الفصل الثاني
جذبها من تلابيبها وكوّر قبضته وهَمَّ بضربها مرة أخرى فأغمضت عينَيها بقوة استعدادًا لتلقّي ضربة جديدة.. ولكنه فجأة دفعها لتسقط أرضًا وهدر بصوته الجهوري:
-«هاتي ما معك من مال».
مسحت أنفها وفمها المخضبَين بالدّم، ثم مدت يدها لحقيبتها الملقاة جوارها.. لم ينتظرها؛ فانتشل منها الحقيبة وأخرج كل ما بها على الأرض، ثم التقط الجنيهات الهزيلة وحشرها في جيبه، ثم قذف الحقيبة الفارغة في وجهها وغادر صافقًا الباب خلفه بعنف ارتجت له الجدران، لتتساقط بعض أجزاء الجير منها..
تأملت الجدران العارية إلا ما تبقى من مجد زائل.. ثم تلمست بعض من الجير المهال، تلمسته وهو يهترئ كحياتها بين أناملها المرتعشة.. حاولت النّهوض أكثر من مرة، وفي كل مرة تبوء محاولاتها بالفشل؛ آلام رهيبة تئن بها عظامها، لدرجة أن ساورها إحساس أن أحد أضلاعها قد تحطم.. رفعت عينَيها لصورة والديها تكلل جدار غرفة المعيشة المظلمة إلا من المصباح الموفر الذي ينير المكان بضوئه الشّحيح.. وعادت دموعها تسيل كالفيضان تتكئ على أحد مقاعد الأنتريه المتهالكة كحالها.. وقفت متمايلة تضع ذراعها على صدرها بأنين، تحدّق بصورة والديها، تعض على شفتيها بقوة كي لا تترك لنفسها العنان للبكاء بصوت عالٍ.. تساندت على الجدران حتى وصلت لغرفتها. دخلتها وأدارت المفتاح في القفل مرتين ثم تركت جسدها يتهاوى.. تفقد بالتدريج الشّعور بأيّ ألم.. فقد نفد معينُها من هذا الإحساس الذي أصبح ضيفًا مجبورة على استقباله في كل ليلة، وفي كل ليلة لا تغمض فيها جفونها إلا بدعوة صادقة «رَبِّ أمتني إن كان الموتُ راحةً لي».
وقفت كروان تراقب صديقتها بقلق حتى ابتلعها الظّلام.. تمنت في سريرتها لو عرضت عليها أن تعيش معها ومع أهلها.. ولكنها في كل مرة تمسك لسانها.. لن تنسَ أبدًا المرة الأولى التي عرضت فيها هذا العرض عليها، ورغم ما تعانيه حنين من أخيها ومعاملته القاسية، ولكن لم يهُن عليها تركه وحيدًا أبدًا... التفتت لتحدّق بالمبنى ذي الطّابقين المظلم في آخر الطّريق.. كم يبدو بخير تحت غطاء الظّلام.. مَن يراه من بعيد يعتقد خاطئًا أنه ما يزال يحمل من عبق الماضي الفخامة التي تبدو عليها تلك المباني القديمة.
أخرجت زفرة ضيق تحث خطاها لقطع ما تبقى من الطّريق، تكاد تحلم بفراشها الذي تستلقي عليه كل ليلة دون الشّعور متى وكيف سيطر عليها سلطان النّوم بسرعة الضّوء!!
اقتربت أكثر من البيت ليبدو جليًّا حاله المتهالك.. نوافذه بشرّاعاتها الفاقدة لمعظم ألواحها، وسقفه المتداعي، الذي لن يتحمل شتاءً آخر كالشتاء المنصرم، خاصة وهو يواجه البحر مباشرةً ويتلقى رياحه الغاضبة بصبر دءوب طوال سنوات عمره الكثيرة.. عبّأت رئتيها بعدة أنفاس متتالية بهواء نقي مشبع باليود، عندما هبت نسمات البحر لتنعش أفكارها، ولكن ظل الواقع البائس كما هو..
تمتمت بضيق وهي تدفع الباب الخشبي الضّخم:
- «أنت بحاجة لثروة طائلة أيّها العجوز الطّيب، ومعها معجزة لتبقيك عدة سنوات أخرى بكرامة».
أغلقت الباب لتتلقى النّسمات الدّافئة التي تعبق بها جدران تنخر الرّطوبة من صلابتها حتى باتت مصدر تهديد حقيقي، ولكنها ما تزال تذخر بعشر سنوات من الذكريات التي تحوّل كل واقع مؤلم إلى قطعة من ذكرى جميلة.
تمنت ألّا تكون أُمّها قد سهرت هذه الليلة بانتظارها أيضًا.. صعدت الدّرج العتيق، ثم ابتسمت وهي تسرع خطواتها يلاحقها أنين الخشب القديم بموسيقى معتادة تحت ثقلها.. تنفست بعمق عندما وصلت لأعلى الدّرج.. وقفت أمام غرفة والدها تحاول الإنصات، حتى أتاها صوت أُمّها من خلف الباب:
- «تصبحين على خير يا عزيزتي».
أومأت كروان بابتسامة رضا:
- «وأنت بخير يا غاليتي».
دخلت الغرفة المجاورة تطل برأسها، ثم تنهدت بصوت مسموع عندما وقعت عيناها على الفوضى المعتادة التي تغمر الغرفة كالفيضان.. تأملت ملاكَيها النّائمَين على فراشيهما.
رقت نظراتها وهل تتطلع إليهم.. وكادت تنسحب بهدوء عندما لاحظت ما أثار انتباهها.. استدارت بتنهيدة عميقة مغالبة ضحكتها:
- «حسنًا أيّها المشاغبان.. تمثيلكما غير متقن هذه المرة.. ولا تحاولا إقناعي أنكما سهرتما بانتظار عودتي.. ابحثا عن حجة أخرى».
هتف رائد بنزق:
- «بالتأكيد ما كشفنا إلا هذا الفاشل رامي، فهو لا يحسن البقاء هادئًا ولو لعدة لحظات».
هتف رامي مدافعًا:
- «أقسم أنني كنت هادئًا تمامًا.. أليس كذلك يا كوكي؟ أخبرينا كيف عرفت أننا لسنا نائمين حقيقةً.. مني.. أم منه؟».
عاد رائد يصيح بوجه متغضن وملامح جادة:
- «منكَ أنتَ بالتأكيد.. أخبريه الحقيقة يا كوكي.. أخبريه ولا تتلطفي معه؛ لم يعد ولدًا صغيرًا».
- «حسنًا، حسنًا.. لِمَ لا تهدآن كليكما، وتخبراني عن سبب التظاهر بالنوم في البداية؟».
هتف رامي بمرح:
-«ظننا أنك قد تتضايقين لو عَرَفْتِ أننا لم ننَم بعد.. رائد وأنا بالطبع كنا قلقين لتأخيرك».
أومأت بعدم تصديق:
- «فهمت.. والآن هل ارتاح بالكما?».
أجاب رائد بنزق:
- «ليس تمامًا.. لماذا تتأخرين لهذا الوقت.. أعلم أنك تتأخرين في عملك، ولكن أنتِ فتاة شابة ولا يجوز أن تتأخري لهذا الوقت المتأخر».
هزت رأسها، وعيناها تلمعان بدموع فخر وهي تتأمل ملامح الصّبيين المتطابقة كوجهين لعملة واحدة:
- «سامحني يا عزيزي.. أحيانًا نواجه ليالي مكتظة بالزبائن.. ولكنني أرغب من كليكما ألا تقلقا بشأني أبدًا لأنني، أولاً، بعشرة رجال، ثانيًا حنين معي ولا تتركني إلا عند المنعطف على أول الطّريق.. أيْ أنني في أمان تام.. ولا داعي لأن تسهرا بانتظاري في المرة القادمة.. اتفقنا؟.. تصبحان على خير».
أغلقت الباب خلفها ثم عادت لتفتحه لتطل برأسها:
-«آه، بالمناسبة.. لقد عرفت من كليكما؛ رائد.. كان جبينك متغضنًا وكأن فكرك مشغول بأمر مُهِم، ورامي حبيبي.. النّائم لا يبتسم.. والآن هل تكفان عن التشاحن، وتخلدا للنوم.. غدًا على حد علمي لا يزال يومًا دراسيًا كالمعتاد».
غمغم رامي:
- «ليس معتادًا يا كوكي، أم نسيتِ أننا بعد الثّورة بالكاد نذهب للمدرسة».
اتسعت عيناها قائلة بحزم:
-«عندما تجدان بوابة المدرسة مغلقة، ويمنعونكما من الدّخول؛ عودا للبيت.. والآن إلى النّوم».
وقبل أن تغلق الباب مرة أخرى هتف رامي:
- «كوكي.. بعد أسبوعين...».
صاح رائد يعنفه:
-«ألم أحذرك أن تذكّرها؟.. يالَكَ من وقح».
ابتسمت قائلة بغُصّة:
-«أنا لم أنسَ كي يذكرني يا رامي.. وكيف أنسى عيد ميلادكما».
زفر رائد بنزقه المعتاد:
-«ذلك الغبي يقصد ألا تزعجي نفسك بإقامة حفل.. نحن لم نعد صغارًا، لقد بلغنا العاشرة من العمر».
زمجرت بمرح زائف:
- «أتظن أنني غير قادرة على الاحتفال بكما أيها الشّاب الوسيم؟.. لا تقلق يا رائد؛ أنا أقتصد من مصروف البيت لأجل هذا اليوم!!».
انتفض الولدان من فراشيهما يشنان هجومًا بالعناق عليها، ضمتهما بعينين دامعتين.. مد رائد يده يمسح دموعها:
- «كوكي.. أنتِ أروع أخت قد يحظى بها أيّ ولد في العالم.. أنا سعيد أنكِ أختي».
هتف رامي بحبور:
- «وأنا أيضًا».
انهار تماسكها ما إن أغلقت عليها باب غرفتها، ركضت لتفتح شرفتها التي تطل على البحر وأخذت تعبق أنفاسها بهواء الليل النّقي المحمل بالرّذاذ المالح المتطاير من الأمواج.. لدقائق طويلة ظلت تحتضن نفسها بذراعيها، كتمثال حجري لا يصدر منها أيّ حركة حتى هدأت انفعالاتها.
ازداد ضم ذراعيها بقوة على صدرها وأغمضت عينَيها تستمتع لسيمفونية عزف الأمواج وهي تتدافع بهدوء على الشّاطئ، تهمس لرماله بقصائد غزل لا ترويه إلا متسترة بليل مظلم، هادئ لا يفضح أمرها، كأن ذاتها النّاعس بين قمم همومها، يبحث عن الرّومانسية حتى لو في همسات الأمواج على الرّمال.
نفضت عن أكتافها لحظات الرّومانسية، وسلخت نفسها من ضعفها الوشيك، وانحنت مستسلمة لمسئولياتها دون كلل.
تخلصت من ملابسها دون أيّ مراعاة لأيّ عيون قد تتطفل على خصوصيّتها، فلا وجود لجيران قد يجرحون عُزلتها، أو تخشى فضولَهم؛ فمنذ سكنت مع والديها هذا البيت، وأقرب جيران لهم يبعدون عشرات الأميال.. فهذا الشّاطئ القَصيّ من بلطيم ليس مطروقًا بعد، والفيلا المجاورة لهم لم يشاهدوا مالكها أبدًا طوال الأعوام العشرة المنصرمة.. حتى إن أخوَيْها اعتادا القفز من فوق أسوارها المعروشة بكرمة العنب الفيومي، وتناول ما طاب لهما من ثمارها اللذيذة خاصة في فصل الصّيف.. أمّا كما هو الحال الآن في أواخر الشّتاء، فلم تنجُ الحديقة غاراتهما الغاشمة، فاعتادا أن يتناولا فطورهما ببرتقالها الطّازج من أشجارها المنتشرة حول أسوارها من الدّاخل.
عادت من الحمّام بعد أن غسلت تعبها بـ«دوش دافئ». أمّا همومها فلن يغسلها إلا طوفان نوح.. فأنَّى لها به!!
وقفت أمام مرآتها، وأخذت بنعومة تتلمس حنايا جسدها بأصابع مرتعشة، تنهدت بصعوبة تحاول ألّا تلتقي بنظراتها المتهمة عبرها.. لا.. ليس أنت أيضًا.. حنين لا تعرف ظروفي مثلك.. أنت تعرفينني جيدًا.. فأنتِ هي أنا.. تعيشين حياتي وتعانين معاناتي.. ولا حق لك بمقاضاتي.. نعم.. بلغت من عمري الثّامنة والعشرين.. ما يزال جسدي فتيًّا.. ولكن إلى متى؟ عيناي تحيط بهما هالات سوداء، والتجاعيد تزحف على نضارتها الهالكة أسفل أكوام الفواتير اليوميّة، ولا حتى الزّواج بماهر زيدان سينقذني.. منذ متى كان هذا الشّخص الوصولي اللزج، هو القشة تنقذ الغريق من الموت المحتوم!!
استلقت على فراشها، وقد بدأت أطرافها بالتنميل، ودون أن تشعر تسلل النّعاس المتأهب بالاستعداد على أطراف أهدابها للقفز فورًا ما إن تستسلم بخضوع.
وعلى الفور استغرقت في أحلامها دون أن تفطن لتلك العيون البعيدة المترصدة، والمتطفلة على وحدتها من عمق الظّلام المتلفعة به شرفة الفيلا المجاورة!!
استيقظت باكرًا على مضايقات التوأم التي أصبحت من طقوسهما اليومية، وقد ارتديا ملابس السّباحة وأخذا يحثانها على النّهوض من فراشها لدرجة أنهما جرّاها جرًّا حتى سقطت أرضًا تئن بتوجع، ثم هربا بأسرع من البرق عندما زمجرت بغضب مفتعل وصرخت بتهديد:
-«انتظرا أيها الشّقيّان ما إن أضع يدَيّ عليكما لن أترك عظمة واحدة في مكانها، ولن يتبقى منكما ما يصلح لثقالة ورق».
ودون أن تهتم بتغيير منامتها البالية المؤلفة من بنطلون قصير وتيشيرت قطني... غادرت غرفتها ونزلت الدّرج قفزًا حتى كادت تصطدم بأمها حاملة صينية الطّعام:
- «ماما.. آسفة، أعتذر.. هل أنت بخير؟.. هذان الشّقيّان سيدفعان الثّمن.. أقسم لكِ».
ابتسمت أمها برضا:
- «وصباح الخير لك أيضًا».
احمرت أذناها من الإحراج حتى أشارت لها أمها بإشارة خفيّة، مع غمزة تواطؤ على باب المطبخ الخلفي، قبّلتها من وجنتيها هاتفة قبل أن تسرع في اللحاق بهما:
-«لو أردتِ اللحاق بهما اسلكي الطّريق المختصر».
قبَّلتها بقوة مرة أخرى قبل أن تنطلق:
-«أنتِ أجمل أُمّ في الوجود».
وبكل ما تملك من طاقة ركضت خلفهما حتى لحقت بهما على الرّمال، ليشتبكوا في عراك ثلاثي، تعالت من خلاله قهقهاتهم مختلطة بصيحات إعلان حرب أخافت طيور الصّباح وهي تحط على الشّاطئ، تلتقط بمناقيرها الملونة ضحايا ثورة أمواج الليل من كائنات صغيرة..
ثم أكملوا لعبهم في البحر يتصارعون مع بعضهم البعض بين أمواجه الهائجة... استمروا باللعب ومحاولة إغراق بعضهم بعضًا، حتى رفع رائد يده بإنهاك لاهث:
-«هذا يكفي؛ لقد تعبت.. سأخرج أُحضِر لكما برتقالاً لحين خروجكما».
سألته كروان بقلق:
-«هل أنتَ بخير حبيبي؟».
- «كُفّي عن القلق، فأنا معتمد عليك في إغراق ذلك الفاشل».
راقبته بقلق حتى وصل للشاطئ.. فاجأها رامي بإمساكه قدميها من أسفل، فسقطت على وجهها في الماء لتبدأ المعركة من جديد... وبعد أن لقّنته درسًا لن ينساه، توقفا عن الضّحك لينتبه كلاهما لأصوات مشاجرة تصلهما من الشّاطئ... التفتا بنفس اللحظة ليشاهدا مشهدًا أثار تعجبهما ورعبهما في الوقت نفسه.. رائد بشخصيته الهادئة الجادة غير المحب للعنف، يتعارك مع رجل ضعف حجمه ووزنه عشر مرات على الأقل، ورغم ذلك لا يبدو عليه الانهزام... لا تدري كروان كيف وصلت إليهما دون أن يتوقف قلبها من الرّعب.. الخوف الهستيري الذي يسيطر عليها أنها لن تصل في الوقت المناسب لإنقاذ أخيها.. لم تُبالِ بملابسها المبتلة والملتصقة بجسدها كجلد ثانٍ، فعندما وصلت كان رامي قد سبقها وقد اشتبك هو الآخر لينقذ أخاه، فأصبح كلاهما في قبضة العملاق وقد أمسك في كل يد بعنق أحدهما.. ورفعهما عن الأرض وهما لا يكفّان عن توعده وتهديده بالويلات رغم ترجيح كفة الهزيمة باتجاههما بما لا يعطي أي مجال للشك أنهما سيصبحان في خبر كان بعد لحظات فقط... صرخت لاهثة:
-«أيها الضّخم.. لِمَ لا تقاتل مَن في مثل حجمك.. أم أنك لا تشعر بالتفوق إلا بضرب الأولاد الصّغار؟».
صاح الرّجل بصوته الجهوري، وكأن قطعة كبيرة من اللحم متوقفة في حنجرته:
- «ذلك الشّيطان الصّغير، تعدّى على أملاك السّيد».
ازداد غليان الدّماء في رأسها، وأصابعه الكبيرة تزداد ضغطًا على عنقي أخوَيها، فاحتقن وجهاهما والهواء يدخل رئتيهما بصعوبة، كانا كدُميتين معلقتَين في واجهة عرض زجاجية... فما كان منها إلا أنها استغلت فرصة انشغاله بهز أخوَيْها بقوة، انحنت لتقبض على حفنة من الرّمال ونادته:
-«أيها الضّخم..».
استدار ناحيتها وقبل أن يدرك نواياها كانت تلقي بالرّمال في عينيه، صرخ كعملاق أرض العجائب وهو يترنح ويلقي بالولدين من علو، ويحك عينيه صارخًا بألم... هتفت تحث الولدين على الهروب: -«أسرعا للبيت.. هيا...».
وقبل أن تستطيع اللحاق بهما، تمكن من الإمساك بها متوعدًا، وقد ازداد غضبه وتحول لثأر شخصي.. استمرت بمحاولات تخليص نفسها حتى انتبه إليها التوأمان فعادا لإنقاذها.. تعلق كل واحد منهما بأحد ذراعيه عضًّا وركلاً.. إلى أن توقف الجميع عن الحركة عندما سمعا ذلك الصّوت الضّعيف الحازم:
- «جابر.. كُف عمّا تفعل، واترك الأولاد وشأنهم...».
انتصب المدعو جابر واقفًا بانتباه، وكأنه آلي تم الضّغط على جهاز الرّيموت الخاص به، بينما التهى الولدان بمساعدة أختهما المأخوذة بمراقبة هذا الرّجل الغريب، الذي تبدو عليه آثار التعب والإنهاك.. واضحة كما النّدوب التي تخطط ملامحه بلا تحفظ، وكأنه ناجٍ من حادث مأساوي كاد أن يودي بحياته.. هتف جابر مدافعًا:
- «سيدي.. لقد حاول ذلك اللص الصّغير اختراق أمن الفيلا، وعندما منعته هاجمني مع عصابته الصّغيرة هذه».
صاح رائد باندفاع:
- «لا تنعتني باللص أيها الضّخم.. لقد كنت أقطف ثلاث برتقالات من شجرتنا، كما اعتدت كل يوم لنأكلها أنا وإخوتي».
سأله الرّجل بهدوء لاهث ومن الواضح محاولاته البقاء واقفًا بصعوبة بالغة:
- «شجرتكم؟.. داخل حدود فيلتي؟».
ردد الثّلاثة بصوت واحد:
-«هاتي ما معك من مال».
مسحت أنفها وفمها المخضبَين بالدّم، ثم مدت يدها لحقيبتها الملقاة جوارها.. لم ينتظرها؛ فانتشل منها الحقيبة وأخرج كل ما بها على الأرض، ثم التقط الجنيهات الهزيلة وحشرها في جيبه، ثم قذف الحقيبة الفارغة في وجهها وغادر صافقًا الباب خلفه بعنف ارتجت له الجدران، لتتساقط بعض أجزاء الجير منها..
تأملت الجدران العارية إلا ما تبقى من مجد زائل.. ثم تلمست بعض من الجير المهال، تلمسته وهو يهترئ كحياتها بين أناملها المرتعشة.. حاولت النّهوض أكثر من مرة، وفي كل مرة تبوء محاولاتها بالفشل؛ آلام رهيبة تئن بها عظامها، لدرجة أن ساورها إحساس أن أحد أضلاعها قد تحطم.. رفعت عينَيها لصورة والديها تكلل جدار غرفة المعيشة المظلمة إلا من المصباح الموفر الذي ينير المكان بضوئه الشّحيح.. وعادت دموعها تسيل كالفيضان تتكئ على أحد مقاعد الأنتريه المتهالكة كحالها.. وقفت متمايلة تضع ذراعها على صدرها بأنين، تحدّق بصورة والديها، تعض على شفتيها بقوة كي لا تترك لنفسها العنان للبكاء بصوت عالٍ.. تساندت على الجدران حتى وصلت لغرفتها. دخلتها وأدارت المفتاح في القفل مرتين ثم تركت جسدها يتهاوى.. تفقد بالتدريج الشّعور بأيّ ألم.. فقد نفد معينُها من هذا الإحساس الذي أصبح ضيفًا مجبورة على استقباله في كل ليلة، وفي كل ليلة لا تغمض فيها جفونها إلا بدعوة صادقة «رَبِّ أمتني إن كان الموتُ راحةً لي».
وقفت كروان تراقب صديقتها بقلق حتى ابتلعها الظّلام.. تمنت في سريرتها لو عرضت عليها أن تعيش معها ومع أهلها.. ولكنها في كل مرة تمسك لسانها.. لن تنسَ أبدًا المرة الأولى التي عرضت فيها هذا العرض عليها، ورغم ما تعانيه حنين من أخيها ومعاملته القاسية، ولكن لم يهُن عليها تركه وحيدًا أبدًا... التفتت لتحدّق بالمبنى ذي الطّابقين المظلم في آخر الطّريق.. كم يبدو بخير تحت غطاء الظّلام.. مَن يراه من بعيد يعتقد خاطئًا أنه ما يزال يحمل من عبق الماضي الفخامة التي تبدو عليها تلك المباني القديمة.
أخرجت زفرة ضيق تحث خطاها لقطع ما تبقى من الطّريق، تكاد تحلم بفراشها الذي تستلقي عليه كل ليلة دون الشّعور متى وكيف سيطر عليها سلطان النّوم بسرعة الضّوء!!
اقتربت أكثر من البيت ليبدو جليًّا حاله المتهالك.. نوافذه بشرّاعاتها الفاقدة لمعظم ألواحها، وسقفه المتداعي، الذي لن يتحمل شتاءً آخر كالشتاء المنصرم، خاصة وهو يواجه البحر مباشرةً ويتلقى رياحه الغاضبة بصبر دءوب طوال سنوات عمره الكثيرة.. عبّأت رئتيها بعدة أنفاس متتالية بهواء نقي مشبع باليود، عندما هبت نسمات البحر لتنعش أفكارها، ولكن ظل الواقع البائس كما هو..
تمتمت بضيق وهي تدفع الباب الخشبي الضّخم:
- «أنت بحاجة لثروة طائلة أيّها العجوز الطّيب، ومعها معجزة لتبقيك عدة سنوات أخرى بكرامة».
أغلقت الباب لتتلقى النّسمات الدّافئة التي تعبق بها جدران تنخر الرّطوبة من صلابتها حتى باتت مصدر تهديد حقيقي، ولكنها ما تزال تذخر بعشر سنوات من الذكريات التي تحوّل كل واقع مؤلم إلى قطعة من ذكرى جميلة.
تمنت ألّا تكون أُمّها قد سهرت هذه الليلة بانتظارها أيضًا.. صعدت الدّرج العتيق، ثم ابتسمت وهي تسرع خطواتها يلاحقها أنين الخشب القديم بموسيقى معتادة تحت ثقلها.. تنفست بعمق عندما وصلت لأعلى الدّرج.. وقفت أمام غرفة والدها تحاول الإنصات، حتى أتاها صوت أُمّها من خلف الباب:
- «تصبحين على خير يا عزيزتي».
أومأت كروان بابتسامة رضا:
- «وأنت بخير يا غاليتي».
دخلت الغرفة المجاورة تطل برأسها، ثم تنهدت بصوت مسموع عندما وقعت عيناها على الفوضى المعتادة التي تغمر الغرفة كالفيضان.. تأملت ملاكَيها النّائمَين على فراشيهما.
رقت نظراتها وهل تتطلع إليهم.. وكادت تنسحب بهدوء عندما لاحظت ما أثار انتباهها.. استدارت بتنهيدة عميقة مغالبة ضحكتها:
- «حسنًا أيّها المشاغبان.. تمثيلكما غير متقن هذه المرة.. ولا تحاولا إقناعي أنكما سهرتما بانتظار عودتي.. ابحثا عن حجة أخرى».
هتف رائد بنزق:
- «بالتأكيد ما كشفنا إلا هذا الفاشل رامي، فهو لا يحسن البقاء هادئًا ولو لعدة لحظات».
هتف رامي مدافعًا:
- «أقسم أنني كنت هادئًا تمامًا.. أليس كذلك يا كوكي؟ أخبرينا كيف عرفت أننا لسنا نائمين حقيقةً.. مني.. أم منه؟».
عاد رائد يصيح بوجه متغضن وملامح جادة:
- «منكَ أنتَ بالتأكيد.. أخبريه الحقيقة يا كوكي.. أخبريه ولا تتلطفي معه؛ لم يعد ولدًا صغيرًا».
- «حسنًا، حسنًا.. لِمَ لا تهدآن كليكما، وتخبراني عن سبب التظاهر بالنوم في البداية؟».
هتف رامي بمرح:
-«ظننا أنك قد تتضايقين لو عَرَفْتِ أننا لم ننَم بعد.. رائد وأنا بالطبع كنا قلقين لتأخيرك».
أومأت بعدم تصديق:
- «فهمت.. والآن هل ارتاح بالكما?».
أجاب رائد بنزق:
- «ليس تمامًا.. لماذا تتأخرين لهذا الوقت.. أعلم أنك تتأخرين في عملك، ولكن أنتِ فتاة شابة ولا يجوز أن تتأخري لهذا الوقت المتأخر».
هزت رأسها، وعيناها تلمعان بدموع فخر وهي تتأمل ملامح الصّبيين المتطابقة كوجهين لعملة واحدة:
- «سامحني يا عزيزي.. أحيانًا نواجه ليالي مكتظة بالزبائن.. ولكنني أرغب من كليكما ألا تقلقا بشأني أبدًا لأنني، أولاً، بعشرة رجال، ثانيًا حنين معي ولا تتركني إلا عند المنعطف على أول الطّريق.. أيْ أنني في أمان تام.. ولا داعي لأن تسهرا بانتظاري في المرة القادمة.. اتفقنا؟.. تصبحان على خير».
أغلقت الباب خلفها ثم عادت لتفتحه لتطل برأسها:
-«آه، بالمناسبة.. لقد عرفت من كليكما؛ رائد.. كان جبينك متغضنًا وكأن فكرك مشغول بأمر مُهِم، ورامي حبيبي.. النّائم لا يبتسم.. والآن هل تكفان عن التشاحن، وتخلدا للنوم.. غدًا على حد علمي لا يزال يومًا دراسيًا كالمعتاد».
غمغم رامي:
- «ليس معتادًا يا كوكي، أم نسيتِ أننا بعد الثّورة بالكاد نذهب للمدرسة».
اتسعت عيناها قائلة بحزم:
-«عندما تجدان بوابة المدرسة مغلقة، ويمنعونكما من الدّخول؛ عودا للبيت.. والآن إلى النّوم».
وقبل أن تغلق الباب مرة أخرى هتف رامي:
- «كوكي.. بعد أسبوعين...».
صاح رائد يعنفه:
-«ألم أحذرك أن تذكّرها؟.. يالَكَ من وقح».
ابتسمت قائلة بغُصّة:
-«أنا لم أنسَ كي يذكرني يا رامي.. وكيف أنسى عيد ميلادكما».
زفر رائد بنزقه المعتاد:
-«ذلك الغبي يقصد ألا تزعجي نفسك بإقامة حفل.. نحن لم نعد صغارًا، لقد بلغنا العاشرة من العمر».
زمجرت بمرح زائف:
- «أتظن أنني غير قادرة على الاحتفال بكما أيها الشّاب الوسيم؟.. لا تقلق يا رائد؛ أنا أقتصد من مصروف البيت لأجل هذا اليوم!!».
انتفض الولدان من فراشيهما يشنان هجومًا بالعناق عليها، ضمتهما بعينين دامعتين.. مد رائد يده يمسح دموعها:
- «كوكي.. أنتِ أروع أخت قد يحظى بها أيّ ولد في العالم.. أنا سعيد أنكِ أختي».
هتف رامي بحبور:
- «وأنا أيضًا».
انهار تماسكها ما إن أغلقت عليها باب غرفتها، ركضت لتفتح شرفتها التي تطل على البحر وأخذت تعبق أنفاسها بهواء الليل النّقي المحمل بالرّذاذ المالح المتطاير من الأمواج.. لدقائق طويلة ظلت تحتضن نفسها بذراعيها، كتمثال حجري لا يصدر منها أيّ حركة حتى هدأت انفعالاتها.
ازداد ضم ذراعيها بقوة على صدرها وأغمضت عينَيها تستمتع لسيمفونية عزف الأمواج وهي تتدافع بهدوء على الشّاطئ، تهمس لرماله بقصائد غزل لا ترويه إلا متسترة بليل مظلم، هادئ لا يفضح أمرها، كأن ذاتها النّاعس بين قمم همومها، يبحث عن الرّومانسية حتى لو في همسات الأمواج على الرّمال.
نفضت عن أكتافها لحظات الرّومانسية، وسلخت نفسها من ضعفها الوشيك، وانحنت مستسلمة لمسئولياتها دون كلل.
تخلصت من ملابسها دون أيّ مراعاة لأيّ عيون قد تتطفل على خصوصيّتها، فلا وجود لجيران قد يجرحون عُزلتها، أو تخشى فضولَهم؛ فمنذ سكنت مع والديها هذا البيت، وأقرب جيران لهم يبعدون عشرات الأميال.. فهذا الشّاطئ القَصيّ من بلطيم ليس مطروقًا بعد، والفيلا المجاورة لهم لم يشاهدوا مالكها أبدًا طوال الأعوام العشرة المنصرمة.. حتى إن أخوَيْها اعتادا القفز من فوق أسوارها المعروشة بكرمة العنب الفيومي، وتناول ما طاب لهما من ثمارها اللذيذة خاصة في فصل الصّيف.. أمّا كما هو الحال الآن في أواخر الشّتاء، فلم تنجُ الحديقة غاراتهما الغاشمة، فاعتادا أن يتناولا فطورهما ببرتقالها الطّازج من أشجارها المنتشرة حول أسوارها من الدّاخل.
عادت من الحمّام بعد أن غسلت تعبها بـ«دوش دافئ». أمّا همومها فلن يغسلها إلا طوفان نوح.. فأنَّى لها به!!
وقفت أمام مرآتها، وأخذت بنعومة تتلمس حنايا جسدها بأصابع مرتعشة، تنهدت بصعوبة تحاول ألّا تلتقي بنظراتها المتهمة عبرها.. لا.. ليس أنت أيضًا.. حنين لا تعرف ظروفي مثلك.. أنت تعرفينني جيدًا.. فأنتِ هي أنا.. تعيشين حياتي وتعانين معاناتي.. ولا حق لك بمقاضاتي.. نعم.. بلغت من عمري الثّامنة والعشرين.. ما يزال جسدي فتيًّا.. ولكن إلى متى؟ عيناي تحيط بهما هالات سوداء، والتجاعيد تزحف على نضارتها الهالكة أسفل أكوام الفواتير اليوميّة، ولا حتى الزّواج بماهر زيدان سينقذني.. منذ متى كان هذا الشّخص الوصولي اللزج، هو القشة تنقذ الغريق من الموت المحتوم!!
استلقت على فراشها، وقد بدأت أطرافها بالتنميل، ودون أن تشعر تسلل النّعاس المتأهب بالاستعداد على أطراف أهدابها للقفز فورًا ما إن تستسلم بخضوع.
وعلى الفور استغرقت في أحلامها دون أن تفطن لتلك العيون البعيدة المترصدة، والمتطفلة على وحدتها من عمق الظّلام المتلفعة به شرفة الفيلا المجاورة!!
استيقظت باكرًا على مضايقات التوأم التي أصبحت من طقوسهما اليومية، وقد ارتديا ملابس السّباحة وأخذا يحثانها على النّهوض من فراشها لدرجة أنهما جرّاها جرًّا حتى سقطت أرضًا تئن بتوجع، ثم هربا بأسرع من البرق عندما زمجرت بغضب مفتعل وصرخت بتهديد:
-«انتظرا أيها الشّقيّان ما إن أضع يدَيّ عليكما لن أترك عظمة واحدة في مكانها، ولن يتبقى منكما ما يصلح لثقالة ورق».
ودون أن تهتم بتغيير منامتها البالية المؤلفة من بنطلون قصير وتيشيرت قطني... غادرت غرفتها ونزلت الدّرج قفزًا حتى كادت تصطدم بأمها حاملة صينية الطّعام:
- «ماما.. آسفة، أعتذر.. هل أنت بخير؟.. هذان الشّقيّان سيدفعان الثّمن.. أقسم لكِ».
ابتسمت أمها برضا:
- «وصباح الخير لك أيضًا».
احمرت أذناها من الإحراج حتى أشارت لها أمها بإشارة خفيّة، مع غمزة تواطؤ على باب المطبخ الخلفي، قبّلتها من وجنتيها هاتفة قبل أن تسرع في اللحاق بهما:
-«لو أردتِ اللحاق بهما اسلكي الطّريق المختصر».
قبَّلتها بقوة مرة أخرى قبل أن تنطلق:
-«أنتِ أجمل أُمّ في الوجود».
وبكل ما تملك من طاقة ركضت خلفهما حتى لحقت بهما على الرّمال، ليشتبكوا في عراك ثلاثي، تعالت من خلاله قهقهاتهم مختلطة بصيحات إعلان حرب أخافت طيور الصّباح وهي تحط على الشّاطئ، تلتقط بمناقيرها الملونة ضحايا ثورة أمواج الليل من كائنات صغيرة..
ثم أكملوا لعبهم في البحر يتصارعون مع بعضهم البعض بين أمواجه الهائجة... استمروا باللعب ومحاولة إغراق بعضهم بعضًا، حتى رفع رائد يده بإنهاك لاهث:
-«هذا يكفي؛ لقد تعبت.. سأخرج أُحضِر لكما برتقالاً لحين خروجكما».
سألته كروان بقلق:
-«هل أنتَ بخير حبيبي؟».
- «كُفّي عن القلق، فأنا معتمد عليك في إغراق ذلك الفاشل».
راقبته بقلق حتى وصل للشاطئ.. فاجأها رامي بإمساكه قدميها من أسفل، فسقطت على وجهها في الماء لتبدأ المعركة من جديد... وبعد أن لقّنته درسًا لن ينساه، توقفا عن الضّحك لينتبه كلاهما لأصوات مشاجرة تصلهما من الشّاطئ... التفتا بنفس اللحظة ليشاهدا مشهدًا أثار تعجبهما ورعبهما في الوقت نفسه.. رائد بشخصيته الهادئة الجادة غير المحب للعنف، يتعارك مع رجل ضعف حجمه ووزنه عشر مرات على الأقل، ورغم ذلك لا يبدو عليه الانهزام... لا تدري كروان كيف وصلت إليهما دون أن يتوقف قلبها من الرّعب.. الخوف الهستيري الذي يسيطر عليها أنها لن تصل في الوقت المناسب لإنقاذ أخيها.. لم تُبالِ بملابسها المبتلة والملتصقة بجسدها كجلد ثانٍ، فعندما وصلت كان رامي قد سبقها وقد اشتبك هو الآخر لينقذ أخاه، فأصبح كلاهما في قبضة العملاق وقد أمسك في كل يد بعنق أحدهما.. ورفعهما عن الأرض وهما لا يكفّان عن توعده وتهديده بالويلات رغم ترجيح كفة الهزيمة باتجاههما بما لا يعطي أي مجال للشك أنهما سيصبحان في خبر كان بعد لحظات فقط... صرخت لاهثة:
-«أيها الضّخم.. لِمَ لا تقاتل مَن في مثل حجمك.. أم أنك لا تشعر بالتفوق إلا بضرب الأولاد الصّغار؟».
صاح الرّجل بصوته الجهوري، وكأن قطعة كبيرة من اللحم متوقفة في حنجرته:
- «ذلك الشّيطان الصّغير، تعدّى على أملاك السّيد».
ازداد غليان الدّماء في رأسها، وأصابعه الكبيرة تزداد ضغطًا على عنقي أخوَيها، فاحتقن وجهاهما والهواء يدخل رئتيهما بصعوبة، كانا كدُميتين معلقتَين في واجهة عرض زجاجية... فما كان منها إلا أنها استغلت فرصة انشغاله بهز أخوَيْها بقوة، انحنت لتقبض على حفنة من الرّمال ونادته:
-«أيها الضّخم..».
استدار ناحيتها وقبل أن يدرك نواياها كانت تلقي بالرّمال في عينيه، صرخ كعملاق أرض العجائب وهو يترنح ويلقي بالولدين من علو، ويحك عينيه صارخًا بألم... هتفت تحث الولدين على الهروب: -«أسرعا للبيت.. هيا...».
وقبل أن تستطيع اللحاق بهما، تمكن من الإمساك بها متوعدًا، وقد ازداد غضبه وتحول لثأر شخصي.. استمرت بمحاولات تخليص نفسها حتى انتبه إليها التوأمان فعادا لإنقاذها.. تعلق كل واحد منهما بأحد ذراعيه عضًّا وركلاً.. إلى أن توقف الجميع عن الحركة عندما سمعا ذلك الصّوت الضّعيف الحازم:
- «جابر.. كُف عمّا تفعل، واترك الأولاد وشأنهم...».
انتصب المدعو جابر واقفًا بانتباه، وكأنه آلي تم الضّغط على جهاز الرّيموت الخاص به، بينما التهى الولدان بمساعدة أختهما المأخوذة بمراقبة هذا الرّجل الغريب، الذي تبدو عليه آثار التعب والإنهاك.. واضحة كما النّدوب التي تخطط ملامحه بلا تحفظ، وكأنه ناجٍ من حادث مأساوي كاد أن يودي بحياته.. هتف جابر مدافعًا:
- «سيدي.. لقد حاول ذلك اللص الصّغير اختراق أمن الفيلا، وعندما منعته هاجمني مع عصابته الصّغيرة هذه».
صاح رائد باندفاع:
- «لا تنعتني باللص أيها الضّخم.. لقد كنت أقطف ثلاث برتقالات من شجرتنا، كما اعتدت كل يوم لنأكلها أنا وإخوتي».
سأله الرّجل بهدوء لاهث ومن الواضح محاولاته البقاء واقفًا بصعوبة بالغة:
- «شجرتكم؟.. داخل حدود فيلتي؟».
ردد الثّلاثة بصوت واحد: