الفصل الشابع والعشرون

وصلت نور إلى السوق الشعبي، مشت كثيراً وهي تجر حقيبتها خلفها إلى أن وصلت إلى موقف الحافلات
صفوف طويلة من الحافلات متراصة على طول الطريق، ومع كل خطوة تخطوها يتقدم رجل ويسألها: إلى أن تودين الذهاب يا آنسة؟ كلٌ يسوق لمركبته، أصوات صراخ في كل مكان، بأسماء القرى التي ستذهب إليها الحافلات
وصلت أخيراً إلى الحافلة المتوجهة إلى قريتها، وجدتها خالية تماماً من الركاب، تذمرت ثم ركبت وجلست على كرسي منفرد، فالحافلة مقسمة إلى كراسي زوجية وكراسي منفردة، وكرسي في المنتصف يفصل بين الاثنين يمكن تنحيته على أحد الجوانب كلما همّ راكباً بالنزول.
فتحت النافذة التي بقربها، وبدأت تسترجع ما حدث معها، آلمها قلبها بشدة، أيعقل أن حليمة كانت بذلك السوء؟! استغبتها كثيراً، لماذا فعلت ذلك مع تلك المسكينة أنسام؟! ما ذنبها؟ هل ذنبها أنها وثقت بها؟! ربما كان دخلوها للسجن جزاء على كل أفعالها السيئة.
كانت أفكارها تقاطع كل قليل، بصوت من الشباك، من أحد الباعة المتجولين، أحياناً فتيات يحملن صواني على رؤوسهن بها كثير من الحلويات، أحياناً رجل يجر عربة بها ألعاب ومستحضرات تجميل وملابس والكثير من الأشياء، وأحياناً صبيان صغار يحملون شواحن كهربائية وأشرطة لأدوية مسكنة للصداع...
في نهاية المطاف أغلقت النافذة وغطتها بالستارة..
اتصل بها والدها فطمأنته بأنها ركبت وسوف تصل قريباً.
أخرجت كتاباً من حقيبة يدها وحاولت أن تقرأ، لكنها لم تستطع، تأففت ثم أغلقته وأدخلته في حقيبتها مرة أخرى.
امتلأت الحافلة بعد وقتٍ طويل، وتحركت أخيراً.
أسندت رأسها على النافذة وبدأت بمراقبة الطريق، كانت تنظر إلى كل شيء ولكنها لا ترى شيء، سارحة في خيالها، ولم تستطع أن تطرد من أفكارها ما حدث.
كان الطريق وعراً جداً، تهتز الحافلة وتصدر صوتاً مزعجاً، وصلت إلى قريتها بعد ساعتين، ابتسمت تلقائيا، سترى عائلتها أخيرا.
أوقفت الحافلة قرب باب منزلها، ففي القرى لا توجد محطة معينة، بل تقريباً تلف الحافلة كل القرية وتوصل كل شخص بالقرب من منزله.
وجدت أختها الصغيرة يقين وأخيها علي ينتظرانها قرب الباب، صرخا عندما ظهرت إليهم، وركدا نحوها، ضمتهم وهي تضحك ثم اتجهوا جميعاً إلى المنزل.
دفعت الباب بيدها فاصدر صوتاً مزعجاً، كان كله يرقص عندما يلمسه أحد، دخلت فاستقبلتها والدتها بابتسامة واسعة، ضمتا بعضهما بحنان، ثم جلست.
وبدأ الصغار بسؤالهم المعتاد، ماذا أحضرتي لنا؟
أجلست يقين التي تبلغ من العمر سبع سنوات علي يمينها، وعلي الذي يبلغ من العمر عشر سنوات جلس على يسارها.
ردت بابتسامة: أحضرت لكم أشياء جميلة، ولكن دعوني آخذ قسط من الراحة أولاً
سكتا الصغيرين لبرهة من الوقت ثم عادا للأسئلة مرة أخرى إلى أن أخرجت لهم الهدايا
فرحا كثيراً، وانشغلا باللعب بما أحضرته لهما
قالت لها أمها التي كانت تراقب ما يحدث: لماذا كلفتي نفسك يا ابنتي، أنتِ ما زلت طالبة وتحتاجين لكل قرش
ابتسمت نور ثم فتحت حقيبتها وأخرجت حذاء جميل جداً
قالت: وهذه هديتك يا نبع الحنان
اندهشت أمها وقبل أن تتحدث قالت لها نور: هذا الحذاء اشتريته لك من أول مبلغ جنيته بتعبي وجهدي، لم أكلف نفسي يا أمي، بل فرحتي عندما اشتريته تفوق فرحتك به، أتمنى أن ينال إعجابك
نظرت إليها أمها بحنان ثم قالت:
كبرتِ يا نور قلبي، هذا حذائي المفضل من الآن، سوف أرتديه عند المناسبات الهامة فقط
ضحكت نور على ردها ثم سألتها: أين والدي؟
ردت والدتها ياسمين: غداً موعد حصاد محصول القمح، ذهب إلى المزرعة منذ وقتٍ طويل، ومعه أخوك أحمد
قالت نور: أتمنى أن يكون الحصاد وفيراً هذا العام
ثم أعقبت: وأحمد، كيف حاله مع الدراسة؟
تنهدت أمها ثم قالت: يقول أنه يريد أن يترك الدراسة، ويسافر إلى العاصمة للعمل الحر
ردت نور: غير معقول! ومن قال أنه سيجد عمل بتلك السهولة، وهو ما زال صغيراً
ضحكت أمها ثم قالت: في الحقيقة يا ابنتي أحمد ليس مثلك، ولن يتحمل سوء وضعنا المادي إذا التحق بالجامعة، أنتِ صبورة جداً، وتستطيعين التصرف، أما أحمد فهو متهور
قالت نور: سنتحدث لاحقاً في هذا الأمر، أخبريني، كيف حال جدتي، وجدي؟ لقد اشتقت إليهم كثيراً
ردت والدتها: جميعهم بخير، الحمد لله
كان بيتهم متواضعاً، يتكون من غرفتين ومطبخ وحمام ومرحاض، ومحاط بسور مبني من الطوب المصنوع من الطين أو كما يسمونه (الطوب الأخضر)
ملتصقا به منزل جدها والد أبيها، ويوجد ممر طويل بين المنزلين ليس به باب
وبالقرب منه منزل عمها ومنزل عائلة والدتها، بما فيهم جدها وجدتها وأخوالها
بعد أن شربت عصيراً حضرته لها أمها، ذهبت إلى منزل جدها والد أبيها، وجدته مستلقي على سريره، يحمل مسبحته الطويلة بيمينه، مد إليها يده ببروده المعتاد، مع نصف ابتسامة، أما جدتها فضمتها بحنان، مع ابتسامة واسعة، سألتها عن حالها وعن ودراستها
بعدها ذهبت إلى المنزل الذي تحبه، منزل جدها والد أمها
عندما رآها، انفرجت أساريره قائلا: أهلا أهلا بحبيبة القلب
وكذلك ضمتها جدتها بحنان بالغ
كانت تميل إلى عائلة والدتها، تحبهم كثيراً، جدها يضرب به المثل في الكرم، اعتاد كل صباح أن يضع كرسيه على الشارع بالقرب من منزله، والذي يقع أمام القرية، وكلما رأى عابر سبيل أو راعي يرعى بغنمه، دعاه إلى تناول الطعام معه حالفاً عليه بالطلاق(الحلف بالطلاق لا يجوز)
أما جدتها فكانت نور لا تمل من حكاياتها عن زمنهم المختلف، عن مغامراتها في الصغر، وعن والدها الذي كان يردفها على حماره ويأخذها معه أينما ذهب، وأيضاً قهوتها بكل طقوسها، والتي يجتمع فيها كل أفراد العائلة
------------
استلقت على سريرها في فناء منزل جدها والد أمها وهي تتأمل ذلك المنظر الرائع، والذي لم تراه منذ وقت طويل، منظر السماء وهي مليئة بالنجوم، الهواء الطلق، سريرها المرمي في فناء المنزل الواسع...
فعادة أهل القرى أنهم لا ينامون بداخل الغرف إلا في فصل الشتاء بسبب البرد
فجأة تذكرت الخالة أنسام التي لم تعرف أخبارها، أرادت أن تتصل عليها ولكن التيار الكهربائي منقطع منذ أن وصلت، وكذلك شبكة الاتصال تنقطع معه، وعندما عاد التيار الكهربائي لم تجد فرصة، قررت أن تتصل بفاطمة في الصباح، فالوقت متأخر الآن، كانت مطمئنة لأن الخالة أنسام مع عمر، قرأت سورة الملك وأذكار ما قبل النوم ثم نامت.
في الصباح اتصلت بفاطمة، أخبرتها بأن كل الأمور سالكة، الخالة أنسام الآن في دار المسنين، ولم تواجههم أي مشاكل
تنهدت نور بارتياح، شكرت فاطمة كثيرا ثم أقفلت الخط
------
على جانب آخر
نظرت فاطمة بشغب إلى عمر الذي كان يتابع الحديث بشكل تلقائي وهو غير منتبه إلى نفسه، ثم قالت: أظنك عرفت، هذه نور، اتصلت لتعرف الأخبار، وأخبرتها بما حدث وبأن الأمور سالكة
رد عمر بلهفة: جيد جيداً
اقتربت فاطمة منه وهي تنظر إليه بشك، جلست بقربه ثم قالت: أخبرني يا أخي الحبيب، ما الذي يجري؟ هيا أدلو بدلوك، أنا أسمعك
نظر إليها بعدم فهم ثم قال: ما الذي يجري؟! وما تلك النظرة؟
قالت بشغب: لا تدعي عدم الفهم، ما الذي بينك وبين نور؟
ضحك على نبرتها ثم قال بتعجب: هل هذا السؤال موجه إليّ أنا؟!
ردت: نعم، أقصد ما الذي تكنه لها؟ أنا أعرفك جيداً يا أخي، لقد لاحظت شيئا غريبا عندما رأينا نور بالأمس، كأنه ارتباكا! لم أراه منك من قبل
رد عمر: تعرفين أنك أختي الغالية التي لا أخفي عليها سراً، سنتحدث عن هذا الأمر لاحقاً، لدي الآن كثير من العمل لأقوم به، وأنتِ اذهبي وساعدي النساء في العمل
قالت فاطمة بتوعد: حسناً، أهرب الآن، ولكن عندما نعود إلى المنزل سأرى كيف ستهرب مني
رد بثقة: أنا لا أعرف الهرب
-------
تذكرت نور بأنه يجب عليها أن ترد على الطبيب، مع الأحداث المتتابعة لم تأتيها فرصة
قررت أن ترسل له رسالة نصية ، كتبت له:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كيف حالك أيها الطبيب؟
أولاً أريد أن أشكرك على كل شيء
ثانياً، بكل صراحة وشفافية أنا لا أرى فيك الزوج الذي أريده، وهذا ليس تقليلاً من قدرك، ولكن لأن مبادئنا وأفكارنا مختلفة جداً، وأهم ما في الزواج الاتفاق
عندما تقدم سيدنا علي بن أبي طالب، لطلب الزواج من السيدة هند بنت أبي أمية، رفضته!
فلما خرج من منزلها دعا وقال"اللهم أرزقها زوجاً خيراً مني وارزقني زوجة خيراً منها"
فتزوج هو فاطمة بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوجت هي من رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسأقول لك كما قال، أسأل الله أن يرزقك زوجة خيراً مني.
َتنهدت ووضعت الهاتف جانباً
أرادت أن تكون واضحة معه من غير أن تقلل من قدره
سمعت والدها ينادي بصوت عالي متذمراً، يسأل عن الطعام
خرجت بسرعة لتساعد والدتها في المطبخ، قبل أن يبدأ والدها بالصراخ، فهو عصبي جداً، لا يتحدث كثيراً، كل كلامه عبارة عن أوامر، افعلي كذا، ولماذا لم تفعلي كذا
بعد انتهاء طقوس الإفطار والشاي وما بعده، أمسكت نور هاتفها، قررت أن تحذف رقم الطبيب، بما أنها لن تعمل معه مرة أخرى، حذفته ثم اتصلت بصفاء
ردت عليها صفاء بحماس وفرح واضحين
قالت لها نور: آنسة صفاء، ما سر هذا الفرح الواضح على صوتك؟
ردت صفاء: سليم
قالت نور : لم أفهم! ما الذي حدث؟
ردت صفاء: اتصل اليوم بوالدي، وتقدم لخطبتي، وأنا وافقت
قالت نور بدهشة: حقا؟! أسأل الله أن يتمم لكما على خير
هل استخرتِ؟
ردت صفاء: نعم استخرت ، وفي الحقيقة بعد أن سمعت رأي أخت صديقتي عنه، زادت ثقتي فيه، وكذلك كما قلتي لي، فترة الخطبة هي فترة ليعرف كلا الطريفين إن كان الطرف الآخر هو الشخص المناسب له أم لا، لذلك سأكون حريصة على أن أعرفه جيداً خلال فترة خطبتنا
نور: أسأل الله أن ينور بصيرتك، مبارك يا صديقتي
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي