الفصل ١

فتحت عينيها بضعف بعد أن تسللت أشعة الشمس إلى غرفتها، رفعت « فريدة» هاتفها لترى الوقت، وجدتها الثامنة صباحًا، ما زال هناك ساعتان على ميعاد أنطلاقها
16 10 من أكثر الأيام كآبة لها ذكرى وفاة والدتها، ذلك اليوم الذي تحب كثيرًا أن تقضيه بالمقابر كي تحكي لوالدتها عما تحبسه داخل صدرها، ما زال موت والدتها يترك بداخلها فراغًا لا يستطيع أحد تعويضه. مَن يموت يترك أثرًا بداخل الأحياء .. أثر لا يمكن محوه حتى ولو مرت عقود، أثر يُدعى الفراق.
قامت فريدة بإطلاق العنان لشعرها، لم تحب رفعه أبدًا تحب تركه هكذا يتطاير مع نسمات الهواء، طول شعرها يتناسب مع قامتها المتوسطة ، هي فتاة متوسطة في كل شيء عدا الجمال الذي ورثته من والدتها . شعرها البني الذي يصل إلى حد ركبتيها، عيناها العسليتان، ثغرها الصغير وأنفها المستقيم، شفتاها المكتنزتان، كل شيء فيها مثالي .
إنتهت فريدة من أرتداء ملابسها، وضعت القليل من مساحيق التجميل لتخفي أثر البكاء من عينيها، تحاول دوماً ألا تجعل أحد يلاحظ بكائها وتنجح بذلك فلم يتواجد بعد الذي ينظر داخلها حتي الرجل الذي تحبه أحياناً لا يلحظ ذلك لا ينقصها شيء سوى تناول فنجان من القهوة قبل أن ترحل إلي طريقها .
-  صباح الخير يا بابا ، شكلك جميل النهاردة علي فكرة ن ماما أمينه فنجان قهوه بسرعه علشان متأخرش
-  ياحبيبتي أمينه مش أمك بطلي بقي الكلمه دي أمينه شغاله ، هنفضل نتكلم كتير كدا ؟
-  ألام مش بس اللي بتخلف ألام اللي بتفهم اللي قدامها بيحسوا وبيمروا بيه ..أمينه هي الحضن الوحيد في العالم اللي بيحتويني تفتكر دي مش تستاهل يتقالها يا أمي وبعدين أي شغاله دي حضرتك لسه عايش من أيام العبوديه الزمن دا ول عهده خلاص " تتمني لو يتحدث معها بشكل جميل كما تفعل لكنها في كل مرة تفشل ، لا تتمكن من أن تجعل قلبه هذا يرق عليها ولو قليلا "
-  وبعدين خايفه تتأخري ليه إنتي رايحه فين دلوقتي ؟
-  متوقعه إن حضرتك هتسألني السؤال دا لإن أكيد حضرتك مش فاكر النهاردة ، النهاردة اليوم اللي أمي إندفنت فيه
قالتها بحزن واضح عليها، حتي ذلك اليوم لا يتذكره أيعقل أن يكون نساها ...كيف له ذلك ينسي من عاشت معه سنوات وتحملت معه الكثير ..أم يتناسي ذكراها حتي لا يحزن علي فراقها لكنها تدرك أن والدها ليس بذلك الرجل الذي يهتم بمن حوله أو يتذكر من رحل عامة
- فريدة لما تخلصي تعالي علي البيت علي طول عاوزك .
مش هينفع في ورق ناقصني لازم أجهزه أنا خلاص فاضل علي الماجستير حاجات بسيطه ولازم أكون جاهزه
- إسمعي كلامي بس إرجعي لإني عاوزك في موضوع ضروري مينفعش يتأجل هستناكي اوعي تتاخري
- خير يا بابا قلقتني حضرتك عارف إني مش بحب أنتظر ممكن تقول لي دلوقت ؟
- طيب ، يلّا على ميعادك بقى علشان متقوليش إني أخرتك هستناكي إوعي تتاخري
- حاضر ، حاضر مش هتاخر سلام
************
خرجت من منزلها ثم توجهت إلى سيارتها المركونة بجراج فيلتهم ، وصلت لمحل الزهور القابع بالقرب من منزلهم
تناولت باقة الياسمين و غادرت مسرعة إلى المقابر، ما زالت تتذكر كل شيء حدث في ذلك اليوم وكأنه البارحة لم تنسي اي شيء أحيانًا لا تصدق أنه مر على وفاة والدتها ست سنوات ، حدثت تغيرات كثيرة في حياتها لقد تبدلت حياتها بالكامل ، أخرجت فريدة دفترها وقلمها من حقيبتها، جلست بجوار المقبرة وبدأت تكتب:
« ماما.. متعرفيش إنتي وحشاني قد إيه... كل سنة.. لا، كل يوم، الشوق بيزيد ليكي ، لحد دلوقتي مش بصدق إنك سِبتيني ومشيتي أيام كتير كنت بشك انك لسه هنا ، لسه معايا وكأن اللي حصل محصلش انا لسه بصحي من النوم بدور عليكي ، بشم ريحتك في كل حاجة ايدك بتلمسها وبتمر عليها لسه كل حاجة بتحبيها زي ما هي لسه كل حاجة ايدك بتمر عليها موجودة
النهارده إنتي بقالك ست سنين بعيدة عني، أيام كتير أوي كنت بفكر أجيلك وحاولت أكتر من مرة لكن ربنا مكانش بيديني التأشيرة، تأشيرة الموت كنت بتراجع في اخر وقت وكان حاجة بتمسكني
الموت صعب أوي و موجع... عارفه يا ماما موتك ساب جوايا جرح مش هنساه مهما عدى وقت .
«مؤمن» دايمًا جمبي بيحاول يعوضني عنِك لكن مفيش شيء يقدر يعوضني عنك... بابا بقاله فترة متغير معايا، بقى بيخاف عليّا أوي وبيهتم بيّا مش عارفة ليه؟ خايفة جدًا منه وحاسة إن التغير ده وراه سر...
«مريم» بتسلم أوي عليكي وهي كمان بتقولك إنك وحشتيها. إنتي يا ماما مشيتي وراح بعدك ناس تانية بَحبّهم، مش قادرة أنساكم أبدًا أو أتقبّل فكرة فراقكم».
لم تجد فريدة حديثًا آخر يقال بالرغم من كثرته داخل عقلها ولكنها فَضّلت أن تجلس صامتة ، بعض الأوجاع لا تُحكى، فقط تظل داخلنا.. تظل مكتومة لتاكلنا من القلق والخوف : ما العنهم يدمرون الإنسان
قاطع تفكيرها رنين هاتفها مارغبت في الرد عليه لكنها سرعان ما غيرت رغبتها حين وجدت مريم تتصل بها
- صباح الخير يا فيري.. إنتي لسّه في المقابر ؟
- آه، قاعدة شوية لسه واصله من مفيش في حاجة والا ايه .
- طيب ، ممكن تروّحي ؟ كفاية كده؛ إنتي بقالك ساعتين قاعدة، أنا مش هقدر أجيلك النهارده، عندي مرافعة كمان نص ساعة وبعدها عندي شغل كتير فمتفضليش لوحدك لو سمحتي .
- لا يا « روما ».. أنا هقعد شوية وبعدها هروح مش هطول متخافيش ، و أصلاً مكانش هينفع نتقابل النهاردة للاسف
- ليه خير في حاجة عندك والا ايه ؟
- بابا كان عاوزني الصبح قبل ما أنزل في موضوع معرفش إيه هو. وعاوزة اجهز كل شي للماجستر؛ خلاص كلها أربع شهور وميعاد المناقشه يجي ، مش متخيلة إني قربت أوي كدا أنا بقالي سنتين مستنية اليوم ده يقرّب اتمني يكون بخير .
- طيب ، متتأخريش وتفضلي قاعدة كتير ادعيلي يا فيري علشان دي قضية صعبة أوي ومهمة .
- مفيش حاجة صعبة على مريم هاشم... يا بنتي إنتي أشطر محامية في إسكندرية كلها.
- المشكلة إنها قدام «رفيق»، مش عارفة هقدر أواجهه إزاي، وفي الحالتين أنا هخسر، لو كسبت القضية هخسر رفيق و لو مكسبتش القضية هخسر القضية.. فهماني ؟
- إن شاء الله هتكسبيها من غير ما تخسري حد أو شيء، ومتقلقيش طالما بريء حضرتك تقدري تهزمي القاضي نفسه مش رفيق بس.
- ماشي، ابقي طمنيني عليكي، أنا هقفل دلوقتي، لا إله إلا الله .
- محمد رسول الله .
أغلقت فريدة هاتفها وجلست تنظر إلى القبر مرة أخرى ، ما الذي سيحدث إذا عاد مَن مات للحياة و لو لبضع ساعات ، بضع ساعات فقط هل هذا كثير ؟ ربما ليس كثيرًا ولكنه صعب ، لا بل مستحيل ، هناك ثلاثة مستحيلات وعودة الميت هي المستحيل الرابع.. كل ما كانت تفعله هو النظر إلى السماء كي ترى الطيور، تتمنى لو كانت طيرًا إنها المخلوقات الأكثر روعة على وجه الأرض لم تُخلق لشيء سوى للحرية قاطع جلوسها دخول «مؤمن»:
- كنت عارف إني لو سِبتك هنا سنة مش هتمشي لوحدك ؛ علشان كدا قررت آجي آخدك ، قعدة العربية مُملة فوق الخيال أنا تعبت منها لمحت سعاده في عينيه لم تعهد رؤيتها مذ مده .
- إنتَ هنا من إمتى ؟ وفرحان كدا ليه.. خير؟
- من أول حضرتك ما جيتي محبيتش أدخل ، كنت حابب أسيبك شوية.. بس مش كفاية كدا بقى؟!
- لسّه وَحشاني أوي يا مؤمن ، نفسي أوي أروحلها عارف بالرغم من إني حسّاها معايا إلا إني محتاجة وجودها الفعلي جمبي، كان نفسها أكون معايا دكتوراه في مجالي و خلاص أنا قربت أوصل.. متخيل هي فرحانة قد إيه بيا؟
- في يوم هنروحلهم كلنا بس مش دلوقتي ، وبعدين عاوزة تسيبيني وتمشي، لحقتي تزهقي مني.. ومش هي لوحدها اللي فرحانة بيكي وبنجاحك على فكرة.
- أكيد مقدرش أزهق منك، مؤمن.. إنتَ الهوا اللي باتنفسه، أنا مقدرش أبعد عنك أو أسيبك. يمكن إنتَ الحاجة الوحيدة الحلوة في دُنيتي ربنا يخليك ليا يا حبيبي .
- طيب يلّا بقى علشان نمشي، أنا هعزمك على الغدا وبعدين همشي، عندي مشوار مهم.
- لا، مش هينفع أخرج النهارده أو أتأخر، وبعدين مشوار إيه ثم إنك فرحان كدا ليه مقولتليش خير
- ليه مش هينفع تتأخري ؟
- بابا قالي متأخرش علشان عاوزني النهارده في موضوع و متسألنيش إيه هو لأني لسه معرفش
- خير افتكر إنه أب وألا إيه !ا قالها مؤمن بنوع من السخرية
- يا مؤمن.. إنتَ لسه مش بتحبه برضو، انسى اللي فات بقى ومتنساش إنه أبويا مهما عمل و مهما حصل بينا هيفضل بابا برضوا
- أنسى إيه يا فريدة ؟ اللي عمله ميتنساش ، اللي هو عيّشك فيه مش مخليني قادر أسامحه فريدة إنتي إزاي قادرة تسامحيه و تستمري معاه ؟
- أنا مبسامحش بس لازم أكمل حياتي لو فضلت فاكرة كل شيء مش هقدر أعيش مؤمن أرجوك متفكرنيش باللي فات ، أنا بحاول أنسى اللي حصل، أنا تعبانة أوي متخلينيش أخرّج كل اللي شايلاه جوّايا أنا بساير حياتي و دا المهم
تدارك مؤمن الموقف وعلم أنه ما كان ينبغي له أن يُظهر كم يكره و الدها في أحيان كثيرة يكون من الأفضل أن نُبقي بعضًا من المشاعر داخلنا.
- طيب تعالي أوصّلك وأروح على العيادة .
- هنسيب عربيتي فين؟.. روح إنتَ شوف شغلك و أنا لمّا أروّح هطمّنك إني وصلت مع إني مش هيحصلي حاجة .
- واحدة زي القمر زيك لازم يتخاف عليها يا فيري.. إنتي المفروض تفضلي في بيتك متخرجيش ، المفروض مفيش عين تشوفك إلا عيني. عارفة، ساعات بفكر أتجوزك وتفضلي في البيت ليا ، تبقي ليا انا و بس
- تاني يا مؤمن، تاني السيرة دي.. إنتَ مش هتتغير... ساعات كتير بحس إني بتكلم مع بابا.. إنتَ شبهه أوي... نفس حب التملك لو سمحت متكررش اللي بابا عمله مع ماما زمان متخلنيش اخاف منك
- أنا مش زيه وعمري ما هكون زيه ، إنتي عارفة كدا و لكن أنا بحبك و بغير عليكي من الهوا، متعرفيش إنتي بالنسبة ليا ايه .
- بحبك طيب .
قالتها وهي تنظر إليه كانت عيناها تخبره بحبها قبل لسانها لا تمل أبدًا من قول كلمة بحبك و هو أيضًا لا يمل من سماعها. تلك الكلمة لها أثر خاص على قلب العشاق .
- تاني كدا عاوز أسمعها قالها مؤمن وهو يبتسم لها
- لا، هي بتتقال مرة واحدة بس كفاية متبقاش طماع
- علشان خاطري عاوز أسمعها كل شوية ، لا كل يوم يا فريدة.. اوعديني إنك هتفضلي تحبيني وعمرك ما هتحبي حد غيري انا مش قادر افكر انك تبقي لغيري
- بحبك وهفضل طول عمري بحبك ممكن متفكرش في الموضوع دا كتير ؟ وتفكر إن ممكن ابقي لغيرك لو سمحت يعني ؟ أصلاً عيني مش شايفة إن فيه راجل تاني في العالم كله إلا إنتَ علشان أحب غيرك أو حتي أبص لمخلوق غيرك يا حبيبي
قالتها فريدة وهي توشك على فتح باب سيارتها ولكن مؤمن أوقفها:
- نسيتي الجواب
كل يوم يزداد حبها له كل يوم تدرك أنها أحسنت الاختيار حين اختارته سنداً لها
- أنا بقى معايا جوابات ممكن أطبعها في كتاب عارف لمّا بحس نفسي زعلانة أو متضايقة بطلّع جواباتك وأفضل أقراها، كل مرة أقراها بحس إني بقراها لأول مرة.. أنا عاوزة موبايلي يبقى فيه رسايل من حضرتك ؛ كل اللي عندي رسايل مكتوبة وبس إحنا ممكن ندخل عنصر التكنولوجيا حضرتك معاانا شوية
- إنتي اللي زيك مينفعش معاه حب الـSMS... إنتِ محتاجة حب بتاع الرسايل والجوابات المكتوبة الجوابات اللي كل حرف فيها بيتكب من القلب اللي كل كلمة بتتقال بتكون صادقة
ابتسمت فريدة لِمَ قاله مؤمن فظهرت أنيابها من بين أسنانها وتلك الغمازة الخفيفة التي تزين خدها الأيسر
- عاوز أشوفك دايمًا بتضحكي يا فريده.. إنتِ ميلقكش عليكي إلا الفرحة ، ربنا ميحرمنيش منك يا حبيبتي
قالها مؤمن و هو يضع يده على وجهها ليتحسس ملامحها.. كان يعشق النظر إلى عينيها
- أنا همشي بقى علشان متأخرش، سلام
قالتها وهي تحاول أن تخفي مدى سعادتها و خجلها معًا لِمَ يقوله حبيبها والرجل الذي قررت أن تمضي معه حياتها
كيف يمكن للحب أن يجعلنا ننسي الاسي ، صحيح أننا لا نتمكن في المطلق من نسيانه بشكل كبير ولكننا نتمكن ولو قليلاً من تخطي الام ، إن الحب شفا لمن يبحث عن شفاء قلبه فإن علة القلب تطيب و تهدأ بوجود ذاك الشخص الذي يتمكن من لمسه تلك الخلايا تبدأ مخاوفنا في الانكماش قليلا و قليلا حتي تكاد ان تختفي تعلم ان حب مؤمن حب مختلف فهو حب تعودها عليه فهما معا منذ ان ربيا سويا لكن لا يهم المهم انهم يحبان بعضهم البعض
سار الاثنان في طريقين مختلفين ، كل منهما يقصد وجهة مختلفة غير الآخر فريدة ستعود إلى منزلها، أمّا مؤمن فقد كان ذاهبًا إلى أهم موعد في حياته... سيُعدّ لها مفاجأة بالرغم من علمه كرهها للمفاجآت ولكن هناك أشياء تظل أجمل حين تُخفى رن هاتف فريدة وهي في طريقها لمنزلها ، وجدت مريم المتصلة
- إيه يابنتي.. عملتي إيه طمنيني ؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي