الأمير الرحالة

سيلاشهاب الدين`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2024-03-11ضع على الرف
  • 3K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الأمير الرحالة 1

الأمير الرحالة
تذرو الرياح رمال الشاطئ الذهبية، فينكشف الغطاء عن ذاك الرضيع الذي حجب صوته نواح تلك الرياح، ترسو تلك السفينة على حافة الميناء، المكتظ بالسكان، عالم لا وجود للسيارات أو القطارات أو الحافلات أو الطائرات فيه، فقط عربات نحرها الأحصنة، عُمال يحملون البضاعة من السفن إلى مستقر أصحابها، قد يكون بعضهم قراصنة، أو تُجارًا، في الحقيقة لا فارق بين الاثنين، فالتاجر قرصان السوق إن حسُن التعبير يا صديقي، فهو يسرقنا عيانًا، لكن الفارق بينه وبين القرصان أنه يسرقنا بملء إرادتنا ورضواننا عنه، يقترب ذاك العجوز بعصبته على عينه اليسرى، ووجهه البيضاوي الذي خَمرته شمس البحار، وأنفه الشامخ، وشاربه الطويل الأبيض، بجسد ممشوق لا ينم إلا عن شاب في الثلاثينات، منظره يجعلك تصدق لوهله بأنه شاب ثلاثيني، لولا ذاك المشيب الذي عَلى رأسه، تتحرك شحمة أذنه بهدوء باتجاه الصوت، يغمض عينيه؛ ليتأكد مِن أن ما سمعه كان صوت نواح طفل، ولم يكن نواح رياح تلك الأمواج الهادرة من البحر، يقترب من مكان الصوت، بعدما حسب بُعده، ويقطع المسافة في عدة ثوينات، كأنما قدماه قدم أخيل الواسعة، تمكنه من قفز مسافات كبيرة
-يا إلهي، مَن الذي ألقى بهذا الطفل هكذا؟! يتساءل وعيناه تجوب المكان بحثًا عن أحد، فتلوح من خلفه قلعة ضخمة البناء، عظيمة الطراز، يتوقف لبرهة أمام بهاء شكلها، وينظر إلى الرضيع الذي بين يديه بعينين نابهتين، ثم يردف
-اللعنة، أي بلاء ذلك.
يلمح تلك القلنسوة التي تحتل جيد الرضيع، فتتسع عيناه بصدمة، يتفحص لفته بعناية ليجد ضالته أخيرًا، على طرف الرداء
-ابحثوا عن الرضيع و اقتلوه. يصيح أحد الجنود فيمَن حوله، فيدرك العجوز ما يحدث مِن حوله، ليخفي الرضيع بين ثيابه المالحة الخشنة الرطبة من البحر، يقترب مِن السفينة التي رست، ويصعد إليها بهدوء، ينظر إلى ذاك الواقف على الدفة ويصيح فيه بأمر..
-تحرك الآن.
-لكن الرياح ليست هادئة، وهناك عاصفة قادمة. يجيب بصوت مرتفع
-إن لم نتحرك الآن ستبتلعنا تلك العاصفة القادمة. يتحدث العجوز، صوت بكاء الطفل يعلو، معلنًا قدوم العاصفة.
تتلبد السماء بالغيوم، وتختفي الشمس خلف حُجب من الغرابيب الحالكة السواد، تتجمع الغُدقان وتُحلق إلى بعيد، كأنما تهرب من مجهول يطاردها، ينظر العجوز إلى ذاك السرب الذي أخذ رسم أحرف؛ لينطلق لسانه
-ديلان، أنتَ هو ديلان _ ابن البحر _
تتشابك بعدها الغيوم السوداء، ويَصعق البرق القلعة، ثم يهدره صوت الرعد الذي مزق الأجواء، تتحول عينا العجوز إلى اللون الأبيض، فتجعل أسوار القلعة أمامه سجوفًا تشف ما خلفها، لِيترأي له ذاك المشهد الدامي، سيدة بثياب ملكية فارهة، وتاج ميال، مدرجة بالدماء ويديها إلى الخارج، يُدرك أنها أم الرضيع، الذي يحمله بين يديه الآن، ها هي القلعة أمامه واضحة، يُغمض عينيه؛ ليُصبح في لمح البصر بين جنبات تلك القلعة، يقترب من ذاك الجسد الذي يزحف ويجثو على ركبتيه قائلًا..
-ما الذي يحدث هنا؟!
-الطفل، أين طفلي؟! يجيبه بهذيان، وتنعق بعد كلماته الغربان، فيُدرك العجوز نذير الشؤم..
-أهو ولدك؟! يسأله العجوز بهدوء
-أجل، إن وجدته خذه إلى بعيد، ولا تجعله يعود إلى هنا أبدًا، سيقتله.
-مَن هو؟!
لم يهمل الموت ذاك الرجل، فقد خرجت روحه مفارقة بدنها الفاني إلى مستقرها التالي، تبسم العجوز ونهض، لتنهمر السماء بثجيج ماء يطهر الأرض والجدران مِن تلك الدماء، ليفاجئ العجوز بنفسه جالسًا في السفينة، و الرضيع يصرخ، وعيناه شاخصتان إلى تلك الجدران.
-إنه القدر.
-أيها القبطان، الرياح تعصف بنا إلى داخل البحر. يتحدث الربان الذي يقود الدفة.
-اتبعها فهو لن يضيعنا. يجيبه، ليجذب المِرساة من أعماق الشاطئ، و تحملهم الرياح إلى حيث طريقهم.
يتلاطم الموج ويعلو، كلما تعمقوا في ذاك البحر، ينعق سرب الغربان أعلاهم، فيشعر العجوز بأن كل شيء حوله قد تأمر ضده، ينظر إلى الغربان بضيق، ثم ينظر إلى الرضيع الذي توقف عن البكاء، يختلج عقله الفكر، فيترك له العنان.
-أعلم أنه القدر، لكن كيف سأربيه، وأنا قرصان بلا زوجة؟!
يشعر باليأس يملأ قلبه، فينظر إلى السماء بهدوء ويصدح قائلًا..
-أنتَ تعلم ما في نفسي، ولا أعلم ما في نفسك.
بحارة السفينة بدؤا في الغناء وسط ذاك الموج المتلاطم، والرياح المهداج..
أيها البحر الكبير
اتركنا نعبر سالمين
وأعدنا إلى أحبتنا غانمين
بأمر الله الرحمن الرحيم.
وفجأة توقف الصوت، ولاح الضباب مِن بعيد.
-يا إلهي، لما أتينا إلى هنا؟! يتسائل ربان الدفة.
-تعمق في ذاك الضباب يا فائق. يتحدث العجوز إلى صاحب الأنف الكبير المميزة، و العينين النابهة، و الشارب الخفيف، و الشفاه الغليظة، تلك الملامح التي ارتسمت على ذاك الوجه البدري الوردي، بذاك الشعر البني المجعد، وتلك القبعة السوداء، أمسك الدفة بيديه الضخمة، واتجه إلى ذاك الضباب.
-قد يكون هناك وحش خلف ذاك الضباب أيها القبطان عُزير. يتحدث ذاك الشاب ذو الجسد المفتول بالعضلات، وعينيه السوداء تشع قلقًا.
-إنها إرادته في هذه الوجهة، ولا رد لها. يجيب و هن يخرج الطفل من بين ثيابه.
-مَن هذا الرضيع؟! يسأله، فيبتسم العجوز ثم ينظر إلى وجهه الهادئ
-ديلان، حفيدي.
يكذب العجوز، لكنه في قرارة نفسه يشعر بالارتياح، فهو لم يرد أن يثير جدلًا مع بحارته، فقد تتمكن النفس الدنية لدي بعضهم منهم، ويطلبون منه تسليمه مقابل المال.
-لقد وصلنا يا سيد عُزير إلى الجدار الضبابي. يتحدث البحارة
-سنعبر الجدار، فتهيأوا لذلك.
تخترق السفينة التي اعتلي مقدمتها ذاك العجوز حاملًا الرضيع بصحبة ذاك الشاب، فينبهرا بما يريان، بينما ذاك الرضيع يضحك.
-انظر يا شادان إلى هذا المنظر الجميل. يتحدث العجوز بابتسامة، فيضحك الشاب و يصرخ..
-إنها الأرض الخضراء التي تحدث عنها سُليمان في المخطوطة.
تخترق السفينة المكان بهدوء، ويقف البحارة فارغين أفواههم، من فرط جمال المكان، ينظر العجوز إلى الربان ..
-لترسوا السفينة هنا، سنقيم على هذه الجزيرة ما يشاء الله لنا أن نقيمه.





1)  ابن البحر.
-ما الذي تفعله أيها القبطان الصغير؟! يسأل فائق ذاك الشاب اليافع ذو البشرة البيضاء النضرة، والوجه البدري المطبوع بطابع الحسن عند ذقنه، وعيناه المسروقتين من العسل المصفى، وأنفه الشامخ، وشاربه الأسود الخفيف الذي يعتلي شفتيه الناعمتين المصبوغتين بالحُمرة.
-أحاول اصطياد ببغاء.
-أيها القبطان، جدك يريدك. يتحدث بعدما أدرك أنه يتهرب من الإجابة
-قُل الله، إن لم يرد أن يخرج من هذه الأرض إلى البحر، فَلن أعود لأستمع إلى ذاك الحديث. يجيبه ثم يقفز وسط أشجار الجوز، ليختفي خلف حراشف الورق.
-لم يأتِ أليس كذلك؟! يسأل العجوز بعدما رأي فائق عائدًا خالي الوفاضين.
-يقول لكَ، إن لم تخرج إلى البحر فلن يعود. يجيب فائق
-اجلس أريد أن أقص عليك ما حدث قبل خمسة عشر عامًا. يتحدث العجوز و هو يسعل، ثم يسرد عليه القصة كاملة..
-أتعني أنه ليس حفيدك؟! يسأل
-أجل، إنه ملك تلك البلاد المشؤومة، لكن لا تخبره بالحقيقة، إلا إن اضطررت لذلك، أنا أثق بك فلا تخذلني. ينتهي من كلماته، ويفارق الحياة، ينظر له فائق بحزم، تمتلأ عيناه بالدموع، ثم يتحدث
-لن أخون الثقة يا قبطان.
وسط هدير البحر وتلاطم الأمواج، يقف ذاك الفتى عند مقدمة السفينة، نافرًا جناحاه، كأنه طائر العنقاء الذي ذكرته أساطير البحارة، ملامحه قاسية وعيناه ذابلتان، لا يعبء بما سيلاقيه خلف ذاك الجدار الضبابي، فقط يريد أن يخرج من تلك القوقعة التي ضاقت به وعليه
-ماذا بك؟! يسأله فائق.
-لا أعرف، عندما كنا في الأرض الخضراء كنت أسمع صوتًا من أعماقي يناديني بالخروج إلى البحر، وعندما خرجت إلى البحر أسمع نفس الصوت يطلب مني أن اتجه شمالًا. يجيبه بهدوء.
-أتبينت ماهية الصوت؟! يسأله.
-إنه لا يشبه أصواتنا، يبدو ناعمًا وجذابًا، لا أعرف لأي أنواع البشر هو. يجيب و هو ينظر إلى المياه الزرقاء
-ربما تكون حورية بحر تناديك.
يهز رأسه ثم ينظر إليه بضيق مردفًا..
-كلا، لو كانت حورية بحر كما تفضلت وقولت، لما اتجهت شمالًا، ولكنت غوصت إلى أعماق المحيط.
-أتتمني أن تفعل هذا؟! يسأله.
-وحده المجنون مَن يصدق قصص الأطفال تلك.
-لكنك ابن حورية بحر، هذا ما قاله جدك. بتحدث فائق
-أتحسب أني أحمق، لقد كان جدي يحاول إخفاء شيء عني، فكيف يعقل لقرصان قضى جُلَّ عمره في البحر أن يتزوج وينجب، ويترك ولده.
-أنتَ على حق. يجيبه فائق، و بداخله يعرف أنه كان أحمق، فذا ابن العشرين عامًا قد برهن له بأنهم مجموعة حمقى
-فيما شردت؟! يسأله
-لا شيء يا ديلان، فقط أفكر.
ينظر له ديلان بشك، و يشرد إلى عالم آخر، عالم لم يعرفه يومًا ويحدث نفسه قائلًا
-ربما خُلقت لأكون بحارًا.
-فيما شردت يا ديلان؟!
-في صوت البحر.
يحلق فوقهم سربٌ من الغُدفان الضخمة، وتنعق، تتحول الرؤية من حوله إلى اللون الأبيض، وتختلج رأسه أصوات نواح طفلٍ رضيع على شاطئ، و هسهسة أحدهم في أذنه
-ديلان، أنتَ هو ابن البحر العاشق له.
تبدأ الرؤيا بالوضوح شيئًا فشيئًا، كأنك كنت داخل بئر معتمة، واجتذبك أحدٌ منه فجأة، لتغشي عينيك ابنة يوشع، فتشعر بالضياع، ثم تتجلى الرؤيا تتري، لتجد ذاك العجوز أمام بثياب وَضّاءة زهراء
-ما السر الذي أخفيته عني؟! اسأله بقلق يعتمر روحي
-ستعرفه في الوقت المناسب.
-أي وقت هذا؟!
-عندما يذوب الجليد الذي اعتمر روحك يا ديلان.
يختفي كأن لم يظهر من قبل، أشعر ببرودة تختلج شيئًا غامضًا داخل جسدي، في قيعان تلك المتاهة بداخلي، أحاول أن أصل إليه، لكن بلا جدوى، فهو لا يُري مهما حاولت، مع كل ذلك أستشعر بوميضه يزداد بداخلي، لكن تلك القتامة تغلبه في النهاية.
-ماذا بك يا ديلان؟! يسأل شادان بهدوء و هو يجلس على طرف السفينة.
-لا شيء، أشعر بالهواجس تملأ روحي وقلبي.
-دع الماضي، وأبدأ من الآن.
-لكن الماضي الذي تتحدث عنه، هو امتداد لهذا الحاضر يا شادان. أجيب و أنا أجلس بجواره
-قد يكون كذلك، وقد لا يكون.
كلماته تحمل الشك أكثر مما تحمل اليقين، ينظر إلى تلك القلادة التي تظهر على صدري على هيئة قلنسوة من الرنان موشاة بالزبرجد، تتوسط أحجاره عقيقة حمراء منقوش عليها نصٌ ملكي بلغة قديمة، ازدرد لعابه ما إن رأها ثم طالعني بنظرة هادئة
-أخفها جيدًا، فاللصوص كُثر.
-لما أخفيها إنها إرث أبي و جدي؟!
-افعل مثلما أقول لك. يتحدث ثم يقف ويرحل
انظر إلى القلادة بتعجب، وأشعر بأن كلماته تلامس شيئًا ما بداخلي، فأغلق ثوبي المزركش بإحكام وأضعها داخله، تتدلي؛ حتى تصبح فوق قلبي، أشعر بها بدفء غريب يخرج منها ويحاوط قلبي، كأنما هي تعرفني، وكيف لا تعرفني وأنا أرتديها منذ زمن.
من وسط ذاك الصفاء الذي عم السماء، انبثقت عاصفة رعدية، وتحجبت السماء بالغرابيب السوداء القامة، و نظر الجميع إلى ما يحدث، تاركين ما كان بأيديهم من عمل، فُغرت الأفواه عن ابتسامة صادمة، وتعلقت الأعين بالسماء، شردت العقول، نظرت إلى دواسر الأرضية التي أقف عليها، لأرى انعكاس ظل ذاك الشيء، اتسعت عيناي بصدمة غير مصدقة ما ترى، توقف عقلي عن التفكير في كل شيء، فهول المنظر ألزمني الصمت، شعرت بالهواء، فاقترب ذاك الكائن ذو الثمانية أطراف العجيبة من وجهي، ونظر إلى بهدوء، شعرت بشيء يخاطرني في عقلي، حاولت جاهدًا التخلص منه، لكن باءت كل محاولتي بالفشل، شعرت بالعجز، لكن صوته أزعجني، فسألته بهدوء...
-مَن أنتَ؟!
-كراكن. يجيب بصوت متحشرج، كأنه دوى الرعد في السماء
-ما الذي تريده مني؟! اسأله بهدوء مصطنع
-لا أريد منك أنتَ، فالقلادة تحميك، إنما أريد منهم هم. يجيب، ليترك بداخلي فجوة من فراغ لا أعرف ما الذي يتحدث عنه.
-ماذا تريد؟!
-أرواح عشرة رجال.
-لما؟!
-كي تعبر الأرخبيل المنسي أيها الأمير ديلان. يجيب، فتتسع عيناي بصدمة من كلماته، أحاول فيها أن أجمع شتات نفسي، لكنه لا يتركك تفكر؛ حتى الصراخ في وجهه لا يمكنك، كأنما هو علقة تغلق جميع منافذ التفكير، وتتشرب الفكر الذي يختلج دمائك
-لا تفكر كثيرًا، فقد قررت وانتهى الأمر.
-لا بد أن يكون هناك حلٌ آخر.
-نعم هناك حل، لكنك، لن تقدر عليه. يجيب بصوت ساخر.
-كيف تعرف أني لن أقدر عليه، ما دمت لم أجرب؟!
-إن استطعت التخلص من سيطرتي على عقلك، سأخبرك. يتحدث بثقة، كأنه يعلم أن عقلي الخاوي من كل شيء لا يمكنه التخلص منه، لكني أتذكر كلمات جدي "لا يمكن للقوي الخارقة أن تخترق العقل البشري" "لا يمكن لساحر شيطاني أن يسيطر على عقل مؤمن؛ حتى وإن كان وحيدًا في فلاة"
أستطيع أن افهم ما كام يقصده، فهذا ليس كراكن إنما هو شيطان البحر الذي تحدث البحارة عنه، وأجلوه و عظموه.
-أيها الفتى، أتحسب أن كلمات ذاك العجوز ستنفع؟! كان يتحدث بصوت ساخر، لترتسم ابتسامة خبيثة على ثغري وأقول
-لو لم يكن كلامه صحيحًا، لم اضطرب عقلك الآن.
شرعت بعدها في تلاوة كان الجد دائمًا ما يتلوها أمامي، و أكثرت من دعاء ذاك النبي الصالح الذي التقمه الحوت في بطنه، وظل بداخله عدد سنين، و لولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم البعث المحمود
-لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
ما انتهيت من تلاواتي؛ حتي شعرت أن أستطيع أن أرى حجمه الحقيقي، لم يكن بتلك الضخامة التي رأيته بها، أصبح ضئيل في عينيَّ، كأنما هو حبار صغير، اقتربت منه بخطوات ثابتة
-أيها الحبار، في المرة القادمة لا تتظاهر أنكَ كراكن، فربما لم أره، لكنه لا يتخاطر مع البشر، بل يلتهم السفن.
عندما كنت أتحدث شعرت بخوفه، فنظرت إليه بملامحي الجامدة، ولم أنطق ببنت شفه؛ ليتحول إلى شكلٍ غريب ويتحدث بصوت مضطرب
-في الحقيقة أن جني غواص، واسمي رخو، كل ما كنت أريده، هو اللعب فقط.
-ارحل قبل أن يرتد السيف إلى غمده، وإلا سأمزقك. أقول بحزم، ليختفي من المكان، ويترك خلفه صدفة غريبة لازوردية، ابتسم بهدوء وأُمسك بها و أتذكر ‏تلك القصة على سواحل إحدى البُلدان، إذ يقال أنهم في أحد الأيام مع بداية موسم الصيد يذبحون الذبائح و يأخذون منها قطع ويغوصون بها إلى أعماق البحر، لتأكلها الأصداف والأسماء، ثم يعودون إلى بيوتهم منتظرين قدوم الخير والوفير والرزق الذي لا ينتهي.
ارفع الصدفة بيدي من على الأرض، و أضعها في جيبي، يقترب مني شادان وعلى وجهه ابتسامة خبيثة، أعرفها مذ كنت طفلًا ويقول
-ألا تفتحها و ترى ما بها؟!
-كلا، فهي للنفخ، وليست لاحتواء الدرر. أجيبه وأنا أنظر له بهدوء
-فيما تستخدم؟!
-لو كنت أعلم، ربما أخبرك.
-أنتَ لا يمكنك التحدث بطريقة لينة. يتحدث بحنق ثم يتركني و يرحل
أنظر إلى الشفق، الذي تكون بعدما تصدعت خطوط الضوء معلنة غياب الشمس خلف سحب الليل الذي بدأ يجن من خلف سفينتنا، أشعر بهدوء يختلج روحي بعدما رتلت ما علمني إياه جدي، اتجه إلى غرفتي دون أن أنبث ببنت شفه، يلاحظ العم فائق ذلك، فيبتسم، أرى ابتسامته بعينيَّ، لكني لا أبادله بواحدة من باب المجاملة، وجهي مثل لوح قاسٍ لا تطرأ عليه التعابير إلا نادرًا
أنظر إلى دواسر السفينة وأحصيها بنظري، كأني أبحث عن شيء ضائع بها، لا أعرف ماهيته، ثم أفع عيناي إلى الشراع المسدل، الذي يكلله ذاك الرمز الذي يشبه القلنسوة التي أرتديها، ادخل إلى الغرفة بعدما هبطت إلى داخل السفينة، أشعر بالعتمة، ولا أستطيع رؤية شيء، فأبدل العصبة من عيني اليمنى إلى اليسرى، و سرعان ما أتكيف مع المكان، وذا لأن اليمني كانت محجوبة عن الضوء.
أقترب من ذاك المكتب الذي تعلوه الكتب القديمة، لجدي الراحل وأفتح تلك الكتب؛ لأجد وريقة مصنوعة من البردي بين صفيحات الكتاب ذو الورق القديم المهترئ بعد الشيء، أمسكها بيمناى، وأنظر بتمعن فيها، لكن بلا جدوى، لا أستطيع فهم تلك الكلمات القديمة، اقترب من الكتاب الصغير، لأجد بداخله شفرة تلك الكتابة، ابدأ في فكها بهدوء تام، لأصل أخيرًا إلى تلك الكلمات
-الأمير الرحالة، هو مَن يحمل سر اللغز.
ربما لم أفقه شيئًا مما كُتب، لكنني على يقين بأنني سألتقي بذاك الأمير ذات يوم أثناء رحلاتي.
يظهر ذاك الحبار المخادع في حيز الغرفة التي لا يوجود بها سوي مكتب عليه عدة كتب تتحدث عن الحضارات و الملاحة وبوصلة، ونموذج مصغر للسفينة يعلو خارطة الأرض ومحيطاتها الخمس وقارتها السبع العظيمة، و سرير قديم عليه فراش من الخشب مغطي بلحاف محشو باللوف، و وسادة محشوة بالأرز.
-أريد أن أتحدث معك.
-ألم أخبرك أني سأقتلك لو رأيتك من جديد؟!اسأله
-في الحقيقة، لقد جئت أستعيد شيئًا سقط مني. يتحدث بخوف
-أتعني صدفة البوق؟! أسأله
-أجل.
-لكني لن أعيدها لك.
-لا أريد الصدفة، بل أريد ما بداخلها. يتحدث بعينيه السوداء الغريبة التي لا يخالطها بياض.
-أيها الحبار الصغير، تحدث بشكل مباشر.
-في الحقيقة، لا يجب أن أخبرك، لكنك تحمل ذاك الشيء
-عن أي شيء تتحدث؟! اسأله
-القلادة، التي علي شكل قلنسوة
-ما بها هذي القلادة؟!
-إنها قلادة ملكية، وصاحبتها ابنة ملك الحوريات. يجيب بهدوء، لتتسع عيناي بصدمة، إذًا فالعجوز صادق فيما قاله، لكن مَن هو أبي؟!
-فيما شردت؟! يسأله
-ما الذي تعرفه أيضًا أيها الحبار الصغير؟! يسأله بقلق
-لا شيء، فأنا لست من الأشخاص المهمين في عالم البحر.
-ما الذي تعرفه عن حامل القلادة؟!
-يدعي الأمير الرحالة، ويقولون بأن القلادة تحمل سر اللغز الذي حدث قبل عشرين عامًا.
-أتعرف ما حدث؟! أسأله
-لا فذاكرتي ليست طويلة، فقط ما قُلته لك الآن هو ما أعرفه وأتذكره. يجيب بخجل.
-ألديك فكرة هم هذا البوق؟!
-يقولون بأن مَن ينفخ فيه يستطيع أن يرى ما لا يراه البشر.
ما إن فرغ مِن حديثه؛ حتى اختفى من المكان بهدوء، نظرت إلى البوق اللازوردي، وابتسمت بتهكم.
اتجهت إلى الفراش، وألقيت بجسدي المُتعب عليه، أغمضت عيناي لأنام، لكن النوم قد فرَّ مِن عيوني، عندما خمنت أن تلك الكتابة لسكان البحر، لكن مَن ذا الذي سيخبرني ترجمتها.
-اخلد إلى نومك يا ديلان. أحدث نفسي في محاولة مني للنوم، لكن هيهات، أهب من فراشي، وأشعر بأني أكاد أخرج من إهابي، لكن ما العمل. أمسك البوق وأصعد على ظهر السفينة، شيء مجهول يحركني، أجد نفسي أقبض عليه وأقربه من فمي وأنفخ فيه، ينتابني شعور غريب لا أتبينه، فهو مجهول لي على كل حال، تنشق المياه أمامي، كأن سيف أخيل قد ضرب البحر، فتعرجت أعماقه، وتصدعت مستقيماته، وانشق الماء، لينبثق من تلك الأعماق حوتٌ أسود ضخم، لم أرَ شيئًا في جماله، رغم ضخامة حجمه، أجده يجر السفينة، بصحبة أربع حيتان أصغر منه حجمًا، كأنما يشكلون المحيطات بأحجامهم المتقاربة.
أجد شادان يقترب مني، وأشعر بابتسامته الخبيثة رغم أني لم استدر له
-أيها الفتى، لم تخب ظنوني بك. يتحدث و هو يضع يده على كتفي
-ليتها خابت يا شادان. أقول بضيق
-لما تقسو على حالك هكذا. يتحدث
-دعني وشأني، فلا زالت تلك الأصوات تذكرني بما اقترفت فيما مضى. أقول وقد ضقت ذرعًا بحديثه.
-اسمع يا ديلان، البشر نوعان، نوعٌ يأكل و نوع يؤكل.
-هذا ليس مبررًا لما اقترفته، لقد قتلت نفسًا برية ليس لها ذنب، إلا أنها وقفت في طريقي تمنعني من الدخول إلى المكتبة ظنًا منها أني قرصان يريد حرق إرث أجدادها. أجيبه بضيق وقد تحشرج صوتي
-أنتَ تحمل نفسك وزرًا لست مرتكبه، وهي الآخري لم تكن صالحة كما يخيل إليك، لقد قتلت عشرات الرجال من العلماء الذين قصدوا الجزيرة لطلب العلم.
-أتعرف شعور القتل؟!
-أنا قاتل يا ديلان، وأعرف ما تقوله، مع هذا يجب ألا نحمل أنفسنا فوق قُدرتها، فالحياة أبسط مِن هذا. يجيب بهدوء
-لكن إراقة الدم شيء مُريع.
-لكننا مضطرون لذلك.
-أي ضرورة تلك التي تجعلنا نقتل البشر دون ارتكاز علي حكم عادل؟! اسألة
-إنها حياة البحار يا ولدي. يتحدث فائق و هو يصعد إلى مقدمة السفينة ثم يردف
-إما أن يبتلعه البحر قتيلًا، وإما أن يبلع البحر قاتلًا.
-هذه جريمة أنكي و أشد، فا مِن أجل ماذا نقتل بعضنا بعضًا؟!
-لا زلت فتيًا، و لم يكتمل عقلك بعد.
-سترى يا ديلان في كل أرض العجب العجاب، ستشاهد الظلم، لكنك لن تستطيع محوه. يتحدث شادان
-لما؟! اسأل
-لأنك لا تملك القوة، و أحيانًا؛ لأنك لا تملك الجرأة لمواجهة الظلم.
-القلب المؤمن، والنفس الصادقة المطمئنة بإيمانها بالله يستطيع أن يفعل ما يشاء. أتحدث و أنا أنظر إلى السماء التي امتلئت بالنجوم، عيناي تبحث عن السبع المميتة، تلك التي تلمع بين الفينة والأخري، كأنما أربع منها يحملن شيئًا وثلاثٌ يتبعنهم، يخفق قلبي ما إن أراهم، كأني كنت ضائعًا وعُدت إلى مستقري ما إن نظرت إليهم.
-لا زلت تنظر في النجوم؟!
-لا أمل يا عماه من النظر فيها، فهي مرآة تعكس جمال نور الله وجلاله.
-لن تبدلك الدنيا، رغم ما تبديه من قسوة.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي