الفصل الاول

بداية عقدها الثاني ، مُهندمة ملابسها، ملامحها أعطت لها رونقًا خاصًا، شفتاها مُكتنزة، وجهها جميل وملائكي ناعم،قصيرة إلى حدًا ما، هيهات وتحولت معالم وجهها بالضيق والخوف في آن واحد
_يا فندم أنا قسم فن، مليش في دا خالص اعذرني، وبعدين حتى لو مامتي مش هتوافق.
نظر لها بعصبية، ونبرة لا تُحتمل النقاش قائلًا ولا يهمه أمرها
_بس دا لازم يحصل، مش هينفع حد غيرك يروح يا ياقوت، المهمة مش هتتنفذ إلا بيكِ
شهقت عدة شهقات متتالية، بصدمة استندت على أحد المقاعد الموجودة حولها، زفرت بضيق وامتعاض، فهو أمر وحُكم عليها تنفيذه، حتى وإن كان في غير صالحها، ثارت قائلة
_يعني كمان مش هيكون موجود حد معايا!
هز رأسه في هدوء بارد، بينما هي تستشيط واقفة
_دي مش مجرد مُهمة، دا مافيا وكبيير جدًا هو حضرتك واخدها ببساطة أوي كده ليه.
أجابها وهو يرفع نظره إليها، ثم جال بخاطره الخطة الذي فكر بها، ثم قص عليها ما ستفعله
كتمت شهقاتها بيديها وتنفست بقوة قائلة
_حضراتكم مش متخيلين المخاطر اللي ممكن تحصل لي وخاصةً اني بنت، لكن خلاص هو أمر واتحكم عليا فيه، فـَ تمام أنا همشي عشان أشوف هقنع مامتي ازاي.
هز رأسه عدة هزات مُتتالية مما جعلها تترك له المكان كله صافعة الباب خلفها بكل ما تحمله من غضب وغيظ في آن واحد..
****
في إحدى العمارات السكنية، تنزوي شقة في الدور الخامس، تتميز بالبساطة والجمال الهاديء.
قرعت الجرس مرتان وفي الثالثة، فتحت لها الباب سيدة في العقد الخامس من عُمرها، تتميز ببعض الخُصلات البيضاء الذي أخذت محلها على شعرها القصير، وبعضًا من التجاعيد البسيطة، وملامح الليونة على وجهها.
اقتربت على أقرب مِقعد وجلست عليه، ثم تنهدت بعض التنهيدات، فجلست تلك السيدة أمامها وقالت بفضولٍ
_مالك؟!
أقتضبت ملامح وشها عندما تذكرت ما حدث ووقوعها في الأمر الواقع التي لا ترغب فيه، ثم قالت وهي تُمهد لها الموضوع
_ماما، الصراحة أنا هتضطر إني أروح القاهرة وأسيب اسكندرية لِمُهمة ولو تمت هترقى فيها ثم صمتت لبُرهة وهي تنظر رد والدتها فهي تعلم تمام العلم أن موافقة والدتها شيء مُستحيل، أو ربما لعدم التعقيد شيء صعب للغاية.
أجابتها قائلة بإقتضاب ونبرة تحمل بين طياتها الضيق والإنفعال المُبطن
_لأ طبعًا مين قالك إني ناوية أستغنىٰ عنك، وبعدين من أمتىٰ وشُغلك بيخليكِ تتنقلي؟!
حاولت الفرار بأي إجابة مُقنعة ثم قالت في تسرع كي لا تُصعب الأمر على نفسها.
_ما هي مُهمة مُفاجأة، وأنا مطلوبة اني أكون فيها بالإسم ثم أكملت، وهكون في أمان متقلقيش قالت آخر كلماتها وهي تتمنىٰ أن يعم الأمان عليها بالفعل وليس بالقول.
أجابتها بعد تفكير جعلها تتوتر من ذلك الجو المشحون
_وأنا إيه يأكدلي يا ياقوت، انتِ عارفه انك أغلى ما ليا واني مليش غيرك من بعد ربنا، أنا مش شاكة في أي حاجه، أنا بس خايفة عليكِ لو شايفة أن روحتك دي مش هتقلقني فـَ مع سلامة الله لكن لو لأ، أرفضي مش هي اللِ هتغنينا!
فكرت في نفسها، فدومًا أمها تحمل ما فوق طاقتها، وكانت تعمل فقط من أجل تلبية احتياجاتها الدراسية والشخصية وكانت لا تبخل عليها أبدًا في أي شيء، ومن الآن فهي لن تسمح لأمها مرة آخرى بالعمل، فيكفي ذلك القدر من المشقة ولتنال بعضٌ من الراحة، وستأتي الراحة بعملها، وذلك العمل يعني لها الكثير ولن ترفض حتى وإن كانت ما ستفعله يجعل قلبها يخاف، وهي تريد أن ترد ولو القليل لأمها فقالت في هدوءٍ تام على عكس ذلك الطبول الذي تقرع بداخل رأسها
_متقلقيش يا ماما، كل حاجه متأمنة وكويسة بإذن الله، موافقتك بقىٰ يا ست الكُل عشان أكون مِتطمنة انك راضية عني قبل ما اروح أي مكان
نظرت إليها نظرة طويلة وكأنها ترسل لها بعضًا من نظرات الوداع، تُركز في ملامحها وتفاصيلها البسيطة ثم قامت من على المقعد الذي كانت تجلس عليه، وعانقتها بشدة ثم قالت
_موافقة يا حبيبتي، مع ان بُعدك عني هيتعبني أوي أنا عارفة
اهتزت جميع مشاعرها خلال ذلك العناق ومع آخر جُملة قالتها امها، أجابتها بسرعة البرق قائلة
_اوعي يا ماما، صحتك عندي أهم من الدنيا كُلها، وصدقيني هبقىٰ أكلمك
قالت في سكون وهي تبتعد
_تمام يا حبيبتي انتِ هتروحي امتىٰ؟
أجابتها وهي تضرب جبينها بيديها علامة على نسيانها
_لسه هسأل، استني
فتحت هاتفها ثم دونت الاسم، وقامت بالإتصال عليه، ما هي إلا ثوانٍ وآتاها الرد، قبل أن يتكلم هو قالت
_هروح امتىٰ؟!
أجابها "تامر" بسرعة وكأنه كان مُنتظر تلك المكالمة بلهفة كبيرة
_من بكره الصبح.
استشاطت غضبًا فكيف كل شيء سيمر بهذه السرعة، فبحق الجحيم أين العدل، أين!!
حاولت أن تُعدل في نبرة صوتها عسى أن تخرجها طبيعية وهي تقول
_تمام يافندم، سلام، هكون جاهزة بإذن الله
ثم أغلقت الهاتف وقامت بإخبار امها، امتعض وجهها بعد الشيء، وظهر على ملامح وجهها الخوف الذي لم تكن تتمكن مِن مُداراته، قامت بالرفض القاطع بعد أن علمت أن ابنتها سوف تبتعد عن أحضانها في الغد، لكن بعد الإلحاح المُستمر وافقت..
****
على الجانب الآخر يقف شاب في نهاية عقده الثاني، ينظر إلى تلك الوافقة من بعيد نظرة هائمة تحمل من بين طياتها الحُب المُغلف.
بدأت تلك الفتاة بالتهويش على وجهه لكي يستفيق من لحظة السرحان تلك!
خرج صوتها بنبرة رقيقة تأُثر القلوب، غير مُتعمدة أبدًا
_يا أمير هتوصلنا امتىٰ احنا كده اتأخرنا أوي
اجابها ببحته الرجولية المُميزة
_تعالي يا مريم انتِ وفاطمة ورايا
ثم استبقهم نحو السيارة
قالت فاطمة بضحك وهي تختلس النظر إلى أخيها الواقف أمام سيارته وإلى مريم الوقفة بجانبها..
_واضح أوي أن أمير من يوم ما انتِ جيتي وهو متغير أوي!
أجابتها مريم بعدم فهم وهي تسأل بفضول
_قصدك إيه؟!
بدأت بإسترجاع خُصلات شعرها إلى الخلف وهي تقول بتفكير.
_يعني من يوم ما انتِ جيتي مصر بقالك ٣ سنين أهوا معانا، وأمير متغير كده مش على بعضه خالص
أجابتها بتوتر وهي مازالت لا تعرف ما مقصد فاطمة من مغزى الموضوع ولكنها قالت بعد التفكير لبُرهة
_أنا مش فاهمه قصدك، ومش شايفه انه متغير ولا حاجه، وبعدين أمير انسان طيب من يوم ما بابا توفى وهو واخد باله مني.
كادت أن تُفهمها مقصدها بخُبث لكن أتاها صوت أخيها وهو يُنادي عليهما كي لا يتأخروا على جامعتهم.
ركبا في السيارة، وبعد نصف ساعة كانا قد وصلا إلى وجهتهم، ودعهم وأخبرهم أنه سيأتي ليرجعهم إلى المنزل إن سمح له الوقت، ثم ذهب إلى شركته.
*****
في إحدى المستشفيات كانت تجلس فتاة في نهاية عقدها الثاني، تمسك برأسها بألم فهي لم تتوقف عن العمل من وقت ما جاءت، كادت تخرج لتستأذن من مدير المستشفى انها ستذهب إلى بيتها، لكن قاطعها عدة طرقات على الباب فقالت
_اتفضل
دلف إليها شاب وهو واضع يديه على قلبه والدماء تسيل منه وقال وهو يحاول التحكم في نبرة صوته..
_ساعديني
أجابته وهي تتناول المُعدات بين يديها وهي تقول بعملية
_اقلع التيشيرت.
أجابها وهو ينظر إليها بتأني
_عادي كده
امتعض وجهها، ثم كست على وجهها حُمرة الخجل وهي تقول بضيق
_يافندم أنا دكتورة جراحة والمفروض أن دي مهنتي، ممكن تقلع التيشيرت يلا، عشان النزيف دا!
حاول أن يخلع قميصة تلك لكن كانت حركاته بطيئة بسبب تلك النغزات التي تأتي من قلبه فترهقه، تحسست بإنتفاضته وتغييرات تعابير وجهه انه غير قادر على خلعه فقامت بمساعدته وبدأت بتطهير ذلك الجرح، استنتجت أنه يمتلك قوة تحمل للغاية، لكن في نهاية التطهير ظهر تآوهه وهو يقول
_آه
أردفت وهي تنتهي من التعقيم كاملًا
_معلش، الجرح عميق
وما أن انتهت بدأت في كتابة الأدوية التي سيحتاجها
جلس أمامها وقالت وهو يأخذ الروشته المدون بها أسماء الأدوية
_شكرًا
أجابته وهي ترسم ابتسامة بسيطة على شفتيها
_الشكرلله، بس المفروض تلبس واقي يا حضرة الظابط، وأعطت له الكارنية التي بالكاد وقع منه بالخطأ.
هز رأسه عدة هزات مُتتالية ثم ذهب، خرجت وراءه بتعب وذهبت إلى غرفة المسئول وأخبرته أن لم يعد لديها أية حالات وستنهي يومها على ذلك القدر وذهبت إلى منزلها الذي يُخيم فيه الهدوء، فهي جالسة هنا وحدها وجميعهن "المقصود بمجميعهن هم أهلها" توفوا في حادث سيارة، دلفت إلى الحمام وبدأت بالإستحمام بمياة باردة بعض الشيء، ثم خرجت وأرتدت ملابسها وألقت بنفسها على سريرها
****
على جانب آخر يقف طبيب في بداية القبول على العقد الثالث من عمره، وهو يتلقي بعد الكلمات السامة بعدما قال لصديقه
_أنا بحبها
قال له وهو يوبخه غير عابيء بمشاعر صديقه
_أنت مجنون يا عز!، بتحب واحدة عندها كانسر وبين الحياة والموت!
ما أن جاءه كلمة الموت قال بغضب جامح وهو يقول لصديقه
_وفيها ايه لما أحبها أقول لقلبي لأ لمجرد انها تعبانه.
أردف وهو يحاول التمالك بأعصابه كي لا يزعج قلب صديقه، فهو كان يلاحظ مُعاملته لتلك الفتاة، كانت مُعاملة خاصة، عن باقي الحالات المُمسك بها، لكنه كان يُكذب نفسه نظرًا لأن عز انسان عاقل ولا يحتاج إلى التوعية، لكنه صُدم عندما أخبره انه يحبها، بل شك أنه قد ألقى عقله!
_هي مش تعبانة وبس هي حالتها متأخرة، متكذبش نفسك وتوهمها يا صاحبي، انت عاقل يا عز ومش محتاج لحد يوجهك للصح، غلط وجدًا، أنا مش بعاير مرضها، الحمدلله اننا بشر مُعافيين، لكن انك تعلق قلبك بحد انت مش ضامن وجوده دا غلط، ووجع قلب ليك في الاخر وانت مش مجرد صاحبي، انت اخويا.
ثم تركه ليستكمل عمله..
فكر فيما قاله له، جلس على أقرب مقعد قابله ووضع يديه على وجهه، تنهد بقوة وكأنه يحاول أن يخرج ما بداخل صدره على هيئة تنهيدة عميقة، فكيف سيبتعد عن حُبها ففكرة عدم وجودها في حياته عندما تخطر على باله يلقيها فورًا، ما ان تحقق ذلك، والمشكلة الكُبرى انه هو المسئول عن الحالة من البداية ولا يوجد تحسن ظاهر، شعر بمطر ينزل من عينيه فتملكته حالة من اليأس والحيرة، ما هذا أهذه دموع حقًا عليها! نعم فهي أول من دخل قلبه دون مجهود
اقتربت عدة خطوات منه، ثم وضعت يديها عليه وهي تقول بقلقٍ واضح
_عز
حاول أن يُظهر صوته طبيعيًا وهو يبتعد بنظره عنها وها قد مسح تلك الدموع التي فرت وقتما فكر فقط في فكرة الابتعاد، ثم نظر إليها قائلًا
_نعم يا سيليا
دققت النظر إليه ثم جلست على المقعد بجانبه وهي تقول بنبرة حزينة
_أنت زعلان من حاجه؟!
التفت بعينيه بعيدًا عنها وهو يقول بكذب
_ها، لأ هزعل ليه!
اكتفت بالصمت وهي تنظر إليه، حاولت الصمود أمام عينيه الحزينة لكنها لم تتمكن أبدًا، فقالت بعدم ارتياح لما هو عليه، كيف أن ينقلب حاله رأسًا على عقب خلال يوم واحد!
لن تقدر على الصمود أكثر من ذلك فقالت بتساؤل
_أنت كويس؟، ثم أكملت بمرح وهي تحاول أن تجعله سعيد، طيب بأمانه ينفع العيون العسلي دول يزعلوا! واللهِ عيب، وبعدين مادام انت زعلان كده هحكي اللي جوايا لمين!!
إبتسم وهو يعلم أنها تريد أن تجعله يبتسم ويخرج نفسه من تلك الحالة التي لم تعتاد عليها يومًا معه، فهو دائما يبث لها الطمأنينة والتفاؤل في أوقات ضعفها، ويعُينها على ما تحمله من الآلام.
_دي بقىٰ حالة غزل جديدة، واضح انك بتركزي في عيوني كتير.
أجابته بخجل واضح واستنكار لما يقول وهي تبتعد في النظر عنه
_مين قالك كده، أنا هقوم بقى مش عاوز حاجه، سلام.
ثم ذهبت لغرفتها الموجودة في العيادة.
ابتسم على تهربها ذلك ثم ذهب لغرفة الإشاعات لكي يعرف ما هي نتيجتها!
****
نظرت لأبيها وهي في حالة أشبه بالجنون لما يقوله.
_نعم يا بابا، عاوزني اتجوز ابن عمي المتحكم المعقد الشكاك دا، وبعدين مين قال اني هوافق أصلًا، دا ممكن يضربني وهو مش في وعيه، وبعدين ما بين مليارات الشباب هتجوزني دا.
امتعض وجهه لما تقوله ابنته، فلأول مرة تتحدث بعصبية ومع من، مع والدها هل ستعرف ما هو الأفضل لها اكثر منه يا تُرى؟!
أجن جنونها أم أنها مازالت في حالة من الطيش وعدم النضج الكافي، قال بنبرة حازمة.
_بتعايري طِباعه يعني!.
استدرجت نفسها ثم قالت وهي تحاول تبرير موقفها، وتنقل ابيها إلى صفها.
_لأ واللهِ يا بابا أن مش قد اني أعاير حد في حاجه، بس دا مش طبيعي بيتعصب من أقل حاجه، وبعدين انا بخاف منه اصلًا، اقوم اتجوزه!!
هز رأسه ثم تركها وخرج، ودلفت هي إلى غرفتها وصفعت الباب خلفها بعصبية جامحة، فكيف أن يقرروا مكانها في مثل ذلك الموضوع !
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي