الفصل 3
وهنا غضن "شهريار" من تعابير وجهه وتكلم باشمزاز:
ـ وطبعاً تلك الأميرة كانت تستغل جمالها وفتنتها للحصول على أكثر الملوك ثراء وقوة لتقوم بإستغفاله كما تفعل بنات جنسها..
امتعضت "شهرزاد" من كلام الملك لتهجمه دوماً على بنات حواء لكنها قالت:
ـ مش كل النساء كما يعتقد مولاي, استمع إلى بقية الحكاية لتعلم من أي معدن نفيس كانت شخصية الأميرة أوجيني..
أكملت سردها لتلك الحكاية لتجيب على كلام الملك..
لم تشعر الأميرة بأن أحداً ممن تقدم لها من الأمراء أسر قلبها, أو ملأ روحها شغفاً بحبه.
وإستمرت الحال على هذا المنوال فترةً من الزمان, وفي أحد الأيام سَمِعت ساحرة شريرة عن رغبة الملك في تزويج إبنته لمن يخفق له قلبها, فطلبت الساحرة من إبنها الذهاب برفقتها لخطبة الأميرة والزواج بها, للسيطرة على تلك البلاد والتحكم بأهلها.. وبعد التقدم إليها.. كان جواب "أوجيني" هو الرفض أيضاً.. فغضبت تلك الساحرة غضباً عظيماً لرفض الأميرة لولدها وإفشال مخططها للوصول إلى حكم تلك البلاد.. فألقت على "أوجيني" لعنة سوداء, بجعل نظرتها قادرة على تحويل كل من تنظر إليه من الرجال إلى تمثال حجري, ولن تتخلص من تلك اللعنة إلا إذا أحبها أحدهم حباً صادقاً وقام بالتضحية من أجلها..
ارتعبت "أوجيني" من كلام الساحرة فنظرت إلى الحارسان اللذان يحرسان باب القصر, فخرا صريعين متحولين إلى تمثالين حجريين..
هربت بسرعة وهي تغطي عينيها بيديها وتبكي بدموع غزيرة ألماً على حالها.. قامت بحبس نفسها في غرفتها أياماً وليالي, ترفض خروجها أو دخول أحداً إليها, حتى تمنع أي شخص من التعرض إلى مصير الحارسين, وفي أحد الأيام وعندما أرخى الليل سدوله خرجت بهدوء تاركةً رسالة توضح فيها لوالدها سبب تركها القصر.
"والدي العزيز..
سأترك القصر وأذهب الى مكان قصي بعيد, خوفاً من أن أرنو إليك بنظري فأرديك تمثالاً متحجراً, وعندها لن أسامح نفسي أبداً.. سأبحث عن أميري بنفسي.. لن أنتظر أن يأتي إلي, أن وجدته وضحى لأجلي.. سأعود لأعيش في كنفك حزينةً على فقدانه, وأبقى وفيةً لذكراه أبد الدهر, وإن لم أجده سأختار البقاء بعيداً إلى أن يواريني الموت ويريحني من مأساتي"..
همم "شهريار" مستغرباً:
ـ تصرف غريب من إحدى بنات جنسك يا"شهرزاد"!!...
ردت عليه بهدوء:
ـ إسمع إلى بقية الحكاية يامولاي, وأنت تعرف ما هو المغزى منها.
سارت" أوجيني" أياماً وليالي بين الحقول والوديان تشرب من مياه ينابيعها الرقراقة, وتقتات من فواكهها الغناء, تتحاشى الظهور وترهف السمع دائماً لتهم بالإبتعاد عن طريق البشر لكي لا تتسبب في تحويلهم إلى تماثيل متحجرة...
كانت تستند دوماً إلى جذع شجرة وارفة الظلال قرب جداول المياه, تبكي بحرقة فؤاد لحالها وهي تفكر.. من هو هذا الفارس الذي سيحبها حباً صادقاً وسيضحي لأجلها ليكسر لعنتها الأبدية؟..
وحتى إن كُسِرت تلك اللعنة عنها ستعيش بضمير مثقل بالعذاب لموت شخص بسببها, وقلب ملتاع لفقد الحبيب الذي سيضحي بروحه من أجلها, إستمرت بذرف الدموع لقلة حيلتها وعيل صبرها لكنها كانت تلاحظ أن تلك الدموع تتحول إلى حباتٍ من الماس والياقوت بمجرد سقوطها على وجنتيها المخمليتين, فأخذت تجمع تلك الحبات وتقتطع خصلات حريرية من شعرها وتجدل هذه الجواهر وتجمعها بعضها مع بعض مكونةً أطواقاً وأساور لامعة..
في أحد الأيام كانت منهمكة بغزل حبات دموعها وهي تكلم نفسها بصوت متلظي بألم الحزن والفراق:
ـ لماذا تتحول دموع ألمي التي أذرفها إلى حبات من ماسٍ براق؟!! وشهقات روحي المعذبة الدامية إلى قطع ياقوتية متلألئة؟!!.. ما الذي أصابني؟؟.. هل بدأت بالتحول إلى منجم سحري يلفظ الأحجار والجواهر نفيسة؟؟.. لم يسبق لي أن سمعت عن شيء كهذا الخيال؟؟.
أجابها صوت من خلف شجرة قريبة:
ـ إن تحول تلك الدموع الكرستالية إلى جواهر ثمينة نادرة الوجود, سببها أن لكِ روحاً بريئةً, نقية السيرة, وطيبة القلب..
أجفلها ذلك الصوت الهاتف فنهضت بسرعة ورجعت إلى الخلف حتى استندت لجذع الشجرة وهي خائفة:
ـ من أنت؟؟.. وماذا تريد مني؟.. أرجوك لا تؤذني.
تقدم منها جواداً ناصع البياض.. رشيق الخطوات.. مهيب النظرات.. ذو هامة شماء
تتوسط جبهته العالية قرن عاجي اللون.. يمكن وصفه بكلمات قليلة بأنه أجمل جواد شاهدته في حياتها, لكنها نظرت إليه بتمعن كبير تريد أن تتطلع إلى معلومة ما قد مرت على ذاكرتها سابقاً..
لحظة.. هذا ليس أي جواد عادي!!.. هذا هو اليونيكورن!!.. _حيوان أسطوري خرافي الجمال, أختفى منذ قرون ولم يعد أحد يسمع عن ظهوره منذ زمن بعيد_ تقدم منها بروية وهو يمشي الهوينا, لكنها أغمضت عينيها بسرعة كبيرة كي لا تؤذيه:
- أنت يونيكورن؟!!.. لقد قرأت عنك الكثير, لكن بني جنسك قد اختفوا منذ زمنٍ بعيد.. ما الذي يفعله حيوان نادر الوجود مثلك في هذه الارجاء؟؟.
توقف على مقربة منها وهو يرفع رأسه لينظر إليها:
ـ لقد سمعت عن وجود فتاة حسناء رائعة الجمال, تذرف جواهر ثمينة من مقل عينيها.. فجئت للتأكد من صحة هذه الأقاويل.. لماذا تقومين بإغماض عينيك الجميلتين؟؟.. لماذا لاتفتحينهما وتنظرين إلي؟.. أريد التمتع بجمال لونهما الغريب!!.
أشاحت بوجهها إلى جانب النهر وفتحتهما ببطء وبصوت حزين أجابت :
ـ أغمضهما حتى لا تتحول إلى تمثال حجري بسبب لعنة ألقتها علي ساحرة شريرة, بجعل نظرة عيني تفعل ذلك بمن أنظر إليه..
عندها تقدم منها وأخذ يمرغ أنفه بين يديها ثم قال:
- لكني لن أتأثر!!.. فلا تخافي ولا تجزعي.. تستطيعين النظر إلي بدون وجل..
رفعت رأسها ونظرت إليه.. فترقرقت دموعها الماسية في مآقيها وانهمرت بسرعة حولها متناثرة كأنها طوق منفرط:
ـ أنت أول كائن حي تقع عليه عيناي بعد أن أُلقيت علي تلك اللعنة, لقد تركت كل من أحبهم خوفاً عليهم من نظراتي, وبت أعتبر الطبيعة هي بيتي وسكني.. أهلي وأصدقائي.. ملجأي وملاذي.
مدت يدها وأخذت تتلمس بشرة جلده اللماعة, وهي تهمس بلحن أغنية حزينة جعلت منه يهبط بهدوء ويضع رأسه في أحضانها.. وينام..
فمن المعروف عن اليونيكورن أنه لا يقترب من سائر البشر, إلا من فتاة عذراء نقية القلب طيبة المعشر.. لذلك كان الصيادون يستخدمون العذارى للإمساك به, لكن هذا اليونيكورن كان يشعر بشعور غريب تجاه "أوجيني"..
أبى أن يتركها لوحدها في تلك الغابة, فأصبح كظل لها يتبعها أينما تكون, ويتحدث إليها ويستمع إلى قصص طفولتها السعيدة, ويطرب عندما تشدو بأعذب الأصوات أغاني تلون بها ساعات يومهما الطويلة..
واستمرا على هذه الحال أياما ًطوال ولم يفترقا لحظة واحدة, فنمت بينهما علاقة قوية من المحبة والصداقة..
زمجر "شهريار" ساخطاً فيما هي تهم بسرد المزيد:
ـ أتريدين أن تخبريني يا "شهرزاد" أنها أكتفت برفقة ذلك الحيوان فقط على رفقة البشر؟؟.. هل هذا معقول؟!!.. ويحك يا امرأة!!.. هل تعتقدين أنني شخص ساذج لأصدق هذا الهراء؟؟.
هزت رأسها دلالة التبرم وهي تزفر الهواء بهدوء:
ـ يا مولاي.. هل نسيت أمر اللعنة المُلقاة عليها؟؟.. لا تريد أن تتألم عندما يتحول شخصاً ما إلى قطعة حجرية جامدة عندما تنظر إليه, تريد أن تفتح عينيها بدون أن تسبب الأذى لأحد.. هل أكمل يا مولاي أم أتوقف؟؟.
أشار لها بيده لتكمل..
وفي أحد الأيام وفيما كان الأثنان سائران كعادتهما سمعا حركة غريبة بالقرب منهما رفع اليونيكورن رأسه عالياً مستشعراً خطراً محدقاً.. وخلال لحظات بوغِتا بتجمهر عدد كبير من الصيادين حولهما يريدون اصطياده..
اقتربت "أوجيني" منه تريد حمايته وهي تصرخ بهم:
ـ ابتعدوا من هنا.. وإلا نلتم عقاباً شديداً..
ضحك على كلامها الصيادون وتهكموا بقولهم :
ـ ومن سينزل هذا العقاب بنا أنتِ أيتها الفتاة الحسناء؟؟.
استبد بها الغضب بشدة فقالت:
ـ سأحولكم جميعاً إلى تماثيل حجرية إن لم تبتعدوا من هنا وتتركونه.. فهو هنا تحت حمايتي!!.
لكنهم لم يأبهوا لكلامها فهجموا عليهما يريدون الإمساك به, فأخذت تنظر إلى كل صياد يقترب فيتحول على الفور إلى تمثال حجري, لكن أحدهم تمكن من إطلاق سهم مسموم بإتجاه اليونيكورن..
لم تستطع تحويل ذلك السهم المقترب لكون نظراتها لا تؤثر إلا على بني البشر, وكان شيئاً خارجاً عن إرادتها.. فنفذت أول فكرة خطرت على بالها.. وألقت بنفسها أمامه لتتلاقاه بصدرها وهي تفكر.. أنها إن ماتت لهو أفضل لها من أن تقضي بقية حياتها تنتظر أميرها المرتقب..
أصابها السهم في مقتل فخرت صريعة على الأرض فاقدة للوعي, شاهد تصرفها هذا اليونيكورن فصهل بصوتٍ عالٍ وهاجم كل صياد متبقي إلى أن قضى عليهم جميعاً, ثم ركض إلى أقرب جذع شجرة وأخذ بضرب رأسه بها ليكسر قرنه الذي يتوج وسط هامته, فهو يعلم أن له قدرة عجيبة على شفاء أي داء.. وعندما نجح بكسره.. هوى عليه بحوافره إلى أن جعله كمسحوق ناعم, غرف منه بفمه غرفةً وتوجه إلى حبيبته فيما قطرات الدماء تغطى جبهته.. تقدم ووضع المسحوق على مكان السهم النازف.. وبلحظات أخذ جسدها يلفظ السهم ويلتئم بأعجوبة كبيرة.. وبينما هي تستيقظ لتجد إنها ما زالت على قيد الحياة ولم تمت, شاهدت رفيقها يسقط على الأرض مضرجاً بدمائه.. فنهضت بسرعة وركضت إليه, هبطت على ركبتيها وأخذت رأسه بين أحضانها وهي تبكي بحرقة مزقت فؤاد كل من سمع صوتها..
بعدما أرادت أن تضحي بنفسها لحمايته, استرخص روحه من أجلها, كانت دموعها تتساقط كقطرات ندية غطت مكان القرن النازف, وبلحظات غمرهما ضوءً شديداً وبدا شيء ما كأنه يتحول ويخرج من جسد اليونيكورن فأصبح ما حولها كأنها فقاعة سحرية تضمهما معاً, رفعت رأسها ونظرت فرأت أجمل رجل شاهدته, أسر قلبها بمجرد نظرة واحدة من عينيه, وخطف روحها بإبتسامة واحدة من شفتيه.
أرادت أن تغمض عينيها لخوفها من اللعنة لكنه منعها وتكلم بهدوء:
ـ ليس هنالك من داعي لإغماض عينيك أيتها الأميرة "أوجيني", لقد تم كسر السحر عنكِ وعني...
تعجبت أوجيني وأخذ تمسح دموعها بظاهر كفها:
ـ عن أي سحر تتكلم؟؟!!.. هل أنت أمير مسحور بهيئة يونيكورن؟!!.. ومن هي التي قامت بإلقاء التعويذة عليك؟!!.. وماهو هدفها؟؟.
وقف الأمير "بوسيدون" فيما هو يساعدها على الوقوف أيضاً:
- أنا الأمير "بوسيدون" وأتكلم عن اللعنة التي ألقتها الساحرتان الشريرتان علينا سوية.. لعنتي التي لا تكسر إلا أن أحبتني فتاة عذراء وبكت على جسدي بدموع ماسية.. ولعنتك التي لا تبطل إلا أن أحبك رجل وضحى من أجلك, فكنتِ أنتِ يا أميرتي من أنقذني من ذلك السحر المُلقى علي, أما السبب فهو أنها أردات أن تتزوجني لتنجب مني من تستطيع السيطرة عليه لتمتلك القوة لتحكم مملكتي, وعندما رفَضت قامت بالقاء تعويذة سحرية لا تبطل إلا بما أخبرتك به..
رفعت يدها تتلمس وجهه الرائع وهي تبتسم:
- وأنت قمت بأنقاذي يا أميري الوسيم, عندما وهبت روحك وجسدك لتطعمني من أكسير الشفاء مضحياً بنفسك من أجلي..
عادا عندها إلى قصر أبيها وأخبرا الجميع بخبر تحطيم لعنة الساحرة, وأعلنا حبهما للعلن وطلبها الأمير "بوسيدون" من والدها الملك وتزوجا, ورزقا بالعديد من الأبناء.. وحكما البلاد لفترة طويلة بعدل وحكمة....
**********
ـ وهذا يا مولاي ما كان من حكاية الأميران المسحوران حتى وحد الحب بين قلبيهما وفك أسر لعناتهما.. شفت إزاي الحب أقوي من أي سحر؟..
سخر منها شهريار:
ـ وتسمين هذا حباً؟!.. مجرد أسطورة خرافية كخرافة الحب الذي تؤمنين بوجوده بعقلك السفيه.. وماذا أنتظر من مجرد جارية في حكم الميتة؟!.. هل انتهيت من روايتك؟.. يبدو أنه حانت نهايتك.... يااااااااااااااااا مسرووووووووور
اتسعت حدقتاها رعباً ومسرور يخرج من مخبأه وكأن الأرض انشقت عن مكمنه, يخفي نصف وجهه الأسود نصل سيفه العريض البتار..
أمسكت بيد شهريار ترتعش:
ـ إيه ده؟!.. مش ده كان اتفاقنا!!.. خليني لبكرة عندي ليك رواية تانية.
تنهد بانزعاج:
ـ وما الفائدة؟.. لن تستطيعي اقناعي بوجود الحب بين خيالات حكاياتك أو واقعيتها.
أطرقت برأسها وبدلال الأنثى رسمت ضعفها:
ـ الحب الحقيقي في القلب وحده صعب إثباته, كمان فرصة لو تعطيني أكيد بكرة هثبت لك وجوده..
فكر لحظات ومسح بلحيته ثم رمقها بنظرة متعالية اهتزت من خنوعها:
ـ موافق بشرط.. تحكي الحكاية الآن.. وفوراً.
ـ بس يا مولاي...
وقاطع كلامها صياح الديك الصياح يعلن عن بزوغ فجر الصباح فتأوهت شهرزاد وتنهدت.. ووضعت يدها على فمها تثائبت:
ـ عفواً يا مولاي.. ولكن لاح الصباح وصاح ديكك الصياح لتسكت شهرزادك عن الكلام المباح, لليلة الغد سترتاح .. وبعدها...آه.. مولاى....ٍٍ
انتهت حكايتها فغلبها النعاس, وهي تفكر.. هل عرف مولاها "شهريار" مغزى هذه الحكاية؟!!.. أم كعادته أغفل معناها وتجاهل مغزها لفكرة كونها سابقاً عن بنات جنسها؟..
وعندها أدرك "شهرزاد" الصباح, فسكتت على الكلام المباح.
...............................................
ـ وطبعاً تلك الأميرة كانت تستغل جمالها وفتنتها للحصول على أكثر الملوك ثراء وقوة لتقوم بإستغفاله كما تفعل بنات جنسها..
امتعضت "شهرزاد" من كلام الملك لتهجمه دوماً على بنات حواء لكنها قالت:
ـ مش كل النساء كما يعتقد مولاي, استمع إلى بقية الحكاية لتعلم من أي معدن نفيس كانت شخصية الأميرة أوجيني..
أكملت سردها لتلك الحكاية لتجيب على كلام الملك..
لم تشعر الأميرة بأن أحداً ممن تقدم لها من الأمراء أسر قلبها, أو ملأ روحها شغفاً بحبه.
وإستمرت الحال على هذا المنوال فترةً من الزمان, وفي أحد الأيام سَمِعت ساحرة شريرة عن رغبة الملك في تزويج إبنته لمن يخفق له قلبها, فطلبت الساحرة من إبنها الذهاب برفقتها لخطبة الأميرة والزواج بها, للسيطرة على تلك البلاد والتحكم بأهلها.. وبعد التقدم إليها.. كان جواب "أوجيني" هو الرفض أيضاً.. فغضبت تلك الساحرة غضباً عظيماً لرفض الأميرة لولدها وإفشال مخططها للوصول إلى حكم تلك البلاد.. فألقت على "أوجيني" لعنة سوداء, بجعل نظرتها قادرة على تحويل كل من تنظر إليه من الرجال إلى تمثال حجري, ولن تتخلص من تلك اللعنة إلا إذا أحبها أحدهم حباً صادقاً وقام بالتضحية من أجلها..
ارتعبت "أوجيني" من كلام الساحرة فنظرت إلى الحارسان اللذان يحرسان باب القصر, فخرا صريعين متحولين إلى تمثالين حجريين..
هربت بسرعة وهي تغطي عينيها بيديها وتبكي بدموع غزيرة ألماً على حالها.. قامت بحبس نفسها في غرفتها أياماً وليالي, ترفض خروجها أو دخول أحداً إليها, حتى تمنع أي شخص من التعرض إلى مصير الحارسين, وفي أحد الأيام وعندما أرخى الليل سدوله خرجت بهدوء تاركةً رسالة توضح فيها لوالدها سبب تركها القصر.
"والدي العزيز..
سأترك القصر وأذهب الى مكان قصي بعيد, خوفاً من أن أرنو إليك بنظري فأرديك تمثالاً متحجراً, وعندها لن أسامح نفسي أبداً.. سأبحث عن أميري بنفسي.. لن أنتظر أن يأتي إلي, أن وجدته وضحى لأجلي.. سأعود لأعيش في كنفك حزينةً على فقدانه, وأبقى وفيةً لذكراه أبد الدهر, وإن لم أجده سأختار البقاء بعيداً إلى أن يواريني الموت ويريحني من مأساتي"..
همم "شهريار" مستغرباً:
ـ تصرف غريب من إحدى بنات جنسك يا"شهرزاد"!!...
ردت عليه بهدوء:
ـ إسمع إلى بقية الحكاية يامولاي, وأنت تعرف ما هو المغزى منها.
سارت" أوجيني" أياماً وليالي بين الحقول والوديان تشرب من مياه ينابيعها الرقراقة, وتقتات من فواكهها الغناء, تتحاشى الظهور وترهف السمع دائماً لتهم بالإبتعاد عن طريق البشر لكي لا تتسبب في تحويلهم إلى تماثيل متحجرة...
كانت تستند دوماً إلى جذع شجرة وارفة الظلال قرب جداول المياه, تبكي بحرقة فؤاد لحالها وهي تفكر.. من هو هذا الفارس الذي سيحبها حباً صادقاً وسيضحي لأجلها ليكسر لعنتها الأبدية؟..
وحتى إن كُسِرت تلك اللعنة عنها ستعيش بضمير مثقل بالعذاب لموت شخص بسببها, وقلب ملتاع لفقد الحبيب الذي سيضحي بروحه من أجلها, إستمرت بذرف الدموع لقلة حيلتها وعيل صبرها لكنها كانت تلاحظ أن تلك الدموع تتحول إلى حباتٍ من الماس والياقوت بمجرد سقوطها على وجنتيها المخمليتين, فأخذت تجمع تلك الحبات وتقتطع خصلات حريرية من شعرها وتجدل هذه الجواهر وتجمعها بعضها مع بعض مكونةً أطواقاً وأساور لامعة..
في أحد الأيام كانت منهمكة بغزل حبات دموعها وهي تكلم نفسها بصوت متلظي بألم الحزن والفراق:
ـ لماذا تتحول دموع ألمي التي أذرفها إلى حبات من ماسٍ براق؟!! وشهقات روحي المعذبة الدامية إلى قطع ياقوتية متلألئة؟!!.. ما الذي أصابني؟؟.. هل بدأت بالتحول إلى منجم سحري يلفظ الأحجار والجواهر نفيسة؟؟.. لم يسبق لي أن سمعت عن شيء كهذا الخيال؟؟.
أجابها صوت من خلف شجرة قريبة:
ـ إن تحول تلك الدموع الكرستالية إلى جواهر ثمينة نادرة الوجود, سببها أن لكِ روحاً بريئةً, نقية السيرة, وطيبة القلب..
أجفلها ذلك الصوت الهاتف فنهضت بسرعة ورجعت إلى الخلف حتى استندت لجذع الشجرة وهي خائفة:
ـ من أنت؟؟.. وماذا تريد مني؟.. أرجوك لا تؤذني.
تقدم منها جواداً ناصع البياض.. رشيق الخطوات.. مهيب النظرات.. ذو هامة شماء
تتوسط جبهته العالية قرن عاجي اللون.. يمكن وصفه بكلمات قليلة بأنه أجمل جواد شاهدته في حياتها, لكنها نظرت إليه بتمعن كبير تريد أن تتطلع إلى معلومة ما قد مرت على ذاكرتها سابقاً..
لحظة.. هذا ليس أي جواد عادي!!.. هذا هو اليونيكورن!!.. _حيوان أسطوري خرافي الجمال, أختفى منذ قرون ولم يعد أحد يسمع عن ظهوره منذ زمن بعيد_ تقدم منها بروية وهو يمشي الهوينا, لكنها أغمضت عينيها بسرعة كبيرة كي لا تؤذيه:
- أنت يونيكورن؟!!.. لقد قرأت عنك الكثير, لكن بني جنسك قد اختفوا منذ زمنٍ بعيد.. ما الذي يفعله حيوان نادر الوجود مثلك في هذه الارجاء؟؟.
توقف على مقربة منها وهو يرفع رأسه لينظر إليها:
ـ لقد سمعت عن وجود فتاة حسناء رائعة الجمال, تذرف جواهر ثمينة من مقل عينيها.. فجئت للتأكد من صحة هذه الأقاويل.. لماذا تقومين بإغماض عينيك الجميلتين؟؟.. لماذا لاتفتحينهما وتنظرين إلي؟.. أريد التمتع بجمال لونهما الغريب!!.
أشاحت بوجهها إلى جانب النهر وفتحتهما ببطء وبصوت حزين أجابت :
ـ أغمضهما حتى لا تتحول إلى تمثال حجري بسبب لعنة ألقتها علي ساحرة شريرة, بجعل نظرة عيني تفعل ذلك بمن أنظر إليه..
عندها تقدم منها وأخذ يمرغ أنفه بين يديها ثم قال:
- لكني لن أتأثر!!.. فلا تخافي ولا تجزعي.. تستطيعين النظر إلي بدون وجل..
رفعت رأسها ونظرت إليه.. فترقرقت دموعها الماسية في مآقيها وانهمرت بسرعة حولها متناثرة كأنها طوق منفرط:
ـ أنت أول كائن حي تقع عليه عيناي بعد أن أُلقيت علي تلك اللعنة, لقد تركت كل من أحبهم خوفاً عليهم من نظراتي, وبت أعتبر الطبيعة هي بيتي وسكني.. أهلي وأصدقائي.. ملجأي وملاذي.
مدت يدها وأخذت تتلمس بشرة جلده اللماعة, وهي تهمس بلحن أغنية حزينة جعلت منه يهبط بهدوء ويضع رأسه في أحضانها.. وينام..
فمن المعروف عن اليونيكورن أنه لا يقترب من سائر البشر, إلا من فتاة عذراء نقية القلب طيبة المعشر.. لذلك كان الصيادون يستخدمون العذارى للإمساك به, لكن هذا اليونيكورن كان يشعر بشعور غريب تجاه "أوجيني"..
أبى أن يتركها لوحدها في تلك الغابة, فأصبح كظل لها يتبعها أينما تكون, ويتحدث إليها ويستمع إلى قصص طفولتها السعيدة, ويطرب عندما تشدو بأعذب الأصوات أغاني تلون بها ساعات يومهما الطويلة..
واستمرا على هذه الحال أياما ًطوال ولم يفترقا لحظة واحدة, فنمت بينهما علاقة قوية من المحبة والصداقة..
زمجر "شهريار" ساخطاً فيما هي تهم بسرد المزيد:
ـ أتريدين أن تخبريني يا "شهرزاد" أنها أكتفت برفقة ذلك الحيوان فقط على رفقة البشر؟؟.. هل هذا معقول؟!!.. ويحك يا امرأة!!.. هل تعتقدين أنني شخص ساذج لأصدق هذا الهراء؟؟.
هزت رأسها دلالة التبرم وهي تزفر الهواء بهدوء:
ـ يا مولاي.. هل نسيت أمر اللعنة المُلقاة عليها؟؟.. لا تريد أن تتألم عندما يتحول شخصاً ما إلى قطعة حجرية جامدة عندما تنظر إليه, تريد أن تفتح عينيها بدون أن تسبب الأذى لأحد.. هل أكمل يا مولاي أم أتوقف؟؟.
أشار لها بيده لتكمل..
وفي أحد الأيام وفيما كان الأثنان سائران كعادتهما سمعا حركة غريبة بالقرب منهما رفع اليونيكورن رأسه عالياً مستشعراً خطراً محدقاً.. وخلال لحظات بوغِتا بتجمهر عدد كبير من الصيادين حولهما يريدون اصطياده..
اقتربت "أوجيني" منه تريد حمايته وهي تصرخ بهم:
ـ ابتعدوا من هنا.. وإلا نلتم عقاباً شديداً..
ضحك على كلامها الصيادون وتهكموا بقولهم :
ـ ومن سينزل هذا العقاب بنا أنتِ أيتها الفتاة الحسناء؟؟.
استبد بها الغضب بشدة فقالت:
ـ سأحولكم جميعاً إلى تماثيل حجرية إن لم تبتعدوا من هنا وتتركونه.. فهو هنا تحت حمايتي!!.
لكنهم لم يأبهوا لكلامها فهجموا عليهما يريدون الإمساك به, فأخذت تنظر إلى كل صياد يقترب فيتحول على الفور إلى تمثال حجري, لكن أحدهم تمكن من إطلاق سهم مسموم بإتجاه اليونيكورن..
لم تستطع تحويل ذلك السهم المقترب لكون نظراتها لا تؤثر إلا على بني البشر, وكان شيئاً خارجاً عن إرادتها.. فنفذت أول فكرة خطرت على بالها.. وألقت بنفسها أمامه لتتلاقاه بصدرها وهي تفكر.. أنها إن ماتت لهو أفضل لها من أن تقضي بقية حياتها تنتظر أميرها المرتقب..
أصابها السهم في مقتل فخرت صريعة على الأرض فاقدة للوعي, شاهد تصرفها هذا اليونيكورن فصهل بصوتٍ عالٍ وهاجم كل صياد متبقي إلى أن قضى عليهم جميعاً, ثم ركض إلى أقرب جذع شجرة وأخذ بضرب رأسه بها ليكسر قرنه الذي يتوج وسط هامته, فهو يعلم أن له قدرة عجيبة على شفاء أي داء.. وعندما نجح بكسره.. هوى عليه بحوافره إلى أن جعله كمسحوق ناعم, غرف منه بفمه غرفةً وتوجه إلى حبيبته فيما قطرات الدماء تغطى جبهته.. تقدم ووضع المسحوق على مكان السهم النازف.. وبلحظات أخذ جسدها يلفظ السهم ويلتئم بأعجوبة كبيرة.. وبينما هي تستيقظ لتجد إنها ما زالت على قيد الحياة ولم تمت, شاهدت رفيقها يسقط على الأرض مضرجاً بدمائه.. فنهضت بسرعة وركضت إليه, هبطت على ركبتيها وأخذت رأسه بين أحضانها وهي تبكي بحرقة مزقت فؤاد كل من سمع صوتها..
بعدما أرادت أن تضحي بنفسها لحمايته, استرخص روحه من أجلها, كانت دموعها تتساقط كقطرات ندية غطت مكان القرن النازف, وبلحظات غمرهما ضوءً شديداً وبدا شيء ما كأنه يتحول ويخرج من جسد اليونيكورن فأصبح ما حولها كأنها فقاعة سحرية تضمهما معاً, رفعت رأسها ونظرت فرأت أجمل رجل شاهدته, أسر قلبها بمجرد نظرة واحدة من عينيه, وخطف روحها بإبتسامة واحدة من شفتيه.
أرادت أن تغمض عينيها لخوفها من اللعنة لكنه منعها وتكلم بهدوء:
ـ ليس هنالك من داعي لإغماض عينيك أيتها الأميرة "أوجيني", لقد تم كسر السحر عنكِ وعني...
تعجبت أوجيني وأخذ تمسح دموعها بظاهر كفها:
ـ عن أي سحر تتكلم؟؟!!.. هل أنت أمير مسحور بهيئة يونيكورن؟!!.. ومن هي التي قامت بإلقاء التعويذة عليك؟!!.. وماهو هدفها؟؟.
وقف الأمير "بوسيدون" فيما هو يساعدها على الوقوف أيضاً:
- أنا الأمير "بوسيدون" وأتكلم عن اللعنة التي ألقتها الساحرتان الشريرتان علينا سوية.. لعنتي التي لا تكسر إلا أن أحبتني فتاة عذراء وبكت على جسدي بدموع ماسية.. ولعنتك التي لا تبطل إلا أن أحبك رجل وضحى من أجلك, فكنتِ أنتِ يا أميرتي من أنقذني من ذلك السحر المُلقى علي, أما السبب فهو أنها أردات أن تتزوجني لتنجب مني من تستطيع السيطرة عليه لتمتلك القوة لتحكم مملكتي, وعندما رفَضت قامت بالقاء تعويذة سحرية لا تبطل إلا بما أخبرتك به..
رفعت يدها تتلمس وجهه الرائع وهي تبتسم:
- وأنت قمت بأنقاذي يا أميري الوسيم, عندما وهبت روحك وجسدك لتطعمني من أكسير الشفاء مضحياً بنفسك من أجلي..
عادا عندها إلى قصر أبيها وأخبرا الجميع بخبر تحطيم لعنة الساحرة, وأعلنا حبهما للعلن وطلبها الأمير "بوسيدون" من والدها الملك وتزوجا, ورزقا بالعديد من الأبناء.. وحكما البلاد لفترة طويلة بعدل وحكمة....
**********
ـ وهذا يا مولاي ما كان من حكاية الأميران المسحوران حتى وحد الحب بين قلبيهما وفك أسر لعناتهما.. شفت إزاي الحب أقوي من أي سحر؟..
سخر منها شهريار:
ـ وتسمين هذا حباً؟!.. مجرد أسطورة خرافية كخرافة الحب الذي تؤمنين بوجوده بعقلك السفيه.. وماذا أنتظر من مجرد جارية في حكم الميتة؟!.. هل انتهيت من روايتك؟.. يبدو أنه حانت نهايتك.... يااااااااااااااااا مسرووووووووور
اتسعت حدقتاها رعباً ومسرور يخرج من مخبأه وكأن الأرض انشقت عن مكمنه, يخفي نصف وجهه الأسود نصل سيفه العريض البتار..
أمسكت بيد شهريار ترتعش:
ـ إيه ده؟!.. مش ده كان اتفاقنا!!.. خليني لبكرة عندي ليك رواية تانية.
تنهد بانزعاج:
ـ وما الفائدة؟.. لن تستطيعي اقناعي بوجود الحب بين خيالات حكاياتك أو واقعيتها.
أطرقت برأسها وبدلال الأنثى رسمت ضعفها:
ـ الحب الحقيقي في القلب وحده صعب إثباته, كمان فرصة لو تعطيني أكيد بكرة هثبت لك وجوده..
فكر لحظات ومسح بلحيته ثم رمقها بنظرة متعالية اهتزت من خنوعها:
ـ موافق بشرط.. تحكي الحكاية الآن.. وفوراً.
ـ بس يا مولاي...
وقاطع كلامها صياح الديك الصياح يعلن عن بزوغ فجر الصباح فتأوهت شهرزاد وتنهدت.. ووضعت يدها على فمها تثائبت:
ـ عفواً يا مولاي.. ولكن لاح الصباح وصاح ديكك الصياح لتسكت شهرزادك عن الكلام المباح, لليلة الغد سترتاح .. وبعدها...آه.. مولاى....ٍٍ
انتهت حكايتها فغلبها النعاس, وهي تفكر.. هل عرف مولاها "شهريار" مغزى هذه الحكاية؟!!.. أم كعادته أغفل معناها وتجاهل مغزها لفكرة كونها سابقاً عن بنات جنسها؟..
وعندها أدرك "شهرزاد" الصباح, فسكتت على الكلام المباح.
...............................................