الفصل الثالث

تقدمت كروان نحوه لتدرك أنه يحاول الحفاظ على توازنه بصعوبة:
-«أعتذر سيدي عمّا سببناه من إزعاج.. لكننا لم نعلم أن الفيلا أصبحت مسكونة.. أعني أننا عشنا هنا منذ عشر سنوات، ولم نرَ لها أيّ مالك؛ لذلك اعتاد أخواي العناية بأشجار الحديقة، ومن هنا تدرك لماذا أطلق عليها رائد شجرتنا.. أؤكد لك أنه لو كان يعلم بوجود المالك لاستأذن منك».
امتدت نظرات الرّجل لـ«رائد» خلفها يسأله:
-«هل أنت رائد?».
- «نعم سيدي».
هتف رامي بحبور وكأنه لم يكن في مشاجرة غير متكافئة من عدة لحظات فقط:
- «وأنا رامي، أخوه التوأم».
بابتسامة مرقت كالبرق خلال ملامحه المتألمة:
- «نعم.. هذا واضح».
شهقت كروان عندما فقد الرّجل توازنه منهارًا على ركبتيه في محاولة فشلت بجدارة ليظل متماسكًا للنهاية، وكأن كبرياءه لم يسمح له بالتخاذل أمامهم.. أسرعت إليه تساعده، ولكنه مد ذراعه للأمام ليمنعها من مجرد الاقتراب، وفي نفس اللحظة ظهر رجل هرم يخرج من بوابة الفيلا، يحث الخطى باتجاههم ويجيل فيهم نظراته الغاضبة، ثم صاح بالرّجل الضّخم بكلمات بالكاد مفهومة من بين أضراسه المطبقة من شدة الغضب:
- «أيها العملاق عديم النّفع.. ساعدني هنا».
هتفت كروان بقلق:
- «هل أستطيع...».
قاطعها العجوز دون أن ينظر نحوها: -«نعم.. تستطيعين اصطحاب هؤلاء الصّغار والابتعاد عنا... ويكفي ما حصل بسببكم؟».
ثم هتف بعتاب بنبرة أرق:
- «وأنت يا سيدي.. فيمَ كنت تفكر وأنت تغادر الفراش بهذه الحالة.. هيّا ارفعه معي يا جابر وسأستدعي الطّبيب فورًا».
وضاعت باقي كلماته مع الهواء والثّلاثة يبتعدون حتى اختفوا خلف البوابة الحديدية الضّخمة..
التفتت لأخويها بتنهيدة كبيرة:
-«يبدو أننا أصبح لدينا جيران يا شباب.. وكما ترون، صحبة غير ودودة».
هتف رامي بتأثر:
-«ولكن هذا الذي يدعونه بالسيد.. يبدو طيّبًا... ومريضًا جدًا».
حدّقت بالفيلا التي تبدو كحالها القديم، فلم يتأثر مظهرها المهجور بسكانها الجدد.
شاردة تعتصر ذاكرتها:
- «نعم.. ويبدو مألوفًا أيضًا».
ثم أردفت بنفحة ثقة محاولة إخراج أخويها من شرودهما:
- ولكنني لا أذكر أنني تعرفت على رجل يدعونه بالسيد وبصحبته حراسة خاصة، هل من الممكن أن يكون مذيعًا أو ممثلاً؟».
هتف رامي:
-«ولِمَ سيأتي المذيع والممثل هنا يا ذكيّة؟، ربما كان من رجال المافيا وحصل له حادث من عصابة منافسة، فجاء هنا ليختبئ منهم حتى يتمالك قواه مرة أخرى».
صاحت باستياء:
- «رامي.. أنتَ تشاهد الكثير من الأفلام الهابطة».
التفتت نحو رائد الصّامت:
-«وأنت رائد.. ما رأيك؟».
أشاح بوجهه باتجاه منزلهم قائلاً باقتضاب:
-«رأيي أننا تأخرنا على المدرسة، لنرجع فورًا».
شهقت كروان متذكرة مواعيدها، ومهامها اليومية المتراكمة.. ركضت تلحق بأخويها وهي تحاول أن تنفض عن رأسها صدمة وجود ذلك الجار الجديد مستغربة من نفسها سر تأثرها الشّديد به.. ربما لمظهره القوي، الذي لا يبدو معتادًا على الخضوع للمرض رغم هزيمته السّاحقة تحت سنابكه المتوحشة.. أو ربما للغموض المحيط به، والذي قد يثير فضول أيّ شخص آخر.. أم لأنها سريعة التأثر خاصة لمن هم بحاجة لمساعدة لا يطلبونها، ولا يسعون إليها.
على عجل ألقى الولدان التحية على والديهما، وهما يتناولان طعام الإفطار في الشّرفة المواجهة للبحر، ثم أكملا صاعدين بسرعة البرق.. جلست كروان بتنهيدة تراقبهم حتى اختفيا في العلية:
-«هل رأيتما ما حدث؟».
أومأ كلاهما ثم هتف والدها:
-«كنت على وشك التدخل لإنقاذكم. ولكن أمّك سامحها الله...».
وجّه لزوجته نظرة ممتعضة فضحكت ساخرة:
-«نعم وأنا شاهدة، ولكن الرّوماتيزم الله لا يسامحه وقف حائلاً دون السّرعة المطلوبة للموقف».
صاح والدها نزقًا:
-«ماذا تقصدين يا حاجة؟.. أنني أصبحت عجوزًا لا نفع مني... ألم تعترضي طريقي قبل أن أهب متوجهًا لذلك العملاق لأعلمه درسًا في الأخلاق لن ينساه مدى حياته?».
ضربت على صدرها بشهقة مداعبة:
- «حاشا لله يا حاج.. ينقطع لساني قبل أن أنطقها.. ولكن الأعمال بالنيّات يا أبا أولادي».
تنحنحت كروان:
-«صباح الفل يا عصافير الحب».
أكمل والدها غير عابئ بنظرات السّخرية من زوجته وابنته:
-«ولكن الحمد لله أن ذلك الرّجل تدخل في الوقت المناسب.. من يكون يا كروان؟».
أمسكت كوب الشّاي الذي صبته والدتها وأخذت منه رشفة:
-«هذا يكون.. السّيد...».
تساءل والداها في صوت واحد:
- «السيد..?».
-«نعم.. إنه اللقب الذي يطلقانه عليه... وهو مالك الفيلا المجاورة... يبدو أنها سُكنت أخيرًا».
همهمت والدتها بتفهّم:
-«إذن، أصبح لكل تلك الجلبة والضوضاء التي سمعناها ليل أمس سبب مفهوم.. ولكن هل أخبرك أنه مالك الفيلا؟.. قد يكون مجرد مستأجر لفترة ما».
هزت كروان رأسها وهي ترشف رشفة أخرى من كوب الشّاي وكأنها مستغرقة بتفكير عميق:
-«لا أعتقد.. تصرفات الرّجلين اللذين بصحبته يؤكد أنه ليس مجرد مستأجر.. كما أنّه يبدو رجلاً مُهِمًّا ليعيّن حارسًا خاصًّا على فيلته، بالإضافة إلى أننا لم نبدأ الموسم الصّيفي بعد.. آه ذكرتماني.. لا بد أن أصنع شيئًا قبل دخول الصّيف.. وإلا لن نرى نزيلاً واحدًا في هذا الفندق الخرب... وملاحظة مُهِمّة.. نحن بحاجة لخادمة، ولو لنصف الوقت فأنتما بالكاد تعيلان أنفسكما، ولا طاقة لكما بخدمة زبائن الصّيف».
ربتت أمها على ساقيها قائلة بحنان:
- «العبد في التفكير والرّب في التدبير».
أومأت كروان:
- «نعم.. أنتِ على حق.. ربما سأبحث لي عن عمل جديد يدر لنا عائدًا أكبر.. مصنع تعليب الأسماك الذي أعمل به بالكاد يكفي مصروفات الولدين... ظننا بعد الثّورة أن أصحاب هذه المصانع سيُعيدون النّظر في مرتّباتنا الهزيلة.. ولكن يبدو أنه لا فائدة.. لا بد أن يتحول كل النّاس بقدرة قادر لرجال أعمال كي ينعموا بالحياة المستقرة بلا مشاكل».
ضحك والدها:
-«سنضع طلبك هذا في قائمة طلبات الثّورة الثّانية، لو أمد الله في أعمارنا ثلاثين سنة أخرى».
سايرته ساخرة بمرارة:
-«لا تنسَ أن يكون في أوّل القائمة».
- «بالطبع.. حتى كنوع من التجديد.. الثّورة الأولى كانت تطالب بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية... ولكن في الثّانية سيرتفع سقف الطّلبات حتى يصل للطابق العاشر».
مصمصت شفتيها:
-«ولكن هذا سيتطلب مصعدًا يا حاج... خاصة مع ركبتك خشنة المفاصل.. سأوافق على الطّابق الخامس.. نحن الشّعب المصري نرضى بقليله ومن رضي بقليله عاش... أ.. أ.. أتشوووووو».
صاحت أمها بعتاب:
-«بالطبع لا بد أن تصابي بالبرد، فأنت كالعادة سبحت بمنامتك في هذا الطّقس، وتتناولين إفطارك وأنت مبتلة حتى العظام».
-«سأكون بخير يا ماما... أنتظر فقط حتى ينتهي الولدان من الاستحمام، تعلمين أن الحمّام الآخر بحاجة لإصلاح... يا إلهي ما كل هذه الإصلاحات المتراكمة؟».
أمسكت أمها يدها لتوقف ارتعاشها الذي تبرأ منه البرد:
-«توقفي يا كروان.. أنت بالفعل تبذلين ما بوسعك.. حبيبتي اليوم أربع وعشرين ساعة فقط... لا تنالين منها إلا أقل من أربع ساعات راحة.. انظري في المرآة... لقد ذبلت نضارتك، وأنتِ في ريعان شبابك».
أطرقت رأسها ساهمة:
-«الولدان يكبران واحتياجاتهما في ازدياد.. لن أقف مقيّدة بينما يتنامى شعورهما بالنقص بالمقارنة بأقرانهما».
هتف والدها متأثرًا:
-«كروان حبيبتي.. لا تدعي إحساسك بالذنب يؤثر على أحكامك، ويجعلك حساسة لأمور لا تحتاج منك لكل هذا الـ...».
حُشرت الكلمة في حلقه، ثم نظر لها بأسى وأكمل بنبرة كسيرة:
- «أنت تؤذين نفسك حبيبتي بدرجة كبيرة.. سوف تندمين فيما بعد.. لا تنظري لي بهذا الشّكل وكأنني عجوز خرف.. رغم مظهري، وشيبة شعري، وداء مفاصلي، ما يزال بإمكاني أن أكون ذا فائدة».
قفزت من مكانها تحتضن رأسها بقوة وتُقبّله:
-«بابا.. أرجوك لا تقل مثل هذا الكلام.. أنتَ وماما ساعدتماني كثيرًا لدرجة أنني سأظل مدينة لكما طوال حياتي... وللأسف ليس في إمكاني أن أرد صنيعكما معي، إلا بأن أكفل لكم الرّاحة في ربيع عمركم... لا تقلقا بشأني.. سأتدبر أمري كما أفعل دائمًا.. أتعلمان.. قد أتزوج وأضرب عصفورين بحجر واحد... مَن يدري».
اشرأبت الأعناق عندما ارتج السّقف تحت وطأة زوجين من الأقدام الرّاكضة فهبت واقفة بابتسامة رقيقة:
-«آه يبدو أن الولدان أنهيا حمّامهما.. يكاد السّقف يتحطم على رؤوسنا.. رغم أنَّي نبهتهما مرارًا ولكن...».
دفعتها أمها:
- «هيّا أسرعي، واعتني بنفسك حبيبتي، واتركي أمر هذين الشّقيين لي، سأقرص أذنيهما ليتعلما الرّكض داخل البيت كراقصات الباليه».
تعاقد حاجباها مزمجرة بمزاح:
-«ماما.. هل تسخرين مني؟».
أقرّت بجدية:
- «نعم أفعل.. هيا أسرعي قبل أن تصابي بالبرد.. لا تنسي.. كراقصات الباليه».
ضحكت كروان وهي تسير على أطراف أصابعها منسحبة، ثم هزت رأسها مشيحة بنظراتها الحزينة عنهما..
همّت بالذهاب عندما عادت لتضم كليهما لأحضانها وهي تهمس بدموع تأثر:
- «أحبكما كثيرًا، الله لا يحرمني منكما».
بعد حمّام ساخن استجمعت شتات نفسها حتى إن شعورها أصبح أفضل بعد ارتدائها ثيابًا جافّة.. قد لا تكون أنيقة وغالية الثّمن.. بل على العكس فهي لم ترتدِ أيّ ملابس جديدة منذ سنوات، وتكتفي بما تجده ملائمًا في سوق الثّلاثاء للملابس المستعملة.. وذلك حتى توفر ثمن ملابس جديدة للتوأم، حيث تصر دائمًا على ألّا يرتديا، إلا كل ما هو جديد وغالٍ أيضًا..
ساوت القميص المجعد بيدها، وأغلقت سحّاب البنطلون الجينز الحائل لونه من كثرة الاستعمال.. وضعت قدميها الصّغيرتين بسرعة في خف مسطح يكاد يتوسلها الرّحمة والتقاعد المبكر بعد خدمة طويلة شاقة، عندما ناداها رامي:
- «كروان.. أسرعي.. تأخرنا».
«حالاً... في الطّريق».
مطت شفتيها بامتعاض وهي تضفر شعرها المبتل على عجل.. ثم حملت حقيبتها القماش ومفاتيحها وأسرعت لتلحق بالصّبيين.
تنهدت براحة عندما وجدتهما يقفان بانتباه واحترام أمام أمّها، كانت توصيهما الوصايا العشر مثل كل يوم.. سحبتهما من كتفيهما تقاطعها باعتذار:
- «ماما.. لقد تأخرنا حقًا، لنؤجل حديث الثّلاثاء إلى أيّ يوم آخر».
هتفت أمها بصوت عالٍ ليسمعوها وهم ينطلقون:
-«أنتِ تدلّلين هذين الصّبيين لدرجة الفساد يا آنسة... إيّاك أن أسمع شكواكِ منهما».
كانوا قد وصلوا للمنعطف عندما بدأت خطواتهم تهدأ ليسيروا بشكل معتدل.. تبادلت النّظرات المرحة مع رامي... ثم التفتت لرائد وانزعجت من ملامحه المتجهمة.. سألته:
-«رائد.. حبيبي.. ماذا بك؟».
لم يَرُد وأصر على صمته حتى بعد إلحاحها.. ثم التفتت لرامي:
- «ماذا به أخيك؟».
رفع كتفَيه دون أن يرد أيضًا عندما حدّجه رائد بنظرة قاسية، وكأنه يتوعده لو نطق.. ولكن إن كان شيء في الحياة يعشقه رامي فهو المشاغبة، ومناكدة أخيه التوأم:
- «كوكي.. أنا سأخبرك».
وأخرج لسانه بحركة طفوليّة لأخيه.
صرخ رائد:
- «رامي.. أقسم لو فعلتها سوف...».
بهدوء تجاهل رامي تهديد أخيه ونظر لأخته:
«لقد أغضبه تدخلك في المشاجرة هذا الصّباح... حمايتك مفروضة علينا وليس العكس».
وانفلت غضب رائد أخيرًا:
- «كما أنّني لست طفلاً صغيرًا بانتظار فتاة لتساعدني، خاصة أنت بملابسك المبللة والـ...».
اشتعلت عيناه بقوة وكأن شعلة غضبه تزداد تأججًّا... ولوّح بقبضته بتشوّش دون أن يستطيع تفسير، كلماته فأكملت بهدوء:
- «تقصد.. كانت ملتصقة بجسمي... أليس كذلك؟».
ركعت أرضًا لتصل مستوى رأسه، وأمسكت بوجهه لتجبره على النّظر إليها:
- «رائد.. رائد.. انظر لي».
بصعوبة شديدة أطاعها دون أن تهدأ حدة نظراته فتنهدت:
- «هل تغار عليّ؟.. هل هذا هو السّبب؟.. أجبني».
صرخ بتأثر لدرجة لمحت دموعه العاصية حبيسة أهدابه الصّغيرة:
-«ألم تلاحظي نظرات الرّجال لك.. يا إلهي لو كنتُ أكبر بعدة سنوات لغرزتُ أصابعي في أعينهم.. ولكن.. أنتِ السّبب في كل هذا، لو لم تتدخلي من البداية ما حدث أي شيء».
تنهدت مرة أخرى وقد شعرت بالرّغبة في البكاء من شدة تأثرها بمدى نضوج أخيها الصّغير:
- «حسنًا رائد... فهمت ما يضايقك... ولكنني لن أعدك بعدم التدخل لو حدث شيء مماثل في المستقبل، حتى يصل طولك لهنا».
ثم أشارت لكتفها وأردفت:
- «سأجلس في مقاعد المشاهدين وأنت تتصارع مع أيّ عملاق يصادفه سوء حظه الاصطدام بك... وحتى يحدث هذا... أعدك أن أكون أكثر حذرًا».
دفع يدها التي كانت تساوي خصلات شعره بحدة:
- «أنتِ تمزحين.. حسنًا إنه خطئي من البداية للدخول معك في محادثة لا يفهمها إلا الرّجال... أما البنات فلا يفهمن أيّ شيء».
حدّقت به بذهول وهو يبتعد عنها.. رَبَتَ رامي على كتفها وهي ما تزال راكعة أرضًا تحدّق بأخيها بشرود:
- «لا تتضايقي.. بعد قليل سيندم على كل كلمة تفوّه بها».
ثم أمسك بيدها حتى وقفت وأكمل:
- «المشكلة يا كروان أن والدنا عجوز لا يقوى على مجاراتنا في أيّ شيء... لا يلعب معنا كرة القدم، لا يأخذنا معه في رحلات، لا يوجهنا لأيّ شيء... مثل آباء أصدقائنا».
هتفت مدافعة:
- «ولكنني...».
قاطعها:
-«أنت لا تدّخرين وُسْعًا كي لا ينقصنا أيّ شيء... ولكن هناك أشياء لا يستطيع عملها إلا الوالد فقط... وأنتِ...».
غمغمت وهي تغالب دموعها:
- «فتاة... والفتيات لا يحللن محل الأب».
أمسك بيدها يهزها بقوة:
- «كروان.. أرجوكِ لا تتضايقي من رائد.. عن نفسي أنا أفضّلك عن كل آباء الدّنيا... ولكن رائد كما تعلمين غالبًا مزاجه نزق... وأحيانًا ضيّق التفكير.. ولكنه يحبك كثيرًا. أقسم لك».
ساوت خصلات شعره النّاعمة التي بعثرها هواء الصّباح البارد:
- «أعلم يا حبيبي، لا داعي للتأكيد، ولكن الغريب في الأمر أننا لا نستطيع أن نغير الواقع... أنتما ليس لديكما سوى هذا الأب العجوز... والأخت التي هي أنا، والتي لا تحسن صنعًا مهما حاولَتْ... ولكن أتعلمان.. يجب أن تتعلما الاكتفاء بي».
غمغم بحزن:
- «حتى تتزوجي!!».
شهقت مصدومة:
- «ماذا قلت... رامي... لِمَ قلتَ ما قُلتَه؟».
أطرق برأسه وقد احمرت أذنيه من الخجل:
- «سمعتك عفوًا.. لم أقصد التنصت.. وأنت تتحدثين مع ماما وبابا عن أنك قد... قد تتزوجين لتحلي مشاكلنا».
غمغمت بتفهّم:
- «ورائد سمع أيضًا؟!!».
هز رأسه بصمت.. كانا قد وصلا لبوابة المدرسة.. ورائد ينتظره ثم أخذ يلوّح لها وجرس المدرسة يعلن عن بداية الطّابور.
بادلته التلويح، وعندما التقت بعيني رائد اشتد تلويحها.. ولكن نظرته الحزينة اخترقت قلبها بسهم مؤلم رغم بُعد المسافة.. وعندما انضم له رامي دخل معه المدرسة متجاهلاً خيبة أملها وذراعها المتهدّلة جانبها.
لم تَدْرِ كم مر من الوقت وهي واقفة غارقة في بحر متلاطم من الأفكار... إلى أن أفاقت فزعة على زمور سيارة كادت
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي