجديد إلاًّ أن الأمر تفاقم للغاية هذه المرة، فأي حظ غابر أوقع "جانغ بينغ" في طريق أحدهم ليتحيَّن هذه الفرصة ليُكبح لجامه بهذا الشكل .

صمت "لان جوي " فطال صمته كأنه أراد أخبارهم كشفه خَبَايا تآمر و تحامل طلاب " الإمتحان العلمي" على "جانغ بينغ" فقال خارجاً من سبات صمته : (و لربما كان لـ"جانغ بينغ" هموم يصعب عليه البوح بها و لربما هو شيء يخص ذويه فلا علم لنا بمبتلاه).

ضحكت عُصبة الطلاب تلك مجدداً ثم قالوا بصوت رجل واحد : (يبدو أن الأخ الفاضل يحب مطالعة قصص "خونغ يي شنغ " الخيالية و ظننت أنك على موعدِِ مع قصة حافلة بالتشويق) جاء رد عُصبة الطلاب هذه غير مبريء "جانغ بينغ" مما أُلصق عليه من تهم و إدعاءات.

ما بين شدِِ و جذب و مابين متهمِِ و مدافع حصل "لان جوي " منهم على ما كان يريد معرفته رغم الضبابية التي كانت تُخيِّم على ما توصل إليه، بعدها ودع "لان جوي" عُصبة الطلاب تلك ثم برح مقصف الشاي مغادراً في إتجاه قصره في خطوات ثابتة متزنة غير مستعجلة البتة و هو قد غرق مجدداً في التفكير فأخذ يتسآل في قرارة نفسه إن كان لابد من تحري ماضي "جانغ بينغ " ذاك ، ثم ما لبس أن أستنكر على نفسه مغالاتها في الظن، و عند وصوله لقصره ألقى نظرة صوب تلك الشجرة لكن لا وجود لذلك الشاب فقرر أن ينتظر هنيهة لكن الشاب لم يظهر فرجع إلى قصره مجرجراً وراءه خيبة الأمل في حل لغز ذلك الشاب.

عند وصوله للقصر أخذ يسأل رئيس الخدم إذا كان هناك شخص مريب قدم للقصر أو لاح في الأرجاء ، بدأ السؤال و كأنه مجرد إستفهام عابر ليس يقصد به شخص بعينه لكن "لان جوي" سأل و كله أمل أن يجد في إجابة رئيس الخدم ما يروى ظمأه، لكن إجابة رئيس الخدم جاءت صادمة و مشككة أكثر فقد أكد له أنه لم يَزُر القصر غير القادمين لإهداء الهدايا لمعاليه.

عند سماع ذلك أصبحت تتدافع الأفكار واحدة تلو الأخرى و تتعارك الظنون حتى صار رأس "لان جوي" مثل إناء كاد ينضح بما فيه أو بالأحرى مثل ساحة حرب محتدمة تتقاتل فيها جحافل اليقين ضد جحافل الشك كيف لا تحتدم المعركة برأسه و هو على يقين تام أن لو ذبابة طارت حول القصر لعلمت بها حاشيته و لتفقدت ما في حوزت الذبابة و لتمَّ تفحص إن كان دُس بها السم بإحدى رجليها أم لا فكيف لهم أن لا يعلموا بمجيء "جانغ بينغ" و هنا أحتدم القتال بين اليقين و الشك أكثر فأكثر.

و في هذه اللحظة قال رئيس الخدم شئياً أوقف القتال المحتدم و أسكن حنقة اليقين تجاه الشك فهدأت الأفكار برأس لان جوي من جديد حيث قال : ( يا مولاي عندما خرجت كنا نتبعك حرصاً على سلامتك فلحظنا طالب علم فقير يقف أمام الباب و لا تبدو عليه ملامح النعمة لنقول أنه ممن قدموا لإهداء الهدايا فهو لايعدو أن يكون مجرد فقير متحذلق، لم تَغب أعيننا عنه ، وقف لبعض الوقت ثم مضى في حال سبيله) كان رد لان جوي بصوت "أمم" و لم ينَبَس بكلمة و لكن كان صوت بوقف الحرب الدائرة في رأسه.

منذ تلك اللحظة لم يحاول أن يذكر هذا الأمر حتى مع نفسه ، فمن الأمور و المشاغل ما جعله منهمك أشد الإنهماك، الإستعدادات و الترتيبات المتعلقة بـ "الإمتحان العلمي" فهو على الأبواب و جلالة الإمبراطور "وانغ خواي" سيتزوج بمحظية و عيد ميلاد الإمبراطورة الأم على وشك القدوم، عليه التجهيز لكل ذلك و لطيلة أيام متوالية كان "لان جوي" في زخمِِ من المشاغل من غدق الشمس حتى غسق الغروب لا يتثني له العودة للقصر إلاَّ و الليل قد أطبق ناشراً جناحيه .

و في مساء يوم ما رجع "لان جوي"على غير عادته مبكراً فأبدل ثيابه الرسمية بثياب مدنية و خرج مغادراً القصر، و أما طرق المدينة فقد أخذت تُعج بالمارة و ضجيجُ أقدامِِ يُخبر بصخب حياة الليل و أكثر المارة كانوا زمرة المثقفين ذوي الجلباب الطويل الذي يُحدِّث في صمت و يكشف عن سبب حضورهم ألاَّ و هو " الإمتحان العلمي " الذي على وشك أن يُعقد.

إستمر "لان جوي " في المسير حتى وصل لطريق صغير ، فوقعت عيناه على سقيفة تقف على أربعة عصي بامبو منتصبة تحت أحد الجدران القديمة وقد تصاعد من موقد تحتها دخان كثيف بلغ عنان السماء و تحت السقيفة كان هنالك شاب هزيل أخذ يرفع الغطاء عن القِدر و يحرك الطعام بمغرفة ضخمة ، جلباب رمادي رُبط عليه مئزر ممزق كان يبدو ذلك الشاب مثل روح وحيدة هاربة من إحدى قصص الأشباح ، تقدم "لان جوي" خطوات نحو كشك الطعام ذاك ثم قال : ( إذا سمحت هل لي أن أبتاع سُلطانية مكرونة؟).
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي