الفصل الرابع

لحسن الحظ أن مدرستي قريبة من المنزل، لا أحتاج لمواصلات ولا لترحيل، ما أجمل أن تتمشى في الصباح الباكر، تستنشق هواءاً نقياً، تستمع بانتشاء إلى زقزقة العصافير على الأشجار، النسيم العليل يداعب جسدك بخفة، السماء صافية زرقتها تخلب العقول، الطريق خالي من اكتظاظ المارة، والهدوء ما زال يطغى على كل الطريق..
في الحقيقة أنا أكره الرتابة، أن تعتاد على أشياء جميلة جداً تحيط بك، أشياء مميزة مع الاعتياد تصبح عادية في نظرك، أحب تأمل كل ما حولي، أنظر إلى كل شيء بشاعرية، أنظر إلى نفس الشيء بزوايا مختلفة، زوايا تبرز جماله من كل النواحي..
أحب أن أحافظ على دهشة الشعور الأول، فالمرات الأولى دائما مختلفة ومميزة، تنبهر بالأشياء من حولك، تراها جميلة، ثم يأتي الاعتياد ليضفي الرتابة عليها، فتصبح عادية جداً لا تلفت نظرك..
ولا أقصد بالاعتياد التكرار، فهناك أشياء نجد لذة في تكرارها، ولا نشعر بالملل أبداً مهما تكرر فعلها، أو تكررت رؤيتنا لها، بل أقصد نظرتنا الواحدة الخالية من التأمل، أن تنظر ولا ترى شيئاً…
وصلت إلى المدرسة، وقررت أن أصارح يارا بكل شيء، وأخبرها بكل ما حدث، وجدتها تنتظرني قرب بوابة المدرسة، فازدردت ريقي وتوجهت نحوها وعلى وجهي ابتسامة اردت بها أن أخفي ارتباكي..
ألقيت عليها التحية، ردت ثم سألتني بحماس: هل جهزت ملابسك للعرس؟ أنا متحمسة وسعيدة جداً، لأنك سوف تشاركينني فرحتي بزواج خالتي يا يقين
نظرت إليها بارتباك ثم قلت: للأسف لن أذهب معك، أعتذر يا يارا، أتمنى ألا تقل سعادتك بعدم ذهابي، لأنني حقاً لا أستطيع..
نظرت إلي بخيبة أمل وقالت: لكن لماذا لا تستطعين؟
قلت: والدتي لم توافق، هي ليس لديها مشكلة في أذهب معك، ولكن مشكلتها في أن أسافر بعيداً عنها لوحدي من غيرها، لم تعتد على ذلك يا يارا
قالت بابتسامة: لا ألومها
قلت: والدتي لطيفة جداً كما أخبرتك، ولكن ما لم أخبرك به أنها حازمة جداً في كثير من الأشياء، ومنها أن أسافر لوحدي من دونها، أنا ابنتها الوحيدة، جئت إلى هذه الدنيا بعد خسارتها لثلاث أبناء قبل أن يولدوا، بعد صبر مرير وشوق الأم لأن تحتضن طفلها بعد سنوات عديدة من التمني والانتظار الطويل، لذلك هي كثيرة القلق علي، تخاف علي من نسمات الهواء ومن كل شيء، وأنا لا أناقشها في هذه الأمور، لأنني أضع نفسي مكانها، أتفهم شعورها وأحترم قلقها هذا
قالت يارا بابتسامة: لا عليك يا يقين، اثبتي لي أنك فتاة عاقلة جداً، لا بأس يا حبيبتي، الأم مهما فعلت من أشياء، سواء كانت هذه الأشياء ترضينا أم لا، فهي تفعل ذلك من خوفها علينا، الأم أكثر من يخاف علينا في هذه الحياة..وهي معها حق، أساساً لم يمر على صداقتنا الكثير، ولم تأتني فرصة لكي أتعرف على والدتك، وكما قلت أنت ابنتها الوحيدة، لذلك خوفها عليك طبيعي ومبرر، وأنا أتفهم ذلك، لا عليك حبيبتي، عندما أعود سوف أحكي لك كل تفاصيل العرس وطقوسه..
لم أستطع أن أصف شعوري بعد حديثها هذا، حمل كبير انزاح من على صدري، أحب الأصدقاء الذين لا يضيقون عليك، الأصدقاء المتفهمون، تشعر معهم بالراحة، لا تجعلون حياتكم متمحورة حول بعضكم البعض، خفيفون، لطيفون، تحلو الحياة بوجودهم..
في الحقيقة أنا فتاة لا أحب التقييد، أشعر في أوقات كثيرة من حياتي بأنني أريد أن أبقى لوحدي، أتمنى لو يتلاشى الناس من حولي، أحب أن أتأمل نفسي بعيداً عن الناس، لذلك كل أصدقائي الذين ما زالو على علاقة معي، كانو متفهمون لطباعي، يعرفون أن بعدي عنهم لا يقلل من قدرهم ولا مكانتهم، أختفي وأظهر فلا أجد لوم ولا عتب ولا تغيير، لذلك لم يبقى في حياتي كثير من الأصدقاء..
عندما تعرفت علي يارا، ارتاح قلبي لها، فكما قيل: الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها أئتلف، وما تناكر منها أختلف..
فعندما رأيت يارا، شعرت بإلفة تجاهها، ومع الوقت اثبتت لي حقاً انها تشبهني، أو تتقبل اختلافي لذلك علاقتنا تزداد عمقاً يوماً بعد يوم..
بالمناسبة، أنا في الصف الثالث الثانوي، على بعد عتبة واحدة من الجامعة، تلك المرحلة المختلفة، والتي كلما تذكرتها شعرت بأن حماسي مشتعلاً جداً لدرجة أنه سوف يحرقني، فكما أخبرتكم من قبل، أحب اكتشاف كل شيء جديد..
رن الجرس معلناً عن بدء الحصص، توجهنا نحو الفصول، نجلس أنا ويارا على مقاعد متجاورة، نثرثر معظم الوقت، نضحك ونمزح ،أحب لكنتها المختلفة، تتراقص الحروف قبل أن تخرج من فمها في شكل كلمات، تتسع عيناها عندما تحكي عن شيء مثير، وأنا أظل أراقب حركاتها ببلاهة واضعة يدي أسفل ذقني متكئة عليها..
قبل أن يبدأ الدرس، جاءتني إسراء، هي فتاة خرقاء جداً، سوف آخذها يوماً إلى بيتنا لتعرف أمي بأنني فتاة عاقلة، وليس كما تطلق علي بأنني قليلة عقل..
جلست إسراء على مقعدي ملتصقة بي، يبدو أنها تريد قول شيء ولكن كما تقول لي دائما قبل أن تبدأ كل حديث: أريد أن أخبرك بأمر يا يقين ولكن حيائي لا يسمح لي بذلك
أقول لها إذن لا تخبريني ، ولكنها سرعان ما تدلو بدلوها وتجعل الحياء يبكي بصمت في الزاوية..
قالت لي بلهفة: أنا أحبه يا يقين، متأكدة من ذلك، أحبه جداً
قلت لها بعينين متسعتين: من؟ ماذا تقصدين يا بلهاء!
قالت باسلوبها الدرامي، ويداها التي تتحدث قبل فمها: الأستاذ حسن، لم أرى ألطف منه في حياتي! عندما أخبرته بأنني أتناول مشروب طاقة من أجل أن أستطيع السهر لوقت طويل، لكي أدرس، قال لي باسلوبه الفكاهي ونظرته المضحكة المستنكرة بأن ما أفعله خطأ كبير، أعطاني نصائح كثيرة لكي أتفوق في دراستي من غير أن أسبب الضرر لنفسي، وضع لي جدول رائع للدراسة، أضحكني كثيراً وخفف عني، هو رجل لطيف جداً، يهتم بطلابه ومصالحهم، ليس همه المال فقط، بل يؤدي واجبه بكل اخلاص وحب، ما أروعه!..
نظرت إلي بريب ثم قالت: لو طلب الزواج مني، لوافقت على الفور، ما الذي تريده الفتاة أكثر من رجل حنون عليها يهتم بكل شئونها..
لا أستطيع أن أصف ما شعرت به في تلك اللحظة، كأن سكيناً غرست في قلبي، كنت أنظر إليها بحدة، لا أعرف ماذا أقول لهذه الفتاة الخرقاء ولكنها دائما ما تثبت لي أن وجهة نظري صحيحة، وأن تعاملي الشديد مع الرجال هو الصواب، أي كانت مكانتهم..
أنا متعصبة جداً في تعاملي مع الرجال، وأبعد نفسي عنهم كل البعد ولكنني لست شريرة كما يقولون..
على سبيل المثال، هناك شاب من الجيران، رأيته ذات مرة عندما كنت خارجة من المنزل، كان واقفاً على مسافة قريبة من باب منزلنا، ينظر إلي ثم ينظر نحو الأرض، كررها عدة مرات، لم أعره أي انتباه، ولم أنظر إليه بحدة كما قال، مضيت في طريقي وحسب، ولم أركز مع الأمر..
عندما عدت ، أخبرتني والدتي وهي تضحك، قالت أن ابن الجيران، أخبر والدته بأنه يشعر بالخوف مني، وأنه جاء إلى منزلنا، أراد أن يسأل عن والدي إن كان موجوداً أو لا، ولكن عندما رآني شعر بالرعب ولم يستطع التقدم، وقال ذلك الجبان أنني نظرت إليه بحدة، وأيضاً قال أن نظرتي مخيفة، هل تتخيلون ذلك!..
كانت أمي تضحك بشدة، هل أنا شبح لكي يخاف مني ذلم الجبان! لو سألني لأجبته! ثم أنه أكبر مني في العمر، ألم يشعر بالخجل من قول ذلك لوالدته! يخاف مني، يا للخيابة! ..
لا أحب أن أكون سيئة في رواية أحدهم، ولكن في نفس الوقت يعجبني أن يتعامل معي الرجال بحذر، أحب أن أفرض حدودي، فالانثى هي التي تضع تلك الحدود في علاقتها مع كل ذكر، هي التي تفرض احترامها، أو الخوف منها، لا فرق..
أستاذ حسن لطيف جداً، مضحك جدا، خفيف علينا ودرسه من أكثر الدروس متعة، هو أستاذ مادة الرياضيات، بسببه أحببت هذه المادة، من المعلمين القلة الذي يؤدون واجبهم باخلاص، لا يذهب من أي نقطة إلا إذا تأكد بأن كل من في الفصل قد فهمها! يضربنا على أصابعنا بالمسطرة إذا لم نجاوب على أسئلته في نهاية الدرس، لذلك نجد أنفسنا محافظين على تركيزنا طوال الدرس، رغم أن ضربه غير مبرح..
أنا أيضاً أحبه، وجميع الطالبات، ولكن حب طالب لأستاذه، ذلك الحب الناتج عن الاحترام والتقدير، لا أعرف ماذا أفعل في هذه الفتاة، تريد أن تتزوجه! شعرت بألم في مرارتي بعد جملتها تلك، ولا أدري إلى متى سوف تصمد مع هذه الصدمات التي أتعرض لها، لذلك قررت عندما أكبر، سوف انشيء مصنعاً خاص بتصنيع مرارة إصطناعية، وتقديمها مجاناً، لكل شخص عانى في حياته وفقُعت مرارته ..
وكما قلت، رسخت لدي قناعة، بأنه البعد عن الرجال فيه راحة كبيرة، إلا المحارم، أما غيرهم فحافظي على حدودك معهم، هذا أسلم لك، ومهما كانت نيتك سليمة، حافظي على حدودك، حتى ولو كان ذلك الرجل أستاذك، لكي لا تقعي في حبه والعياذ بالله!
حاولت أن أتمالك أعصابي بقدر الإمكان، وتقمصت دور يقين الواعية غير العصبية، التي تنصح بلطف، قلت: حبيبتي إسراء، أنت لديك إعاقة في المشاعر، خرقاء، وبلهاء، لأنني لم أرى فتاة غيرك وقعت في حب استاذها، وترغب في الزواج منه وقد يكون متزوج من الأساس..
هنا قاطعتني قائلة بصوت عالي وبنبرة درامية: قلبي الصغير لن يحتمل! لا تقولي بأنه متزوج يا يقين
قلت بانفعال: عن أي قلب صغير تتحدثين يا إسراء؟ اليوم وقعت في حب الأستاذ حسن ، وقبل أسبوع وقعت في حب ذلك الشاب صاحب البقالة التي تقع قرب السكن الداخلي الذي تقيمين فيه، ولماذا؟ لأنه أعطاك الحليب بأقل من السعر المعتاد، ولأنه يحدثك بلطف وعلى وجهه ابتسامة جذابة، وقبلها باسبوع أخبرتني أنك كنت معجبة بابن جيرانكم الذي ركب معك في نفس الباص وأصر على أن يوصلك إلى السكن، ويطمئن عليك، هل أواصل عد؟ هل هذا قلبك الصغير؟ اتقي الله في قلبك يا إسراء، سوف يشكيك هذا القلب إلى الله، يا عديمة الفهم، يا بلهاء..
نظرت إلي ولم ترد كعادتها، حديثي معها لن يقدم ولن يؤخر، سوف تأتيني غداً بقصة جديدة مع آخر، لذلك وجب انشاء مصنع لتصنيع المرارة..
حاولت أن أنصحها بلطف، ولكن يكفني شرف المحاولة، لا يمكنني تمالك أعصابي في الأمور التي تخص الرجال بالذات، ولا يعني هذا أن لدي أي مشكلة مع الرجال..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي