زنبقية عذراء

مي الشوربجي`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-06-25ضع على الرف
  • 23.8K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول شبح الماضي

زنبقية عذراء
الفصل الأول


ارتفع جرس المنبه ليعلن عن تمام الساعة السابعة صباحًا فمد يده دون أن يفتح عيناه وضغط زر المنبه ليوقفه ثم أخذ نفس عميق وزفره ليبدأ في استقبال يومه،
أزاح عن جسده الغطاء وعدل من وضع نومته ليجلس نصف قاعد على السرير وتناول جهاز اللاب توب الخاص به وأخذ يتفصح ويقرأ آخر الايميلات المرسلة إليه وبعد أن انتهى قام وذهب إلى شرفته وأزاح ستارها فسمحت للضوء بأن يزور غرفته المعتمة وللهواء أن يتجدد ويبدد آثار السجائر التي كان يحرقها طوال الليل في تلك اللحظة دخل الخادم ووضع كوب عصير لونه أحمر يُخيل لك من أول نظرة أنه عصير فراولة ربما أو كريز لكنك تفاجأ عندما تعلم أنه مزيج من البنجر والبرتقال والجزر، إنه مشروب الطاقة الصباحي الرئيسي والمفضل لدى "رغدان" والذي يتناوله في في السابعة ونصف صباحًا أي بعد نصف ساعة من استيقاظه وإن حدث وتأخر موعده حتى لو دقيقة واحدة تهب عاصفة غضب تكنس في طريقها كل ما يقابلها، وكان هذا لا ينطبق على العصير فقط بل في أي تأخير يحدث، كان رغدان صارم في التعامل حاد التعامل لا يقبل بأي تأخير أو استهتار كما أن مركزه المادي والاجتماعي ساعداه في ذلك، فهو شاب في الثلاثين من عمره يمتلك مصنع كبير لصناعة المواد الكيميائية والمنظفات ورثه عن والده الراحل بالإضافة إلى معرض سيارات ومزرعة مواشي تقع على طريق مصر الإسكندرية الصحراوي، نشأ منذ صغره على تحمل المسؤولية والالتزام وذلك بسبب ملازمته لوالده في العمل منذ عمر السابعة عشر، للوهلة الأولى ترى الطيبة في ملامحه مما يشعرك بالراحة النفسية للتعامل معه هذا إن لم تلفت نظرك وسامته الهادئة فهو يمتلك كل ما دل على الجمال في الرجل ولكن بالقدر المتزن، طويل القامة بما يقرب من ١٧٠ سنتيمتر وقمحي البشرة لدرجة خادعة تجعلك تظنه ذهبي اللون لا يحتاج شعره إلى تصفيف بسبب فتلته الناعمة ولا يحب عمل قصات حديثة ولذلك يكتفي بترطيبه وارجاعه إلى الخلف بيده وأصابعه مما يزيده ملامح رجولية، له شارب ولحية ليست بالكثيفة ولا الخفيفة ويرجع هذا لعادته في تهذيبها يوميًا بماكينة الحلاقة الكهربائية.
كعادته كل صباح بعد أن ينهي مشروبه يمارس رياضة الجري على المشاية الكهربائية لمدة ١٥ دقيقة، يبدأ أول دقيقة بسرعة بطيئة ثم يزيد السرعة حتى إن رأيته لن تعلم هل يجري كنوع من أنواع الرياضة أم أنه يجري ليسابق الزمن، لم يكن الأمر رياضيًا أكثر منه تفريغ لطاقة غضب مكبوتة بداخله يعمل على تفريغ جزء بسيط منها في صباح كل يوم.
أنهى رغدان تمرينه وانقضت الخمسة عشر دقيقة المحددة لذلك، آثار التعب مرسومة على وجهه حتى أنه كان يلهث وهو يأخذ نفسه بفعل المجهود الزائد…
خرج رغدان من غرفته فقابل رئيس الخدم ينظر إليه بملامح حزينة يملأها الأسى كاد أن يناديه لولا أن رغدان لم يمهله وقت وتركه ودخل غرفة مجاورة لغرفته وأغلق على نفسه من الداخل وبعد لحظات ارتفع صوت بكائه ونحيبه.

كان رغدان يبكي بداخل الغرفة ويتوجع من حين إلى آخر وكأن هناك من يضربه ويعذبه بالداخل، واستمر هذا الوضع إلى أن طرق باب الغرفة شخص خارجها، فانتفض رغدان وهب واقفًا من نومته على الأرض وصاح بغضب وعصبية:

-مش أنا قولت ألف مرة مش عايز حد يقرب من الأوضة دي.

أجابه الصوت من الخارج بنبرة حانية هادئة:

-افتح يا رغدان أنا كريم.. كفاية كدا يا صاحبي وارحم نفسك.

كريم صديق رغدان الوحيد أكبر منه بعامين ومسؤول عن الإدارة المالية والمحاسبات في أعمال رغدان أي أنه المدير المالي لمصنعه ومزارعه، شاب في بداية الثلاثينات من أسرة ميسورة إلا أنه أحب الاعتماد على نفسه والعمل بشهادته الجامعية وبسبب صداقته مع رغدان منذ طفولتهم قرر العمل معه.

كرر كريم مناداته حتى يقنع رغدان بالخروج فزاد من طرقه للباب بحدة قائلًا:

-اخرج يا رغدان بقولك أحسن قسمًا بالله هكسر الباب.

وهنا انفتح الباب فجأة وظهر رغدان في حالة يرثى لها، وجهه أحمر دامي يتصبب عرقًا يمتزج بقطرات الدمع وقدماه تحاربان حتى تحملاه مما جعله يستند على الحائط بجانب الباب يطأطأ رأسه في حزن بالغ…

هنا اندفع نحوه كريم يسنده حتى لا يميل أو تخور قواه فيقع، وانضم إليه رجلًا أربعيني مد إلى رغدان يده بكأس مياه باردة وهو يطبطب عليه قائلًا:

-بكفاية ياابني عمر البكا ما هيرجع اللي راح.. حرام عليك روحك.

فأجابه رغدان دون أن ينظر إليه ولكن بصوت مهزوز:

-كتر البُكا بيعلم الجفا يا عم محجوب.

عم محجوب رجل في الخامسة وأربعون من عمره بصحة جيدة بدأ الشيب في تخلل بعض من خصلات شعره الخفيف، يعمل في القصر منذ أن انتقلت ملكيته إلى والد رغدان وكان رغدان حينها في السادسة عشر من عمره ويعتبر عم محجوب في مقام كبير الخدم ومسؤول عن إدارة وتدبير القصر.

مد كريم يده ليساعد رغدان على النهوض لكن رغدان وقف دون مساعدة وابتسم لصديقه حتى يطمأنه ودار الحديث بينهم:

-فطرت ولا جاي تأدي دور الواعظ بتاع كل يوم على لحم بطنك؟
-ياابني أنت مش هتبطل عمايلك دي؟

آخرتها معاك إيه يا رغدان؟

ضحك رغدان بحب قائلًا:
-تعبت يا صاحبي ولا مليت؟

-بلاش هبل ياض أنت عارف غلاوتك، أنا بس قلبي واجعني عليك، عايزك تفهم إن اللي راح مفيش حاجة هترجعه وان اللي أنت ساجن نفسك فيه دا مش هيداوي جرحك، بالعكس أنت كل شوية تنكشه وتصحي الوجع.

-أنت مكنتش عايز تدخل كلية تجارة لعلمك..المفروض كنت تدخل آداب علم نفس أو خدمة اجتماعية حاجة كدا من بتوع التنمية البشرية واللايف كوتش.

انفجر الاثنان في الضحك ومعهم عم محجوب الذي أخبرهم بأن الافطار سيكون في انتظارهم بعد خمس دقائق على طاولة السفرة لكن رغدان أجابه مسرعًا:

-بلاش على السفرة ياعم محجوب، من فضلت قول لأمنية تجهزه في الجنينة.

نظر إليه كريم متفاجيء فقال رغدان وهو ينظر إليه بمرح:

-أيوا في الجنينة ياعم كريم عايز أشم هوا منعش وأشوف منظر هادي قبل ما نتسحل في زحمة اليوم.

فهز كريم كتفه بلا مبالاة قائلًا:

-جنينة جنينة يا عم هو أنت حد يعرف يقولك لأ.

-ولما أنت عارف إنك مش هتعرف تقول لأ بتتلامض ليه؟

خبط رغدان كريم على رأسه بمشاكسة ثم أخبره أن ينتظره في الخارج إلى أن يأخذ حمامًا سريع ويجهز.

-انجز يا عم رغدان عندنا اجتماع الساعة عشرة مع مورد الخامات.

-طب يلا نحضر الاجتماع بالترينج علشان منتأخرش.

نظر إليه كريم بعدم فهم لكن رغدان دفعه نحو الدرج وهو يصيح:

-ياعم اديني خمس دقايق وسيبني علشان أنت اللي هتعطلنا.


أنهى كريم ورغدان فطورهم في حديقة القصر مثلما طلب رغدان ومن ثم انطلقا في طريقهم إلى المصنع بسيارة رغدان بعد أن طلب من كريم أن يترك سيارته ويذهبا معًا.

-والله يا أخي اللي يركب معاك وأنت سايق لازم يتشاهد ويكتب وصيته.

-متخافش يا كرملتي أول ما تلاقيني هخيش افتح الباب ونط.

-افتح الباب وأنط؟ منك لله.

استمر الاثنان في المشاكسة ومبادلة حس الدعابة طوال الطريق فهذا كان أكثر ما يميز علاقة الصداقة بينهما بالإضافة إلى خوفهم المتبادل على بعض وحب الخير والمصلحة، لا ضغوط عمل أو حياة تؤثر عليهما بل كان الواحد فيهما ملاذ للآخر.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي