حي خلدون

Hadeer mohamed`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-06-30ضع على الرف
  • 60.2K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

سيارة سوداء فارهة دثت نفسها بين أزقة الحارة الضيقة ، فأثارت فضول المتسكعين على إحدى المقاهي المتهالكة ، طالت أنظارهم لتخترق زجاج السيارة القاتم الذي لم يسمح لهم بمعرفة من بداخلها و لم يُرضي ذلك فضولهم !

دقائق قليلة و فُتح الباب ليترجل منه شاب في منتصف الثلاثين من عمره يبدو عليه الثراء الفاحش ، هيئته المهندمة و حلته الأنيقة و مظهره الجذاب زاد من تساؤلات و دهشة الجميع .

وقف مراد بعد أن أغلق باب سيارته فارداً جزعه رافعاً رأسه لأعلى بشموخ ، أخذ يتأمل المكان بشرود و قد ضربت ذاكرته عاصفة من الذكريات المؤلمة التي عاشها بهذا الحي !

لم يترك نفسه لألم الماضي فسحب نفساً قوياً و مضى إلى وجهته دون أن يلتفت لأحد من المحدقين به اللذين لم يتعرفوا عليه !

ما أشبه اليوم بالبارحة ، نفس الخطوات البطيئة لكنها اليوم واثقة تلاشت إرتجافتها السابقة بعد أن أضاف لها المال و النفوذ من القوة ما يجعلها ترمح كخيل جامح ، تنطلق بحرية و تنفتح لها الأبواب المغلقة بأريحية دون أدنى مجهود .

دخل مراد إلى شقة المعلم سالم بعد أن رحب به صاحبها بفرحة عارمة ، بينما قابله الآخر بفتور .
جلس مراد واضعا ساق فوق الأخرى يتفحص المكان حوله ثم إلتفت إلى المعلم سالم قائلا
:- ندخل في الموضوع على طول ، أنا جاي أطلب إيد بنتك رضوى

تهللت أساريره و إنفرجت شفتاه معلنة عن إبتسامة فرحة و رد
:- و إحنا يزيدنا الشرف يا بيه ( ثم نادى على زوجته قائلا ) الشربات يا أم رضوى

تحدث مراد بعجرفة مقاطعا إياه
:- معنديش وقت للشربات خلينا نخلص اللي جاي فيه علشان عندي مواعيد مهمة

رد سالم
:- ربنا يزيدك يا بيه

دث مراد يده في جيب قميصه و أخرج منه ورقة مطوية ثم وضعها على الطاولة أمامه و هو يقول

:- دة شيك ب 200 ألف مهرها ، و مش عايز منها حاجة
البيت مفروش على أعلى مستوى ، يعني زي ما بيقولوا كدة هاخدها بشنطة هدومها

لم يستطع سالم منع نفسه فإلتقط الورقة و أخذ ينظر إليها بجشع تحت نظرات مراد الغامضة الذي قاطع نظراته المشدوهة قائلا

:- كتب الكتاب و الدخلة يوم الخميس اللي جاي ، مفيش فرح لظروف في شغلي ها قولت إيه ؟


في إحدى الغرف
إجتمعت بعض فتيات الحي و صديقات العروس يتناوبون النظر من خلف الباب ليمتعون أنظارهم بالعريس الذي نال إعجاب عائلة سالم أخيراً
فتهامست إحداهن قائلة
:- يا بت المحظوظة يا رضوى ، صحيح ما بتوقعش غير واقفة

لترد أخرى بعد أن حشرت نفسها بين الفتيات
:- شايفين يا بنات دة و لا نجوم السيما ، بس وقعت عليه إزاي دة ؟
فإلتفتت إلى رضوى التى تقف أمام المرآه تنظر لنفسها بخيلاء و تمشط شعرها المفرود بفعل المواد الكيميائية و سألتها

:- عرفك منين دة يا بت يا رضوى و لا شافك فين ؟

ألقت نظرة أخيرة على نفسها ثم إستدارت إليهم بدلال و ردت

:- إنتم عارفين أبويا من أكبر تجار المواشي في إسكندرية و ليه معارف ياما و كلهم عليوي أوي و يتمنوا يناسبوه و مراد واحد منهم

لوت إحداهم شفتاها ثم عدلتهم سريعا و قالت
:- و إشمعنى دة اللي وافقتي عليه ما إنتي جالك كتير من معارف المعلم و مرضتيش بيهم ؟

أسرعت أخرى قائلة بهيام
:- و هو دة يترفض يا بت دة كفاية دقنه

قهقهت رضوى عاليا و ردت
:- دقنه إيه يا هبلة إنتِ اللي هوافق عليه علشانها
ثم تحركت بدلال إلى النافذة و نظرت منها و أكملت و هي تشير الى السيارة
:- أنا وافقت عليه علشان دي ، علشان الفلوس و الأبهة ، علشان أخيرا هطلع من الحارة النحس دي و أقب على وش الدنيا ، دة غير طبعا إنه شاب و راجل كدة ملو هدومه و عليه القيمة ، يعني في كل حاجة تستمناها أي بت

تهامست الفتاة مع صديقتها
:- قال يعني كان ناقصها فلوس ، عالم طماعة و عينيهم فارغة

ردت الأخرى و هي تضع يدها على فمها حتى لا تراها رضوى
:- البحر يحب الزيادة و البت دي طول عمرها مناخيرها في السما و مش عاجبها حد ، و أهو جالها زي ما طلبت بنت المحظوظة

تجاهلت رضوى همساتهم و تخطتهم و هي تتجه إلى الباب لترى ما آلت إليه الأمور ...

بالخارج

إنتبه سالم أخيرا لما يقال فدث الورقة بجيب عباءته و قال

:- ايوة يا بيه بس دي أول فرحتي إزاي يعني معملهاش فرح دة أنا كنت حالف أقيملها ثلاثة ليالي بحالهم أكل و شرب للصبح

نهض مراد من جلسته و إلتقط هاتفه و مفاتيح سيارته و قال
:- إنت حر في اللي عايز تعمله لبنتك ، بس زي ما قولتلك ظروف شغلي هتمنعني أعمل فرح ، خد رأي العروسة و رد عليا .. معاك لحد بكرة علشان ألحق أظبط نفسي و مواعيدي

خرجت رضوى مسرعة من غرفتها عندما رأته يتجه للخروج ، ثم تباطأت مشيتها قليلا و إقتربت منه بغنج قائلة
:- رايح فين ، مش المفروض تقعد مع عروستك شوية

هي نفسها و كأن الزمان لم يمر عليها بزرقة عينيها التي أغرقته بين أمواجها ثم قذفته على شاطئ الحرمان محموما و لم تناوله شربة ماء !

هي نفسها ببشرتها ناصعة البياض و شعرها الأصفر الزاهي الذي خطف قلبه و سرق النوم من عيناه ..

سحب نفساً عميقاً و قال
:- لسة ما بقتيش عروستي

نظرت لوالدها بقلق ليقول موضحاً
:- مراد بيه مش عايز يعمل فرح يا رضوى عنده ظروف في شغله تمنعه

تحمحت و عادت أنظارها إليه تلقيه بنظرات ساحرة لتوقعه بشباكها و قالت
:- و ماله يا أبا هناخد إيه يعني من الفرح غير فورجة الناس علينا و اللت و العجن ، أنا كمان مش عاوزة فرح

فقال سالم
:- يبقى على البركة نقرأ الفاتحة

رفع مراد يده في صمت و عيناه مصوبة نحوها و هي تتصنع الخجل و تختلس إليه النظرات حتى إنتهى والدها من قراءة الفاتحة و على صوته قائلا
:- آميــــــــــن
فمسح وجهه بكفيه و قال موجها حديثه إلى سالم
:- يبقى على ميعادنا الخميس اللي جاي
ثم ألقى عليهم السلام و هم للخروج فأمسكت رضوى بذراعه قائلة
:- مش قرينا الفاتحة خلاص ، اقعد معانا شوية

نظر إلى يدها الممسكة بمعصمه فتركتها بحرج ، ثم نفض يده بإستنكار و رد
:- هنقعد كتير بس مش دلوقتي ، سلام
ثم خرج من الشقة بخطواته الواثقة لتنفرج شفتاه راسمة إبتسامة ماكرة فها هو قد خطى أولى خطوات إنتقامه !



صعدت الدرج تهرول كعادتها منذ الطفولة لتصطدم به أمامها ، فتسمرت مكانها و ألجمتها الصدمة حتى عن التفكير .

إنه هو !
حتى لو أنكر الجميع أو إعترض هو نفسه عن البوح بالحقيقة
لكن ضربات قلبها القوية خير دليل أنه هو

و لم يكن هو أحسن منها حالاً ، هجمت عليه ذكرياته مجدداً ذكريات تخصها وحدها !

تداركت الأمر أخيرا و ألقت السلام سريعا و أكملت هرولة إلى أعلى فتابعها بعينيه حتى إختفى وقع أقدامها فتحرك متجهاً إلى سيارته ، مغادرا ذلك الحي بذكرياته الحسنة منها و السيئة .



صف سيارته في إحدى الجراچات الخاصة بالسيارات و نزل يتجول داخل الأسواق كما كان يفعل بالماضي ..
لمح شاب صغير و أمامه كومة من الملابس البالية ينادي على المارين من أمامه و يلح عليهم بالشراء ، فمر من أمامه و لم ينادي عليه الشاب كما يفعل مع الجميع .

عاد خطوة إلى الخلف و وقف أمامه ينظر إليه و هو يدث يديه بجيبي بنطاله و قال
:- ما ندتش عليا يعني زي ما بتعمل مع الكل

إرتبك الشاب قليلا و رد بتلعثم
:- أنا كلي نظر يا باشا ، هو اللي زي سعتك هيشتري بالة يعمل بيها إيه

ضيق مراد ما بين عينيه ينظر للشاب بدقة و سأله
:- إسمك إيه

رد الشاب و هو يضع يده على صدره يعرفه بنفسه
:- محسوبك راضي يا باشا أحسن ميكانيكي في المنطقة


سأل مراد
:- و في سنة كام على كدة يا راضي

قال راضي بعد أن جثى على ركبتيه أمام بضاعته يعبث بها
:- تعليم إيه يا باشا و اللي زيي دة العلام هيفيده بإيه ؟ هيوكل أمي و أخواتي و لا هيصرف عليهم و يشوف طلباتهم !

ثم رفع عينيه إلى مراد وجده ينظر له بغموض فأكمل
:- أوعى تكون مفكرني جاهل يا باشا لا أبويا علمني القراية و الكتابة ، الله يرحمه عمل معايا كل حاجة حلوة غير بس إنه خلفلي سبع عيال و سابهم في رقبتي و مات تقولش كان داخل بيهم سبق

شقت الإبتسامة وجه مراد فأعلنت عن أسنانه البيضاء الزاهية فأخرج من جيب بنطاله ورقة صغيرة ناولها للشاب و قال
:- تعلالي بكرة و ربنا يقدم اللي فيه الخير

أخذ الشاب ينظر إليه بفرحة ثم دثه بجيبه و أخذ ينادي مجددا ..



صعدت فريدة إلي غرفتها فوق سطح إحدى المنازل التي تخص المعلم سالم حيث تسكن مع زوجة أبيها لكن لكل منهما غرفة منفصلة عن الأخرى ..
قابلتها نجية و قالت
:- شوفتي العريس اللي متقدم للبت رضوى بت المعلم سالم ، بيقولوا عليه و لا الممثلين اللي بيطلعوا في التلفزيون

شحب وجهها و سألت
:- و مين قالك إنه عريس رضوى

لوت نجية فمها و إتجهت إلى الأريكة الموضوعة بجانب السور و قالت و هي تلوك العلكة بفمها
:- الحي كله ملهوش سيرة غيره و غير النسب اللي هيناسبه المعلم سالم و بيقولوا كمان إن فلوسه دي وارثها أب عن جد يعني باشوات ولاد باشوات ..

إبتسمت فريدة بمرارة ساخرة و إتجهت إلى غرفتها ، قاطعتها نجية حين سألتها
:- مش هتتغدي ؟
تمتمت فريدة
:- مليش نفس
و دخلت غرفتها و أغلقتها خلفها ثم إرتمت على السرير تبكي في صمت .


في مكان أشبه بالأساطير ، رخام يفترش الأرض و يتوسطه عدة شجيرات بسيطة محفورة جذورها لأسفل ، و نافورة كبيرة على هيئة ورقة شجر يتراقص بها الماء ثم ينحدر من الجهات الأربعة مكوناً شلال صغير من المياه ،
خلفها قصر كبير مزينة جدرانه من الخارج بالرخام الأبيض مع بعض النقوش و الرسومات الهادئة التي زادته روعة .

و في بقعة تبعد بعض الشئ عنها يختفي الرخام و يحل مكانه الزرع و النجيلة ، العديد من الوسائد متراصون بجانب بعضهم البعض بتربيعة كبيرة ، تجلس عليها السيدة جميلة ممسكة بإبرة لها حرف دائري و بجانبها كرة كبيرة من الخيط تغزل شيئا يبدو كقطعة فنية رائعة بتداخل ألوانه الهادئة ..

إنتبهت لقدومه فرفعت وجهها إليه بأبتسامتها التي دوما ما تشرق له دنياه ، مال على رأسها و لثمها بحب ثم إرتمى بجسده جوارها ممددا إياه و أسند رأسه على حجرها ، فتركت ما بيدها و أخذت تمسد على شعره الأسود بحنو و قالت
:- مكنتش في الشغل .. و أصحابك ميعرفوش إنت فين و جاي بدري و دة مش مريحني
رمقها بإبتسامته الخلابة و رد
:- بتجيبيني بالطريقة يا جميلة ، تمام

أجابته بهدوء
:- مش محتاجة طريقة أجيبك بيها يا حبيبي ، و إنت من إمتى بتخبي عليا حاجة ، دة أنا بيرك الغويط يا مراد عشنا سوا على الحلوة و المُرة يا بني و أبص في عينك كدة أعرف إنت مخبي عني إيه

إعتدل من نومته و تطلع لأمه بغموض ثم سحب نفساً عميق و قال
:- تمام ، عيني في عينك أهي قوليلي شايفة فيهم إيه ؟

نظرت لعينيه بقوة و ردت بهدوئها المعتاد
:- شايفة حيرة كبيرة و دوامة مصمم تحط نفسك فيها ، شايفة خليل ريحته فايحة حواليك و دي لوحدها كارثة


نظر لها بإستغراب من ذِكر إسم خليل ولكنه تدارك الأمر ، فعدل من جلسته و ضم ركبتيه إلى صدره قليلا و حاوطهما بذراعيه القويتين ثم قال بإبتسامة ساخرة

:- متضحكيش على نفسك يا أمي و مترسميش أحلام بعيدة عن الحقيقة ، غصب عني و عنك فيا حتة من خليل ، لازم كل أما تشوفيني تشوفي فيا صورته ، أنا إبنه مهما حاولنا نهرب من دة جوايا بذرته بتحركني و ساعات مش بقدر أقاوم نفسي أنا بشر

لاح القلق بعينيها و نبش قلبها فسألته بخوف
:- يعني إيه يا مراد إنت عملت إيه بالظبط و مخبيه عني ؟


إبتلع ريقه و أغمض عينيه بقوة ثم فتحها بهدوء و قال
:- أنا روحت حي خلدون إنهاردة

زاد خوفها و شعرت أن الخطر قد عاد ليحاوط إبنها من جديد ، حاولت تهدئة نفسها و عدم سبق الأحداث لكن نبرتها المرتجفة أفصحت عما تشعر به

:- ليه يا بني ، ليه يا مراد حي خلدون تاني ليه ، لينا مين تاني هناك تروحله ، فوتناه من زمان بأهله و ناسه و سيبنا ماضينا هناك
ليه يا بني بتفتح في القديم

إحتدت ملامحه و سيطر عليه الغضب و هتف

:- القديم متقفلش يا أمي علشان أفتح فيه ، القديم حواليا و محاصرني و مش قادر أفوق منه ، زي الشبح اللي بحاول أهرب منه و هو مصمم يخنقني ..

ربتت على كتفه بهوادة و سألته بمهادنة
:- طيب يا حبيبي فهمني بس أخدت إيه من مرواحك هناك

حاول تنظيم أنفاسه التي تسارعت من فرط عصبيته و إستجمع هدوءه رغم الشر الذي يتطاير من عينيه و قال

:- أخدت اللي مقدرتش أخده زمان ، أخدت رضوى
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي