قبل الغروب

Dod456`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-06-26ضع على الرف
  • 60.7K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل ١

كان الشيخ عبد البصير جالسا علي سطح منزله يتأمل خلق الله من حوله، رافعا رأسه إلى السماء يسبح لله ويذكره، ثم يناجي الله ويبكي ليرحم عباده يوم لا رحمة الا رحمته، يتمايل الشيخ برأسه وكأنه مجذوب، يبقي على هذا الوضع لمدة ساعات بالليل حتي يصيبه التعب فينم علي نفسه، لحد بزوغ الشمس، أو لحين ما تطلع زوجته الي السطح تنهره بأن يعود إلى عقله، وينزل ينم في فرشته مثل باقي خلق الله، كان الشيخ عبد البصير رجلا وديعا لطيفا إلى ابعد حد، يعبد الله كأنه يرأه، يتقي الله في عباده الي ابعد حد ورغم أنه من أعيان البلدة وممن يملكون زمام ارض القرية بأكملها وإخوته رجال أشداء علي الناس كثيرا ما يفترون عليهم إلا أن الشيخ عبد البصير كان معاييرا تماما، فهو بسيط في لبسه وفي هيئته وفي كلامه، وهو حلو الطلعة بشوش الوجه لين الجانب، لا يرد سائلا ابدا، ولا يكسر بخاطر أحدا ابدا لكل ذلك احبه الناس في البلدة ودعوا له بطولة العمر على العكس من زوجته وبنت عمه الست وداد التي كانت تشبه اخواته كثيرا في الافتراء على خلق الله وفي شخصيتها الصعبة القاسية، كانوا الناس يرددون قول شهير وهو أن لا شيء علي الاطلاق يعيب الشيخ عبد البصير سوى زواجه من الست وداد التي تطلق لسانه في الفقير والغني.
انجب الشيخ عبد البصير من الست عنايات اربع صبيان واربع فتيات، كانت تستحوذ على فكرهم الست عنايات ولا تريد لهم أن يأخذوا من الشيخ عبد البصير ليونة قلبه أو زهده في الحياة وفي مغرياتها ، فكل مشاكلها مع الشيخ أنه لا يتكالب على الدنيا ولا يسع لشيء فيها، فقط إذا ما جاءه ما قسمه الله له، في هذه الليلة الشتوية الحالكة جلس الشيخ علي سطح المنزل كعادته إلي أنه نزل بعد وقت قصير على عكس عاداته.
نام في غرفته مبكرا ، استغربته عنايات لكنه اعتادت على تصرفاته المتناقضة والغريبة حتي أن أصبحت تصرفاته العادية بالنسبة لها هي التي تستغرقها.
وضع الشيخ رأسه على الوسادة فسحب في النوم مباشرة، أما عنايات شعرت بوجود حركة غريبة في الدار في الاسفل ، على الفور نزلت لتعرف ماذا يحدث هناك، وجدته واقفا خلف الباب الامامى الكبير للبيت ملتصقا بالحائط يرتعش وينتفض كعصفور فقد أمه، ملابسه غارقه بالماء والطين وعليها طرطشة دماء، وجلبلبه مشقوق من الجانب بالطول، فزعت الام من المشهد الذي رأته، نادت بفزع باسمه قائلة: ممدوح؟
فزع ممدوح ووقعت من يده بواقي عصا كان قابضا عليها، وارتعش اكثر، سألته الست عنايات قائلة: ايه اللى عمل فيك كده وكنت فين لحد دلوقت وايه اللى مخليك مستخبي ورا الباب زي الحرمية كده يا ولد.
تقطع صوت ممدوح ولم يستطع أن يتكلم أو حتي ينطق بكلمة واحدة سليمة، فبدأ ينتحب، اقتربت منه الست عنايات أمسكت بذراعه بشدة ووجهت سؤالها إليه ثانية بلهجة صارمة: قول يا ولد ايه اللى حصل بالظبط بدون خوف وبدون كذب اياك تكذب، قول ما تخفش.
مسح ممدوح دموعه وحاول أن يتحكم في طبقة صوته وخروج الكلمات بشكل سليم، هدا قليلا بعدما أخذ منها الامان قال: انا قتلت عم مجاهد عوض.
ضربت الام على صدرها مفزوعة وهى تقول: يا نهار مش فايت، قتلته ليه وازى يا واد، ده راجل طول بعرض وكدك مرتين في السن وفي الجسم.
ممدوح: ماكنش قصدى اقتله يا امى ، الصبح اتخنقنا انا وهو قدام الناس كلها، عشان حد قاله أن أنا عكست بنته فاطمة وهي جايه تجبله الغدا في الغيط، انا ماعكستهاش ولا قربت منها، ده محروس ابن عمي صلاح، المهم البنت فاطمة راحت قالت لابوها أن أنا اللى ضيقتها، راح مجاهد جابني قدام كل الناس مسكني من خناقي وكان هيرفع أيده عليا لولا الناس حاشوه عني وهدوه كان زمانه ضربني، يرضيكي يا امي واحد زي مجاهد الشحات الجهاز ده اللى بيلم فتات الاكل من عيلتنا يمسك ممدوح عبد البصير الزيات يضربه قدام اهل البلد كلها وكمان عشان سبب زور؟
تتنهد الام : راجل ناقص عايز يتربي، بس ده ما يخلكش تقتله يا ولدى ده صحاب عيال.
ممدوح: ما كنش قصدي اقتله يا امي، انا كنت سهران مع ولاد عمي تحت شجرة الجميزه وهو كان بيسقي الزرعة بتاعة الحاج رمضان، كان مميل علي وشه ومش شايفني ، ياسر ابن عمي كمال قالي روح قوله ما يتعرضش ليك تاني بعد كده ، روحت اقوله رفع في وشي المطوة بتاعته عشان يضربني بيها، مشيت من وشه ومشيت من قعدة ولاد عمي واستخبيت له ورا النخلة، واستنيت لما ينزل في المجرايه يسد السد، وروحت جرت عليه وقعته في الأرض بكل قوتى هو ما ماكنش في واعيه ومعرفش ايه اللى حصل ، روحت مطلع من جيبه المطوة بتاعته وضربته بيها في بطنه ضربه واحدة ، مسك في رجلي وما كنش عايز يسبني خربشني، ووقعني عليه، روحت ضاربه تاني بالمطوة كذا ضربة وراء بعض لحد ما نفسه طلع، بعدها ماعرفتش اعمل ايه ولا اروح فين، جيت جري علي هنا، وانا بجري وقعت في مجراية الميه هدومي غرقت كده، والمطوة وقعت مني دورت عليها كتير معرفتش القيها سبتها وجيت.
تضيق عينيها الست عنايات وتقول بتشكك: أنا قولتلك ما تكدبش يا واد يا ممدوح عشان اعرف الدنيا ماشيه ازاي، مجاهد عمره ما شال مطوة وعمره حتي ما ممسك عصابة في ايده، راجل مسالم وبيخاف من خياله، فازاي تقول رفع عليك المطوة بتاعته ، مجاهد خدم في بيت الزيات كتير قوي وما شوفناش منه غير الخير.
تململ ممدوح وقال: المطوة كانت بتاعتي انا يا امي سرقتها من عمي لكن هو اللى حاول يضربني في النهار يا امي ، وأسالي اي حد ، الناس كلها اتلمت علينا وحاولوا يخلصنوا حتي اسالي فهيم اخويا كان قدامه الحماقة.
تضرب عنايات كف علي كف وتقترب منه وهي متعصبة وتقول: اسمع يا واد يا ممدوح، انت عارف لو ابوك عرف حاجه زي دي هيعمل فيك ايه، عشان كده لازم تغير هدومك دي وتلبس هدوم نضيفة وتروح تنام في مندرتك وكأن مفيش حاجه من دي حصلت اياك تجيب سيرة لاي مخلوق بكل اللي حصل، سامع يا واد ولا لا.
ممدوح : سامع يا امي.
الست عنايات: بس قولي الاول يا واد، حد شافك انتي ورايح ولا وانت وجاي بشكلك ده، ولا تكون قولت لحد من ولاد عمك؟
ارتعش ممدوح: مش عارف يا امي إذا كان حد شافني ولا لا، بس انا ما قولتش لاي حد، غير بس في اول الليل وانا قاعد تحت الجميزة وروحت اتخنقت معاه قدام ولاد عمى.
الست عنايات: اياك يا ممدوح حد يخوفك وتعترف على نفسك، انت تكن في البيت الايام دى وماتطلعش بره خالص..
قطع حديثهما تحمحم الشيخ عبد البصير الذي قام من نومه ليستعد الي صلاة الفجر ، فانزوت الست عنايات جانبا وأشارت لابنها ممدوح أن يختفي سريعا.
*****
ذهب ممدوح الي غرفته، مكث في فراشه، دون أن يغير ملابسه الغارقة بالماء الاسن وبقايا الدم، بدأ جاكوش الاسئلة يدق علي رأسه، يلتفت حوله يمينا ويسارا ، كأنه يتأكد من وجود أحدا غيره في داخل الغرفة لا يري إلا سكون الليل وظلامه الدامس، النجوم تظهر من شباك غلفته، معلقة في السماء تشع نورا خافتا، كأنها شاهدة علي جريمته يسمع صوت، فروع الأشجار تتصارع كأنها جاءت للامساك به، لازال جسده يشعر بالبرد الشديد، وفي نفس الوقت ينزف عرقا، حاول وضع رأسه على الوسادة مستجديا النوم، لكن النوم خذله، فما زالت يده التي مسكت المدبة وقتلت رجلا في عمر ابيه، ترتعش ولا يستطيع التحكم فيها، بقي كذلك حتى الصباح، فطوال الليل يحاول أن يغمض عنيه عنوة، يخفي رأسه في الفراش كى تمر هذه الليلة بسلام لكن لا جدوى من كل افعاله تلك، ود ولو أنه نام بجانب أمه لتأنس بها، وتأخذ بحسه، لكن ذلك لا يحدث ابدا، فبعيدا أن أمه تنم بجوار أبيه الشيخ عبد البصير الذي لو عرف ما حدث لا يكفيه أن يفصل رقبته عن جسده، لكن هو الولد ذو الرابعة عشر عاما، الذي أصبح في نظر الأسرة كلها رجلا ناصحا بالغا،فكيف له أن ينم بجوار أمه ، لا شيء يشفع له ذلك، حتى لو أنه كان قتل قتيلا عرض الباب.
*****
جاء الصباح، وجاءت معه الاخبار السيئة حيث صرخ الانفار الذين يعملون في الزرع مبكرا، مرددين بصوت عال: قتيل، قتيل.
على سماع هذه الكلمة، جاءت الناس من كل حدب وصوب لتري من يكون القتيل.
وجدوا جثة مجاهد مرميه على أحد طرفي مجراة الماء الذي يسقون منه الزرع، كان منكبا على وجهه عائم في دمه، كان الجو ملبدا بالغيوم وكأن تستحي الشمس أن تشرق، لبشعة الفعل فتتلبد السماء بالغيوم، برؤية الجثة ينتشر الهرج والمرج، ومن ثم الصراخ والنواح، يحضر العمدة وهو الحاج كامل محمود الزيات ابن عم الشيخ عبد البصير مباشرة ، ومن حوله الغفر الخاصين به، كذلك جاء على الفور شيخ البلد ورجال مركز الشرطة، الذين حاوطوا الموقع ومنعوا الناس من التواجد حول الجثة حتى رفعوا البصمات، وعاينوا الموقع، ثم حملوا الجثة في سيارة إسعاف لعرضها على المستشفي وضرورة تشريحها، أخذ الضابط اقوال الناس اللذين رأوا الجثة في أول الأمر، وتطاير الكلام هنا وهناك، الجميع يعرف أن مجاهد رجلاًمسكينًا ولم تسبق له عداوة مع أحد سوى مشاجرته مع ممدوح الزيات صباح أمس، والجميع يدرك عقاب من يتشاجر مع أحدا من بيت الزيات ، ولكن لم يخطر ببال أحداً أن القاتل "ممدوح " بذات نفسه فهو لا يزال طفلا صغيرا، لن يتجاوز الخامسة عشر من عمره، وعلي كلا لن يجرؤ أحد بفتح فمه بكلمة، ولن يجرؤ بيت مجاهد بأخذ ردة أي فعل، حتى لو كان بتبليغ الشرطة بشكهم ، وعامة الشرطة لا تقدم ولا تؤخر مع عائلة الزيات، الذين يخرجون عن القانون كثيرا ولا أحدا يستطع أن يردعهم، فاموالهم وسلطتهم تسندهم مهما فعلوا، ثم أن أسرة مجاهد اطفال صغار فيهم رضيع وفيهم من يتخطى المشي وزوجته المسكينة التي لم تكف عن لطم خدودها والولولة علي زوجها واستباحة دمه لكنها هذا اقصى فعلتها، لا تستطيع أن تأخذ أي ردة فعل أخري فقط تقف عاجزة تحمل العار والجوع والضياع أينما ذهبت ، حيث كان مجاهد عائلها الوحيد، فمن اليوم لا تعرف كيف تعول أطفالها الصغار ومن اين تسد أفواههم المفتوحة جوعا.
مر يوم ويومين وثلاث ولم يستطع ممدوح الزيات أن يخرج من غرفته، فقط يدفن جثته في سريره ويرتعش، ارتفعت درجة حرارته وأخذ يخترف بما فعل في الليلة اياها، مما جعل الست وداد تغضب عليه وترفض أن تحضر له طبيبا ، فقط أعدت له هي كمدات وأعطته بعض الأدوية التي احضرتها له من الصيدلية بدون طبيب، ورفضت أن يدخل عليه أي احد سواء من أبناء أعمامه أو حتي اخواته، بل ومنعت الشيخ عبد البصير من الدخول عنده أيضا متعلله باشياء ساذجة خوفا من خترفة ممدوح بأي كلمة أمام ابيه الذي أن عرف ذلك لن ولم يسكت على ممدوح.
قلقت الست عنايات بشأن ممدوح وخوفه، فلم تتركه وحده حتى أنها حققت له أمنيته الدفينة الذي لم يستطع أن يعبر عنها وهي أن تبيت معه في غرفته، لكنها لم تترك فرصة له عندما تشعر أنه تحسن إلا وإن توبخه وتكدره وتلوم عليه علي ضعف قوته وخوفه وهشاشته، لدرجة أنها هددته لو أنه استمر على ذلك الوضع ستسلمه هي للشرطة تقتص منه أو على الأقل تسجنه في سجونها سنين طويلة .
مما جعل ممدوح يصدق تهديده، فحاول التماسك وحاول أن يغادر فراشه وعرفته وعودته للحياة من جديد حيث السمر مع أبناء عمومته، والذهاب الي الأرض الخاصة بهم ورعايتها.
،أما الشيخ "عبد البصير" الأب الذي يشبه الزهرة التي نبتت في الوحل، أخذ يقدم العون والمساعدة لأسرة مجاهد التي من الممكن أن تتضور جوعا، بعد موت عائلها الوحيد، ولم يخطر على باله لحظة، أن القاتل من بيته، بل ومن أطفاله، لم يعرف حتى تفاصيل الجريمة، فهو منعزل تماماً عن القيل والقال، ولا يعرف شيئا في حياته، سوى القراءة في كتاب الله، وإقامة شعائره، وأداء فروضه.
الرجل مغيب، لدرجة أنه صلى بالناس يوم الجمعة، وأخذ يخطب فيهم، ويوضح لهم بالأدلة عقاب قاتل النفس، والتأكيد علي ضرورة القصاص منه، وإن من قتل نفسا عند الله فكأنه قد قتل الناس جميعا، وإن هدم الكعبة خير من قتل النفس عند الله سبحانه وتعالى.
مر أسبوعا كاملا أو فيما يقترب من عشرة ايام، وعاد الناس يتهامسون من جديد، فقد وجدوا مدبة ممدوح ملطخة بالدماء في موقع الجريمة، وقد رأوا المدبة معه عند شجرة الجميزه يستعرضها أمام الشبان، اختلف الناس في قولهم وفي شكهم ،فمنهم من قال إن القاتل لا يمكن أن يكن هو ممدوح بنفسه فمازال طفلا لا يستطع أن يفعلها، خصوصا أن مجاهد رجل طول بعرض فلن يقوى عليه ممدوح وحده، فلابد وأن كان معه أحدا من اولاد الزيات، ومنهم من شكا بل وتأكد أن ممدوح بذاته هو من فعلها لانه كان يشتاط غضبا طوال النهار من مجاهد وتوبيخه له وهو حفيد من احفاد الزيات والرجل الفلاح تجرأ عليه وعلي توبيخه وإن كان مبرر مجاهد وقتها أن ممدوح الزيات قد تعدي علي شرفه وعلي حرمة بيته حيث تعرض بالقول والفعل لابنته فاطمة الأمر الذي جعل رأسه تغلي ولم يبالي أنه حفيد من احفاد الزيات، فتعرض له وكان على استعداد إن يدفنه حيا بغض النظر عن هوايته، مادام الأمر قد تعلق بالشرف، هكذا كان يفكر الفلاحين والصعايدة
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي