تروما

Mervat elbeltagy`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-05-08ضع على الرف
  • 86.5K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

_1_
الماضي هو بداية الحاضر وبذرة المستقبل.. وهو الشّرارة الصّغيرة التي تنطلق منها الحياة في سباقها الأزلي.
حصاد الخاسر والفائز لا يحدده إلا ما تحمله جعبة كل منهما من حصيلة أفراحه وأحزانه، التي تتراكم أثناء رحلته الطّويلة، من نقطة بدايته إلى النّهاية.
.....
- «كوكي.. كوكي.. يا إلهي، هل تنامين وأنتِ واقفة؟».
أفاقت النّاعسة تهز رأسها بقوة لتتحرر بعض خصلاتها كستنائيّة اللون من محبسها الجبري، وأخذت تضغط بأصابعها على عينيها المرهقتين بقوة كي تنفض عنهما الإرهاق والتعب، ثم زفرت بانزعاج:
- «سامحكِ الله يا رويدا.. لِمَ لا تصيحين في بوق في المرة القادمة ليصبح من المؤكد أن يسمعنا مديرنا السّمج؟».
هتفت رويدا بصوت أقل نبرة:
- «أنا آسفة حقًا.. تعرفين أنني دائمًا خرقاء ولا أحسن التصرف.. لقد أشفقت عليك من منظرك المرهق.. ما رأيك أن تعودي لبيتك وأنا والفتيات سنغطي على غيابك، وأنا بنفسي سأتولى طاولات خدمتك حتى يتسنى لك الحصول على قسط وافر من الرّاحة؟ في الحقيقة مظهرك أصبح رهيبًا من كثرة العمل وقلة النّوم».
ردت بكبرياء؛ فهي لم تعتَد قبول المساعدة من أي مخلوق:
- «شكرًا لك.. رغم مظهري الرّهيب، كما تقولين، فإنني ما زلت قادرة على الوقوف على قدمَي، كما أنّني قادرة تمامًا على إنهاء حصتي من العمل».
وفجأة انقلبت سحنة رويدا الودودة لتصيح بنبرة غلب عليها الحقد الدّفين:
- «كنت أعلم أنك ستردينني خائبة، رغم أنَّ كل غايتي هي مساعدتك فقط.. لست أدري من أين تأتين بكل هذا العناد والرّأس اليابس رغم رقة حالك واحتياجك لأيّ يد تمتد لك بالمساعدة؟ لا تنفد طاقتك أبدًا، وأنتِ منذ الصّباح الباكر تساعدين والديك في تنظيف فندقكم المتهالك، وتُعدّين الطّعام للمشردين الذين ألقاهم العوز لتأجير بعض غرفه، وبعدها تصحبين أخوَيْكِ إلى مدارسهم، هذا عدا اضطرارك للذهاب للسوق لشراء لوازمكم، ثم تلحقين بعملك في مصنع التعليب، وبالكاد تعودين لبيتك لتغيير ملابسك وتصلين إلى هنا في مناوبة المساء، التي تستمر لما بعد منتصف الليل.. من تخدعين؟.. بعد كل هذا وترفضين مساعدتي يا ناكرة الجميل؟».
حدّقت بمحدثتها عاجزة عن الرّد، فكل ما ذكرته صحيح تمامًا، ولكنها لم تتخيل أن تختصر تلك الحاقدة يومها المضني ببضع كلمات ساخرة، وفجأة رأت ما أثلج صدرها، فقد كادت رويدا أن تطير.. بل إنها طارت فعلاً عندما دفعتها منقذتها التي تأخرت هذه المرة، راقبتها بعينين تقدحان شرًا وهي تمسد وركها المتألم:
-«ألم أحذرك من الاقتراب من كروان أيتها الثّرثارة عديمة النّفع؟ ما شأنك بها.. وما دخلك بشئونها؟».
وقفت رويدا تحك مقعدتها المتألمة قائلة بغِلّ:
-«اهدئي أيتها الدّجاجة.. صيصك الصّغير في أمان من مخالبي النّهمة.. إنّما كنت أعرض المساعدة فقط».
استمرت حنين بدفعها بقوة حتى كادت تقع مرة أخرى:
-«لِمَ لا تمدين يدك السّخيّة بالمساعدة لنفسك وتدعين الخلق للخالق؟.. المائدة رقم خمسة، المكلفة حضرتك بخدمتها، تطلب الشّيك منذ أكثر من عشر دقائق، والسيد ماهر على وَشَك الانفجار».
انسحبت بسرعة شاحبة الوجه متلفتة حولها؛ خوفًا أن يلمحها صاحب المطعم تتسلل عائدة.
أثارت حركاتها ضحك الفتيات، حتى كروان، رغم شعورها المهلك بالتعب وجدت نفسها تتسلى وتضحك مثلها مثل أيّ فتاة طبيعيّة.. تجهّمت ملامحها تتذكر بألم ماضيًا اعتادت وتعايشت معه حتى بات كقرينها..
«هي ليست مجرد فتاة طبيعية تتمتع بحقوق طبيعية كالضحك، وهدر بعض من وقتها الثّمين فيما لا يعود عليها ببعض الجنيهات، التي هي في أمَسِّ الحاجة إليها أكثر بكثير من تمضية وقت مسلٍّ مع الفتيات».
تأوهت حنين:
-«يا إلهي، وأنا التي ظننت أنك اقتربت أخيرًا من صفات البشر، وقد خاب فألي، ها قد عاد لوجهك أحزانه المسطرة».
تنهدت كروان:
-«حكم الزّمن يا حنين.. أخبريني لِمَ تأخرتِ؟.. لقد التهمتني كوجبتها الرّئيسية، وكادت تطلب التحلية».
زجرتها حنين بغيظ:
-«ولماذا لم توقفيها عند حدها?».
رفعت كتفيها بقلة حيلة:
«لَمْ تهاجمني في البداية.. كانت تعرض المساعدة.. بصراحة.. أُحرجت منها».
«كروان.. ليس الآن.. ماهر يشير إليك.. اذهبي إليه ولي معك حديث طويل فيما بعد يا آنسة محرَجة».
ملأت رئتيها بالهواء، والتفتت ترسم العبوس المعتاد على ملامحها، تتحرك بخطوات رشيقة ثابتة، دون أن تخفي ضيقها الشّديد من ملابسها المحكمة المفروض عليها ارتداؤها مثل باقي زميلاتها، كزي موحد للعاملات في المطعم.. فقد كان بتنورته القصيرة يكشف عن ساقيها الملفوفتين بإغراء غير مقصود، وكانت فتحة القميص المنقوش عليه شعار المطعم تكشف عن مساحة أكبر مما ترغب من صدرها؛ لذلك كانت دائمة ضم الفتحة بيدها لتقليل ما يظهر منها بقدر المستطاع.. تعلقت عيناها بعيني ماهر أثناء اقترابها منه مدركة بغيظ نظراته الوقحة عليها، والأكثر كان إدراكه حاجتها الماسّة للوظيفة، لدفع أقساط المدرسة الخاصة لأخويها الصّغيرين:
-«سيد ماهر؟»
قطعت حبل نظراته الجائعة بصوتها الحاد ممسكة بصينية التقديم كحاجز بين جسدها ووقاحة نظراته.. فرسم ابتسامة باردة قائلاً:
-«آه.. كوكي.. هل أنت بخير؟.. لاحظت أنك...».
قاطعته بالحدة ذاتها:
- «أؤكد لك أنني بخير، وسأنهي عملي دون مساعدة من أيّ مخلوق».
حاول مد يده يلمس ذراعها العاري، فانكمشت بنظرات محذرة:
-«هل ترغب بشيء آخر يا سيد ماهر؟».
أشار لها ملوّحًا:
-«عودي لعملك يا آنسة».
زفرت بارتياح وهي تولي ساقيها للرّيح بالابتعاد عن نظراته التي تعريها من ثيابها في كل مرة بجرأة ووقاحة لا يسعى لإخفائها أبدًا..
طوال الطّريق لم تكف حنين عن الضّحك المتواصل، حتى زمجرت كروان باستياء:
-«لا أدري ما يضحكك.. هل شربت مشروبًا أصفر يسبب لك الدّغدغة؟».
ثم أدارت إصبعها على رأسها مُردفة:
- «جعل رأسك تلف وتدور.. وبعد قليل سأجدك ترقصين في الشّارع وتصرخين بعلو صوتك (أنا جدع)».
كفّت حنين عن الضّحك:
- «لستِ ظريفة بالمناسبة».
- «ولا أنتِ.. في نفس المناسبة.. عظيم.. لقد هدأت.. هل ستخبرينني الآن؟».
«نعم.. أضحك على ماهر بالطبع... المسكين يكاد لسانه يتدلى كالكلب وأنتِ، وكأنك قمّة جبل جليد».
تسمرت كروان في مكانها:
- «حنين.. سبق أن نهيتُكِ عن الحديث في موضوع ماهر هذا».
زفرت حنين بتعب مَن أضناه الحديث في الموضوع نفسه دون طائل:
- «أنتِ حقًّا بلهاء.. اذكري لي سببًا واحدًا يجعل فتاة تكاد تخطو أعتاب الثّامنة والعشرين، وفي ظروفك، ترفض زوجًا ثريًّا كماهر زيدان.. الرّجل يكاد يفقد عقله مقابل أن يسمع منك كلمة رضا.. إنها فرصة العمر.. لِمَ لا تتشبثين بها؟!!».
زمجرت كروان بحنق:
-«الرجل متزوج.. ألا يكفي هذا السّبب من وجهة نظرك؟!!».
قلبت حنين شفتيها:
-«وإن كان.. الرّجل له حق الزّواج من أربع.. أوووف كم أنتِ بائدة التفكير».
- «ليس هذا هو العائق الوحيد».
تنهدت حنين بانزعاج:
- «عُدنا لقصة أخَوَيْكِ.. ولكن أنتِ دائمًا تنسين أو تتناسين أن لهما والدين مسئولين عنهما.. لا بد أن يقدّرا أنّكِ أنتِ أيضًا لكِ حياة واحدة، لا بد أن تعيشيها، لا أن تدفني نفسك بين أكوام فواتير فندق متداعٍ، ومدرسة خاصة، وولدين لا يكفان عن الطّلبات، وفوق هذا وذاك مشاكسان».
صمتت فجأة عندما أدركت تجاوزها، تمتمت بعد لحظات وهي تعض شفتها بندم:
- «كروان.. أنا آسفة.. أنا حقًّا أحبك كأختي تمامًا، وأكره ما تفعلينه بنفسك».
أخرجت كروان تنهيدة طويلة قائلة بصوت شارد:
-«لا أحبّه يا حنين.. لا أحب ماهر هذا، حتى إنني أكره نظراته، وعينيه الوقحتين اللتين تتجرآن بوقاحة بمحاولاته السّافرة لتجاوز ملابسي في كل مرة».

تهدلت أكتاف صديقتها بتقرير واقع:
«الرّجل يشتاق لك يا بلهاء.. أمواله ستكون العصا السّحرية التي ستحول كرهك له إلى حب.. ليس مُهِمًا أن يكون حبًّا رومانسيًّا كالذي نقرأ عنه في الرّوايات الرّومانسية.. ولكن حب من ذلك النّوع الآخر، التي تكون مدة صلاحيته أطول عمرًا.. حب الحياة يا صديقتي.. فكّري جيدًا في الأمر.. ولا تُلقي بالاً لزوجته الأولى.. رجال كثيرون يتزوجون على زوجاتهم هذه الأيام.. لا تفكري فيها، ولا في إخوتك، ولا في أبَوَيْك.. لمرة واحدة فقط في حياتك، ضعي نفسك في المقام الأول في الأهمية بعد العالم».
تنهدت كروان مرة أخرى وكأنها تجد صعوبة حتى في التفكير في كلمات صديقتها:
- «ولكنه لا يحب أخوتي».
بشبْه صرخة صاحت حنين:
- «اذكري لي شخصًا واحدًا في بلطيم كلها يطيق توأم الشّيطان هذا».
هتفت كروان بتحذير:
- «لا تطلقي هذا الوصف عليهما.. حنين أحذرك، أعرف أنهما أشقياء، ولكنهما يعيشان سنّهما الطّبيعيّة، ولأنهما توأمان فهذا يزيد من شقاوتهما ورغبتهما في المشاكسة».
تأوهت حنين:
- «خاصةً معي أنا».
أومأت كروان:
- «يحبان التلاعب بك كثيرًا، خاصة عندما لا تستطيعين التفريق بينهما».
«أنت فقط تستطيعين، وبالطبع والداك.. أراهن أيّ مخلوق آخر خارج بيتكما يستطيع.. ألم أقل لك إنهما شيطانان صغيران، خمس سنوات أخرى ويحطمان قلوب كل بنات بلطيم.. خاصة رائد».
- وكيف تعرفين أنه رائد؟
- «أحدهما يفكر كثيرًا قبل أن يتصرف، أنتِ أخبرتِني بهذا من قبل، وهو رائد.. أليس كذلك?».
رقت نظرة كروان وهي تتذكر وجهي أخوَيْها وتنهدت بقوة:
- «لن أتخلى عنهما أبدًا يا حنين، ولا مقابل كل أموال الدّنيا.. وأيّ رجل يفكر بالارتباط بي عليه أن يحب رائد ورامي أولاً، ربما أكثر من حبّه لي.
لقد وصلت لمنعطف منزلي.. تصبحين على خير.. أراكِ غدًا».
أوقفتها حنين بتردد:
- «انتظري».
التفتت لها باستغراب:
ازداد ارتباكها وهي تنظر بالأرض:
- «حسنًا، والضابط وليد؟.. هل سيكون خارج نطاق أفكارك عن رجل أحلامك، هو يحبك بصدق، ويحب إخوتك أيضًا، لا تُنكري».
تمتمت كروان بنظرة ثاقبة نفذت لأعماق صديقتها وتنهدت بابتسامة:
-«حاجز واحد فقط يقف بيني وبين وليد!!».
ترددت حنين في سؤالها:
- «وما هو؟».
استدارت كروان تسير في طريقها وهي تقول بصوت مرتفع:
-«أنتِ أكثر درايةً مني به.. تصبحين على خير يا صديقتي».
ودعتها صديقها بابتسامة كسيرة، وأكملت طريقها وصورة تداعب خيالها، بهيئته الضّخمة وهيبته التي تنطق من كل حركة من حركاته، وشواربه المهذبة، التي تكاد تفقدها عقلها من فرط وسامته، لم ينقص سهام «كيوبيد» من هذا العشق سهمًا واحدًا, رغم أنَّه يحب صديقتها الوحيدة التي لا تشعر به، أو بغيره، حتى إنه في أحيان كثيرة يرجوها أن تكون رسول غرام بينهما، وكانت توافق فقط لتنعم بقربه بعض الوقت؛ حتى لو كان على حساب نفسها، عانى قلبها العاشق بصمت كل طعنة اخترقته وهي تسمعه يقرض الشعر الغزلي في صديقتها الوحيدة.
وصلت العمارة التي تسكن فيها، ألقت نظرة منهكة على درجات السّلم المتهالكة تقريبًا، وأخذت نَفَسًا عميقًا استعدادًا لصعود عشرة طوابق؛ حيث تسكن في الطّابق الأخير...... وضعت مفتاحها في قفل الباب وأدارته بهدوء ودخلت على أطراف أصابعها، الضّوء العالي المبهر الذي أضاء فجأة؛ كاد أن يعميها بعد أن اعتادت عيناها الظّلام فترة طويلة.. وضعت يدَيها أمام عينَيها لتحميها من الضّوء وهي تصيح شاهقة:
- «لماذا فعلت هذا؟».
أتاها صوته الخشن المتهكم:
- «ماذا.. هل ضايقك الضّوء يا برنسيسة؟ السّماح من سُمُوِّك، ولكنني أردتُ استقبالَكِ بما يليق بمقامِكِ العالي».
ضربت بقدميها في الأرض:
- «ماذا تريد مني يا زاهر في هذا الوقت المتأخر?».
ازداد اقترابًا منها مترنّحًا لتفوح رائحة الخمر الرّخيص، لدرجة تكاد تزكم أنفها:
-«وطالما تعرفين أن الوقت متأخر، لماذا تأخرتِ لهذا الوقت المتأخر?».
أخرجت زفرة متعبة:
- «كل ليلة هذا التحقيق غير المجدي.. لأخبرك بنفس التفاصيل المعتادة».
انحنى أمامها خابطًا على أذنيه بشبْه صراخ:
- «اسمعيني مرة أخرى.. تعلمين أن أخاك مصاب بزهايمر مبكر، وينسى بسرعة».
أخرجت زفرة أخرى، وأغمضت عينَيها تحاول أن تنتحي بجسدها بعيدًا عنه:
- «أخبرتُكَ أن ماهر لا يتركنا قبل أن ينصرف آخر زبون، وحالي كحال كل البنات في المطعم.. كروان أيضًا كانت معي أوصلتها على ناصية بيتها».
رفع رأسه ليتأملها بنظرات زائغة:
-«كروان.. اللعنة على كروان، واللعنة على ماهر، وعلى المطعم، وعلى اليوم الذي تركك فيه والدانا علقة على ظهري؛ لأحمل هَمّكِ الثّقيل إلى ما شاء الله».
سالت دموعها منتحبة مقهورة:
-«والدانا لم يتركاني لك يا زاهر، لقد قُتلا في ثورة الخامس والعشرين من يناير، عندما كانا يطالبان بأقل حقوقهما، مثلهما مثل الكثير من الشّهداء، ولم يتركاني علقة على ظهرك، بل تركاني أمانة في عنقك.. أنت أخي الكبير، ولو عرفا لأيّ مصير أسود تركاني، لو يعرفان أن ابنهما الغالي الذي كان كل أملهما في الدّنيا يعمل بلطجي مظاهرات، في مظاهرة كالتي راحا ضحيتها، ودفعا من دمهما الطّاهر ثمنًا لـ(العيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية)؛ لتقلَّبا في قبريهما».
وقبل أن تعي نواياه، كان ينهال عليها ضربًا بكلتا يديه الشّبيهتين بالمطارق الحديدية، حتى سقطت على الأرض، فأكمل ركلاً بقدميه في صدرها وظهرها، غائب الذهن عن صرخاتها، وأنينها؛ فقد كان لا يسمع سوى صوته وهو يصرخ فيها:
-«بل أنتِ هي الواهمة ولا تعرفين أيّ شيء.. أيّ شيء.. ببغاء ترددين كل ما يلوكه النّاس المغيبون أمثالك؛ لذلك ستظلين دائمًا ممن تدوسهم الأقدام، لا حق لك حتى في أحلامك البسيطة السّاذجة.. ولكنني استعملت ذكائي، اخترت الجانب الرّابح الذي سيرفعني فوق كل الأعناق».
رفعت رأسها وهتفت من خلال نشيجها:
- «لا يملك النّاس أمثالي إلا الأحلام.. والبلطجية أمثالك يسرقونها، ويحرقونها أمام أعينهم.. انظر لنفسك.. ماذا كنت وكيف أصبحت؟.. هل أنت الطّالب المتفوق في كلية العلوم، الأول على دفعته ثلاثة أعوام متتالية.. هل أنت الرّجل التقي العفيف الشّريف كما رباك والدانا على الإيمان والصّلاة والصّوم؟».
رفع يده عاليًا ليصفعها مجددًا صارخًا بصوته المترنح:
-«حقيرة مثلك لا تعظ.. انظري لنفسك، وملابسك يا ربة الصّون والعفاف.. انظري للوقت المتأخر الذي تعودين فيه كل ليلة للبيت مثلك كالعاهرات».
وبكل ما تئن به من ضغوط، وآلام حاملة معها أحلامها المذبوحة، صرخت بصوت مذبوح:
- «ومن أرغمني على العمل؟.. من دفعني لأُعَرّي لحمي وللسهر كل يوم لأبواب الفجر.. أليس أنتَ يا أخي؟.. ألم تكل بلقمتي؟.. ألم ترهن وجودي في بيت والدَي بترك الجامعة والعمل لأجد طعامًا يسد جوعي؟.. ألا تمد لي يدك كل ليلة تستحل تعبي وشقاي وتنفقه على ملذاتك وعُهرك؟.. لماذا توقفت عن ضربي؟.. اضرب.. اضرب كما اعتدت أن تفعل عندما لا تجد ما تدافع به عن نفسك.. أم لأن ضربي لا يعود عليك بأيّ مال، كما تفعل مع المساكين الذين يسوقهم سوء حظهم في المظاهرات، وأنت تسير جوارهم مرتديًا جلد الحمل فتمتلئ جيوبك بعدد مَن تقتلهم غافلين عن سوء نواياك تجاههم؟».
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي