رحماء بينهم

Alyaa Shaban`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-07-25ضع على الرف
  • 60.1K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

هل جربت ذلك الشعورٌ يومًا؛ حينما يجعلك الله سببًا في إحياء حياة شخص رأيت موته بأُمة عينك؟! هل جربت أن تكون لحياتك معنى وأنت ترى تلك الروح التي أنت طوق نجاتها تحوم حولك من جديد!!!"•
نُقطة من بداية السطرٍ.
سبب لبداية حياة جديدة كادت أن تفنى.
مشهد جعل كيانهُ يهتز بصدعٍ حتى تعلم لأول مرةٍ معنى غياب الأمان ووجود أرواح سيئة تُشاركه في هذا العالم الذي انحسر دومًا في والده، دروس الدين المُحببة إلى قلبه ومُمارسة هواية السباحة الأكثر شغفًا في حياته على الإطلاق.

طفلٌ صغيرٌ عاش في بلدة قروية بسيطة تبدأ حدودها مع بداية قناة يجف ماؤها من حين لآخر ثم تعود تفيض من فيضٍ مائها مرة أخرى باختلاف فصول السنة وحالات الطقس.

وكعادتهُ الأسبوعية يختار يومًا شاغرًا من وظائفه المدرسية ثم يُقرر ممارسة هوايته فيه، سار إلى القناة بعلم والده واندمج في التمرين حتى تأخر الوقت ولم بلحظه، كانت الشجيرات القصيرة والعشب يحُفان القناة من جانبيها، طال اندماجه حتى قطع تدريبه مشهدُ لن تنساهُ ذاكرته على الإطلاق ولن يخدمه النسيان في تجاوزه مدى الحياة.
كانت تهرول بغير اهتداءٍ، تنظُر يُمنة ويُسرى في توجس وخوف شديدين إلى أن وصلت إلى الجسر القابع فوق القناة، كانت تبكي حُرقة ورغم ذلك لم يمنعها ارتجافها من التقاط طفل يمشي بمحاذاتها ثم دفعهُ بكُل ما أوتيت من قوة في القناة ولم تكتف بذلك!!!
كانت تستقر طفلة رضيعة على ذراعها فأطاحت بها أيضًا ثم شهقت شهقةً خافتة وهي تُتابع سقوطهما بالماء وما هي إلا لحظات حتى هرولت بعيدًا.. بعيدًا جدًا.
نُحتت ملامح وجهها في ذاكرته ولو مر ألف عام لن تُطمس هذه الملامح القاسية التي أصابها الاضطراب، ازدرد ريقهُ بالكاد وبقيت عيناه مُحدقة في الصغيرين، انتشل نفسه من الصدمة قبل فوات الأوان، خرج من خلف الشجيرات أثناء تواريه عن أنظارها ثم بدأ رحلة البحث عن الطفلين إلى أن وقعت عيناه على ذراع تلك الصغيرة الذي ظهر على سطح الماء بينما غاص جسدها كله، سبح نحوها حتى حملها بين ذراعيه ثم سار بها إلى شط القناة، كانت أنفاسها تتصاعد ببطء كمن يُصارع أنفاسه الأخيرة ولكنه تمكن من انتشالها من الماء قبل انقطاع الأنفس وفوات الأوان.
التفت نحو القناة من جديد ثم بدأ يبحث عن الطفل الآخر بعينيه المصدومتين ولكنه لم يجده، لم يتقبل الأمر حتى سبح مرة أخرى وراح يبحث عنه في كُل مكان ولكن انتهى الأمر دون جدوى!!!
عاد للشط مرة ثانية، حمل الصغيرة على ذراعيه ثم هرول مُبتعدًا والماء يقطر من ملابسه بينما ينظر (هو) للصغيرة بتعاطف وإشفاق.
ابتسم بخفوت وهو يتأمل ملامحها البريئة وهي تنام قريرة العين بعد أن كتب الله لها الحياة من بعد غدر!

هرول إلى البيت، دق بابه ففتح ذلك الشيخ الوقور.
"أبويا، بص أنا جبت أيه معايا؟!"
قطب (الشيخ) ما بين عينيه ثم سأل مُستفسرًا في دهشة:
"مين الطفلة دي يابني؟! وبتعمل أيه معاك!".

نظر الطفل للصغيرة تارة ولأبيه تارة أخرى، تنهد بأسى ثم قال:
"وأنا بعوم لقيت ست بترميها في القناة.. كان في عيّل تاني بس دورت عليه كتير وملقيتهوش!".

الشيخ وهو يشهق صدمةً ثم يردد:
"يارب لُطفك علينا من بلاوي الدنيا".
أطرق الصغير برأسه يتأمل الطفلة من جديد وبنبرة مرتجفة من شدة البرد قال:
"أنا لازم أجيب لها الدكتور عزت حالًا علشان بتتنفس بالعافية".
أومأ (الشيخ) مؤيدًا رأيه ثم أخذ منه الطفلة ليهرع (الصغير) إلى بيت الطبيب كي يأتي به لإغاثة الطفلة بأقصى سرعةً، كان جسده ينتفض من شدة البرد القارس الذي نخل عظامه ورغم ذلك لم يبالِ بالتعب الذي تسلل إليه وكان همه الوحيد إنعاش هذه الطفلة وإلا شعر بالذنب إن أصابها مكروه!
"كمثلِ الأُترُجَّةِ؛ قُربها ترياق وغيابها علقم؛ ففي تذوق حلاوة القرب منها منافع كثيرة وفي غيابها يسود المرُ ولا يمُر!".
•••••••••••
أبان القمرُ وسط الغمام في ليلٍ مُشت وقارس البرودة بينما لم يأبه هو بانتفاضة جسده وبقى صامدًا في زاوية ما بتلك الغرفة، جمع ساقيه إلى فخذيه يتأملها وهي تُنجز عملها المساق إليها لإتمامه في أسرع وقت ممكن، شعرت بتنهده المُتكرر وعلمت أن ثمة شيء يجول في خُلده ويرهقه، نظرت إلى الفستان القابع أمامها وراحت تبتسم في هدوء؛ لقد نجحت في تصميمه بسهولة ويسر بعد أن جمع لها أغلب قمصانه المكدسة داخل دولابه وطلب منها أن تخيطهم على هيئة فساتين صغيرة ورقيقة تليق بتلك الطفلة الجميلة التي جلبها معه مُنذ عدة أيام مضت.
أطرق برأسه يُفكر في حديث والده وكأنما أُظلمت الحياة من بعد نورٍ، فقد تعلق قلبه بالطفلة ورغب في بقائها معه إلا أن والده كان يرى عكس ذلك.
كانت هذه المرة الأولى التي يتعلق فيها بشيء على الإطلاق وبقائها وسطهما كانت (الرغبة الأولى والوحيدة) له منذ أن وُلد وصار ولدًا بالمرحلة الإعدادية؛ فهل عليه أن يستسلم للأمر الواقع شاء أو أبى؟ أو يتشبث في رغبته بوجود مؤنسة له في وحدتها، وصفها داخل قلبه «كأنما هي بمثابة وميض أبيض انبلج من وسط سواد وحدته الموحشة إلى ذروة الألفة والنور».
حيث ظهر ذلك في تصرفه النشط والمتحمس وهو يجمع ملابسه ثم يطلب من الخياطة أن تخيط لها الكثير من الفساتين الجميلة ثم يستيقظ باكرًا حتى يأتي لها بالحليب الطازج ثم يُخففه لها كي ترتوي وتنام بسلام وأمان كما أنه لم يتوان عن تغيير حفاضتها المبللة كُل ليلة دون أن يشتكي ضيقًا أو نفورًا، لقد أحبها جمًّا وود لو يتخذ منها شقيقة تترعرع وسط رعايته هو ووالده وقد أقسم مرارًا أثناء حديثه مع والده أن يحفظها ويرعاها من كُل سوءٍ ولكن والده لم يتفهم مشاعره قط أو ربما يظن ذلك!
شرد في كُل لحظة قضاها مع هذه الصغيرة وهي تحبو صوبه بفرحة عارمة بينما يراوغها ببالون قابعة بين يديه، تمتلك غمزة رقيقة أسفل عينها اليسرى وكان هذه الصفة مُميزة وغريبة حيث أنه لم يرها قط في حياته ولكنها حالما تضحك بطفولة يبتهج داخله سرورًا ولم يبق من جهده مثقال ذرة كي يحتوي براءتها ويحنو عليها، عاش مع براءة روحها أيام فكيف بهذه السهولة يتقبل فراقها العزيز!، حينما أخبره والده أن هذه الطفلة مسؤولية كبيرة عليهما ولا يجوز تبنيها ثم التقصير معها في كثير من الجوانب!.
-مالك يا تليد؟ شايل هم الدنيا ليه؟!.
تنهد تنهيدًا ممدودًا ثم زفره بقوة، داهمت نبرة صوته حشرجة بكاء وهو يقول دون أن يرفع بصره لها:
-أبويا رافض إن الطفلة تعيش معانا وبيقول إننا وارد نقصر معاها وبكدا هنكون بنظلمها؟!.
أبصرت "هدى" إليه ثم سألتهُ باهتمام:
-أكيد الشيخ سليمان عنده وجهة نظر في كلامه؟!.
تليد وهو يقول باختناق:
-وجهة نظره إننا بيت من غير ست!
سكت هُنيهة ثم أضاف وهو يلتفت بنظراته إليها:
-بس أنا أقسمت له بالله إني هرعاها بس اقنعيه يخليها تعيش معانا، أنا حبيتها أوي!.
أومأت بتفهم ثم تابعت بهدوء:
-بس هييجي عليك وقت تنشغل، إنت ناسي إنك بتشتغل وعندك دراسة وامتحانات ولا أيه؟ وكمان الشيخ سليمان مش طول الوقت في البيت، هيكون مصيرها أيه وقتها!

افتر ثغرها عن ابتسامة لطيفة ثم أقرت بوجهة نظرها بلطف كي لا تزيد على همه:
-مش يمكن لمَّا تكون مع ناس تاني يحافظوا عليها وتعيش حياة أفضل؟!.
تأججت مشاعره ألمًا ثم قال بنبرة محتجة مكتومة:
-أنا أولى بيها، أنا اللي أنقذتها من الموت وأنا اللي حبيتها، ليه تعيش بعيد عني مش معايا؟ والله العظيم ههتم بيها بس قولي لأبويا مياخدهاش مني!!!
اغرورقت عيناهُ بالدموع ناظرًا إليها بسهام تنطلق من عينيه كي تتوسل إليها أن تُغيث قلبه الذي يخفق من التعلق والحزن إن فارقتهُ، اخفضت عينيها كي تتفادى نظراته البريئة المجروحة ثم تابعت بخفوت:
-حاضر يا تليد، أوعدك إني هحاول!.
التفتت إلى ماكينة الخياطة والتطريز الخاصة بها والتي تأكل من وراءها العيش ثم تابعت ما بدأته وفي غضون ذلك تذكرت أن تسأله بفضول:
-تليد، إنت شوفت الست اللي رميتها في القناة كويس؟!.
تليد وهو يقول بغضب متوارٍ:
-حفظت شكلها وعُمري ما هنساها.
التفتت إليه مرة أخرى ثم قالت بنبرة سادرة:
-مش يمكن تكون من البلد عندنا؟!.
تليد ينفي بتأكيد:
-لأ مش من البلد، كان شكلها غريبة مش من هنا.
أومأت "هدى" بتفهم ثم تابعت بقلب حزين:
-حسبي الله ونعم الوكيل، ربنا ينتقم منها.

ساد الصمتُ للحظات حتى عادت "هدى" بكرسيها للوراء ثم قالت بنبرة منشرحة وهي تتحدث إليه بعد أن وضعت الملابس داخل الشنطة:
-وبكدا أكون خلصت لك الفساتين والبلوڤرات، تحب تاخد باقي القماش المتقطع!!.
نهض من مكانه بسرعة ثم التقط الشنطة منها وراح يقول بنبرة حماسية:
-لأ، عايزك تعملي لها بيهم عرايس وهعدي وقت تاني أخدهم.

قامت "هدى" بالربت على كتفه بحنان وفيرٍ، ابتسم لها فبادلتهُ الابتسامة الصادقة ثم قالت بهدوء:
-متزعلش من أبوك يا تليد مهما كان قراره، فهو دايمًا الأصح.
أومأ مُتفهمًا ثم غادر في الحال.
••••••••••••••••••
جلس على إحدى الدكاك داخل مشتله الذي ورثه عن أبيه كأشياءٍ أُخرى ولكنه الشيء الوحيد الذي تمكن من استلامه وباقي إرثه من تركة أبيه مازال تحت سطوة شقيقه الأصغر الذي يرى أنه الأجدر والأحق بها إلا إذا انصاع "سليمان" لأوامره خاصةً أنه دائمًا يُفضل العيش بعيدًا عن حياة شقيقه التي تفتقر إلى الكثير من القيم والمبادئ الأساسية في الدين!
انتظر طويلًا حتى جاء الأخير كما أخبره برغبته في الالتقاء به لبعض الوقت ولم يتمنع "سليمان" عن مُقابلته بل انتظره حتى يرى ما عنده من جديدٍ يُقال.
كان المشتل عبارة عن مساحة شاسعة زُرع فيها الكثير من النباتات، الورود والأزهار، ثمة شيء يُجبرك على التحديق في المكان، شيء يُجبرك على الانغماس في تنشق عبق الزهور به كما لو أنك ذهبت في دنيا غير تلك التي عشت فيها دائمًا.
هرول أحد العمال بالمكان صوبه ثم قال وهو يلتقط أنفاسه اللاهثة:
-عثمان باشا وِصل يا شيخنا!.
كان يجلس مُقرفصًا على الدكة وتنام الصغيرة على حِجره في هدوء بعد أن تناولت الحليب الدافئ الذي أوصى به، أومأ برزانة مُشبعة في تفاصيل وجهه وروحه ثم قال بهدوء:
-خليه يتفضل.
هرول العامل مُبتعدًا حتى البوابة ثم فتحها على مصراعيها سامحًا للأخير بالمرور داخل المشتل، رمقهُ "سليمان" بثبات غامض لدرجة أنك لا تعرف إن كان غاضبًا عليه أو مُشفقًا على روحه التي أهلكها وهو يعدو نحو مغريات الحياة دون تفكير!
ترجل "عثمان" من السيارة ثم رصد مجلس أخيه فسعى إليه واسع الخطى وما أن وصل إليه حتى وقف أمامه شامخًا ثم قال بثبات:
-إزيك يا سليمان ياخويا، أخبارك أيه؟!.
سليمان وهو يبتسم بوقار لطيف:
-بخير وبدعي لك.
هز رأسه عدة هزات متتالية ثم أسرع بالجلوس بجواره ثم قال ببسمة باهتة بعد أن أدرك وجود طفلة في حجره:
-وبتدعي لي بأيه بقى!
سليمان بنبرة جادة يردف:
-بالهداية.
أمد "عثمان" ذراعيه نحو الصغيرة يُداعب وِجنتها الناعمة ثم قال بنبرة مراوغة:
-بنت مين دي يا شيخ سليمان، إنت أتجوزت وخلفت من ورايا؟!.
سليمان ببسمة خفيفة:
-دي زيّ الزرعة الخضرة اللي هناك دي، نبتة ضعيفة بس ربنا أراد لها تنبت في بيئة ريحها طيب، إنما سيبك من العيّلة وقول لي زرعت أيه إنت لدنيتك يا عثمان؟!.

عثمان وهو يُطلق ضحكة عالية ثم يجيبه:
-أتجوزت وخلفت وعملت اسم لعيلتي وفلوس آمن بيها مستقبل عيالي وبقيت رجل أعمال تفتخر إنك تتعامل معاه وصاحب أكبر شركة للصناعات الغذائية والإنتاج في الشرق الأوسط، تاني ولا أكمل!.
داهمت بسمة ساخرة ثغر "سليمان" الذي تابع بهدوء:
-قصدي زرعت أيه تحصده للآخرة؟ كُل اللي إنت بتقوله دا فاني يا ابن أبويا وأمي!.

عبس وجه "عثمان" الذي تابع بانفعال خفيف:
-من الآخر كدا يا سليمان، لو عايز باقي ورثك من أبوك يبقى تبطل بقى شغل شيخ سليمان راح وشيخ سليمان جه وتيجي تشتغل معايا في الشركة لأن أنا مش هسمح لكل حاجة بنيتها إنها تتهد بشوية مبادئ وأخلاق ومسميات مجردة.

سليمان وهو يقول بثبات أضمر الغيظ في نفس الأخير:
-مش إنتَ قابل!، أنا كمان مش عايز حاجة ولو على حق ابني فربنا يتولاه وكفاية علينا المشتل.

تأجج "عثمان" من شدة الغيظ ثم نهض على الفور مُقررًا الذهاب نادمًا على المجيء الذي أسفر عن فشله في إقناع شقيقه كالعادة، أوقفه "سليمان" بصوته الرخيم قائلًا ملحوظة كانت تائهة عنه للحظة ما:
-بس يكون في علمك يا عثمان يا خويا، مش هنصدر لك أي زرع أو محصول من مشتلنا، المعاملة بينا معادش ليها لازمة.
رفع "عثمان" أحد حاجبيه ثم استدار نحو شقيقه مرة أخرى وقال بغيظ:
-إنتَ بتلوي دراعي علشان عارف إن أغلب منتجاتنا قايمة على محاصيل المشتل؟!.
سليمان بنفي قاطع:
-مش لوي دراع بس تجنبًا لآثام مرتكبتهاش واتقي الله شوية في المزرعة، طبعًا إنت فاهمني!
عثمان بغضب مكتوم وملامح صلبة:
-دا آخر كلام عندك!!
سليمان وهو يشيح بوجهه للجهة الأخرى ثم يقول بلهجة حازمة:
-مع السلامة يا عثمان، ربنا يهديك يا ابن أمي وأبويا.

تشنجت ملامحه الصارمة وراح يبتعد ساخطًا على شقيقه الذي أنهى النقاش بينهما بمقاطعة نهائية ووضعه أمام الأمر الواقع من سرعة في إيجاد مشتل آخر يحصل منه على المحاصيل المستخدمة في إنتاج شركته من بضائع غذائية عالية الجودة وبأسعار تنافسية معقولة ومناسبة كما يقول بتفاخر في إعلاناته الثمينة.!

مرَّت لحظات وجاء "تليد" مُشتاقًا للعب مع رفيقته التي كملاكٍ بريء يُثلج قلبه هذا الطفل الوحيد منذ أن ذهبت والدته ولم يحظَ بأشقاء يؤنسون حياته الرتيبة، تخللت أسارير وجهه حينما أبصرها تنام على فخذي والده فأخذ أنفاسًا مُطمئنةً وهو يتوجه نحوهما ورغم شرود الشيخ "سليمان" في حزنه الصامت إلا أنه تيقظ لمجيئه فتدبر ابتسامة خفيفة كيلا يبدأ صغيره الفطن في طرح العديد من الأسئلة التي يلقى جوابًا لها بإصراره المعتاد فلم يُبعده الشيخ عن حياته بما تضمنها من توتر العلاقة بينه وبين شقيقه؛ بل كان يضعه في الصورة كي يكبر سريعًا ولا يتمكن أحدُ من استغلال صغر سنه وبراءته حينما يغيب الشيخ "سليمان" عن هذه الدنيا ولكنه دومًا يُثنيه عن السوء وارتكاب المعاصي في حق مظلوم؛ عليه فقط أن يسترد حقه دون زيادة أو نقصان؛ ألا يجور فتزول كُل فضائل الله عن وجهه!.
هرع إلى والده بحماس صبياني ثم امتد بصره نحو الصغيرة قائلًا بفضول:
-هي نايمة؟!.
أومأ الشيخ برأسه داعمًا سؤاله، فاقترب الصغير منها ثم مال مُقبلًا وِجنتها وبعدها جلس بجوار والده قائلًا:
-جبت لها غيارات ودفيت لها شوية لبن في الرضعة وكمان فصلت لها فساتين حلوة أوي لمَّا نروح هوريها لك.
ربت "سليمان" على كتفه بحنان غزيرٍ قاصدًا أن يغمره بهذه الكلمات:
-ربنا يجازيك خير يا تليد يابن الحاجة حورية ويجعلك غرس صالح ليا أنا وهي، ويجعلك ملاذ لكُل ضعيف أو فاقد الملاذ.
تليد بابتسامة خجولة يقول خافتًا:
-يارب يأبويا.
بادلهُ "سليمان" ابتسامة دافئة تبعث الطمأنينة على نفسه النفيسة الأبية مُنذ الصِغرٍ، ثم قال بنبرة ثابتة:
-يلا يا بطل على شغلك، في زرع آن حصاده.
تليد وهو يتوسل له برجاء:
-عايز ألعب مع أُترُج شوية.
اتسعت ضحكة "سليمان" وهو يستمع إلى إصرار صغيره على هذه الاسم الفريد، التقت نظرات سليمان" بابنه وشرد كُلًا منهما في مشهد مُختلف عن الآخر ولكن كلاهما يرتبط بهذا الاسم الفريد!

غاب الوالد إلى تلك اللحظة المزدهرة بكثير من الزرع والنباتات والأحلام الحالمة التي تطوف حول هذه المبهجات، وقف "تليد" بجواره ثم بدأ يسأل عن اسم كُل نبتة في مُحاولةً منه لمعاونة أبيه في الاعتناء بالمشتل وري المحاصيل به، كان يسأل كلما رغب في أن يستزيد ويتزود بالمعلومات القيمة والثرية من أبيه حتى وقعت عيناه عن نبتة يُحبها والده جمًّا وهي شجرة لثمرة تشبه ثمرة البرتقال في اللون والليمون في الحجم، اختلط عليه الأمر فالتفت يسأل بفضول وإعجاب:
-هي أيه الفاكهة دي يا بابا؟!.
ابتسم "سليمان" برصانة ثم أجابهُ باقتباس عن حديث للنبي، فتابع:
-”مثل المؤمن الذي يقرأ القُرآن كمثلِ الأُترُجَّةِ طعمها طيبٌ وريحها طيبٌ“.
قطب "تليد" ما بين عينيه ثم ردد بتعجب:
-أُترجة!!!
أومأ بتريث واستمر ينظُر إلى ابنه في اهتمام، فوجده يقول باستفسار وحيرة:
-يعني دا مش ليمون ولا برتقان؟!.
الشيخ بابتسامة خفيفة:
-لأ، دا بالمصري اسمه كبَّاد وأترج دي بالفُصحى وهي فاكهة جميلة أوي يابني، مليانة ڤيتامين سي وفوايدها كتير أوي علشان كدا كُنت مهتم طول الوقت أزرعها، وعلشان إنت سألت فلازم أقول لك إن الوصفة اللي بغليها لك لمَّا بيكون عندك حموضة معدة هي قشره والطَعم الحلو في السلطة اللي بعملها بسببه كمان.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي