أسطورة العشق والانتقام

رحاب القلم`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-06-26ضع على الرف
  • 61.7K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

قضية الأسطورة

داخل مديرية الأمن وخاصة بمكتب اللواء طلعت محمود، قد اجتمع العديد من الضباط ذوي الرتب والمناصب المختلفة حول طاولة الاجتماعات يتناقشون في أمر هام وخطير للغاية، وقد كان اللواء في قمة غضبه وهو يصيح في الجميع بعد ان طرق بيده على الطاولة امامه بعنف ليجفل جميل الحاضرين: هذا يسمى تهريجا يا سادة، حتى الآن لا نملك اي دليل ملموس يشير إلى إدانة أحدهم في الواقعتين، لقد بدأ ينقلب الرأي العام علينا وكذلك الصحف، فمقتل اثنين من أهم رجال الأعمال في البلد على يد نفس الشخص ليس بالأمر الهين ونحن حتى الآن لم نتقدم خطوة واحدة في القضيتين.
تحدث أحد الضباط والذي قد واتته الشجاعة قليلا ليواجه غضب رئيسه: يبدو أنه مجرم محترف يا سيدي حيث لم يترك أي دليل خلف يدل على شخصيته سوى الورقة الصغيرة التي لا تحمل سوى كلمة واحدة وهي الأسطورة.
ومجددا يطرق اللواء بقبضته بعنف على الطاولة ليرتجف الجميع ليوبخ ذلك الضابط قائلا: يبدو ان سنوات دراستك في كلية الشرطة قد ضاعت هباء يا حضرة الضابط، ألم تتعلم انه لا يوجد ما يسمى بالجريمة الكاملة؟ فأي مجرم مهما كانت درجة احترافه في عالم الإجرام فإنه دائما ما يترك خلفه أي دليل قد يقودنا إليه، ولكن العيب فينا نحن، فيبدو أننا نتكاسل بعض الشيء عن آداء مهامنا الوظيفية والكثير منا قد بدأ يعتبر أن عمله كضابط ما هو إلا عمل حكومي يقتصر على عدد ساعات محددة يقضيها خلف مكتبه ثم يقبض راتبه اول كل شهر.
صمت لحظات ليرى تأثير كلماته المعنفة على وجوه الجميع حيث منهم الذي أطرق رأسه خجلا، والبعض قد لوى شفتيه امتعاضا، وآخرون زادتهم حماسا لكيفية إثبات خطأ وجهة النظر تلك، ليقوم بعدها طلعت بإعطاء أوامره مشيرا إلى احد الضباط والذي يبدو أنه في بداية الثلاثينات من عمره: سيادة الرائد كريم! ستقوم بتشكيل فريقا تحت قيادتك تتولى تلك القضية، وأريد نتيجة سريعة فيها، أريد إعادة التحقيق في القضيتين وإعادة استجواب كل من له علاقة بالمجني عليهم إلى جانب جمع كافة المعلومات الممكنة عن الاثنين سواء في حياتهما الشخصية أو في عملهما، أي عداء لهما مع أي شخص قديما او حديثا يجب لتحري عنه وبدقة، أمام اثنان وسبعون ساعة أريد فيهم معلومة جديدة تخص القضيتين، مفهوم؟
أومأ الرائد كريم برأسه مكرها: مفهوم يا فندم.
اللواء طلعت: سأترك لك حرية اختيار فريق العمل الذي سيكون تحت إشرافك ولكن أريد منك أن تقدم لي بعد ساعتين قائمة باسم افراد ذلك الفريق.
ومجددا نجد كريم يومئ برأسه موافقا، ليصرف بعدها اللواء الجميع بنبرة حازمة: يمكنكم الانصراف الآن يا سادة.
انصرف الجميع وقد توجه طلعت ليجلس على كرسيه خلف مكتبه وقد لاحظ أن الرائد كريم قد تخلف عن زملائه ليتقدم منه بخطى بدت له مترددة، ثم وقف امامه صامتا كمن يحاول ان يستجمع أفكاره، فيسأله طلعت بحزم: خيرا يا سيادة الرائد! هل هناك ما تود قوله؟ هل الأمر متعلق بما كلفتك به؟ انا اعلم أن الامر ليس سهلا، وإنها لمسئولية كبيرة بالطبع، ولكنني في نفس الوقت أثق تمام الثقة في قدراتك وذكائك، فأنت حقا جدير بها.
ابتسم كريم بسرور وهو يقول: إنها لشهادة أعتز بها يا سيدي، وشكرا لك على ثقتك الكبيرة تلك، ولكني كنت أريد ان أتحدث معك في امر آخر.
تساءل طلعت: ما هو؟
ثم تذكر ان كريم لا يزال واقفا مكانه فأشار إليه: فلتجلس أولا ولتخبرني بما تريد.
وجلس كريم حيث اشار رئيسه أمام المكتب وما إن انفرجت شفتاه ليستهل حديثه حتى قاطعه طرقا على الباب، فقال طلعت: أدخل.
دخلت احدى الضابطات والتي كانت تشير تلك النجوم الثلاثة على كتفيها بأنها برتبة نقيب، وما إن ادت التحية العسكرية، سألها طلعت والذي بدت ملامحه المشدودة أنه لم يكن مسرورا برؤيتها: خيرا يا ندى؟ ماذا تريدين؟
ندى بملامح جادة لم تنقص شيئا من جمالها الطبيعي الذي حباها الله إياه: كنت أريد إدراج اسمي في قائمة الفريق المكلف بالقبض على الأسطورة يا سيدي.
بدا ان حديثها لم يزد طلعت إلا امتعاضا، ليكون جوابه على طلبها بالرفض ولكن بطريقته الخاصة: عندما نحتاج لخدماتك لن ننتظر حتى تعرضين الأمر علينا بنفسك.
ندى بنظرة تحدي: أنا أفعل ذلك لأني على يقين من أن سيادتك لن تقدم على ذلك من تلقاء نفسك.
طرق طلعت بقبضته بعنف على سطح مكتبه فكانت تلك طريقته المعتادة التي ينفث بها عن غضبه: ندى! إياك ِأن تنسي نفسك، أنتِ الآن تتحدثين مع سيادة اللواء طلعت محمود، وارجو أن تفرقي بين كوني والدك هناك في المنزل، أما هنا فأنا رئيسك في العمل.
ندى بنظرة مقهورة: أنا أعلم الفرق جيدا يا سيدي، ولكني يبدو ان سيادتك لا تستطيع التفريق بين الاثنين حتى الآن.
ثم ألقت بالتحية العسكرية وغادرت بعدها، ليعاتبه كريم بلطف: ألا ترى ان سيادتك كنت قاسيا جدا معها؟
تنهد طلعت بإرهاق وهو يقول: لم تكن هذه بالحياة التي أريدها لها، ولكنها كالعادة تفعل دائما ما هو دون رغبتي.
كريم بمنطقية: لا اعتقد ان الأمر هكذا يا سيدي، هي تقوم لهذا الأمر فقط ربما ظنا منها أنها كذلك ستحصل على إرضائك أو ستكون مصدر فخر لك.
طلعت معترضا: لا أحد يمكنه فهم النساء يا بني.
ثم تذكر أمرا ليتحول عن تلك النبرة المريرة إلى أخرى عملية: كنت على وشك أن تخبرني امرا قبل مجيء ندى.
بدا الارتباك على وجه كريم ليتوجس طلعت مما هو مقدم على البوح به فتلك هي المرة الأولى التي يراه فيها على تلك الحال، ثم حمحم كريم ليجلي صوته قبل ان يقول: في الحقيقة، كنت أريد أن أعرف إذا كنت سيادتك متفرغا غدا مساء لاستقبالنا انا ووالديّ لتناول القهوة في منزلكم.
طلعت بنظرة ماكرة: بالطبع فإن زيارة سيادة مساعد الوزير بمنزلنا لهو شرف لنا، ولكن هل يمكنني الاطلاع على سبب الزيارة؟
وكأنه بسؤاله هذا قد زاد من ارتباك كريم وقد بدا طلعت مستمتعا برؤيته هكذا، فهذا الرائد كريم الذي يهابه الكثير من زملائه ومرؤوسيه، يجلس الآن أمامه وهو يكاد يتصبب عرقا، وقد برع طلعت في إخفاء ابتسامته وهو يستمع إلى ذلك الشاب ببعض التلعثم: في الحقيقة يا سيدي فإنني كنت أود،.. لا بل أقصد انه لمن دواعي سروري،... بل إنه لشرف لي أن....
صمت لحظة قبل أن يتم جملته في دفعة واحدة خوفا من أن تخذله الكلمات مجددا: أن أتقدم لخطبة كريمتكم الآنسة ندى.
أعقبها بإطلاق تنهيدة ارتياح كمن ازاح عبئا ثقيلا كان يجثم على صدره، ثم نظر إلى اللواء طلعت نظرة ترقب وريبة حيث كان وجه الآخر جامدا لا يظهر عليه أي تعبير، لحظات مرت كالدهر دون جديد مما جعله يكاد يفقد الأمل في الحصول على ردا يريحه ولكنه في النهاية وجد شبح ابتسامة يرتسم تدريجيا على شفتي طلعت الذي قال بكل هدوء وثبات انفعالي كان كريم يفتقد لهما في تلك اللحظة: تستطيع ان تخبر سيادة مساعد الوزير أننا سنكون بانتظاره الساعة السابعة مساء الغد.
وفجأة كل ذلك الاتزان الذي كان يتصف به هذا الشاب قد ولّى في غمضة عين ليقفز من مكانه فرحا مبتهجا وهو يتساءل بغير تصديق: هل هذا يعني أن سيادتك......
وترك جملته معلقة ليعاتبه طلعت مازحا: أين ذهب ذكاءك يا سيادة الرائد؟ يبدو أن أنني سأغير رأيي.
احتج كريم الذي بدا انه مازال لا يصدق أنه على وشك الحصول على مراده قريبا: لا ارجوك يا سيدي، أنا حقا آسف، آسف جدا، وأشكرك جدا جدا.
طلعت وقد عادت إليه جديته وهو يتجاهله لينظر إلى ذلك الملف أمامه: حسنا حسنا، يمكنك الانصراف الآن.
أدى كربم لتحية العسكرية بكل جدية وصرامة تنافت تماما مع ما كان قد أظهره للتو: تمام يا سيدي.
ثم انصرف مغادرا مكتبه تتبعه ابتسامة طلعت الخفية.
..........
عادت ندى إلى مكتبها تنفث نيران الغضب وهي لا تكاد ترى امامها، فهذه هي حالتها المعتادة ما إن تنتهي من اي نقاش مع والدها أو لنقل ما إن ينهي والدها نقاشهما بطريقته الخاصة، وكان في انتظارها بتلك الغرفة جالسا فوق مكتبها الشخص الوحيد الذي دائما ما يأتي في الوقت المناسب تماما ربما بسبب طبيعة عمله وحدسه الصحفي اليقظ دائما والذي انتبه فور دخولها ليلقي بتكهنه على الفور: يبدو انك عائدة لتوك من مكتب سيادة اللواء.
وجهت ناحيته ابتسامة حزينة ليلقي بتكهنه التالي: ويبدو أيضا أن طلبك قوبل بالرفض أي أنني لن أحصل منك على معلومة مفيدة بخصوص قضية الأسطورة.
ندى بابتسامة ساخرة: يبدو أنني من سأشحذ منك المعلومات عن تلك القضية فيما بعد، فعلى ما أرى أن هناك تعليمات بعدم تسريب أي معلومة تخص تلك القضية لأي شخص خصوصا أنا بالطبع.
مدحت بنفس اسلوبه الفكاهي: ندى، عليكِ التحقق إذن من حقيقة أبوته لكِ، لأني بدأت اشك في هذا الأمر بالفعل.
لاحت ابتسامة مريرة على شفتيها مما دعاه لتغيير الموضوع فقلم بعمل حركات دائرية حول بطنه وهو يقول: اسمعي، دعينا نترك هذا الموضوع الآن، فأنا اتضور جوعا حيث لم اتناول شيئا منذ الصباح، فمديري سامحه الله قد قام بتعنيفي في الصباح الباكر بسبب موضوع ذلك الأسطورة.
ثم غمز لها بخفة وهو يضيف: يبدو أنكِ لست بمفردك التي تشتكي مزاج مديرها السيء.
ليعود لموضوعه الأساسي: فلنذهب الآن لنتناول شيئا، ولكن قبل أن نتحرك أخبريني أولا، هل معك نقود؟
استطاع بحديثه الخفيف المرح أن ينسيها لبعض الوقت معاناتها الحقيقية لتومئ برأسها بالإيجاب وهي تسأله: لِمَ؟
أجابها ببساطة: لأنكِ من ستدفعين بالطبع، فأنا لا أملك قرشا واحدا.
مطت ندى شفتيها بتبرهم وهي تعلق على هذا الأمر: وما الجديد في ذلك؟ فدائما ما تدعوني على الغداء وأنا من يدفع ثمنه.
اعترض مدحت بفخر زائف: ولكن لا تنكري أن الأمر يروق لكِ، فبدوني لا يمكنك التعرف على تلك المطاعم الشهيرة التي أصطحبكِ إليها.
تذمرت ندى وهي تلقي نحوه نظرة اشمئزاز واضحة: هل تعتبر ذلك المدعو (علي كرشة) بالمطعم الشهير؟
مدحت بتلذذ: ولكن لا أحد يمكنه صنع طاجن الكوارع مثله.
رمقته ندى بقرف ثم قالت له بحزم: أنا موافقة على تلك الدعوة، ولكنني أنا من سيختار المطعم هذه المرة.
نظر لها نظرة عدم استحسان ولكن ما باليد حيلة، فهي صاحبة القرار لأنها من تملك المال
..........
جلس الاثنان مدحت وندى خلف طاولة صغيرة بأحد المطاعم الجيدة التي تطل على النيل، فألقى مدحت نظرة دونية على المكان وهو يلتفت حوله يمينا ويسارا ليعلق قائلا: ليس سيئا، ولكنه لا يختلف كثيرا عن مطعم (علي كرشة)، بل إن الآخر كان أكثر إثارة.
بدت ندى شاردة حيث لم تنتبه إلى حديثه، فلوح امامها بيده عدة مرات ليجذب انتباهها: ندى! أين ذهبتِ بتفكيرك؟
ندى بنبرة مليئة بالحزن والألم: كنت افكر ماذا إن وُلدتٌ صبيا؟ فهل كان أبي سيعاملني كما يفعل الآن؟ كان يريد صبيا، أنا أعلم ذلك، كان يريده ليحمل اسمه وكذلك ليكمل مسيرته هو وأجداده كرجال شرطة، وكان ذلك هو السبب الأول لالتحاقي بكلية الشرطة رغم معارضته الشديدة، أردت ان أخبره أنه يمكنني القيام بهذا الأمر أيضا وربما افضل من الصبي، ولكنه لا يزال غير راض.
قالت جملتها الأخيرة بنبرة بائسة، فمد مدحت يده ليحتضن كفها بأصابعه مواسيا ومدعما وهو يقول بيقين داخلي: ولدك يحبك كثيرا يا ندى، يحبك كما أنتِ، يحب ابنته الوحيدة ندى بعيدا عن كونها ذكرا أم أنثى، ضابطا أو ربة منزل، هذا لا يهم في غريزة الابوة بداخله، ولكنه فقط لا يجيد التعبير عن مشاعره.
ألقت ندى نحوه نظرة عدم تصديق مصحوبة بابتسامة متهكمة ليصر هو على وجهة نظره: لقد كنت جادا فيما قلت.
وهنا سألته ندى فجأة بجدية: مدحت! هل فكرت يوما في أن تتقدم لطلب يدي؟
شلت المفاجأة لسان مدحت للحظات ظل يسعل فيها بشدة، ثم حملق في ندى بدهشة إلى ان استطاع في النهاية أن يتمالك نفسه من الصدمة ويقول لها: هل أنتِ جادة في سؤالك؟
ندى بتأكيد: وهل تراني أمزح في موضوع كهذا؟
وهنا وعلى غير المتوقع، قد انفجر مدحت ضاحكا، بينما راقبته ندى بدهشة ممزوجة بنظرات حادة غاضبة لتقول له بحنق: يسرني أنك قد وجدت الموضوع مسليا لك إلى هذا الحد.
فتوقف مدحت عن الضحك وقد احكم السيطرة على انفعالاته، ليلقي بنظرة معتذرة ناحيتها وقد اكتسى وجهه بملامح جدية وهو يقول: آسف يا ندى، صدقيني لم يكن الأمر بيدي، ولكني فقط لم أتوقع هذا السؤال أبدا، فانتِ لستِ فقط ابنة خالتي الوحيدة، ولكنكِ أيضا أختي ورفيقة دربي، لقد تربينا معا وبيننا الكثير من الأشياء المشتركة، ولكن بالنسبة لموضوع الزواج هذا فأنا لا أفكر فيه حاليا، حتى إذا فكرت يوما في اختيار شريكة لحياتي، فستكون هذه المرة لا تعمل، آسف لستُ متخلفا في تفكيري كما تتصورين، ولكنني رجل متملك، وأعتقد أن معظم الرجال الشرقيين يفكرون بهذه الطريقة، فعندما اتزوج سأعتبر تلك المرأة ملكا لي وحدي أنا فقط.
قالت ندى وقد بدت نبرتها ساخرة: إذن فعندما أفكر في الزواج فعليّ أن أبحث في القلة الباقية.
مدحت بعملية: حتى تلك القلة ممن قد يوافقون على عمل نسائهم، فبالطبع لن يوافقوا أن تعملن كضباط شرطة.
ندى بنبرة يائسة زائفة فهي بالطبع لم تكن تفكر في الزواج من الأساس أو على اقل تقدير في تلك الفترة من حياته: إننا بذلك نصل إلى طريق مسدود، وعليّ تقبل كوني سأظل عانسا حتى الممات.
أشار لها مدحت محذرا: نصيحتي لكِ يا ندى، إذا فكرتي في الزواج فعليكِ بتقديم استقالتك أولا.
ندى بتهكم: أتعتقد أن هناك رجلا على وجه الأرض يستحق أن أترك عملي الذي أحبه وحاربت كثيرا للحصول عليه من أجله؟
مدحت بابتسامة مداعبة: أعتقد أن هذا الرجل موجود بالفعل، وأقرب لكِ مما تتصورين.
ثم أخفض صوته ومال للأمام قليلا مقربا وجهه منها كمن على وشك البوح بسر ما: سيادة الرائد.
تساءلت ندى في تعجب: سيادة الرائد! من تقصد؟
وفجأة اتسعت عيناها دهشة وهي تقول: أتقصد الرائد كريم؟
مدحت مداعبا: ومن غيره يستطيع ان يتحمل نوبات عصبيتك وتهورك؟
قالت ندى وقد بدأت تتوجس في ريبة ونبرة خافتة: أرجو بألا يفكر أبي بنفس طريقتك.
............
جلست ندى خلف مائدة الطعام برفقة والديها، فقد كان اللواء طلعت حازما للغاية في تلك النقطة تحديدا حيث على افراد الأسرة التجمع سويا لتناول وجبة العشاء، كان الجميع يتناولون طعامهم بصمت مطبق والذي بالطبع لم يخل من بعض النظرات الحزينة اللائمة التي كانت توجهها ندى نحو والدها من حين لآخر، إلى ان بدا الصمت يتلاشى على صوت اللواء طلعت محمود الخشن وهو يقول محدثا زوجته بينما لم تفارق عيناه وجه ابنته: فلتجهزي يا مديحة، فغدا سيزورنا السيد معالي مساعد الوزير هو وأسرته، فإنهم مدعوون لتناول القهوة في منزلنا الساعة السابعة مساء.
رغم انها كانت سيدة مصرية بسيطة رغم رقي عائلتها بالطبع، ولكن ضمن أولٰئك النسوة اللاتي لا يشغلن في الحياة سوى راحة وسعادة أسرتها وهذا بالبع كان السبب الرئيسي لاختيار طلعت لها من بين العديد من النساء، فهو ذلك النوع الحازم من الرجال الذي لا يقبل أن يراجعه أحد في قراراته وخاصة النساء، فما بالك بزوجته؟!، ورغم بساطتها وملامحها الهادئة إلا أنها كانت ايضا تتسم بالفطنة، فعلى الفور استطاعت التكهن بالغرض من وراء تلك الزيارة المفاجئة، ولكنها اخفت ابتسامتها المبتهجة ببراعة، وقالت وهي تلقي بنظرة لؤم ناحية ابنتها التي قد تظاهرت بانشغالها في تناول طعامها متجنبة النظر نحو كلا والديها: وما سبب الزيارة يا ترى؟
أجابها طلعت بصراحته المعهودة وصرامته التي يدمنها: وماذا سيكون السبب غير أنهم يطلبون نسبنا؟
ورغم أن ذلك كان هو موضوع النقاش بينها وبين مدحت ظهيرة هذا اليوم إلا انها لم تكن تتوقع أن الأمر ممكن أن يكون صحيحا، بل ويتم بتلك السرعة أيضا، لذا كانت صدمتها لدى سماعها هذا الخبر حقيقية غير زائفة لدرجة أن سقطت الملعقة من بين أصابعها في الطبق بحركة لا إرادية أحدثت ضجيجا خفيفا تعمد كلا والديها تجاهله، حيث ان مديحة أن مديحة قالت معلقة على الأمر لزوجها بنبرة متحمسة: هذا بالطبع نسب يشرف اي أسرة، كما ان كريم هو شاب رائع تتمناه أي فتاة.
وهنا لم تتمالك ندى نفسها حيث فقدت كالعادة السيطرة على انفعالاتها، فقالت ببعض الحدة: بالطبع اي فتاة غيري يا أمي.
بُهتت ملامح مديحة التي لم تتوقع ردا كهذا، بينما قال طلعت لابنته غاضبا: ماذا تعنين يا ندى؟
أجابته ندى التي كانت قد اوشكت على البكاء، فرغم شخصيتها العنيدة والصلبة إلا انها تصبح ضعيفة الشخصية أمامه هو فقط: أعني أن سيادتك لم تأخذ رأيي في هذا الموضوع وكذلك لم يفعل سيادة الرائد، وكأن رايي لا اهمية له في موضوع لا يخص سواي.
قال طلعت وهو يجز على اسنانه في محاولة منه لكتم غيظه: إن لم يفعل كريم ذلك، فهذا يدل على تربيته الجيد وشخصيته المحترمة، فقد قرر أن يدخل البين من بابه ويفاتحني انا اولا.
ندى بنبرة متوجسة: وماذا كان رأي حضرتك؟
طلعت: أنا لم اخبره برأيي بعد، لكن اعتقد أن موافقتي على تلك الزيارة لهو كاف بالطبع لإبلاغهم بموافقتي.
احتجت ندى باستنكار: ورأيي أنا ليس له اي اعتبار؟!
طلعت بثبات وحزم: في هذه الأمور أنا ادرى منكِ بمصلحتكِ.
ندى بصوت متهدج: أهذا يعني انك مستعد لتزويجي حتى رغم إرادتي؟
هدر طلعت بصوت مرتفع من شدة انفعاله وغضبه: ندى! لقد تجاوزتِ كل الحدود.
ونهض من كرسيه وعينيه تطلقان شرارا غاضبا فأسرعت مديحة نحوه تضع يدها على كتفه في محاولة منها لتهدئته: أرجوك يا طلعت، أتركها الآن، فسأتحدث انا معها لاحقا.
قال طلعت دون ان تغادر عيناه الغاضبة والمحذرة في لآن واحد وجه ابنته: حسنا، سأقوم بتأجيل الحديث في هذا الأمر لوقت لاحق حتى تنقضي زيارة سيادة مساعد الوزير على خير.
قالت ندى بنظرة مترجية: أرجوك يا ابتِ، لا تعدهم بشيء قبل ان نتحدث مرة أخرى، أرجوك.
كانت عيناها الباكيتان ونظراتها المتوسلة كفيلة بأن يلين الحجر لهم ولكن بالطبع ليس قلب والدها الذي تركها وانصرف.
........
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي