الفصل الأوّل

الفَـصلُ الأوّل بِـ عِـنوَان: "جَـرِيـمَة نَـادِرَة الحُـدوثِ !"


| أوّلَ شَـهرِ إبـرِيـل عَـامَ 1989 |

• في أحَـدِ مُـقَاطَعَاتِ وِلَايَـة أوهَـايُو المُتَـوَاجِـدَة بِـالوِلَايـات المُتّـحِدَة بِـأمريـكَا الشَـمَالِيّـة •

شَـابٌ فِـي أوَخِـر العِشـرِيـنَات يُمَـارِس رِيـاضَتِه الصبَـاحِيّة المُفَضّلَة عَـلَىٰ جَـانِبِ الطَـريق وَحـدَهُ، ألَا وَ هِـي الرَكـضُ صَبَـاحَاً؛ إذ أن اليَـومُ هُـوَ يَـومُ السَبتِ، أيْ عـطلَتَـهُ الأسبُوعِيـّة و يَـومَـه المُفضَل بَيـن كُـل الأيّـامِ.

يَـركُـضُ ' دونالد ويلينج ' بِـهُدوءٍ بَيـنَ حقُـولِ الأريَـافِ الهَـادِئَـةِ وَ الجَمِيـلَةِ، و إذَا بِـسَيَارَةٍ أيـقُونِيّـة بَيـضَاءَ تَسيـر بِـهُدوءِ وَرَاءِهِ، لَـمْ يَـهتَمْ وَ أكمَـل رَكضِه البَطِـيء، حَتَـىٰ إقتَـرَبَت تِـلكَ السَيّـارَة ثُـمَ أبطَـأَت مِـن سُـرعَتِـهَا مِمَّا جَعَلَـهَا بِـمُحَاذَاةِ ذَلِـكَ الشّـاب!

ثَـوَانٍ مَـرّت بِـهُدوءِ حَتَـىٰ لَاحَـظَ الشَـابُ أنّ السَيّـارَة تُـحَاذِيـهِ، ألْـقَىٰ نَـظرَةً عَلَىٰ السَـائِـق؛ فَـوَقَفَ مَـذعـوراً فَـاغِـرَ الفَـمِ..

و قَبـلَ أن يَـعِي مَـا يَـرَاهُ خَـرجَـت طَـلقَةٌ نَـارِيـةٌ مِـن نَـافِذَةِ تِلـكَ السَيّـارَة تَـختَرقُ صَـدرَهُ بِـعنفٍ؛ فَـسَقَطَ قَتيـلاً عَلَىٰ جَـانِبِ الطَريـقِ!

ثُـمّ رَحلَـت السَيّـارَةُ البَيـضَاءَ بِـكُل هُدوءِ لِـتَـختَفِي عَـن الأنـظَار!


———


"دونالد ويلينج، المَفقود مُنـذ ثَـلاثَة أيّـام، تَـم إيجَاد جُـثّة مَقتُـولَة بِـنفسِ مُـوَاصفَاتِه عَلىٰ جَـانِب الطَريق الرَئِيسي بِـالمُقَاطعَة!"

تَـحَدّث أحَـد أفـرَاد الشُرطَة لِـلمُفوّض المسئُـولِ عَن المَنـطِقَة، و الّـذِي يُـدعَىٰ ' لوكاس '.

"قُـم بِـإستدعَـاء عَـائـلة المَفقُود حَتَىٰ يَـروا الجُثّـة، و إذهَب إلَىٰ هُنَـاك مَعهُـم، و أبلِـغني بالتطورَات."

"أمرُكَ سَيّـدِي."

قَـالَ الشُـرطِيّ ' لوكاس ' لِـرئِيـسِه بَيـنَما يُـلقِي التَحيـة الخَـاصَة بِـأفرَاد الشُرطَة كَـالمُعتَـاد.

بَـعدَ مُـدّة لَيـسَت بِـكَثِيـرَةٍ، ذَهَـبَ ' لوكاس ' إلَىٰ مَـسرَح الجَريـمَة بَـعدَ إتّـصَالِه بِـعَائِـلَة ' دونالد ويلينج ' و إبلَاغِهِم ..

• فِـي مَسرَح الَجَريـمَة •

الشُرطَـة و القِسـمِ الجِنَائِـي مُنتَشِرَ فِـي كُـل مَكَـان لِـلبَحثِ عَن أي دَليـل أو طَرَفِ خَيـطٍ يَـدُلّـهُم عَـلىٰ طَريـق المُجرِم.

بَيـنَما طَبِيـب التَشرِيـح يَـطّلِع عَلَىٰ الجُثّـة و يَـفحَصهَا.

"لقد قُتِـلَ المَجنِـي عَليـه بِـرَصاصَـة فِـي صَـدرِه الأيـسَر."

كَـان يَـقول طبيب التشريح لِـ ' لوكاس ' تفَاصِيـل إصَـابَة الجُثّـة، ثُـمَ سألَ ' لوكاس ' الطَبِيـبَ:

"هَـل هُـوَ حَـادِثُ صَيـدٍ؟"

"لا، لا أعتَـقِد ذَلِـكَ؛ لَـقد إستَـهدَف القَـاتِلُ صَـدرَ الضَحِيّـة، تَـحدِيـداً قَلبَـهُ، مِـمَا يَـعنِي أنّـهَا جَريـمَة قَتـلٍ و لَيـسَت حَـادِث صَيـد!"

"هَـل هُنَـاكَ إحتِـمَال أن تَـكُون صُـدفَة ؟"

"ضَئيـلٌ جِـداً، لَكِنّـي لَا أظُـن ذَلِـك."

أخَـذَ ' لوكاس'  يُـفَكّر فِـي حَديـث الطَبِيـبِ؛ فَـأكمَل الطَبِيـبُ قَـائِـلاً:

"سَـنَتَحَقق مِـن ذَلِـكَ أكثَـر عِنـد نَـقلِ الجُثّـة إلَـىٰ مَعمَلِ التَـشرِيـح."

أومَـأ الآخَـر بِـصَمتٍ يُـفكِر، حَتَـىٰ قَـطَع تَـفكيـرَه إتّـصَالٌ مِـن مُـديـرِه:

"مَـا الذِي إكتَـشَفتُمُوه إلَـىٰ الآن؟"

"لَـقَد إصِيـبَت الضَـحيـة بِـرَصَاصَـة نَـارِيّة فِـي صَـدرِه الأيـسَر، تَـحديـداً فِـي قَلبِـه؛ أي أنّـهَا لَـم تَـكُن حَـادِثُ صَيـدٍ بَـل كَـان عَـن عَـمدٍ!"

"هَـل هُنَـاكَ أيّ بَصـمَاتٍ أو دَليـل يَـدُل عَـلىٰ القَـاتِل؟"

تَنَـهّد ' لوكاس ' بِـهُدوءٍ ثُـمّ قَـالَ بِيَـأسٍ:

"لِـلأسَـفِ لَا، لَا يُـوجَد سِـلَاح جَريـمة أو بَـصمَاتٍ، حَـتّىٰ أن مَـسرَح الجَريـمَة غَيـر مُزَوّدٍ بِـأي كَـاميـرَاتِ لِـلمُرَاقَبـَة!"

"إن لَـم نَـعثُر عَـلىٰ طَـرَفِ خَيـطٍ يُـوصِلُنَا إلَـىٰ القَـاتِل سَيـتِم إغلَاق القَضِيـة لِـعَدَمِ وُجُـود أدِلّـة كَـافِيَـة."

تَـنَهّد ' لوكاس ' مَـرّة أخـرَىٰ بِـحِيـرَة بَـعدَ أن أغلَـق المُفَوّض الخَط، إن الجَـرَائِـم فِـي الأريَـاف نَـادِرَة جِـداً؛ الوَضـع صَعبٌ حَقاً، هَـذَا مَـا كَـان يُفَكّر بِـه.

| بَـعدَ سَـاعَتَيـن |

قَـد تَـمَ نَـقلُ الجُثّـة إلَـىٰ مَعـمَل التَـشرِيـح بِـإنتِـظَار مَـجِيء أسـرَة الضَـحِيّة..

لَـم يَـمُر عَشـرِ دَقَـائِقٍ و قَـد جَـاء الوَالِـد و الزَوجَـة فَـقَط، الزَوجَـة مُحطَمـة كمَـا الوَالِـد، يَتمَنّـىٰ لَـو أخطَـأ الشُرطِـي فِـي وَصـفِ الضَحِيّـة، سَـارَت الزَوجَـة بِـتَرَددٍ بَيـنَما يَـستَنِد عَلَىٰ ذِرَاعِـهَا الوَالِـد لِـعَجزِه عَـن السَيـر وَحـدِه إلَـىٰ غُـرفَـة التَـشريح..

جَعَلَـت الزَوجَـة وَالِـد زَوجِـهَا يَـستَرِيـح عَـلىٰ مِقعَدٍ قَريـب مِـن تلك الغُـرفَة المُـوجُودَة بِـهَا الجُثّـة، كَـادَت تَـترُك يَـدَه لَـكِنّـه تمَسّـكَ بِـهَا بَيـنَما يَـنظر إلَىٰ عَيـنَاها بِـحزنٍ و الدمُـوع تَتَـلَألأ فِـي عَيـنَاه و كَـأنّـه يَـتَرجّـاهَا ألّا تَـذهَب؛ فَـهُوَ لَـن يَـحتمِل فُقدَان إبـنِه بَـعدَ أن فَـقَد زَوجَتِـه مُنـذُ عَـامِ وَاحِـدٍ و أصبَـحَ وَحِيـداً..

نَـظَرَت لَـهُ الزَوجَـة بِـأمَـلٍ تُحَـاوِلُ مُسَـاعَـدِتـه عَلَىٰ الهُـدوءِ و حَثّـه عَلىٰ تَـركِ يَـدهَا كي تَـذهَب و تَـرىٰ بِـعَينيهَا؛ لِِـتَستَريـح هِـيَ و هُـوَ مِـن ذَلـكَ العَـذَابِ، تَـركَ يَـدهَا بَـعدَ لَـحظَاتٍ مِـن التَردُد الشَديـد و الدُمُـوع تَـتَسَاقَط مِـن عَيـنَاه ألَمَـاً عَلَىٰ إبـنِهِ..

تَـحركَت الزَوجَـة تِـجَاه الغُـرفَـة بِـتردُد شَـدِيدٍ و قَـلَقٍ أشـدّ، لَا تَـعلَـم أيـن ذَهب هُـدوئِـها و أمَـلِهَا حِيـنَ أهـدَأت وَالِـد زَوجَـهَا

حَـاوَلَـت تَـهدِئـة ذَاتَـهَا و تُفـكِر 'رُبّـمَا لَيـسَ هُـوَ!' و تـحِثُ ذَاتِـهَا عَلَىٰ التَـقدمَ مُجَدَداً إلَـىٰ الأمَـامِ مُـتَشَبِـثَة بِـخَيـطِ أمَـلٍ رَفيـعٍ، تَـتمَسّك بِـه كَـمَا الغَريـق يَـتَمسّك بِـطَوق النّـجَاة؛ حَتَـىٰ تَـقتَرِب أكثَـرَ قَبـلَ أن تَـنهَار فِـي مُنتَـصَفِ الطَريـق!

رَآهَـا الشُـرطِيّـان المَحَلّيَـان الجَـالِسَـان بِـقُربِ الغُـرفَـة يَـنتَظرُون التّـعَرّف عَلَىٰ الجُثّـة ، شَـعَر أحَـد الشُـرطِيّـان بِـمَدىٰ تَـرَدُدِهَا؛ لِـذَا إقتَـرَب مِنـهَا إحتِـرَاماً لِـمَشَاعِرهَا يَـحِثّـهَا بِـهُدوءٍ عَـلىٰ الإقتِـرابِ أكثَـر.

أمسَـكَت بِـالمِقبَـض ثُـم أدَارتـه و دَلَـفَت إلَىٰ الغُرفَـة، أخَـذَت تَـقتَرِبُ بِـبُطئٍ مِـن ثّـلَاجَة المَوتَـىٰ، تَـعابِيـرهَا تَبـدو مُـجَمّدَة بَـينَمَا دَاخِـلِهَا نَـار تَـحرِقُهَا و تَنـهَش رَوحِهَا الضَعيـفَة، فَـتَح الطَبيـبُ الثّـلَاجَـة ثُـمَ أخـرجَ تِـلكَ الجُثّـة الهَـامِـدَة المُغطَاة بِـمَلَائـة بَيـضَاء!

نَـظَر إلَيـهَا يَسـألُهَـا بِـعَينَـاه إن كَـانَت مُستَـعِدَة لِـرؤيَـته، فَـأومَـئت بِـهُدوء تَـام؛ رَفَـعَ الطَبيـبُ جُـزءاً مِـنَ المِـلَائَـة لِيـظهَر وَجَـه زَوجِـهَا، إذاً إنّـه حَقاً هُـوَ!

أمـطَرَت دُمُـوعِـهَا بِـغَزَارَةٍ عَلىٰ وِجنَتَيـهَا، بَـدأت شَـهقَاتِـهَا تَـعلُو حتَـىٰ بَـلغَت مَسَـامِع الجَميـع، حَـىٰ الوَالِـد الذِي نَـهَض سَريـعاً بَيـنَمَا يَـتَخِذ الحَـائـط سَـنداً لَـه مُقتَـحِماً الغُـرفَة؛ فَـرأىٰ وَلَـدَه الوَحيـد و فَـلذَة كَبِـدِه أمَـامَه جُثّـة هَـامِـدَة فِـي أحَـد الثَـلَاجَـات!

أمسَـكَ بِـقَلبِـه بَيـنَما رُوحَـه تَـبكِي قَبـل عَيـنَاه، ثُـمَ نَـظَر إلَـىٰ زَوجَـة إبـنَه التِـي تَمَـزق حَـلقِهَا مِـن كَثـرَة النّـحيـب و الصُرَاخ حَـتَىٰ إنـهَارَت عَلىٰ أرضِيـة الغُرفَـة البَـارِدَة!!

———

| 13 سِـبتَمـبِر عَـامَ 1972 |

• فِـي وِلَايَـة تِـكسَاس •

أنَـهَىٰ ' توماس ' حِصَتَـه مع زُمَـلَائِـه، نَـظَر لَـه صَـديـقَه ' كريس '؛ فَـرآه يُـغَادِر عَـائِـداً إلَـىٰ مَنـزِلِـه بِـهُدوءٍ، ثُـمَ قَـالَ بِيَـأسٍ:

"توم، هيا يا فتـىٰ إلعَـب مَعَنَـا، وَ كُـفّ عَـن المُذَاكَـرَة!"

قَـال أحد الفِتيـان الـذي فِـي نَـظَر ' توماس ' يَـبدو طَـائِشاً و مُتَـهوّراً.

"لا، لَـدَينَا إختِبَـار غَـداً، يَـجِب أن أذَاكِـر."

قَـالَ بِـإبتِـسَامَة هَـادِئَـة، نَـظر الآخَـر و الّـذِي يُـعَدّ صَـديـقاً جَـدِيـداً لِـ ' توماس ' مُنـذُ عَـامَيـن بِـلا مُبَـالَاةٍ ثُـمّ لَـوّحَ بِيَـدِه قَبـلَ أن يَـذهَب وَ قَـالَ:

"حَسنـاً، كَيـفَ مَـا شِئـتَ."

إبتَسَـم ' توماس ' رَداً عَـلَىٰ حَديـث صَـدِيـقَه ' كريستيان ' ثُـمّ عَـادَ إلَـىٰ المَنـزِلِ بِـمُفرَدِه..

———

| فِـي صَـبَاحِ الغَـدِ |

كَـان ' توماس ' نِـصفَ نَـائِـم، يَـتَقَلّبُ بِـنُعَاسٍ بَيـنَما قَـد سَـمَح لِـلكَسَـلِ بِـالتَمَـكّنِ مِنـه، نَـهَض هُـوَ عَـن سَـريـرِه سَريـعاً وَ بِـخَوفٍ بَـعدَ أن سَـمِع صَـوتِـهَا يَـقتَـرِب و يُـنَادِيهِ:

"توماس، توماس إستَيـقِظ يا بُـنَي؛ إنّـه يَـومُ إختِبَـارِكَ!"

طَـرَقَت الأمُ 'ماريا' بَـابَ غُرفَـة وَلَـدِهَا الأبيَـضِ، ثُـمَ دَلَـفَت بَـعدَ أن رَدّ هُـوَ سَـريـعاً:

"إدخُلِـي يَـا أمّـي."

"هَيّـا يَـا بُنِـي، أسـرِع وَ إستَـعِد لِـلذَهَـاب إلَـىٰ مَـدرَسَتِـك و خَـوضِ الإختِـبَار!"

تَـلَاشَت إبتِـسَامَتِـه و لَـمعَة عَيـنَاه و نَـشَاطِـه بَـعدَ تِـلكَ الجُملَة التِـي يَـسمَعُهَا فِـي كُـلِ يَـومٍ يَـكُون فِيـهِ إختِبَـار حَتّـىٰ و إن كَـانَ بَسِيـطاً!

"سَـأذهَـبُ أنَـا لِأُيـقِظَ أخَـاكَ كايـلِر."

ثُـمَ ذَهَبَـت دُون الإكتِـرَاث لَـه، نَـكَس 'توم' رَأسَـه بِـحزنٍ دَفِيـنٍ، ثُـمَ نَبَـسَ بِـخَيـبَة أمَـلٍ:

"مُـجَدَداً، لَـم تَـقُل لِـي صَبَـاحُ الخَيـرِ حَتّـىٰ، كَـالعَادَة هِـيَ كَـمَا هِـي حَتّـى وَ إن جِئـتُ لَـهَا بِـأعلَـىٰ الدَرَجَـات فِـي الإختِبَـارَات."

حَـزِنَ أكثَـرَ وَ تَـلَألَأت عَيـنَاهُ بِـالدّمُـوعِ بَـعدَ أن سَـمَعَ ' توماس ' وَالِـدَتُه التِـي فِـي الغُرفَـة المُجَـاوِرَة لَـهُ تَـقُولُ بِـحبٍ و حَنَـانٍ لَـم يَـرَهُ فِـي عَيـنَيـهَا أو فِـي حَـديـثَهَا مَـعهُ مِـن قَبـلِ:

"بُنَـي، عَـزِيـزِي كَـاي، إستَيـقِظ يَـا صَغِيـرِي، هَيّـا أيُـهَا الكَسُـول!"

تَـسَاقَطَت الدّمُـوع مِـن عَيـنَاه وَ هُـوَ مَـلِيءٌ بِـالحزنِ مِـن وَالِـدَتِه و الغِيـرَة مِـن أخِيـه، مَـسَح دُمُـوعَه بِـسُرعَـةٍ قَبـلَ مَجِيء أمّـه ثُـمَ نَـهَضَ عَـن سَرِيـرِه لِـيَستَعِدّ لِـلمَدرَسَة وَ الإختِبَـار.

———

• فِـي قِـسمِ الشُـرطَة •

كَـان يَـقِفُ الشُـرطِـي ' ماكس ' أمَـام مَكتَـب المُفَوّض بَـعد أن إستَـدعَـاه، قَـال المُـفَوّض بِـجِدِيّـة:

"لَـم تَـجِدوا أيّ دَلِيـلاً بَـعد، ألَيـسَ كَـذَلِـكَ؟"

"لا، حَـضرَة المُـفَوّض، لَـم نَـجِد أيّ شَـيء، حَتَـىِ أن فَـريـق تَتَـبُع الآثَـار لَـم يَـجِد شَيـئاً!"

"هَـل أخَـذَ ' لوكاس ' إفَـادَة أفـرَاد الأسـرَة؟"

"لَا، لَيـسَ بَـعد، لَازَالُـوا فِـي صَـدمَةٍ كَبيـرَة بَـعدَ رُؤيَـة الضَحِيّـة ' دونالد ويلينج ' و التّـعَرفِ عَليـهِ!"

تَنّـهَد المُفَـوّض بِـقَلَقٍ؛ فَـهذِه القَضِيّـة نَـادِرَة الحُـدوث، ثُـمَ قَـالَ بِـجِدّيَـةٍ:

"مَـا أن تَـأخُـذ إفَـادَة أسـرَة الضَحِيّـة يَـومَ غَـدٍ أبـلِغنِي عَـلَىٰ الفَـورِ."

إعتَـدَلَ فِـي وَقفَـتِه ثُـمَ ألقَـىٰ التَـحِيّـة قَـائِـلاً بِـعَمَلِيّـة:

"أمـرُكَ، حَـضرَة المُفَوّض."

———

| فِـي اليَومِ التَـالِـي بَـعدَ قَتـل ' دونالد ويلينج '|

• فِـي مَـعمَل التَـشرِيحِ •

ذَهَـبَ الشُـرطِي ' لوكاس ' وَ الّـذِي كَـانَ يُشـرِف عَـلَىٰ الفَضِيـة مُنـذُ ظُهُـورِهَا بِـرِفقَـة ' ماكس ' و شُـرطِـيٌ آخَـر مَـعَهُم إلَـىٰ طَبِيـب التَـشرِيـح، يَـستَفسِر عَـن وَضـع الجُثّـة بَـعد أخذِ إذن تَـشريحهَا من أسـرَة ' دونالد ويلينج '..

"هَـل وَجَـدتَ شَيـئاً بَـعد؟"

تَـنَهّد الطَبِيـب بِـحيـرَةٍ ثُـمَ قَـالَ:

"نَـعم وَجَـدتُ!"

نَـظَروا ثَـلاثَـتُهِم إلَيـهِ بِـإنتِـبَاهٍ و تَـركِيـزٍ أكثَـر ثُـمَ سَـألَ أحَـدُهُم و الذِي يُـدعَىٰ ' ماكس ' الطَبِيـب ' مارك ':

"مَـاذَا وَجَـدتَ أيُـهَا الطَبِيـب مَـارك؟"

"لَـقَد أخـرَجتُ الرّصَـاصَة مِـن جَـسَد الضَحِيّـة، لَـقَد أصِيـبَ الضَـحِيّة مِـن مَسَـافَـة لَيـسَت بِـقَريـبَة أو بَـعِيـدَة، أي عَـلَىٰ بُـعدِ حَـوَالِـي مِـترٍ و نِـصفٍ؛ لِـذَا بُـنَاءاً عَـلَىٰ تَـوَقُعِـي وَ مَـا أعلَـمُه عَـن الأسـلِحَة و عَـلَىٰ حَـجمِ تِـلكَ الرّصَـاصَة وَ شَـكلِهَـا؛ فَـهِيَ بُـندِقِيّـة عَـالِيَـة القُـوّة ، بَـعِيـدَة المَـدَىٰ!"

"أتَـقصِـد بُـندُقِيّـة قَنّـاص؟"

سَـألَ الشُـرطِيُ ' لوكاس ' الطبِيـب بِـتَعَـجُبٍ:

"نَـعَم، إن رَصَـاصَتَهَا مُمَيّـزَة عَـن أسلِـحَة الصَيـدِ الأخـرَىٰ بِـالنِسبَـة لِـي، أستَـطِيـع تَـفرِيـقَهَا عَـن بَـاقِـي الأسلِـحَة بِـسُهُولَـة."

تَـحدّثَ الطَبِيـب بِـثِقَة تَـأكِيـداً عَـلَىٰ إعتِـقَـادِه، نَـظَر الشُـرطِـي الثَـالِثُ إلَـىٰ ' لوكاس ' قَـائِـلاً بِـتَسَـاؤُلٍ:

"إذاً كَـمَا ظَنَنـتَ أنـتَ، أيُـها الشُـرطِي لوكاس، ألَـم تَـقُل أنّ الجَـرِيـمَة مِـن المُحتَـمَلِ أن تَـكُون حَـادِث صَيـدٍ؟!"

كَـادَ ' لوكاس ' أن يُـجِيب، و لَـكِن الشُـرطِيُ ' ماكس ' تَـحدّث أولاً قَـائِـلاً:

"لَا مِـنَ المُـؤكَـدِ أنّـهَا جَـرِيـمَة وَ لَيـسَت حَـادِث صَيـد، كَيـف تَـكُون حَـادِثَ صَيـدٍ و الطَبِيـبُ يَـقُولُ أنّ المَـسَافَـة بَيـنَ سِـلَاح الجَريـمَة و الضَحِيّـة كَـانَت لَا تَـتَعدّىٰ المِـترَيـن؟!"

أومَـأ الطَبِيـبُ و الشُـرطِي ' لوكاس ' مَـوافَـقَةً عَـلَىٰ حَـدِيـث ' ماكس '..

حَـكّ ' لوكاس ' لِـحيَـتَه الخَفيـفَة بِـتَفكِيـر، لَا تُـوجَـد أيّـة أدِلّـة، وَ الآنَ يَـجِبُ أخَـذَ إفَـادَة أفـرَاد أسـرَة ' دونالد ويلينج ' وَ أصـدِقَائِـه أيضاً..

———

| بَـعدَ سَـاعَة |

• فِـي قِـسمِ الشُـرطَة •

يَـجلِس ' لوكاس ' وَرَاء مَـكتَبِـه البَسِيـط، يَـأخذ إفَـادَة عَـائِـلَة 'ويلينج':

"هَـل هُنَـاكَ مَشَـاكِلٌ حَـدَثَت مُـؤَخّراً بَيـن زَوجُـكِ المُتَـوفي دونـالد ويليـنج، أو هَـل لَـدَيـه أيّ أعـدَاء قَـد يَـرتَكِبُـون تِـلكَ الجَرِيـمَة، سَيّـدَة كَـاسبِر؟"

سَـأل الشُـرطِـي ' لوكاس ' زَوجَـة الضَحِيّـة ' دونالد ويلينج '

كَـانَت رَأسِـهَا مُتّـكِئَة بِـحزنٍ و ألَـمٍ عَـلَىٰ رَحِيـل زَوجِـهَا و وَالِـد طِـفلِـهَا البَـالِـغ مِـن العُـمرِ عِـشرِيـن شَـهراً فَـقَط، نَـظَرت 'كاسبِر' إلَيـه جَـرّاء سُـؤالِـه، ثُـمّ أجَـابَت بِـهُدوءٍ:

"لَا، الجَمِيـع كَـانَ يُـحِبّـه، لَـم يَـكُن لَـدَيـه أيّ أعـدَاءٍ طِيـلَة حَيَـاتِه، لَـقد كَـان طَيّـبُ القَـلبِ حَسَـن الخُـلُقِ!"

نَـظَر الشُـرطِي إلَيـهَا ' ماكس ' بِـحزنٍ، ثُـمّ نَـظَر إلَيـهَا ' لوكاس ' قَائِـلاً بِـهُدوءٍ:

"حَسنـاً، أتَـعلَمِيـنَ إلَـىٰ أيـنَ كَـان ذَاهِبـاً صَبَـاح ذَلِـكَ اليَـوم؟"

"نَـعم، هُـو عَـادَةً مَـا يَـخرُج لِـلرَكضِ فِـي الصَبَـاحِ البَـاكِـر مِـن يَـوم عُـطلَتِه؛ لَـقَد خَـرَج لِـلرَكضِ فَـقَط."

نَـظَر الشُـرطِي ' لوكاس ' إلَـىٰ ' ماكس ' يَـتَأكّـد مِـن كِتَـابَتِه لِإفَـادَة الزَوجَـة و تَسجِيلَهَا، ثُـمّ نَـظَر إلَـىٰ الزَوجَـة قَـائِـلاً بِـإحتِـرَامٍ:

"حَسنـاً، سَيّـدَة كـاسبِر ، شُـكراً لِإدلَائِـكِ الإفَـادَة."

أومَـأت بِـرأسِـهَا بِـهُدوءٍ قَـائـلَة بِـصَوتٍ مُتَـحشرِجٍ:

"العَفـو، حَضـرَة الشُرطِـي."

ثُـمّ نَـهَضَت لِـلذَهَابِ خَـارِجَـاً..

نَـفسُ الشَيء حَـدَثَ عِنـدَ أخـذِ إفَـادَة صَديـقَاه ' السيّـد مايكِل ' و ' السيّـد ستيـڤِن '

و الجَمِيـع قَـالَ نَـفسُ الشَـيء، أن الضَحِيّـة ' دونالد ويلينج ' كَـان طَيـباً و حسنـاً و لا يُـؤذِي أيّ أحَـد، كَمَـا أنّـه لَيـسَ لَـدَيـهِ أعـدَاء!

ذَهَـبَ الجَمِيـع؛ فَتَـبَقَىٰ 'لوكاس' وَ ' ماكس ' يُـفَكِرَان فِـي حَـلٍ مَـا، تَنَـهَد ' ماكس ' بِـحِيـرَة قَـائِـلاً:

"إنّـهَا قَضِيّـة مُحَيّـرَة جِـداً!"

رَدّ الآخَـر بِـتَفكِيـرٍ:

"نَـعَم، مَـع الأسَـفِ إنّـهَا كَـذَلِكَ."

فَـتَح ' ماكس ' عَيـنَاهُ بِـذُهُـول بَـعدَ لَـحظَاتٍ و كَـأنّـه أدرَكَ شَيـئاً مَـا، ثُـمّ أردَفَ بِـعَزيـمَة و إصـرَارٍ :

"إنّـهَا أوّلُ جَـرِيـمَة قَتـلٍ أرَاهَـا طِيـلَة مَسِيـرَتِـي المِهَنِيّـة؛ لِـذَا يَـجِبُ حَلّـهَا!"

نَـظَر لَـهُ ' لوكاس ' ثُـمَ إبتَـسَم بِـسخرِيـةٍ مِنـهُ قَـائِـلاً:

"لَـعَلّ ذَلِـكَ لِأنّـك بَـدَأتَ بِـالعَمَـلِ كَـشُرطِـي مُـؤخّـراً، مُنـذُ حَـوَالَي عَـامَيـن؟! و أيـضاً تَـتَحدّث و كَـأنّـكَ تَستَـطِيع القَبـضَ عَلىٰ القَـاتِل، أيّـهَا المُحَقِق كـونـان!"

" و أنتَ تَـتَحدّث و كَـأنّـكَ تَـعمَل هُنَـا مُنـذ قَـرنَيـن، لَـقَد أخبَـرتَـنِي أنّـكَ تَـعمَلُ هُنَـا مُنـذ ثَـلَاثَةِ أعـوَامٍ و نِـصفٍ؛ مَـا فَـرقُـكَ عَنّـي إذاً؟!"

أخـرَج ' لوكـاس ' صَـوتـاً سَـاخِـطاً يُـعَبّـر عَـن سُـخرِيـتِه قَـائِـلاً:

"سَـأخبِـركَ مَـا الفَـرق، أنتَ لَـم تَـرَىٰ جَـريـمَة قَتـلٍ قَـط، و لـكِن أنَـا قَـد رأيـتُ !!"

نَـظَر ' ماكس ' إلَـىٰ ' لوكاس ' بِـإنـدِهَاشٍ، ثُـمّ قَـالَ:

"أَ حَـقاً ذَلِـكَ؟"

رَدّ الآخَـرَ مُـغمِضاً عَيـنَيه رَافِـعاً رأسَـه بِـثِقَة:

"نَـعَم، نَـعَم"

فَتـح ' لوكاس ' عَيـنَيه عَلىٰ مِـصرِيـعهَا و كَـأنّه إكتَـشَف شَيءٌ مَـا، نَـظرَ إلَـىٰ ' ماكـس ' قَـائِـلاً:

"نَـعم تِـلكَ الجَريـمَة، إنّـهَا مُشَـابِـهَة لِـحَادِثَـةِ ' دونالد ويلينج ' !"

"حَقـاً؟!"

رَدّ ' ماكس ' بَيـنَما تَـجاهَلـه ' لوكاس ' ذَاهِبـاً إلَـىٰ المُـفوّض يُـطلِعـه عَلَىٰ أفكَـارِه.

———

| 22 سبـتَمبِر عَـامَ 1972 |

• فِـي وِلَايَـة تِـكسَاس •

خَـرَج ' توماس ' مِـن المَدرَسـة نَـاكِسَاً رَأسَـه بِـحزن؛ إن دَرجَـة إختبَـارِه سَيـئَة بَـعضَ الشَيء، و لَـكِن الشَيء الـذِي يَـعلَمه ' توماس ' جَيّـداً هُـو أنّ وَالِـدتُه لَـن يُـعجِبُـهَا هَـذَا أبـداً!!

عَـادَ إلَـىٰ مَنـزِلـه، يَـقِف أمَـامَ البَـاب يَـنظُر لَـهُ بِـخَوفٍ شَدِيـد؛ فَـهُو يَـعلَم أن هَـذِه اللّيـلَة لَـن تَـمُر عَلـىٰ خَيـرٍ البَـتّة!

تَـردَدَت يَـدَاه كثيـراً فِـي طَـرق البَـاب؛ خَـائِـفٌ مِـمّا يَـنتَظِره، و لَـكِنّـه فَعَلَـهَا..

"تُـومَاس، أحضَـرتَ دَرجَـة إختِبَـارِك، ألَيـس كَذَلِـك؟"

نَـظَر لَـهَا بِـألَـمٍ، هِـي حَتّـىٰ لَـم تُـرَحّبُ بِـه أو تُـدخِلُـه المَنـزِل أولاً؛ فَـالطَقسَ شَـدِيـد البُـرودَة!

"نَـعم، أحضَـرتُـهَا."

قَـالَ بِـخَوفٍ و حـزنٍ بَيـنَما عَيـنَاه تُـعَاتِبَـاهَا عَلَىٰ مَـا تَـفعَلُ بِـهِ.

شَـعرَت الأم بِـبُرُودَة الطَقـس قَـائِـلَة:

"حَسنـاً، إدخُـل أولاً ثُـمّ أخبِـرنِي عَنـهَا؛ فَـالطَقس شَـدِيـد البُـرودَة اليَـوم."

أومَـأ ' توماس ' ثُـم دَلَـفَ المَنـزِل بِـهُدوء، جَلسَت الأم عَلَىٰ الأريـكَة المُتَـواجِـدَة بِـغُرفَـة المَعيـشَة، وَقَف هُـوَ أمَـامَـهَا نَـاكِساً رَأسَـه؛ فَـقَالَت هِـيَ:

"هَيّـا، أعطِنـي نَتَـائِـجَ الإختِبَـار!"

نَـظَر لَـهَا بِـخَوفٍ ثُـمّ فَتَـحَ حَقيـبَته بِـتَردُدٍ لِيُـخرِج مِنـهَا نَـتَائِـ الإختِبَـار، أعطَـاهَا لوَالِـدَتُه بَـعد إخرَاجِـهَا، أخذتهَـا لِـتَتَفحّصَهَا جَيّـداً..

نَـظَر إلَيـهَا ' توماس ' يُـحَاوِل مَـعرِفَة رَدّة فِـعلَـهَا، إلَا أن لَا يُـوجَد أي تَـعَابيـر غَضَبِ أو خَيـبَة أمَـلٍ، بَـل كُـلّ مَـا كَـان يُـحيـطهَا هُـو الجُمُـود و البُـرُود الشَدِيـد!

أدمَـعَت عَيـنَا ' تومَاس بِرُعـبٍ، و هُنَـا أدرَكَ مَـا يَـنتَظِرَه فِـي هَـذِه اللّيـلَة البَـارِدَة!!

———

حَـادِث صَيـدٍ : يُقصَـد بِـذَلِكَ أن يُـطلِق الصَيّـاد عَلَىٰ فَريـسَتِه أثنَـاء هُـروبِـها بِـسِلَاحِه، و لَـكِن تِـلكَ الرّصَـاصَة تُصيـبُ إنـسَانَاً بِـالخَطأ، و هَـذه الحـادِثَة كَثيـرَة الحُدوث خَـاصَةً فِـي المُقَاطعاَت و الوِلَايَـات الريـفِيـة التّـي يَـقصِدهَا الصَـيّادون.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي