عوالم موازية

دعاء`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-07-17ضع على الرف
  • 3.1K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

عناء اليقظة

انتهت نورة من عدّ جميع الخرفان المتسلقة على السور، في محاولة بائسة لاستعادة مقدرتها على النوم مجدداً. أرادت أن تشغل تفكيرها بشكل تلك الخرفان، لون فرائها، وحجم صغارها الذين وجدوا طريقاً لهم تحت الحواجز الخشبية. أرادت أن تنسج قصصاً عن مستقبل تلك الصغار، ومصير الخراف الكبيرة المكتنزة باللحم والفراء، لكن عقلها لم يسعفها في ذلك. لقد فرض سطوته على خيالها، ولم يقدّم لها إلاّ صور الحقيقة الماثلة والممددة بجوارها. أراد أن يحثّها على نزع الغطاء الذي طمرت نفسها به، لكنّها قاومته بشدّة. فكرت بأنّها تعيش كابوساً طويلاً من وحي عقلها الباطن، لكنّ تفاصيله كانت محكمة البناء على نحو مربك للغاية، فقد كان بإمكانها أن تشمّ رائحة شعر الفتاة المستلقية بجانبها، وتحسّ بأطراف شعرها المتناثر على الوسادة، وتستمع إلى صوت أنفاسها المتقطعة، وتشعر بثقل جسدها على السرير. لم يكن لديها الجرأة الكافية لتنظر إلى ملامح وجهها، فقد كانت فكرة وجود شخصٍ غريب مستلقٍ بجوارها أمراً مخيفاً بما فيه الكفاية. أرادت نورة أن تتوقف عن التفكير. رددت مراراً وهي تضع يدها على أذنها:
- إنني أحلم.. إنني أحلم..
أحسّت ببرودة العرق المنساب على جبينها، لكنّها رفضت أن تحيل ردة الفعل هذه إلى أسبابها المنطقية، وواصلت كتم أنفاسها على أمل أن يتوقف الأكسجين عن الصعود إلى عقلها، وتكفّ عن التفكير والمقاومة، لكنّ اليد التي أخذت تتسلل ببطء بالقرب من الغطاء دفعتها لإطلاق أنفاسها المحبوسة. شهقت بقوّة، ورفعت كوع ذراعها لتحمي رأسها من أيّ هجوم.
شعرت باليد وهي تزيح الغطاء من فوقها على نحوٍ تدريجي، وتسلل وهج أشعة الغرفة الليلية إلى عينيها المغمضتين. كانت الفتاة تقترب منها شيئاً فشيئاً، حتى شعرت بظلّ جسدها وهو يغطيها من الأعلى. أمسكت الفتاة ذراعها بقوة، فأطلقت نورة صرخة مكتومة. شعرت بأن صوتها قد اختفى فجأة، ولم يكن في الجوار أحدٌ ليسمعها، أو لينقذها مما هي فيه. بدأت اليد بالتقدم نحو رأسها، وتحسست شعرها الأسود بحرصٍ شديد، ثمّ أمسكت بمقدمة الذراع، وحاولت أن تزيحها باتجاهها، وتفضّ الاشتباك الذي حوّط وجه نورة، لكنّها كانت منيعة جداً، وقاومت أيّ محاولة لمواجهة ذلك المجهول المتحرك بجانبها، وفجأة اعتلت الفتاة جسدها لتنتقل إلى الجانب الآخر، وجلست القرفصاء أمام وجهها. توقفت الفتاة عن الحركة للحظات. ثمّ، وبحركة سريعة وقوية، أزاحت ذراع نورة عن وجهها، وفي نفس اللحظة، أطلقت الفتاة صرخة عالية وخائفة كما لو أنّها رأت شيئاً صادماً أمامها. أثارت ردة الفعل تلك تساؤل نورة، فتلك الفتاة بدت مذعورة مثلها. كان صدرها يعلو ويهبط بسرعة، وأحست بارتجاف أطرافها وهي لا تزال مغمضة العينين، شعرت بالأمان من فكرة أنّها لم تكن مستفردة بالخوف لوحدها، وحاولت أن تفتح عينيها بحذر، ومع ارتفاع جفنيها إلى المنتصف كانت ملامح تلك الفتاة قد تجلّت أمامها بوضوح.
لم تكن تلك الفتاة سوى انعكاس صورتها على المرآة.. نفس العينين السوداوين والواسعتين. نفس الحاجبين الكثيفين في المقدمة، والمرتفعين عند الصدغ، والشامة على الخد الأيمن، والأنف المستقيم إلى أن يصل لنهايته المدببة، والوجنتين الممتلئتين، الشفاه الرفيعة داكنة اللون، بشرتها السمراء اللامعة.. جميع تفاصيلها كانت منعكسة أمامها على هيئة حية، تتنفس وترمش وتصرخ..
كانت تلك الحقيقة أكبر من أن يحتملها جسد نورة المرهق، فسقطت على وسادتها مغمى عليها.
*
تعالت الأنغام الصادرة عن نظام التنبيه الصباحي، ثمّ تابع النظام مهمته اليومية بفتح الستائر وتسخين القهوة والحليب، وملء حوض الإستحمام بالمياه الساخنة والرغوة، وانبعثت رائحة البخور الممتزج بالعطور الفرنسية عبر منافذ تهوية الغرفة، ثمّ بدأ النظام بتكرار ندائه المعتاد ليوقظ نورة من نومها العميق:
- صباح الخير.. صباح السعادة.. صباح الأمل.. صباح الحب.. صبـ...
ضغطت نورة على زر الإغلاق المثبت على حافة السرير، وبحركة تلقائية ضغطت على زرّ المساعد الرقمي، فانفتحت الشاشة التي تصدّرت الجدار المقابل لها، وبدأ المساعد بالحديث:
- عدد الرسائل الواردة: أربع رسائل..
رسالة نصية من (العم ماجد)، الساعة العاشرة مساء: فكري في الأمر مرة أخرى، أنتظر ردك..
رسالة صوتية من (مريم / العمل)، الساعة السابعة صباحاً: صباح الخير يا نورة الغندورة، سوف يجتمع بنا المدير اليوم، لا تتأخري.
رسالة صوتية من (محمد ابن العم ماجد)، الساعة الثامنة والنصف صباحاً: هل تتجاهلينني؟
رسالة مرئية من مجموعة (جلسات الدعم النفسية / فئة الاكتئاب)، الساعة التاسعة صباحاً...
ثم تحدث المساعد:
- هل ترغبين بفتح الفيديو؟
أجابت نورة:
- كلّا.
بدأ المساعد الرقمي باستعراض الإشعارات الصادرة من مواقع التواصل الاجتماعي، لكن نورة أمرته بالتوقف، وقالت:
- افتح كاميرات المنزل والكاميرا الخارجية.
استعرضت الشاشة صور الغرف الأربع، والساحة الخارجية للمنزل، وأخذت نورة تحدّق فيها بعناية، وعندما وقعت عيناها على غرفة المعيشة، وجدت نفس الفتاة التي رأتها بالأمس. كانت تجلس أمام شاشة العرض التفاعلية، وتضع كتاباً بيدها، تنظر حيناً إلى الشاشة، وحيناً آخر إلى الكتاب..
- يا إلهي! لن ينتهي هذا الكابوس أبداً؟!
غادرت فراشها وهي ترفع شعرها المنسدل إلى الأعلى، وفي طريقها أخذت مظلة شمسية من خلف الباب، وحملتها بوضعية مائلة على صدرها، شبيهة بتلك التي يتخذها الجندي عندما يتأهب للمعركة، وبخطى بطيئة وحذرة، دخلت إلى غرفة المعيشة، ومشت بمحاذاة الجدار حتى وصلت إلى المكان الذي تجلس فيه الفتاة، لكن الدخيلة لم تلق بالاً لوجودها، ولم تلتفت لتنظر إليها.
بادرتها نورة بالحديث:
- من أنتِ؟ وماذا تفعلين هنا؟
أجابتها:
- أنت من؟ ومن هذا المكان؟ ومن هذا الشيء؟
- ما هذه اللغة؟ أجيبيني بكلام مفهوم، ولا تماطلي بالحديث معي، من أنتِ؟
قالت الفتاة بنبرة حائرة:
- كلام أنا.. أنت لا..
- الرحمة! سوف تصيبينني بالجنون، ماذا تفعلين في منزلي؟
- أنا.. منزلي..
- لا فائدة من الحديث معك، سأستدعي الشرطة... يا (ساعد).. اتصل على 999.
لم تكن الفتاة تدرك معنى ذلك، لكنّها أحست بنبرة التهديد والغضب الواضحة في صوت نورة، وعندما بدأ (ساعد) بإجراء الاتصال، صرخت بصوتٍ عالٍ:
- توقف..
فأجاب (ساعد):
- تم إنهاء المكالمة.
أصيبت نورة بالدهشة، فالمساعد الرقمي لا يستجيب إلّا لبصمتها الصوتية، وتذكرت أنّ دخول أيّ شخصٍ إلى المنزل دون إذنها أمرٌ مستحيل أيضاً، فالنظام الأمني متربطٌ ببصمة عينها، ولا يسمح لأحدٍ بفتح الأقفال الممغنطة إلّا لو أعطته الإذن بذلك. لم يكن شكل هذه الفتاة مختلفاً عنها في شيء، لكنّها كانت غريبة بكلّ شيء آخر، فلغتها الركيكة، وملابسها الغريبة المصنوعة من مادة لامعة، والحقيبة المعقودة على خصرها، والطريقة السريعة التي كانت تنظر فيها إلى كل ما يحيط بها، كلّ تلك الأشياء جعلتها تحتاط باتخاذ أيّ خطوة باتجاهها. فكرت بأنّها قد تكون قادمة من المستقبل لتحذرها من أمرٍ ما، لكنّها استبعدت هذا الاحتمال، فالقادمون من المستقبل يعرفون اللغة التي كانوا يتحدثونها سابقاً، كما أنّ وجهها وجسدها يُظهر أنّها لم تتقدم في السن، والسفر عبر الزمن يقتضي أن يحتفظ الإنسان بنفس صفاته البيولوجية.
داهمها صوت (ساعد) فجأة، وقطع حبل أفكارها:
- اتصال وارد من (مريم / العمل).. اتصال وراد من (مريم / العمل)..
- أجب..
- نورة! أين أنتِ؟ سوف يبدأ الاجتماع بعد قليل!
- أوه.. أنا لست على ما يرام.. لن أتمكّن من الحضور اليوم..
- لكن هذه المرة العاشرة التي تتغيبين فيها عن العمل هذا الشهر! لدينا الكثير من العمل لننجزه اليوم، لقد انقطع التيار الكهربائي مساء أمس، ولدينا آلاف الشكاوى لنجيب عليها..
- الأمر ليس بيدي، قومي بتحويل الجزء الخاص بي من الشكاوى، وسأطلب من (ساعد) أن يجيب عليها بالرد الذي اعتمده المدير..
قالت ذلك وهي تغلق شاشة العرض بواسطة جهاز التحكم. نظرت الدخيلة إلى الشاشة السوداء نظرة واحدة خاطفة، ثمّ واصلت تقليبها السريع لصفحات الكتاب الذي كانت تمسكه.
خلال تلك الأثناء كانت مريم تتابع حديثها قائلة:
- لا فائدة منك، ألا ترين بأنّك لا تزالين محتفظة بنفس الدرجة الوظيفية المتدنية التي بدأتِ العمل بها منذ ست سنوات، وكلّ هذا بسبب غيابك المتكرر، وتخلّفك عن حضور جلسات الدعم النفسي التي فرضتها عليك مبعوثة وزارة السعادة؟! لقد التقيت بكِ منذ عامين، وتقدمت عليك بثلاث درجات، ألا تشعرين بالغيرة والتنافس أبداً!
نظرت نورة حولها بعدم اكتراث، وذهبت إلى غرفتها لتأخذ حصّتها الصباحية من الدواء:
- لقد أوصاني طبيبي النفسي بألّا ألتفت إلى المنغصّات.. روتين العمل القاتل، والاستماع لشكاوى مرضى الاكتئاب، أكبر منغصّاتٍ يمكن أن أواجهها حالياً..
التقطت حبة من علب الدواء المبعثرة على المنضدة، وابتلعتها دون ماء..
فتحت مريم الكاميرا، وخرجت صورتها الغاضبة من شاشة غرفة النوم، وأخذت تضرب فوهة الكاميرا براحة يدها، وتقول بصوت منخفض:
- هل تستمعين إلى نفسكِ وأنت تقولين هذا يا نورة؟! متى كانت آخر مرة زرت فيها طبيبك النفسي؟ أجيبيني..
علّق ساعد:
- (مريم / العمل) تطلب منك الإذن بفتح الكاميرا، هل توافقين على ذلك؟
- كلّا..
ثمّ عادت إلى المكالمة وقالت:
- ماذا تريدين مني يا مريم؟ حتى وإن ذهبت إلى العمل كلّ يوم، وادّعيت أن الحياة سوف تتحسن مع مرور الوقت، فلن يغيّر ذلك شيئاً. أنا عالقة في سجن أسود، والسجن داخله سجن، وداخل ذلك السجن سجن، سجون بألف قفل وقفل، والسجّان أضاع مفاتيحها جميعاً..
- توقفي عن تبرير فشلك، كلّ ما أسمعه منك هو الأعذار الواهية، واقتباسات الكتب الكئيبة التي تقرئينها، أفيقي يا نورة، تعالي إلى العمل، سوف يبدأ الاجتماع..
أغلقت نورة شاشة المساعد الرقمي من لوحة التحكم، واختفت صورة مريم وصوتها، وقالت بنبرة ساخرة متجهمة:
- يا لكِ من متملقة مهووسة بالعمل!
كانت الدخيلة لا تزال جالسة أمام الشاشة في وضعيتها الغريبة المنغمسة بالحركات السريعة والنظرات الخاطفة. عادت نورة إلى غرفة الجلوس لتراقبها عن قرب، واكتشفت بأنّها قد التقطت ثلاثة كتبٍ أخرى من المكتبة. أنهت تصفّح كتابين من الوزن الثقيل، وتركتهما مشرعين على الأرض، وقد طوت الصفحات المكشوفة، ومزّقت بضع صفحات لتعود إليها لاحقاً.
صرخت نورة بغضب:
- لا تمزّقي كتبي أيّتها المجنونة..
والتقطت جميع الكتب والصفحات الممزقة، وأخذت تعيدها إلى مكانها في داخل الكتب، وعندما رفعت يدها لتضع الكتاب في المكتبة، سقطت بقية الكتب التي كانت تحملها على الأرض، فلاحظت الدخيلة أنّ يد نورة كانت ترتجف بشدة، فقامت من مكانها، ووقفت بجانبها، ثمّ قرّبت يدها اليمنى من يد نورة، ويدها اليسرى من رأسها. أمسكت معصم يدها برفق، وضغطت بأصابعها على باطن اليد بحركات لطيفة ومتناسقة، وبأصابع اليد اليسرى دلّكت بقعة محددة في رأسها، واستمرت بتكرار حركاتها وسط استسلام نورة التام لها. كانت الأخيرة تنظر إليها بحيرة وترقب، وسرعان ما أفلتت يدها، ورفعتها أمام عينيها لتكتشف بأنّها قد توقفت عن الارتعاش.
قالت لها بصوت منخفض:
- ماذا تكونين؟
وبدلاً من أن تجيبها، مرّرت الدخيلة أصابعها على وجه نورة، وبدأت تتحسّس عينيها وأنفها وفمها ببطء. شعرت نورة بالقشعريرة، لكنّها بقيت مستسلمة لها. توقعت بأنّها تقوم بفعل ذلك لسبب ما، لكن عندما وصلت أصابع الفتاة إلى عنقها، وبدأت بالنزول إلى الأسفل، رفعت يدها بسرعة لتبعدها عنها، وقالت لها:
- توقفي! ماذا تفعلين؟
كانت الفتاة مندهشة من غضب نورة المفاجئ، ولكنّها أشارت إلى صدرها وخصرها لتنبهها إلى فرق الحجم الذي كان بينهما.
استعادت نورة هدوءها وقالت:
- حسناً، من الجيد أن يكون هناك فرق بيننا، لكن لم يكن عليك أن تتحسسي جسدي لتتأكدي من ذلك، فمن الواضح أن الطبيعة قد منحتني تفوقاً جسدياً.. أو أيّاً كان..
نظرت الفتاة إلى قدمي نورة باهتمام، ثمّ نزعت حذاءها اللامع الثقيل، لتكشف عن أصابعها. برزت من مقدمة قدمها أربعة نتوءات سمينة، كانت شبيهة بالأصابع على نحو ما، غير أنّها كانت قصيرة وبلا أظافر.
شعرت نورة بالتقزز من النظر إلى تلك القدم الغريبة، فأشاحت وجهها وطلبت منها أن تعيد ارتداء حذائها. قالت:
- وهذا أمرٌ آخر أتفوق به عليك.
أرادت الفتاة أن تستعيد الكتب الملقاة على الأرض، فأمسكت نورة يدها وقالت بكلمات مختصرة وعالية النبرة:
- لا.. تمزّقي.. الصفحات.. مفهوم؟
هزّت الفتاة رأسها.
- ولا تطوي الصفحات أيضاً، إنّ ذلك يستفزني..
التقطت الفتاة الكتب، وأخرجت من حقيبتها عبوة زرقاء اللون، وفتحت أحد الكتب، وأخرجت صفحة ممزقة منه، ثمّ ضغطت على العلبة ليخرج منها سائل شفاف اللون، دهنت حافة الصفحة بالسائل، وفتحت الكتاب على موضع الصفحة، ثمّ ألصقتها به.
- كلّا.. لا تفعلي ذلك! سوف تلتصق الصفحات ببعضها!
رفعت الفتاة الكتاب لتنظر إليه نورة، فأمسكت به، ونظرت إلى موضع التمزّق عن قرب.
شعرت نورة بالذهول، وأخذت تقلّب الصفحة يميناً ويساراً، قبل أن تقول:
- كيف فعلتِ ذلك؟ لا يوجد أيّ أثر للتمزق، لقد عادت الصفحة جديدة تماماً كما لو أنّها قد خرجت من المطبعة للتو!
ثمّ نظرت إلى الفتاة بعينين متسعتين وقالت:
- من أيّ عالمٍ جئتِ؟
رسمت الفتاة ابتسامة خفيفة على وجهها، ثمّ تلاشت الابتسامة سريعاً، وعادت ملامحها إلى حالتها الجادة. جلست على الوسادة الملقية على الأرض، ثمّ أشارت بيدها إلى شاشة العرض التفاعلية، ففهمت نورة مقصدها، وقامت بإعادة تشغيلها، ثمّ نظرت إلى الفتاة وسألتها:
- هل هناك شيء محدد ترغبين بمشاهدته؟
أومأت الفتاة برأسها.
- حسناً، (نافذة دبي) ستفي بالغرض، لا تغادري مكانك، ولا تعبثي بحاجياتي، هناك شيء يجب أن أفعله قبل أن أبحث في أمرك.
ذهبت نورة إلى غرفتها، وأعادت تفعيل نظام المساعد الرقمي، ثمّ تمددت على سريرها. كانت ترغب بالنوم، فقد بدأ مفعول الدواء بالضغط على أعصابها المتعبة، لكنّ الفكرة التي برأسها لم تكن لتنتظر أكثر.
انطلق صوت (ساعد):
- الرسائل الواردة ثلاثة رسائل..
قاطعته نورة:
- توقف.. افتح كاميرا غرفة الجلوس في الجانب الأيمن من الشاشة، وفي الجانب الأيسر افتح تطبيق الرسائل الرسمية وابدأ بالكتابة خلفي..
قام المساعد الرقمي بالاستجابة لأوامر صاحبته، وبعد فتح تطبيق الرسائل الرقمية، أنشأ رسالة جديدة، ثمّ قال:
- يرجى تحديد المستلم
- سعاد جاسم
ردّ (ساعد):
- يرجى تحديد موضوع الرسالة
- طلب الموافقة على منح الموظفة نورة عبدالله إذناً بالعمل عن بعد
- يرجى التحدث بنص الرسالة..
- السيدة سعاد جاسم المحترمة، تحية طيبة وبعد،
بناء على نتائج التقرير الطبيّ المرفق لدى عنايتكم أتقدّم بطلب إذن رسميّ بالسماح لي بالعمل عن بعد، فقد أثّرت ضغوط العمل على تراجع حالتي النفسية، ولن أحقق أهداف العمل المطلوبة منّي لو استمر الحال على ما هو عليه، وخلال فترة عملي في المنزل سيتوفر لي الوقت اللازم للالتحاق بجلسات الدعم النفسي التي أوصتني بها وزارة السعادة، وستقوم المندوبة بإرسال التقارير الدورية التي تثبت التزامي ومواظبتي على حضور الجلسات، راجية أن يتمّ أخذ طلبي في عين الاعتبار والاهتمام.
مع خالص الشكر والتقدير،
نورة عبدالله.
وزارة الكهرباء والماء.
ثم أردفت:
- أرسل
- المرفق مفقود، هل تريدين المتابعة بإرسال الرسالة؟
- كلّا، قم بإرفاق التقرير الطبي الذي أرسله لي الدكتور صبحي العام الماضي في شهر ديسمبر..
- تم إرفاق التقرير الطبي المحدد.. وتم إرسال الرسالة إلى (سعاد جاسم)..
- حسناً، سوف أنام بضع دقائق، لا تقم بتنبيهي في حال وصول أيّ رسالة، أو في حال تلقيّ أيّ مكالمة جديدة..
- أحلام سعيدة آنسة نورة..
- اصمت يا ساعد..
وضعت نورة رأسها على الوسادة، وغطت جسدها ورأسها بلحاف السرير. كانت تلك هي الحالة الوحيدة التي تشعرها بالراحة، عندما يكون الظلام هو الشيء الوحيد الذي تراه حين تفتح عينيها أو تغمضهما. أحست فجأة بدخول الفتاة إلى الغرفة، ثمّ بيدها وهي تهزّ كتفها بقوة. صرخت بها:
- ماذا تريدين! ألّا ترين أنني نائمة؟
أشارت الفتاة إلى الباب المؤدي إلى غرفة الجلوس، وقالت:
- انظري.. الشاشة.. رجل..
رفعت نورة رأسها إلى شاشة المساعد الرقمي، وألقت نظرة على كاميرا غرفة الجلوس. كانت شاشة الغرفة تعرض مؤتمراً صحفياً، وكان هناك رجلٌ يتحدّث أمام جمعٍ كبير من الحضور وكبار الشخصيات..
- ألم تري رجلاً من قبل؟ هنيئاً لكِ، هيّا.. اذهبي إلى الغرفة واملئي ناظريك به.. اتركيني أنام.. اذهبي هيّا..
وقفت الفتاة في مكانها لبعض الوقت، ثمّ عادت إلى الغرفة، وتركت نورة وهي تهذي تحت غطائها:
- .. كان وحيداً.. يفتقد عائلته... يفتقدها كثيراً..
  *
استيقظت نورة على نداء النظام الأمني:
- زائرٌ جديد.. زائرٌ جديد..
وأخذت تندب اللحظة التي لم تقم فيها بشراء الإصدار الجديد من النظام، ذلك الذي يخوّل صاحبه معرفة هوية الزائر فور وقوفه على عتبة المنزل. لملمت خصلات شعرها سريعاً ووضعت على نفسها عباءة مرتبطة بحجاب سهل الارتداء، وسارت نحو الممر، نصف مغمضة، ونصف مترنّحة، ثمّ نظرت إلى الشاشة المجاورة للباب، ورأت صورة الزائر الجديد، ترددت كثيراً قبل أن تفتح الباب، لكنّ النداء لم يتوقف عن تكرار نفسه، وشعرت برغبة في كسره وإلقائه في القمامة، لكنّها انتبهت إلى فكرة جديدة، فكرة فسرت لها جميع الأسئلة التي كانت تطرحها على نفسها.
فتحت الباب فقابلها محمد بجبين مقطب وحاجبٍ معقود..
- لماذا لم تجيبي على رسائلي؟ وما هذه الخرقة المجعدة التي ترتدينها؟
- أيّها الوغد!
- ماذا؟! ماذا فعلت لك؟! لو كان هناك شخص يستحق اللوم فهو أنتِ..
- أيّها المهووس المريض..
- توقفي عن شتمي.. إنني أحذرك..
ثمّ نظر إليها من وراء عدسة نظارته بعينٍين ثابتتين، وقال:
- لابدّ أنّك قد فقدتِ عقلك، هل تتناولين الأدوية التي أرسلها لكِ؟
- كيف تجرؤ على استنساخي أيّها المريض؟
- استنساخك؟
- لقد أخبرتني بهذا سابقاً.. قلت بالحرف الواحد: لو أن هناك اثنتين منكِ، لأصبح العالم جنّة لا توصف..
ثمّ رفعت أصبعها نحوه، ولاحظت بأنّ يدها قد عادت للارتجاف مجدداً..
- هل تظن أنّك لو استحدثت نسخة غبية مني فإنّها سوف توافق على الزواج منك؟ ليس هذا فحسب، بل جعلت قدميها بلا أصابع حتى لا تتحرك إلى ما هو أبعد من منزلك وتهرب منك، جعلتها غير قادرة على التحدث حتى توافق على كلّ السخافات التي تنطق بها، وتخضع لك، ولأنّ تلك المسكينة لم تر رجلاً من قبل في حياتها، فستكون أنت أول رجلٍ تكتشفه وتتعلق به، والأدهى من ذلك والأكثر خبثاً وشراً، أنّك قد أعطيتها نفس بصماتي، حتى تصدّق على عقد بيع منزل والدي، ولكن هيهات، هيهات يا ابن عمي..
- أنا لم أقم باستنساخك، ولم أفكر مطلقاً في ذلك! يا له من جنون أن تختلقي كلّ هذه الحجج حتى تمتنعين عن الزواج مني!
أشارت نورة إلى غرفة الجلوس، وقالت:
- ماهذه إذاً؟ ها؟
تقدّم محمد بخطواته إلى الممر، ونظر إلى الغرفة الغارقة بالفوضى. أطعمة مكشوفة على الطاولة. علبٌ مفتوحة وملقاة على الأرض. ثلاث وسائد منتثرة على نحو عشوائي. محارم ورقية متسخة، والكثير من الأوساخ المجتمعة على هيئة شعر متساقط، وأظافر مقضومة، ونثرات من جزيئات الغبار المتراكمة منذ أيام. وصل إلى منتصف الغرفة، وضغط على عدسة نظارته، ثمّ التفت إليها وقال باشمئزاز:
- لا أرى سوى القذارة في هذا المكان..
تركت نورة باب المنزل مفتوحاً، وتبعته بسرعة. نظرت إلى الوسادة التي جلست عليها الفتاة، والتفت برأسها في كلّ اتجاه، ثمّ مشت سريعاً إلى المطبخ، ولم تجد شبيهتها تحت الطاولة، ولا داخل خزانة غرفة النوم، ولا خلف الباب المعتم لدورة المياه..
عادت إلى غرفة الجلوس وهي تلهث منقطعة الأنفاس، وأطرافها ترتجف بلا توقف.
- لكنّها كانت هنا.. كانت تمزّق صفحات الكتاب..
ثمّ نظرت إلى المكتبة ووجدت أن كلّ الكتب قد عادت إلى مكانها بحالتها السليمة. واصلت حديثها:
- كانت تنظر إلى هذه الشاشة طوال الوقت.. إلى نافذة دبي.. أجل نافذة دبي..
نظر محمد إلى الشاشة، ووجدها مفتوحة على نافذة رأس الخيمة، ثمّ نظر إلى نورة بحدّة.
- هل تهزئين بي؟
- كلّا، لقد كانت هنا، أقسم برحمة والدي، لقد نزعت حذاءها في هذه البقعة بالتحديد، هنا.. وكانت بلا أصابع ولا أظافر.. لقد وضعت أصابعها على يدي ورأسي، وتوقفت أصابعي عن الارتعاش..
نظر محمد إلى أطرافها المنتفضة وقال:
- متى كانت آخر مرة تناولتِ فيها الدواء؟
- ما علاقة هذا بالأمر؟ إنني أقول لك أنّ هناك فتاة تنتحل شخصيتي.. وتقول بأنّ هذا المنزل منزلها.. تريدُ أن تسلبني كلّ ما أملك!
- متآمرة جديدة.. حسناً..
- أنت.. أنت من أخذتها.. لقد تأخرتُ عندما فتحتُ لك الباب، لابد أنّها قد سبقتني إليك، وأخفيتها بسيارتك.. دعني أرى..
أمسكها محمد من ذراعها، فسحبتها من قبضته سريعاً، وقالت:
- إليك عني..
ردّ عليها بغضب:
- لقد سئمت من هلوساتك المستمرة، في الأسبوع الماضي جئتِ إلى منزلنا وركضتِ نحو عمك وأخذت تنادينه: بابا، سامحني يا بابا... هل بدأتِ تشعرين بالندم على قتل والدك؟ أتفهم ذلك.. جميع أفراد العائلة يشفقون عليك، لكن ما قصة هذه الشبيهة؟ هل تريدين أن تعيشي قصة لم يكن لكِ أيّ ذنبٍ فيها، قصة تكونين فيها الضحية لا الجانية القاتلة؟
- تباً لك، كيف تقول بأنني قتلت والدي! كيف تجرؤ؟
- ألا أقول الحقيقة؟
وقفت نورة فاغرة الفم. لم تستطع الردّ على كلماته، فقد واجهها بأكبر مخاوفها وأحزانها. وجدت نفسها أمام صوتٍ جادّ يردد عليها ما كانت تمنع نفسها من التفكير فيه لسنوات عديدة.
- أيّها الوغد.. لم أكن أعرف سبب كرهي لك، لكنني تأكدت الآن.. أخرج.. أخرج هيا..
دفعت نورة ظهر محمد بكلتا يديها، وأخرجته من الباب، وبعد تأكدها من صعوده إلى سيارته التي لم يكن فيها أحد غيره، أغلقت الأبواب الداخلية والخارجية ببصمة عينيها، ثمّ ذهبت لتغتسل.
بعد نصف ساعة، كان هناك حبلٌ معقود متدلٍ من سطح الغرفة، وكان مشغّل الوسائط القديم الخاص بعبدالله يصدّح بمرثية:
- بروحي من تذوب عليه روحي..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي