سقطتك في ديسمبر

Aya Elragaby`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-05-23ضع على الرف
  • 1.8K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

هبة

١ ديسمبر ١٨٥٠:

كان صباحًا رماديًا باردًا، دخان المدافيء تنكر كغيوم تجثو على لندن، الهواء البارد يسري خفيًا في الطرقات، وبدت لندن في هذا اليوم كامرأةٍ ترتدي ملابس الحداد، فتاةٌ شابة تسير بخطى سريعة على الشارع الحجري، فالقطار إلى يورك ينطلق في التاسعة، والمسكينة هذا ما تجنيه لأنها تأخرت في الاستيقاظ.

بعد القليل من الوقت والكثير من الركض كانت ميرا على رصيف المحطة، ولكنها لم تكن تمتلك الوقت لتلتقط أنفاسها حتى، فالقطار كان قد وصل بالفعل ويجب عليها أن تركبه، كان الأمر صعبًا عليها فهي لم تركب عربًة يجرها الخيل من قبل ناهيك عن قطار، ولكن الشاب النبيل لن يترك أنسةً شابة بدون مساعدة، وهي لم تفكر مرتين قبلما تلتقط تلك اليد الممدودة لها لتساعدها للصعود إلى عربة القطار، نظرت نحو ذلك الشاب الذي ساعدها وشكرته، وكان يبدو نبيلًا حقًا من ملابسه باهظة الثمن تلك، بينما كانت تبدو هي بملابسها تلك كالذاهبة إلى العزاء، هندمت ملابسها وشعرها الكستنائي القابع أسفل القبعة السوداء، كانت وجنتاها قد اكتسبتا لونًا أحمر إثر الركض، مما أضفى على بشرتها البيضاء الشاحبة حيويةً وجمالًا، تحركت نحو عربات القطار المخصصة لركاب الدرجة الثانية، فتحت إحدى العربات والتي كانت فارغة وجلست فيها.

ملست على تنورة فستناها الأسود المنتفخة قليلًا، كانت تصل إلى ركبتيها، وصففت شعرها الكستنائي في هيئة كعكة جميلة، واكتملت إطلالتها بقبعتها السوداء، كانت ميرا بيضاء شاحبة، بعينان بنيتان واسعتان، وحاجبان خفيفان مرسومان طبيعيًا، كانت عادية وبسيطة وذلك جعلها جميلة عند النظر إليها، ليست صارخة الجمال ولكنها جميلةٌ بطريقةٍ ما.

ميرا ميلر هي الفتاة الأصغر بين إخوتها الأربعة واللواتي جميعًا فتيات، توفى والدها مبكرًا عندما كانت في الخامسة، كان يعمل كتاجر أقمشة وذلك يعني أن حالتهم الميسورة تلك لم تدم كثيرًا، فعمل السيد ميلر انتهى بموته، مما دفعهم إلى ترك ليدز والمجيء إلى لندن آملين في بدايةٍ جديدة، وجدت والدتهن متجرًا صغيرًا تمكنت من تأجيره وحولته إلى متجرٍ لصناعة القبعات، كانت والدتهن وفيونا أختها الكبرى تجيدن التطريز بالفعل وساعدن المتجر لينمو خطوةً بخطوة، كانت فيونا في الثامنة عشرة عندما تزوجت من تاجر أقمشة ثري يكبرها بثلاثة عشر عامًا وذلك ساعد المتجر لينمو ويتوسع إلى متجر أكبر، صوفيا كانت في السادسة عشرة عندما أرسلتها والدتنا إلى سيدة نبيلة في لندن لتدرس ابنتيها الموسيقى فصوفيا تمتلك أصابع سحرية، أما غريس فبعد رحيل صوفيا بعامين أرسلتها والدتي للعمل في أكبر متجر حلويات في المدينة حيث كانت غريس جميلة وفاتنة في السابعة عشرة وكانت لبقة وساحرة وساعدت على زيادة عدد الزبائن وكان واضحًا أن صوفيا وغريس ينتظرهن مستقبلٌ باهر، وأن الطريق مفتوحٌ أمامهن للزواج من رجال نبلاء وأثرياء، فيونا أصبح لديها طفلين جميلين، لقد توقفت عن زيارتنا منذ ثلاث سنوات، فلقد انتقلت إلى ويلز رفقة زوجها، فقد توسع عمله كثيرًا لذا توجب عليه الانتقال إلى حيث يمكنه جعل تجارته تزدهر أكثر فأكثر.

أما ميرا فكان المستقبل في نظرها غائمًا، فهي فتاةٌ يتيمة، غير جميلة للحد الذي قد يجعل الأثرياء يتهافتون لطلب يدها، وفرصتها في الزواج من مزارع بدت جيدةً جدًا برغم ضآلتها، لكن الشهر الماضى بدت الحياة وكأنها ترحب بها بحبور حيث أعلنت مؤسسة "كالتاجيري" عن رغبتها في اختيار طالبة لتكمل تعليمها مجانًا في مؤسستهم التعليمية الراقية، تقدمت ميرا إليها من فورها، فهي ذات تعليمٍ جيد فوالدتها لم تبخل عليها بتعليمٍ راق كالذي حصلت عليه أخواتها في حياة والدهن، فقامت والدتها بتعليمها بنفسها ولكن بعد أن توسع العمل تمكنت من إحضار معلمةٍ متخصصةٍ من أجل إكمال تعليمها معها.

كان الاختبار صعبًا، يقيس مدى ثقافتك وإتقانك للإنجليزية، واللغات الأخرى التي تتحدثها، كما يختبر كونك لبقًا أم لا، وبالطبع كان هناك اختبار الهيئة الذي يهتم بطولك وتناسقه مع وزنك، وفي نهاية الأسبوع الثاني من نوفمبر كان جوابًا مزخرفًا بماء الذهب يصل إلى منزل عائلة ميلر، ولوهلةٍ ظنت ميرا أنهم قد اخطأوا العنوان أو أن هناك لبس، حيث لم تتوقع أبدًا أنها قد تجتاز الاختبار، لذا قضت والدتها الأسبوعين الآخريين في شهر نوفمبر في تحضير ابنتها جيدًا، فيورك تثلج في هذا الوقت من العام كما أخبرتهم جارتهم التي عاد ابنها من يورك، ولم تدخر السيدة ميلر جهدًا في التأكد من أن تظهر ابنتها بمظهرٍ حسن، حتى أنها أخرجت الأقمشة باهظة الثمن التي كانت تخبئها من أجل زواج ميرا، فلا يهم الزواج الآن، المهم أن تكون ميرا لائقةً وسط أبناء النبلاء.

وبالطبع لم تخلوا التجهيزات من الكثير من حديث النساء في الحي ومباركاتهن، وما زالت ميرا تتذكر حديث تلك المرأة التي أخبرتها أنها ستكون محط أنظار العديد من الشبان الوسيمين عند عودتها من مؤسسة كالتاجيري التعليمية، وأن الأمر سيرفع من مكانتها وربما قد تعود من هناك مع عريس محتمل أو اثنين، من يدري؟

وذلك جعل قلبها يخفق، فكرة أنه سيكون مرغوبًا فيها مثل أختيها أسعدتها فهي لم تشعر بهذا من قبل، أما الليلة الماضية بعدما أنهت مع والدتها حزم الحقائب والمؤنة، حاوطت والدتها وجنتيها وأخبرتها كم أنها فخورةٌ بها أكثر حتى من فخرها بأختيها، وأنها تشعر أنها ستكون ذات مكانةٍ مرموقة في المجتمع، ثم قبلت جبينها وأودعتها سريرها، وتلك الجمل البسيطة ونظرة الفخر في عينا والدتها أصابا المسكينة بالأرق وحماسها للغد ذاد الأمر سوءً وهذا أخرها في الاستيقاظ ولكنها هنا الآن وانتهى الأمر على خير.

قبضت على حقيبتها بكلتا يديها، وقالت هامسةً:
- أعدكِ يا أمي، سأعمل جاهدةً وسأستحق فخركِ بي.

فُتح الباب فجأةً مما أجفلها، نظرت نحو الباب بعينان شابهما الاتساع، كان الشاب الذي ساعدها على الركوب في القطار، وبرفقته شابة جميلة أقصر منه، بشعر ذهبيٍ جميل وفستان وردي مع معطف بنفس اللون وقبعةٍ صغيرة بذات اللون أيضًا، فكرت إنها "فتاةٌ وردية"، العقد اللؤلؤي غالي الثمن كان يلمع، ابتسم الشاب لها، وقال:
- مرحبًا، يبدو أننا نلتقي ثانيةً.

ابتسمت ميرا بخفوت، هامسةً:
- أجل.

وضع الحقائب في موضعها المخصص فوق الكراسي، ثم جاور الشابة الوردية إلى النافذة فأصبح في مقابلة ميرا، وهذا أتاح لها فرصة اختلاس عدة نظرات له وهو شارد في الكتاب الذي يقرؤه، كان وسيمًا بحق، مع فك منحوت وبشرة بيضاء ناعمة، أنف حاد مستقيم وحاجبان كثيفان أسودان وعينان شابها البحر لونًا، وشعرٌ أسود مصفف بعناية، وبدا أن ميرا على وشك أن تقع في حبه وقوعًا مدويًا إن نظرت له ثانيةً، أما الفتاة الوردية فقد كانت بشعر ذهبي وبشرة بيضاء جميلة اكتسبت نمشًا خفيفًا زاد من جمالها، مع عينان زرقاوتين كخاصة الشاب، وقبل أن تقفز إلى تحليل أنهما إخوة أو شيئًا من هذا القبيل، هي فقط قررت أن تتشجع وتتحدث معهما:
- هل أنتما في طريقكما إلى يورك؟

رفع اشاب رأسه من كتابه، وقال:
- أجل، انتهت الإجازة ونحن عائدون من أجل بداية الدراسة.

- ولكن الدراسة بدئت في شهر أكتوبر بالفعل، هل موعد الدراسة يختلف في يورك؟

- كلا، ولكن في مؤسسة كالتاجيري الدراسة تبدأ رسميًا في نهاية نوفمبر.

تساءلت وقد اتسعت عيناها:

- هل أنتم أيضًا طلاب في مدرسة كالتاجيري؟

- أجل، هل أنتِ طالبة منتقلة فأنا لم أركِ هناك سابقًا.

- أجل، أنا ميرا ميلر لقد فزت حديثًا في اختبار مؤسسة كالتاجيري للمنحة التعليمية.

وكان واضحًا أن ميرا تتسم بالاعتزاز والكرامة فهي لم ترغب في تسميتها بالمنحة بالخيرية بل قالت التعليمية.

قالت الشابة باستغراب جلي:
- جدي طلب طالبةً أخرى؟ هل أنت متأكدة يا أنسة أنك فزتي؟

- أجل.

أخرجت ميرا ورقة قبولها في المدرسة وأعطتها لتلك "الفتاة الوردية"، فنظرت فيها بدهشة قبلما تسلمها لذلك الشاب الذي طالعها أيضًا بذات الدهشة، وذات السؤال كان يدوي في عقليهما ما الذي حدث في فترة غيابهم عن منزل كالتاجيري الكبير؟ مما دفع ميرا لتسأل بقلق:
- هل هناك خطب ما؟

نفى الشاب وهو يعيد إليها ورقتها:
- على الإطلاق يا أنسة، ولكن مؤسسة كالتاجيري تقبل طالب منحة واحد فحسب في السنة كونها قبلت اثنين فالأمر بدى صادمًا لنا.

مد يده نحوها، قائلًا:
- أدعى جافين كالتاجيري، وهذه خطيبتي الأنسة لوريل كالتاجيري.

أوبس! من الواضح أن حظ ميرا السيء ما يزال يرافقها مختبئًا في أمتعتها تقريبًا، وشعرت بأنها مجروحة وكأنها كانت حبيبته لخمس سنوات قبلما يقدم على خيانتها، ولكنها التقطت كفه المدودة لها برباطة جأش وابتسامة واسعة ولتدع البكاء عندما تصل إلى السكن، وقالت:
- لقد سررت بالتعرف عليكما كثيرًا، إنه شرفٌ عظيم التعرف على فردين من عائلة كالتاجيري العريقة.

تحدثت لوريل بمرح:
- لا تجعلي من الحبة قبة، هناك عائلاتٌ أعرق منا بكثير في مدرسة كالتاجيري.

قالت ميرا:
- ولكنه ما يزال شرفًا مع هذا.

مطت لوريل شفتيها، قائلةً بعدم اقتناع:
- أظن ذلك.

- هل أنتما أقرباء؟

أجاب جافين:
- أجل، نحن أبناء عمومة، من الشائع في عائلة كالتاجيري أن نتزوج من أقربائنا.

- لماذا؟

حك مؤخرة رقبته، قائلًا:
- حسنًا، دعينا نقول أمورٌ عائلية.

وشعرت هي بالحرج فقد سألت السؤال الخاطيء، بينما سألت لوريل:
- كم عمركِ.

- إنني في السابعة عشرة.

قالت لوريل التي بدت وكأنها تتنفس بحرية أخيرًا:
- نحن في الثامنة عشرة وأخيرًا سنتخرج.

ميرا:
- لا يسعني الانتظار حتى التخرج، مؤكدٌ أنه شعورٌ جميل.

- أكثر مما تتخيلي.

جافين:
- لوريل أصابها الملل من الدراسة منذ الصف الخامس، قد أكملت سنوات تعليمها كنوع من أنواع الفضول، ولكنها مع ذلك درست الإسبانية بجد لأنها تحبها.

- أنا أحب الألمانية كثيرا وأتحدثها أيضًا، في الواقع لم أذهب لمدارس من قبل، لقد تلقيت تعليمًا منزليًا.

جافين:
- مثير للاهتمام.

لوريل وقد بدا عليها الضيق:
- عائلة كالتاجيري لا تسمح بالتعليم المنزلي.

وبدا أن جافين شعر بالضيق وهو ينظر نحو لوريل بصمت لائم، ولكنها فقط أبعدت عيناها عنه بعدما واجهت نظراته بنظرات بريئة وكأنها لم تفعل شيئًا، ووضعت رأسها على كتفه لتنام، عم الصمت وأعادت ميرا رأسها إلى النافذة تتابع الطريق حتى غلبها النعاس، بينما عاد جافين لقراءته، ينظر إلى ساعة الجيب خاصته بين الحين والآخر، فأمر طلب جده لطالب منحة آخر مريب وهو يرغب في فهم ما حدث ولم يعلمه عندما كان يقضي الإجازة مع عائلته، فالسيد سبيستيان والد جافين والسيد لورينزو والد لوريل كلاهما يعيشان مع أسرهما في لندن بعيدًا عن المنزل الكبير، حيث يجدان الحرية في إدارة بيتهما بعيدًا عن أوامر السيد والسيدة كالتاجيري، ولكنهما مع هذا لم يتمكنا من الإفلات من تحكماتهما طويلًا حيث صدر القرار بتزويج جافين للوريل عندما يتخرجان من المدرسة مما دفعهما إلى أن تتم خطبتهما وهما في السابعة عشرة، ورغم أن الجد لويس كالتاجيري فعل هذا للحفاظ على أملاك العائلة لأن سبيستسان ولورينزو يمتلكان أملاكًا كثيرة، بالإضافة إلى كون لوريل وجافين مقربين منذ الطفولة وهذا قد يساعدهما على إنشاء حياةٍ زوجية مبنية على التفاهم، إلا أن جافين ولوريل لم يكونا راغبين على الإطلاق في هذه الزيجة، حيث كانت ترغب لوريل في الزواج من شاب كانت معجبةً به يكبرها سنًا، بينما كان جافين يرغب في الزواج من فتاةٍ يختارها قلبه لا فتاةٍ فرضت عليه، ولكنهما مع هذا لن يتمكنا من كسر هذه الرابطة التي باتت تجمعهما فلا عصيان للويس كالتاجيري.

☆☆☆
يورك:
يوركشاير:
منزل كالتاجيري الكبير:
رجل طويل تبدو من هيئته الخبث والتصميم، مع معطف طويل بني، يرفع ياقته ليغطي أذنيه من لفحة الصقيع، نظر نحو القصر الكبير القابع أمامه بهيبة، وابتسم حتى ظهرت التجاعيد حول فمه، ثم تقدم عابرًا البوابة الذهبية.

في الداخل، أبلغ كبير الخدم السيد لويس بأمر ضيفه الذي يقبع في بهو القصر بالأسفل، وتجهم وجه السيد لويس عندما علم بأمر ضيفه، وفسد صباحه، ثم هبط إلى أسفل وجهه يعتليه الضيق، ونظر نحو ضيفه الجالس على الطرسي في البهو من أعلى السلم بانزعاج، ثم أكمل سيره حتى دخل البهو، نهض الرجل ومد يده ليصافح لويس إلا أن لويس تخطاه نحو كرسيه الكبير والمذهب.

سحب الرجل يده وابتسم وابتلع إحراجه، ثم جلس على كرسيه، وقال:
- أنتم يا من تجلسون في القصور الذهبية لا تعرفون أصول اللباقة والضيافة.

أشعل لويس غليونه، وقال بانزعاج:
- قل ما جئت من أجله بن، لا تعطيني دروسًا في الأخلاق التي لست أهلًا لها.

وكان لويس كالتاجيري يفوز ثانيةً، لكن بن كان من سيضحك أخيرًا، وأخرج من معطفه صحيفة مطوية وملفوفة وألقاها عند قدمي لويس، فانفتحت على الصفحة الأولى التي كان يتصدرها خبرٌ عريض "من قتل فتاة المنحة الخيرية في مدرسة كالتاجيري؟".

نهاية الفصل.

ما رأيكم في الفصل الأول؟

ما توقعاتكم للقادم؟

الآن نعرف لماذا السيد لويس طلب طالبة منحة أخرى.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي