خطايا ما قبل الأربعين

شيماء يحيى`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-07-01ضع على الرف
  • 1.8K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

خطايا ما قبل الأربعين

عندما كنت أجلس مع أصدقائي، وقتها شعرت بالتعب، و أردت أن أرتاح لبعض الوقت، فليس كل التعب جسدي، أحيانًا يكون التعب النفسي أشد وأكثر وجعًا، رجعت إلى منزلي، دلفت إلى غرفتي لعلي أنعم ببعض الراحة والهدوء، عسى أن ترتاح نفسي ولو قليلًا، وأن يهدأ الضجيج بداخلي، قد سئمت من هذه الضجيج، وتعبت كثيرًا، أوشكت على الخلود للنوم عسى النوم يكون مُسكنًا لتعبي، لكن فجأة سمعت صوتًا يقول همسًا: هل أنت مُتعب حقًا؟  
خفت كثيرًا، قُلت بصوتٍ مرتعش: من؟ من هنا؟! لم يجب أحد، ظننت أنني أتوهم لأنني مرهق جدًا، ذهبت كي أنام لكن عاد الصوت مرةً أخرى، وسألني سؤالًا جعلني أُفكر كثيرًا، وكأنه يعيد حياتي.
مجهول: هل أنت راضٍ عن حياتك ونفسك؟
اتجهت لمصدر الصوت، قُلت له: أجبني من أنت؟
مجهول: لا يهم من؛ ولكن المهم من أنت؟ هل تعلم من أنت، هل لديك إجابة؟
قُلت له: هل أنت مجنون؟
ناديت والدتي وأختي، لكن الغريب أنه كان يضحك بشدة، بدأ الرعب يدب في أوصالي، وهو يقول: لا أحد سيسمعك، لا تحاول كثيرًا.
ارتفع صوت ضربات قلبي لدرجة أني سمعت نبضاته.
قلت له : ماذا تريد؟
مجهول: أريدك أنت.
_ وماذا تريد مني؟!
مجهول: أجب سؤالي ولا تتهرب مني، هل أنت راضٍ عن نفسك؟
أجبته بكل قوة: نعم أنا راضٍ عن حياتي.
مجهول: دعنا نعود بالذاكرة قليلًا للماضي، أتذكر نور التي كانت معك في المدرسة؟ أتذكر ماذا فعلت معها بعد أن أعطتك كل شيء، لم يكن لديك أصدقاء، أصبحت هي صديقتك، لم يكن لديك حبيبة، صارت حبيبتك، ظلت بجوارك رغم كل عيوبك وعصبيتك، فماذا كان ردك عليها؟! الخيانة...
أتذكر خيانتك لها؟!
لقد خُنت ثقتها بأفعالك، وتركتها رغم تمسكها بك، رغم أنها الوحيدة التي قالت لك نعم، والكل قال لك لا.
رد عليه قائلًا: أنا لم أخن، لم تكن نور العالم بالنسبة لي.
مجهول: لكنك كنت العالم بالنسبة لها، وفقدتها بغبائك.
شعرت بالندم حينها، لكن غروري كان أقوى، وقلت له: لو كنت تعتقد أن ما تقوله سيؤثر بي، فأنت مخطيء، ومن أنت لتحاسبني؟
قل لي من أنت؟ ولماذا تجلس في الظلام؟ لمَ لا تريدني أن أراك؟
ولكني لا أريد أن أعرف من أنت، اذهب من هنا واتركني لأنام.
مجهول: أبهذه البساطة تريد أن تنام، ستنام لكن ليس الآن رحلتنا سويًا طويلة وأمامنا الليل بطوله.
رد عليه: ماذا تريد مني؟!
مجهول: سبق أن قُلت أريدك أنت.
مُحمد: ها أنا أمامك لم تفعل لي شيئًا، فقط تهذي بكلامٍ ليس له معنى، لست خائفًا منك...
قاطعه المجهول بضحكاتٍ عالية وقال: ستخاف مني، ولابد أن تفعل.
مُحمد: ومما سأخاف؟
لكنه لم يجد ردًا.
إلى أين ذهبت أجبني لما سأخاف؟
في تمام الساعة الخامسة بعد منتصف الليل يستيقظ والعرق يتصبب منه صارخًا: جبان.. جبان.
أخذ ينادي والدته وأخته: يا أمي يا همس، الحقوني يا أمي يا همس، إنه كابوس مُفزع.
"فاضت عيناه بالبكاء"
مجهول: أنت هنا، لم يكن كابوسًا، من أنت؟ ألم يكن هذا حلمًا؟ من أنت أجبني؟!
مجهول: لا تضيع الوقت، لم يتبق سوى يوم على أن تتم الأربعين، أنت تضيع الوقت يا مُحمد.
_ من فضلك قل لي ماذا يحدث كي أهدأ، فلم أعد أفهم شيئًا، لقد تعبت.
مجهول: لم أسمع منك هذا الكلمة منذ زمن، أتعبت! 
محمد: هل أنت سعيدٌ لتعبي؟
مجهول: لا لكني أُشفق عليك! لنعود بالذاكرة لأيام الجامعة، أتذكر حين كنت تخدع أصدقائك في اللعب، وتُراهن على مبالغ كبيرة، تغشهم، وتأخذ أنت كل المال، لم تكن يومًا نادمًا على ما فعلت، أو رأيتك تعاتب نفسك.
مُحمد: بالفعل لم أشعر بالندم.
مجهول: تقدم خطوتين.
محمد: ماذا تقول؟ هل أنت مجنون؟
مجهول: تقدم خطوتين قف أمام المرآة.
_ أنت بالفعل مجنون.
فجأة شعرت بمن يتحكم في جسدي، كيف تحركت.. أنا لم أتحرك، ماذا فعلت؟
نظرت أمامي لأجد المرآة، حاولت أن أتحرك لكن كأني أُصبت بالعجز، وكأن أحدًا يقيدني.
مجهول: كف عن الكلام، وانظر إلى المرآة. 
نظر محمد للمرآة، وتفاجأ مما رأى مفاجأة شديدة، كأنما صُعق بصاعق كهربي، ردد باندهاش: نور، ماذا أتى بكِ إلى هنا؟
قالت نور: لمَ أنت مُندهش؟ ألم تتوقع قدومي؟ أم ظننت أني إاختفيت من حياتك؟!
قال محمد ومازالت علامات الدهشة تكسو وجهه: لم أتوقع أن ألتقي بكِ مرة آخرى حسبت أنكِ ذهبتي خارج البلاد ولن تعودي مجددًا بعد أن...
هنا توقف محمد عن الحديث لتسترسل نور قائلة: لماذا توقفت عن الحديث يا صديقي العزيز، أم أناديك حبيبي القديم، أكمل حديثك، بعد ماذا؟
بعد أن هجرتني، تركتني، وذهبت، علقتني بأحبال الهوى، وغدرت بي؟
ألم تقل أنك لن تذهب، لن تفارقني؟ لمَ.. لمَ ذهبت؟ لمَ خنت الوعد؟ ألم تشفق عليَّ لو لحظة؟ هُنت عليك يا عزيزي، ولم ترفق بقلبي الذي عشقك، واختارك أنت دون سواك، ماذا فعلت لك لتهجرني؟ وتذهب دون النظر وراءك؟
صرخت نور قائلة: لقد عشقتك أيها الخائن، و دفعت ثمن هذا العشق، و كان وجع قلبي، لقد حُرقت روحي برحيلك دون أي مبرر، ألهذه الدرجة كُنت بالنسبة لك مجرد دُمية لهوت بها، وعندما سئمت رميتها؟
ليتك وضعتها على رف الألعاب، أو نظفتها وتركتها، لكنك رميتها بعد أن أخذتها مثل وردة من بستان، ثم تركتها كورقة شجر في خريفها، لم يعد لها بريق ولا رونق، بل قُضي أمرها، أتعلم ماذا حدث لتلك الورقة عندما سقطت؟!
أخذتها الرياح يمينًا تارة وشمالًا تارة تتقاذفها حيثما شاءت، أتعلم لم أبكِ رحيلك لحظةً واحدة؛ بل بكيت نفسي، سذاجتي، غبائي عندما نسيت أنك رجل، وأنك يومًا تمل مني، وتهجرني، لكن لم أتوقع هذا منك، قد أعطيتك الأمان، كنت لك العون، والصديق ورفيق الطريق، كنت العصا التي تتكيء عليها، لمَ كسرتني؟! لمَ يا صديق العمر، وحبيب الروح؟!
لم تعطي نور الفرصة لمُحمد كي يرد عليها، وكما ظهرت فجأة اختفت.
أخذ يصرخ، ودموعه عرفت الطريق للخروج من عينيه، يقول وصرخاته تكاد تَصم الآذان: أين ذهبتي؟ ظَلي لحظةً أخرى؛ فأناأريد الاعتذار، لم أعلم أني تسببت لكِ في كل هذه المتاعب، لا تذهبي أرجوكِ، ابقِ للحظات آخر يا نور.. نور.
مجهول: لا يفيد الندم بعد فوات الأوان، الآن نور في بيروت تزوجت، وكونت أسرة، هي تحب زوجها كثيرًا، ولكن مازال في قلبها جرحٌ أنت فاعله.
قام مُحمد من الأرض، وأخذ يدور في الغرفة كالمجنون، يقول بصوتٍ غاضب: من أنت؟ من تكون، لمَ لا تظهر لي بنفسك؟ أجبني لمَ تفعل بي كل هذا؟ هل أنا ميتٌ أحاسَب؟ أم أنه كابوس سأصحو منه؟ وأخذ ينادي لعله يجيبه، ولكن فجأة عادت الغرفة كما كانت، وكأنها لم تكن مُنذ دقائق كمنزلٍ حدث فيه زلزال، وانقلب رأسًا على عقب، ثم عاد الصوت من جديد.
مجهول: لمَ تجلس هكذا أتعبت؟!
وقبل أن يجيب مُحمد أو ينطق بشيء، وجد نفسه يقف أمام المرآة، أخذ يصرخ بجنون: لا أريد أن أرى أحدًا آخر، لا أريد، وحاول أن يتحرك أو يخطو خطوةً واحدة، فلم يستطع، بل كان كالمقيد.
نظر إلى المرآة، وهو يدعو الله ألا تظهر نور ثانيًة، حمد الله أنها لم تظهر، وأخذ نفسًا عميقًا يُهديء من نفسه، أخذ يبحث عن المجهول، ولكن لم يجده كما اختفى صوتها، شعر ببعض الراحة، ولكن لم يتمكن من الحركة، نظر إلى المرآة مرًة أخيرة، لكن هذه المرة لم تكن نور، ولكن كانوا أصدقاء الجامعة، كانوا ثلاثة ينظرون إليه، وكأنهم ذئابٌ مُفترسة، ينتظرون الهجوم على فريستهم.
مُحمد: لا.. لا تقولوا أنكم أيضًا ستلقون عليَّ اللوم، ما فعلت لكم شيئًا، أقسم أني لم أفعل.
ضحك صديقه عمر بسخرية وقال: أتصدق ما تقول؟ ألم تفعل لنا شيء حقًا؟
رد حسام: لا يا عمر هو لم يفعل لنا شيئًا واحدًا، بل الكثير والكثير من الأشياء، تدخل مازن في الحديث قائلًا: لا تلقوا عليه اللوم يا أصدقاء، فنحن أيضًا تركناه يأكل لحمنا ووقفنا نشاهده وهو كمصاص الدماء يمتص أموالنا، ولم نفعل شيئًا.
قال عمر وصوته يكسوه العتاب والغضب: لمَ فعلت بنا هكذا؟ ألم نكن أصدقائك؟ ألم نكن إخوة؟ لمَ فعلت كل هذا؟ وأنت تعرف حق المعرفة ما نمر به؟
صرخ مازن: لأنه وغد ندل، وجبان وحقير، لم يكن لنا صديقًا، ولا عونًا، كان لصًا سرقنا تحت مسمى اللعب، وهو يفهم معنى اللعبة، ويدركها جيدًا...
قاطعه حسام قائلًا: وهو في الأصل غشاش، يعرف كل قواعد غش اللعب جيدًا، كان يراهن على مبالغ كبيرة، و يعلم جيدًا أنه من سيفوز وأننا سنخسر، ذات مرة كان يعرف أني لا أملك مالًا، ولكنه أصر أن يراهن بمبلغٍ كبير وقال لعلك تفوز هذه المرة، وعندما خسرت طالبني بماله، لم يكن أمامي سوى سرقة خاتم أمي، ثم أعطيته المال.
قال عمر: كنا نظنك شريفًا، ولكنك كُنت كالقطط خائنًا غادرًا، كُنا لك نعم الأصدقاء، لم نتركك يومًا واحدًا، دومًا كنا إلى جانبك، لمَ كُنت تفعل بنا هكذا؟ لمَ يا صديق العمر لمَ؟!
قال مازن والدموع تملأ عينيه: قد سرقت مال والدي لأعطيه لك لكي تتمكن والدتك من إجراء عملية القلب، لم أتردد لحظةً، ألم تتذكر هذا، وأنت تغشنا وتسرق أموالنا؟
كان مُحمد يستمع إليهم، وعيناه تذرفان الدموع، ولم يستطع الرد عليهم كمن نزلت عليه صاعقة ألجمته.
اختفى الثلاثة أصدقاء كما ظهروا، ولكن بعد ماذا، بعد أن أشعلوا الندم بقلب مُحمد، أخذ يبكي ويصرخ قائلًا: لهذه الدرجة كنت حقيرًا؟ ألم أعرف حق أصدقائي عليَّ، خنتهم وغدرت بهم؟ كنت أسرق أموالهم وهم يعطوني المال عن طيب خاطر، كانوا بجانبي في أصعب المواقف وأنا السكين الذي طعن ظهورهم، كنت أنا إبليس، صرخ بغضب: لمَ فعلت بهم كل هذا وأنا لم أرَ منهم غير الخير؟ لمَ دائمًا أخون وأغدر لمَ.. لمَ؟!
مجهول: الآن عرفت أنك خائن، أنك وغد حقير، لا تستحق حب أصدقائك، ولا حب نور، لم تكن يومًا صديقًا مُخلصًا، ولا حبيبًا.
صرخ مُحمد به قائلًا: لا أريد رؤيتك، ولا أريد أن أعرف من أنت، كل ما أريده أن ترحل من هنا، وأخذ يبعثر في الغرفة، وأمسك بآنية زهور، وكسر بها المرآة، وهو يقول لا أريد رؤية أحد، اتركوني وشأني.
مجهول: أغاضبٌ أنت حقًا؟
الحقيقة مؤلمة، أعلم ذلك لكن ما كنت أتوقع أن لك ضميرًا، وأن تندم على ما فعلت.
قال مُحمد بصوتٍ يغلب عليه البكاء: نعم ضميري يُؤنبني، فلم أكن أعلم أني ظالمٌ لهذه الدرجة، ولم أتخيل كم ظلمت، وخنت أقرب الناس لي، أنا لا أتألم بل إن قلبي يحترق، يكاد يخرج من بين ضلوعي، صرخ بأعلى صوته: لماذا.. لماذا حدث كل هذا ومن أنا ومن أنت أجبني.. أجبني يا هذا، لمَ نحن هنا؟
قاطعه قائلًا: قد أتيت إلى هنا لأجلك، من أجل إنقاذك من غفلتك، قد أُوذيت من عنادك وكبريائك، و خيانتك المستمرة لأقرب الناس إليك، ظللت أكرر في داخلك "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" ولكنك لا تعطيني أي اهتمام، كان قلبك مُغلفًا بالأنانية، بل كان كالأصم لا يسمع إلا نفسه، ولا ينصت إلا لشهواته، لكن اكتفيت، حاولت كثيرًا معك، أن أرشدك إلى الطريق الصواب، أقول أنه سيأتي يومٌ، ويتغير حالك إلى الأفضل ولم يحدث شيء، تمر الأيام،  ويزداد مكرك وخداعك...
قاطعه مُحمد قائلًا: كفاك كفاك أقسم أن قلبي يكاد ينفجر، لم أعُد أتحمل قولًا واحدًا، لمَ جئتني بكل هذا العذاب؟
مجهول: ألم تعرفني إلى الآن؟
مُحمد: صدقني أنا لا أعرف نفسي.
مجهول: أنا نفسك!
_ ماذا.. ماذا تقول؟ هل تهذي؟
_ بلى اقترب مني، اقترب لتشعر بي؛ فأنا هو أنت، أعرفت الآن من أنا؟ أعلمت ما فعلته طوال أربعين سنة، وكُنت تنكره دائمًا؟ أفهمت أننا لا نعيش الحياة بالمكر والخداع والكذب؟!
رد مُحمد قائلًا: نعم الآن فقط أدركت ما فعلته طوال أربعين سنة، تعلمت الدرس جيدًا، أدركت أنه لا فائدة من كل ما قلت من أكاذيب أو ارتكبت من خيانات لأصدقائي وأحبائي، لمَ لم تأتِ قبل فوات الأوان؟ الآن ذهبوا جميعًا، لم يعد هناك أصدقاء، ولا أحباب لم يبقَ سوى أمي وأختي، لمَ تأخرت كل هذا الوقت في إيقاظي من غفلتي، لمَ؟
_ لا لم يتأخر الوقت، بل هو الوقت المناسب، كي تصبح شخصًا ناضجًا واعيًا لكل ما تفعله.
_ نعم لديك الحق في كل ما تقول، لم يفت الوقت بعد،
قام مُحمد من الأرض، ووقف أمام بقايا المرآة المُهشمة ليهدأ قلبه ويستكين وكأنما ذاق حنين الشوق لوطنه بعد مرارة فراق دامت لسنوات.
يحل الصباح لتدق همس على باب غرفة محمد قائلة: استيقظ فاليوم عيد ميلادك الأربعين، استيقظ ناظرًا لبقايا مرآة على الأرض، وتأكد أن ما حدث لم يكن حلمًا، ثم تمعن لوهلة فيما حدث، نظر إلى نفسه مبتسمًا كأنه شابٌ في سن العشرين ولكن بعمر رجلًا في سن الأربعين، وقال الآن فقط أدركت معنى الأربعين، وأن كل ما حدث سابقًا كان خطايا ما قبل الأربعين.
تمت بحمد الله
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي