الفصل الرابع
بالكاد مرت من جوارها والسائق يعلو صوته يخترق أفكارها بسباب وشتائم.
بتنهيدة طويلة بدأت يومها، بعد أن ألقت نظرة أخيرة على بوابة المدرسة المغلقة... توجهت للمصنع على قدميها، فلم يكن يبعد سوى خمسة أميال فقط... ليس لأنها ترغب في تمرين قدميها، ولكن كي توفر أجرة السّرفيس، فهي أولى بالقروش التي ستدفعها... والتي زادت كثيرًا بعد الثّورة... وكأن هذه الثّورة جاءت مطالبة بتجريد الشّعب من جيوبهم بعد أن نفدت أرصدتها... لقمة العيش أصبحت شحيحة، وإن وُجدت يعاف الدّجاج نبشها... والحرية التي دفع شباب في سن الزّهور فاتورتها من أرواحهم السّجينة خلف قضبان الفقر الصّدئة... والعدالة الاجتماعية صارت مجرد شعار، أو وَهْم يحلم به القادرون على النّوم ليلاً بأمان.
بعد انتهاء مناوبتها في المصنع توجهت للمطعم لتبدأ عملها مبكرة... كانت تأمل أن يضع ماهر في عينيه حصوة ملح ويتركها تغادر مبكرة هذه الليلة.
كان العمل على قدم وساق مثل كل ليلة.. أشار لها من بعيد ماهر على ساعته لتأخرها.. تبرمت وهي تدخل لتبدل ثيابها بسرعة... تعجبت معيدة النّظر لساعتها... لم تتأخر أبدًا.. وفي سرعة قياسية ارتدت ثياب العمل... التقت برويدا بعد خروجها من غرفة تبديل الملابس الضّيقة، تستدعي الهواء لتجلي به صدرها بعد دقائق من استنشاق هواء الغرفة المكمكم العطِن، المحتبس في الغرفة التي لا يتجدد هواؤها أبدًا... جالت رويدا عليها بنظراتها الفاحصة:
- «مرحبًا بالجميلة.. أسرعي فالأستاذ ماهر على آخره الليلة».
- «ولماذا.. لقد جئت مبكرة عن موعدي».
ضربت على أسنانها ناصعة البياض بأظافرها الطّويلة المطلية قائلة بغمزة ماكرة:
-«ربما لأننا نعاني من نقص في صالة المطعم».
ازدادت حيرة كروان:
- «ومن الغائبة.. خيرًا؟!!».
ضحكت رويدا بشماتة:
- «ليست غائبة.. صديقتك هناك... ولكنه منعها من دخول الصّالة كي لا يراها الزّبائن بهذا المنظر، فيفرون رعبًا بدون دفع الحساب».
التفتت بحدة تنظر باتجاه المطبخ، دون أن تفهم شيئًا!!
كانت حنين هناك تعمل بسرعة كما هي عادتها وإن كان الفولت عاليًا اليوم، كانت تتحرك كآلة موضوعة على أعلى سرعة.. تساءلت وهي تتجه ناحيتها عن سبب وجودها بالمطبخ ومكانها الطّبيعي خدمة الموائد بالصّالة.. أمسكت ذراعها:
- «حنين...»!!
شهقت عندما التفتت لتصعق من الكدمات التي تغطي وجهها، وإحداها حولت عينَيها لكرة منتفخة.. هذا غير السّحجات والجروح بذراعيها... تمتمت بغيظ مكبوت:
- «زاهر مرة أخرى؟».
أشاحت حنين بوجهها، فأمسكتها كروان بحدة وانفعال:
- «إلى متى؟».
تمتمت حنين بصوت مبحوح متألم:
- «اتركيني يا كروان».
-«كلا.. لن يحدث... لا بد أن نوقفه عند حده. لن أتركك ليقتلك في المرة القادمة، لماذا لم تعملي له محضرًا؟ لماذا تركتِه ينفذ بفعلته مرة أخرى؟».
سالت دموع حنين، فأدركت كروان ما يدور في رأس صديقتها، ويمنعها من فعل أي شيء ضد زاهر:
- «لأن وليد هو مأمور القسم... أليس كذلك؟».
ثم تنهدت مرة أخرى عندما شهقت حنين:
- «نعم بالطبع هو السّبب ما غيره... أعلم... أعلم أنك صديقتي يا حنين، وأحد أسباب ابتعادي عن وليد أنني أعلم بمشاعرك تجاهه».
- «إذن تعرفين أنني لن أذهب وأحرر محضرًا ضد أخي وأعرض نفسي للوقوف أمامه بمنظري هذا... ليحولني للطبيب الشّرعي، وأتحوّل من صديقة الفتاة التي يحبها، والتي تأمل يومًا ربما... ربما لو قررت الدّنيا أن تبتسم لها من باب التغيير ويكون من نصيبي.. ثم أجدني أصبحت مجرد رقم محضر في إحدى القضايا التي يعمل عليها حضرة الضّابط».
احتضنتها كروان بقوة حتى انتفضت كلتاهما للصوت السّاخر خلفهما:
- «ما شاء الله... ما رأيكما أنّ أحوّل المطعم لقاعة سينما، سأكسب ثروة، فالمشاهد العاطفية تترك أثرها لدى الجمهور، أكثر بكثير من وجبة دسمة».
التفتت له كروان تحدّجه بنظرات قاسية غير عابئة بغضبه وكزّت على أسنانها وهي تقرر لا تطلب:
-«لم يحدث شيء يا أستاذ ماهر.. سأقوم بعملي وعمل حنين.. اتركها تعود لبيتها لترتاح دون أن تخصم اليوم من راتبها».
حك فكه وكأنه يفكر:
- «وما المقابل?».
زفرت بحدة من بين أسنانها:
- «أخبرتك.. سأقوم بعملها وعملي».
أمسكت حنين بذراعها ترجوها:
- «لا داعي يا كروان... أستطيع أن...».
دفعتها كروان:
- «اسكتي أنت... ماذا قلت يا أستاذ ماهر?».
قلب شفتيه بلامبالاة ثم أجابها ببريق ماكر في عينيه:
- «أوك... ولكن تذكري أنك تدينين لي بخدمة».
التفتت لصديقتها بعد أن حدجت رب عملها بنظرة مشمئزة:
-«هيّا حنين اخلعي عنك هذه الثّياب وعودي للبيت... ولا تعودي إلا وأنتِ بخير».
«ولكن...».
«بدون لكن... هيّا أسرعي».
وانتظرت حتى ذهبت حنين وتجاهلت نظرات ماهر السّاخرة خلفها، وبدأت عملها المضني..
عند منتصف الليل كانت تجرجر قدميها نحو بيتها بإنهاك اعتادته، ولكنه يقرر كل يوم اختبار قوة تحمّلها.. وأخيرًا لاح لها شبح البيت الرّابض في الظّلام من بعيد، فبدأت تحلم بفراشها، واللحظة التي ستلقي بجسدها على حاشيته التي أكل الدّهر عليها وشرب حتى الثّمالة، فأصبح يضن عليها حتى بنوم مريح... كانت قد ازدادت اقترابًا عندما تسمرت مكانها، بعد أن رأت تحت ضوء القمر الشّحيح ما أوقف شعر رأسها، وجفف الدّماء في عروقها...
_2_
في البداية ظنتها مجرد تخيلات، أو خيالات صوّرها عقلها المنهك، ولكن مع اقترابها المطرد حتى وصلت أمام منزلها، وتأكدت أن الشّبحين الذين رأتهما يتسللان بخفة القرود إلى شرفة الفيلا المجاورة عبر تسلق الأعمدة الخشبية.. لم تكن مجرد خيالات صوّرها لها أنين مفاصلها وقدميها التي فقدت الشّعور بهما منذ وقت طويل.. حاولت الرّكض والنّداء بصوت منخفض كي لا توقظ النّيام في الفيلا... ولكنهما كانا قد اختفيا داخل الغرفة.
زمجرت بحنق وهي تخلع حذاءها، متجاهلة أوجاعها أسرعت بتسلق الأعمدة كما فعلا، وهي مستمرة بالنداء بصوت كمواء القطط... كادت تهوي للأرض بعد أن أوشكت على الوصول عندما تشبثت لاهثة بسور الشّرفة بإحكام، أخذت تلعن كل لحظة فكرت فيها باللحاق بهما وهي تتمنى لو يجدهما الحارس العملاق ويلقنهما درسًا قاسيًا... ولكن كانت مجرد أمنيات هوائيّة حذفتها فورًا بأمنيات مضادة، مثل... أن تصل إليهما قبل فوات الأوان... أو أن تمسكهما بنفسها وتلقنهما الدّرس، عادت تنادي بأنين من آلام الجروح في يديها وقدميها المتسلخة... خرج إليها رامي مذهولاً:
- «كروان.. ماذا تفعلين هنا?».
قفزت من السّور لتقف أمامه وجذبته من ذراعه وكل عرق فيها ينتفض من الغليان:
- «ماذا أفعل هنا؟ السّؤال الصّحيح هو ماذا تفعلان أنتما هنا؟ يا إلهي ماذا أفعل بكما؟.. ماذا لو وجدكما ذلك الحارس؟.. هل تملكان أيّ عقل داخل هذه الأدمغة الفارغة؟».
- «كوكي.. أقسم لك أن الأمر مختلف عمّا تظنين».
- «لا أريد معرفة أيّ شيء.. ادخل وهات أخاك من الدّاخل.. هيا قبل أن يفطن لوجودنا أحد من الفيلا».
أطل رائد برأسه ليستوعب الموقف بسرعة.. وقبل أن تبدأ بالهجوم بادرها بنبرة جادة:
- «كروان.. رائع، كنت أبحث عن طريقة لأصل لكِ، فأنتِ الوحيدة التي تستطيعين مساعدتنا هنا».
ضربت الأرض بقدميها:
- «حتى أنتَ يا رائد، وأنا التي ظننتك العاقل...».
دفعها رامي بنفاد صبر:
- «كُفي عن الثّرثرة وانظري بنفسك».
وقبل أن تعترض من جديد وجدت نفسها داخل الغرفة.
تسمرت تكتم شهقتها من مشهد السّيد صاحب الفيلا مسجّى على الأرض فاقدًا للوعي.
نظرت إلى أخوَيْها شاحبة باتهام:
- «هل أنتما السّبب..؟».
هز الولدان رأسيهما بالنفي وهتف رائد:
- «هذا ما... ما دفعنا للقفز عبر الشّرفة، لقد رأيناه من نافذتنا يترنح ثم يقع أرضًا.. انتظرنا بعض الوقت ولكن لم يشعر به أحد... يا له من مسكين».
هتفت بعتاب:
- «فقررتما تمثيل دور ملائكة الرّحمة».
صاح رامي:
- «هل ستستطيعين مساعدته.. نعم أم لا؟».
ركعت أمامه تحاول السّيطرة على دقات قلبها التي دخلت في ماراثون غريب.. ارتاحت عندما تأكدت من وجود نبض، ثم تأملت ملامحه القوية الحادة وأخذت أناملها تتلمس بشرته السّمراء كلوحة سيريالية من النّدوب في طور الالتئام.. تنهدت بقوة وهي تمسك بذراعيه:
- «هيا ساعداني.. أمسكا بقدميه».
وبعد القليل من المعاناة تمكنوا من تمديده على فراشه..
هتفت لاهثة:
- «رامي.. ناولني قنينة العطر».
انهمكت بتدليك جبهته، وأنفه بصبر وإحساس غريب، مألوف إلى حد كبير، ينمو داخلها كملامح هذا الشّخص شّبه المحطم:
- «كروان.. إنه يفيق».
ولثوانٍ تسمرت يدها على وجنته وعيناه تغوصان بعمق عينيها، ودار حوار طويل... طويل، كأنه بدأ منذ خُلقت حوّاء من ضلع آدم، ولم ينتهِ.
انتبهت للكزة رائد في خصرها، رفعت يدها بسرعة كمن مسّتها الكهرباء باعتذار:
- «آسفة... هل أنت بخير الآن؟».
تلفّت حوله كالمذهول يتأمل الولدين، وكأنه يتذكر أين وقعت عيناه عليهما من قبل... ثم استدرك بتأوّه:
- «آه.. تذكرت.. أنتما مرة أخرى!!».
هتفت بدفاع:
- «أرجوك لا تغضب من تصرفهما... لقد شاهداك تسقط مغشيًّا عليك... فقررا التصرف بعنترية في محاولة لإنقاذك».
همهم بابتسامة منهكة:
- «فاقتحما الفيلا.. مرة أخرى... وأنتِ أيضًا!!».
هتفت بدفاع يائس:
- «أقسم لك أنهما لم يقصدا أي ضرر... وأنا لحقت بهما لأتأكد أنهما لن يقعا بين يدي كنج كونج».
ردد بدهشة:
- «كنج كونج... أهذا وصفك لجابر حارسي الخاص؟».
قهقه بإنهاك حتى وقعت عيناه على الجروح في يديها:
- «يبدو أنك آذيت نفسك... وهذا يعني أنكم لم تدخلوا من الباب».
هتف رامي بإحراج:
- «خشينا أن تكون في خطر، وذلك الغول الذي تضعه على بابك بالأسفل لن يصدقنا».
أومأ الرّجل:
- «لا بأس، حسنًا فعلتم... أشكركم على مبادرتكم لإنقاذي».
رد رائد بنبرته الجادة:
- «فقط نرجو أن تكون قد أصبحت بخير سيدي».
- «الفضل بعد الله تعالى لكما، ولأمكما الشّجاعة».
ضج رامي بالضحك:
- «أمنا... هل سمعت يا رائد؟.. يقول أمنا».
ضاقت عينا الرّجل مجيلاً النّظرات بين الولدين الضّاحكين والفتاة المحمرّة بخجل حتى أذنيها:
-«عفوًا هل أخطأت؟».
أجاب رامي:
- «نعم، هذه تكون أختنا كروان... وأنا رامي وهذا توأمي رائد».
ظهر عليه عدم التصديق ثم هتف:
- «عفوًا.. ولكن انطباعي عنك في الصّباح وأنت تدافعين عنهما، والآن تهبين خلفهما متسلقة الشّرفة.. اعتقدت بسهولة أنك...!!».
احمرّت وجنتاها مُطرقة بإحراج:
- «لا داعي للاعتذار... سنتركك لتنعم ببعض الرّاحة.. هيّا بنا أيها الشّقيّان».
هم الثّلاثة بالتحرك، عندما توقف رامي مشيرًا لصورة سيدة ومعها طفلة صغيرة بجوار فراشه:
- «هل هذه زوجتك وابنتك?».
داهمها إحساس ثقيل وكأن جدارًا من الهموم انهار فجأة ليقوّض اللحظات التي سمح فيها لنفسه أن ينسى... فانتهرت رامي بحدة:
- «يا لك من فضولي مزعج هيا بنا قبل أن...».
أوقفها صوت الرّجل العميق:
- «سأجيب رامي.. نعم، هذه جيدا ابنتي.. كان عمرها خمسة أعوام فقط عندما التُقطت هذه الصّورة».
سأله رائد بفظاظة:
- «هل ماتت؟».
رغم أنَّ السّؤال كان على أطراف لسانها، ولكنها غضبت كثيرًا من طريقة رائد غير المراعية لمشاعر الرّجل المكلوم... والذي رد بتنهيدة تمزقت لها نياط قلبها:
- «كان حادثًا بشعًا أودى بحياتها، وحياة أمها وكاد أن...».
ولم تتمالك كروان نفسها:
- «هل كنتَ معهم؟».
السّؤال لم يكن بحاجة لإجابة، فحطام الرّجل الممدد أمامهم كانت خير إجابة، بالإضافة لنظرة التحسر والفقد التي تسبح فيها عيناه... سأله رامي بهدوء:
- «لهذا السّبب أنت هنا?».
- «نعم رامي.. أردت الابتعاد عن القاهرة وكل ما يذكرني بالماضي... أبحث عن سلواي بين الهدوء والبحر».
تمتمت كروان مغمغمة بإحراج:
- «وبدلاً من ذلك التقيت بمشاكسين، يقتحمان حديقتك في الصّباح، وغرفتك في المساء».
نجح بأعجوبة في رسم بقايا ابتسامة، ربما كانت تزين شفتيه المذمومتين في الماضي بحبور، وتصرع أجمل النّساء في هواه:
- «قد تكون هذه وجهة نظر جابر، وعم عبدالحميد».
أردف عندما ضاقت عيون الثّلاثة باستفهام:
- «عم عبدالحميد.. ذلك العجوز الذي...».
- «نعم.. نعم تذكرته...».
أردف الرّجل:
- «ولكن بالتأكيد هذا ليس رأيي... أنا أرحب برائد، ورامي في أيّ وقت».
سأله رائد متنازلاً عن صمته:
- «ولكن.. ألا يرعاك أحد هنا؟.. لولا أننا رأيناك من النّافذة، لظللت فاقدًا الوعي للصباح».
أخرج زفرة بتنهيدة مجهدة:
- «هذا صحيح... جابر لا يدخل الفيلا... وعم عبدالحميد ينام مبكرًا، بعد أن يطمئن على إعطائي كل الأدوية».
ولدهشة كروان هتف رائد:
- «لو سمحت لنا أن نطمئن عليك من آن لآخر».
- «آه، بالطبع.. سأترك خبرًا لجابر، وعم عبدالحميد أن بإمكانكما زيارتي في أيّ وقت، ثم التفت لكروان:
- «وأنتِ معهم بالطبع...».
كانت ما تزال تنظر لأخويها محاولة فهم سر تعلقهما برجل بالكاد يعرفانه... وهي تعرفهما جيدًا ليس من السّهولة أن يقبلا بضم أي غريب لحيز صداقتهما الضّيق..
كانت تتخبط في حيرتها، عندما اخترق كيانها صوته الأجش وهو يؤكد رغبته في وجودها مع الولدين... اهتزت بعنف، وذلك الصّوت، وتلك النّبرة يلقيان بها في وادٍ سحيق من الذكريات المؤلمة غير مستوعبة بعد ما يحدث لها وأسبابه؟.. استدارت ببطء، وكأنها تعيد شريطًا سينمائيًّا قديمًا بالأبيض والأسود... في نفس اللحظة التي ألقى رامي فيها بسؤاله البريء:
«سيدي.. لقد عرفت أسماءنا ولم نتعرف بك بعد؟».
قطب ما بين حاجبيه:
- «أحقًّا... لقد ظننت أن جابر أخبركما عن هُويّتي.. على كل حال اسمي هو رائف.. رائف ثروت يزن».
استدار ثلاثتهم نحوها بقلق بعد الشّهقة التي خرجت من أعماق حنجرتها، وهي تحملق في الرّجل بعينين متسعتين برعب، تحدّق به وكأنه قد نبت له فجأة قرنان، أو تحول للرجل الأخضر.. وسألها رائف في محاولة للنهوض من فراشه، وقد ازداد قلقًا من شحوبها الذي سحب كل نقطة دم من وجهها:
-«هل أنتِ بخير يا آنسة؟».
هرع الولدان إليها يمسكان بذراعيها:
- «كروان.. ماذا بك.. تحدثي معنا... كروان؟».
أزاحت عينَيها بصعوبة شديدة عن وجه الرّجل الذي ما يزال يحدّجها بمزيج من القلق والتساؤل... حاولت صنع مشروع ابتسامة فاشلة أظهرتها كالهستيرية وهي تحاول إجبار عضلات وجهها لتكون طبيعية، ولكنها تعود لتعبس متخذة وضع الاستعداد للانخراط في بكاء حاد:
- «أنا بخير... هيّا بنا يا أولاد».
واتجهت معهما للشرفة فناداها:
- «يا آنسة... من الأفضل أن تستخدما الدّرج في النّزول».
ردت بحدة لا مبرر لها دون أن تكلف نفسها عناء النّظر بوجهه:
- «لا.. سنغادر بالطريقة التي دخلنا بها.. رائد.. رامي.. هيّا
بتنهيدة طويلة بدأت يومها، بعد أن ألقت نظرة أخيرة على بوابة المدرسة المغلقة... توجهت للمصنع على قدميها، فلم يكن يبعد سوى خمسة أميال فقط... ليس لأنها ترغب في تمرين قدميها، ولكن كي توفر أجرة السّرفيس، فهي أولى بالقروش التي ستدفعها... والتي زادت كثيرًا بعد الثّورة... وكأن هذه الثّورة جاءت مطالبة بتجريد الشّعب من جيوبهم بعد أن نفدت أرصدتها... لقمة العيش أصبحت شحيحة، وإن وُجدت يعاف الدّجاج نبشها... والحرية التي دفع شباب في سن الزّهور فاتورتها من أرواحهم السّجينة خلف قضبان الفقر الصّدئة... والعدالة الاجتماعية صارت مجرد شعار، أو وَهْم يحلم به القادرون على النّوم ليلاً بأمان.
بعد انتهاء مناوبتها في المصنع توجهت للمطعم لتبدأ عملها مبكرة... كانت تأمل أن يضع ماهر في عينيه حصوة ملح ويتركها تغادر مبكرة هذه الليلة.
كان العمل على قدم وساق مثل كل ليلة.. أشار لها من بعيد ماهر على ساعته لتأخرها.. تبرمت وهي تدخل لتبدل ثيابها بسرعة... تعجبت معيدة النّظر لساعتها... لم تتأخر أبدًا.. وفي سرعة قياسية ارتدت ثياب العمل... التقت برويدا بعد خروجها من غرفة تبديل الملابس الضّيقة، تستدعي الهواء لتجلي به صدرها بعد دقائق من استنشاق هواء الغرفة المكمكم العطِن، المحتبس في الغرفة التي لا يتجدد هواؤها أبدًا... جالت رويدا عليها بنظراتها الفاحصة:
- «مرحبًا بالجميلة.. أسرعي فالأستاذ ماهر على آخره الليلة».
- «ولماذا.. لقد جئت مبكرة عن موعدي».
ضربت على أسنانها ناصعة البياض بأظافرها الطّويلة المطلية قائلة بغمزة ماكرة:
-«ربما لأننا نعاني من نقص في صالة المطعم».
ازدادت حيرة كروان:
- «ومن الغائبة.. خيرًا؟!!».
ضحكت رويدا بشماتة:
- «ليست غائبة.. صديقتك هناك... ولكنه منعها من دخول الصّالة كي لا يراها الزّبائن بهذا المنظر، فيفرون رعبًا بدون دفع الحساب».
التفتت بحدة تنظر باتجاه المطبخ، دون أن تفهم شيئًا!!
كانت حنين هناك تعمل بسرعة كما هي عادتها وإن كان الفولت عاليًا اليوم، كانت تتحرك كآلة موضوعة على أعلى سرعة.. تساءلت وهي تتجه ناحيتها عن سبب وجودها بالمطبخ ومكانها الطّبيعي خدمة الموائد بالصّالة.. أمسكت ذراعها:
- «حنين...»!!
شهقت عندما التفتت لتصعق من الكدمات التي تغطي وجهها، وإحداها حولت عينَيها لكرة منتفخة.. هذا غير السّحجات والجروح بذراعيها... تمتمت بغيظ مكبوت:
- «زاهر مرة أخرى؟».
أشاحت حنين بوجهها، فأمسكتها كروان بحدة وانفعال:
- «إلى متى؟».
تمتمت حنين بصوت مبحوح متألم:
- «اتركيني يا كروان».
-«كلا.. لن يحدث... لا بد أن نوقفه عند حده. لن أتركك ليقتلك في المرة القادمة، لماذا لم تعملي له محضرًا؟ لماذا تركتِه ينفذ بفعلته مرة أخرى؟».
سالت دموع حنين، فأدركت كروان ما يدور في رأس صديقتها، ويمنعها من فعل أي شيء ضد زاهر:
- «لأن وليد هو مأمور القسم... أليس كذلك؟».
ثم تنهدت مرة أخرى عندما شهقت حنين:
- «نعم بالطبع هو السّبب ما غيره... أعلم... أعلم أنك صديقتي يا حنين، وأحد أسباب ابتعادي عن وليد أنني أعلم بمشاعرك تجاهه».
- «إذن تعرفين أنني لن أذهب وأحرر محضرًا ضد أخي وأعرض نفسي للوقوف أمامه بمنظري هذا... ليحولني للطبيب الشّرعي، وأتحوّل من صديقة الفتاة التي يحبها، والتي تأمل يومًا ربما... ربما لو قررت الدّنيا أن تبتسم لها من باب التغيير ويكون من نصيبي.. ثم أجدني أصبحت مجرد رقم محضر في إحدى القضايا التي يعمل عليها حضرة الضّابط».
احتضنتها كروان بقوة حتى انتفضت كلتاهما للصوت السّاخر خلفهما:
- «ما شاء الله... ما رأيكما أنّ أحوّل المطعم لقاعة سينما، سأكسب ثروة، فالمشاهد العاطفية تترك أثرها لدى الجمهور، أكثر بكثير من وجبة دسمة».
التفتت له كروان تحدّجه بنظرات قاسية غير عابئة بغضبه وكزّت على أسنانها وهي تقرر لا تطلب:
-«لم يحدث شيء يا أستاذ ماهر.. سأقوم بعملي وعمل حنين.. اتركها تعود لبيتها لترتاح دون أن تخصم اليوم من راتبها».
حك فكه وكأنه يفكر:
- «وما المقابل?».
زفرت بحدة من بين أسنانها:
- «أخبرتك.. سأقوم بعملها وعملي».
أمسكت حنين بذراعها ترجوها:
- «لا داعي يا كروان... أستطيع أن...».
دفعتها كروان:
- «اسكتي أنت... ماذا قلت يا أستاذ ماهر?».
قلب شفتيه بلامبالاة ثم أجابها ببريق ماكر في عينيه:
- «أوك... ولكن تذكري أنك تدينين لي بخدمة».
التفتت لصديقتها بعد أن حدجت رب عملها بنظرة مشمئزة:
-«هيّا حنين اخلعي عنك هذه الثّياب وعودي للبيت... ولا تعودي إلا وأنتِ بخير».
«ولكن...».
«بدون لكن... هيّا أسرعي».
وانتظرت حتى ذهبت حنين وتجاهلت نظرات ماهر السّاخرة خلفها، وبدأت عملها المضني..
عند منتصف الليل كانت تجرجر قدميها نحو بيتها بإنهاك اعتادته، ولكنه يقرر كل يوم اختبار قوة تحمّلها.. وأخيرًا لاح لها شبح البيت الرّابض في الظّلام من بعيد، فبدأت تحلم بفراشها، واللحظة التي ستلقي بجسدها على حاشيته التي أكل الدّهر عليها وشرب حتى الثّمالة، فأصبح يضن عليها حتى بنوم مريح... كانت قد ازدادت اقترابًا عندما تسمرت مكانها، بعد أن رأت تحت ضوء القمر الشّحيح ما أوقف شعر رأسها، وجفف الدّماء في عروقها...
_2_
في البداية ظنتها مجرد تخيلات، أو خيالات صوّرها عقلها المنهك، ولكن مع اقترابها المطرد حتى وصلت أمام منزلها، وتأكدت أن الشّبحين الذين رأتهما يتسللان بخفة القرود إلى شرفة الفيلا المجاورة عبر تسلق الأعمدة الخشبية.. لم تكن مجرد خيالات صوّرها لها أنين مفاصلها وقدميها التي فقدت الشّعور بهما منذ وقت طويل.. حاولت الرّكض والنّداء بصوت منخفض كي لا توقظ النّيام في الفيلا... ولكنهما كانا قد اختفيا داخل الغرفة.
زمجرت بحنق وهي تخلع حذاءها، متجاهلة أوجاعها أسرعت بتسلق الأعمدة كما فعلا، وهي مستمرة بالنداء بصوت كمواء القطط... كادت تهوي للأرض بعد أن أوشكت على الوصول عندما تشبثت لاهثة بسور الشّرفة بإحكام، أخذت تلعن كل لحظة فكرت فيها باللحاق بهما وهي تتمنى لو يجدهما الحارس العملاق ويلقنهما درسًا قاسيًا... ولكن كانت مجرد أمنيات هوائيّة حذفتها فورًا بأمنيات مضادة، مثل... أن تصل إليهما قبل فوات الأوان... أو أن تمسكهما بنفسها وتلقنهما الدّرس، عادت تنادي بأنين من آلام الجروح في يديها وقدميها المتسلخة... خرج إليها رامي مذهولاً:
- «كروان.. ماذا تفعلين هنا?».
قفزت من السّور لتقف أمامه وجذبته من ذراعه وكل عرق فيها ينتفض من الغليان:
- «ماذا أفعل هنا؟ السّؤال الصّحيح هو ماذا تفعلان أنتما هنا؟ يا إلهي ماذا أفعل بكما؟.. ماذا لو وجدكما ذلك الحارس؟.. هل تملكان أيّ عقل داخل هذه الأدمغة الفارغة؟».
- «كوكي.. أقسم لك أن الأمر مختلف عمّا تظنين».
- «لا أريد معرفة أيّ شيء.. ادخل وهات أخاك من الدّاخل.. هيا قبل أن يفطن لوجودنا أحد من الفيلا».
أطل رائد برأسه ليستوعب الموقف بسرعة.. وقبل أن تبدأ بالهجوم بادرها بنبرة جادة:
- «كروان.. رائع، كنت أبحث عن طريقة لأصل لكِ، فأنتِ الوحيدة التي تستطيعين مساعدتنا هنا».
ضربت الأرض بقدميها:
- «حتى أنتَ يا رائد، وأنا التي ظننتك العاقل...».
دفعها رامي بنفاد صبر:
- «كُفي عن الثّرثرة وانظري بنفسك».
وقبل أن تعترض من جديد وجدت نفسها داخل الغرفة.
تسمرت تكتم شهقتها من مشهد السّيد صاحب الفيلا مسجّى على الأرض فاقدًا للوعي.
نظرت إلى أخوَيْها شاحبة باتهام:
- «هل أنتما السّبب..؟».
هز الولدان رأسيهما بالنفي وهتف رائد:
- «هذا ما... ما دفعنا للقفز عبر الشّرفة، لقد رأيناه من نافذتنا يترنح ثم يقع أرضًا.. انتظرنا بعض الوقت ولكن لم يشعر به أحد... يا له من مسكين».
هتفت بعتاب:
- «فقررتما تمثيل دور ملائكة الرّحمة».
صاح رامي:
- «هل ستستطيعين مساعدته.. نعم أم لا؟».
ركعت أمامه تحاول السّيطرة على دقات قلبها التي دخلت في ماراثون غريب.. ارتاحت عندما تأكدت من وجود نبض، ثم تأملت ملامحه القوية الحادة وأخذت أناملها تتلمس بشرته السّمراء كلوحة سيريالية من النّدوب في طور الالتئام.. تنهدت بقوة وهي تمسك بذراعيه:
- «هيا ساعداني.. أمسكا بقدميه».
وبعد القليل من المعاناة تمكنوا من تمديده على فراشه..
هتفت لاهثة:
- «رامي.. ناولني قنينة العطر».
انهمكت بتدليك جبهته، وأنفه بصبر وإحساس غريب، مألوف إلى حد كبير، ينمو داخلها كملامح هذا الشّخص شّبه المحطم:
- «كروان.. إنه يفيق».
ولثوانٍ تسمرت يدها على وجنته وعيناه تغوصان بعمق عينيها، ودار حوار طويل... طويل، كأنه بدأ منذ خُلقت حوّاء من ضلع آدم، ولم ينتهِ.
انتبهت للكزة رائد في خصرها، رفعت يدها بسرعة كمن مسّتها الكهرباء باعتذار:
- «آسفة... هل أنت بخير الآن؟».
تلفّت حوله كالمذهول يتأمل الولدين، وكأنه يتذكر أين وقعت عيناه عليهما من قبل... ثم استدرك بتأوّه:
- «آه.. تذكرت.. أنتما مرة أخرى!!».
هتفت بدفاع:
- «أرجوك لا تغضب من تصرفهما... لقد شاهداك تسقط مغشيًّا عليك... فقررا التصرف بعنترية في محاولة لإنقاذك».
همهم بابتسامة منهكة:
- «فاقتحما الفيلا.. مرة أخرى... وأنتِ أيضًا!!».
هتفت بدفاع يائس:
- «أقسم لك أنهما لم يقصدا أي ضرر... وأنا لحقت بهما لأتأكد أنهما لن يقعا بين يدي كنج كونج».
ردد بدهشة:
- «كنج كونج... أهذا وصفك لجابر حارسي الخاص؟».
قهقه بإنهاك حتى وقعت عيناه على الجروح في يديها:
- «يبدو أنك آذيت نفسك... وهذا يعني أنكم لم تدخلوا من الباب».
هتف رامي بإحراج:
- «خشينا أن تكون في خطر، وذلك الغول الذي تضعه على بابك بالأسفل لن يصدقنا».
أومأ الرّجل:
- «لا بأس، حسنًا فعلتم... أشكركم على مبادرتكم لإنقاذي».
رد رائد بنبرته الجادة:
- «فقط نرجو أن تكون قد أصبحت بخير سيدي».
- «الفضل بعد الله تعالى لكما، ولأمكما الشّجاعة».
ضج رامي بالضحك:
- «أمنا... هل سمعت يا رائد؟.. يقول أمنا».
ضاقت عينا الرّجل مجيلاً النّظرات بين الولدين الضّاحكين والفتاة المحمرّة بخجل حتى أذنيها:
-«عفوًا هل أخطأت؟».
أجاب رامي:
- «نعم، هذه تكون أختنا كروان... وأنا رامي وهذا توأمي رائد».
ظهر عليه عدم التصديق ثم هتف:
- «عفوًا.. ولكن انطباعي عنك في الصّباح وأنت تدافعين عنهما، والآن تهبين خلفهما متسلقة الشّرفة.. اعتقدت بسهولة أنك...!!».
احمرّت وجنتاها مُطرقة بإحراج:
- «لا داعي للاعتذار... سنتركك لتنعم ببعض الرّاحة.. هيّا بنا أيها الشّقيّان».
هم الثّلاثة بالتحرك، عندما توقف رامي مشيرًا لصورة سيدة ومعها طفلة صغيرة بجوار فراشه:
- «هل هذه زوجتك وابنتك?».
داهمها إحساس ثقيل وكأن جدارًا من الهموم انهار فجأة ليقوّض اللحظات التي سمح فيها لنفسه أن ينسى... فانتهرت رامي بحدة:
- «يا لك من فضولي مزعج هيا بنا قبل أن...».
أوقفها صوت الرّجل العميق:
- «سأجيب رامي.. نعم، هذه جيدا ابنتي.. كان عمرها خمسة أعوام فقط عندما التُقطت هذه الصّورة».
سأله رائد بفظاظة:
- «هل ماتت؟».
رغم أنَّ السّؤال كان على أطراف لسانها، ولكنها غضبت كثيرًا من طريقة رائد غير المراعية لمشاعر الرّجل المكلوم... والذي رد بتنهيدة تمزقت لها نياط قلبها:
- «كان حادثًا بشعًا أودى بحياتها، وحياة أمها وكاد أن...».
ولم تتمالك كروان نفسها:
- «هل كنتَ معهم؟».
السّؤال لم يكن بحاجة لإجابة، فحطام الرّجل الممدد أمامهم كانت خير إجابة، بالإضافة لنظرة التحسر والفقد التي تسبح فيها عيناه... سأله رامي بهدوء:
- «لهذا السّبب أنت هنا?».
- «نعم رامي.. أردت الابتعاد عن القاهرة وكل ما يذكرني بالماضي... أبحث عن سلواي بين الهدوء والبحر».
تمتمت كروان مغمغمة بإحراج:
- «وبدلاً من ذلك التقيت بمشاكسين، يقتحمان حديقتك في الصّباح، وغرفتك في المساء».
نجح بأعجوبة في رسم بقايا ابتسامة، ربما كانت تزين شفتيه المذمومتين في الماضي بحبور، وتصرع أجمل النّساء في هواه:
- «قد تكون هذه وجهة نظر جابر، وعم عبدالحميد».
أردف عندما ضاقت عيون الثّلاثة باستفهام:
- «عم عبدالحميد.. ذلك العجوز الذي...».
- «نعم.. نعم تذكرته...».
أردف الرّجل:
- «ولكن بالتأكيد هذا ليس رأيي... أنا أرحب برائد، ورامي في أيّ وقت».
سأله رائد متنازلاً عن صمته:
- «ولكن.. ألا يرعاك أحد هنا؟.. لولا أننا رأيناك من النّافذة، لظللت فاقدًا الوعي للصباح».
أخرج زفرة بتنهيدة مجهدة:
- «هذا صحيح... جابر لا يدخل الفيلا... وعم عبدالحميد ينام مبكرًا، بعد أن يطمئن على إعطائي كل الأدوية».
ولدهشة كروان هتف رائد:
- «لو سمحت لنا أن نطمئن عليك من آن لآخر».
- «آه، بالطبع.. سأترك خبرًا لجابر، وعم عبدالحميد أن بإمكانكما زيارتي في أيّ وقت، ثم التفت لكروان:
- «وأنتِ معهم بالطبع...».
كانت ما تزال تنظر لأخويها محاولة فهم سر تعلقهما برجل بالكاد يعرفانه... وهي تعرفهما جيدًا ليس من السّهولة أن يقبلا بضم أي غريب لحيز صداقتهما الضّيق..
كانت تتخبط في حيرتها، عندما اخترق كيانها صوته الأجش وهو يؤكد رغبته في وجودها مع الولدين... اهتزت بعنف، وذلك الصّوت، وتلك النّبرة يلقيان بها في وادٍ سحيق من الذكريات المؤلمة غير مستوعبة بعد ما يحدث لها وأسبابه؟.. استدارت ببطء، وكأنها تعيد شريطًا سينمائيًّا قديمًا بالأبيض والأسود... في نفس اللحظة التي ألقى رامي فيها بسؤاله البريء:
«سيدي.. لقد عرفت أسماءنا ولم نتعرف بك بعد؟».
قطب ما بين حاجبيه:
- «أحقًّا... لقد ظننت أن جابر أخبركما عن هُويّتي.. على كل حال اسمي هو رائف.. رائف ثروت يزن».
استدار ثلاثتهم نحوها بقلق بعد الشّهقة التي خرجت من أعماق حنجرتها، وهي تحملق في الرّجل بعينين متسعتين برعب، تحدّق به وكأنه قد نبت له فجأة قرنان، أو تحول للرجل الأخضر.. وسألها رائف في محاولة للنهوض من فراشه، وقد ازداد قلقًا من شحوبها الذي سحب كل نقطة دم من وجهها:
-«هل أنتِ بخير يا آنسة؟».
هرع الولدان إليها يمسكان بذراعيها:
- «كروان.. ماذا بك.. تحدثي معنا... كروان؟».
أزاحت عينَيها بصعوبة شديدة عن وجه الرّجل الذي ما يزال يحدّجها بمزيج من القلق والتساؤل... حاولت صنع مشروع ابتسامة فاشلة أظهرتها كالهستيرية وهي تحاول إجبار عضلات وجهها لتكون طبيعية، ولكنها تعود لتعبس متخذة وضع الاستعداد للانخراط في بكاء حاد:
- «أنا بخير... هيّا بنا يا أولاد».
واتجهت معهما للشرفة فناداها:
- «يا آنسة... من الأفضل أن تستخدما الدّرج في النّزول».
ردت بحدة لا مبرر لها دون أن تكلف نفسها عناء النّظر بوجهه:
- «لا.. سنغادر بالطريقة التي دخلنا بها.. رائد.. رامي.. هيّا