الفصل الخامس
كنت في طريقي إلى المدرسة، أسير وعلى وجهي ابتسامة واسعة، أتأمل الطريق كعادتي، أدندن بأنشودة أحبها رغم بشاعة صوتي" ألسنا أحق بقلب سعيد، أما آن للروح أن تستعيد، عهداً جديد.. فما السير في الخير إلا اختيار، وما الخوض في الشر إلا خيار، إليك القرار.. لا لن يغير حالنا، إن لم نغير أنفسنا، أسوة في كوننا والله قدرها..كن أنت أول من يقيم، في نفسه عيشاً قويم، تهدى الصراط المستقيم، بادر وغيرها..فخواطرنا تلهمنا، ولإحسان ترشدنا، ميزنا الله بأن لنا، عقلاً يتفكر " أحب هذه الأنشودة جداً، تملئوني حماس ونشاط، نعم، نحن نستحق أن نعيش سعداء، عندما أنظر إلى السماء فقط، أتأمل زرقتها الهادئة، أشعر بالسعادة..
هناك مقولة أحبها جداً " كن لماحاً للجمال" ونحن نشعر بالسعادة عندما نستشعر جمال ما حولنا، نملك نفس الأعين ولكن نظرتنا مختلفة..
الأنشودة ملهمة جداً لأشياء كثيرة، منها أنه يكفي تذمر وشكوة من سوء الأحوال وتغير كل شيء للأسوأ، لن تستطيع تغيير العالم، ولكن تستطيع تغيير نفسك، إذا كل شخص عمل على نفسه وغيرها، فسوف يتغير العالم تلقائياً، ولكن لا أحد يريد تغيير نفسه، كل شخص يتذمر ويشكو من الآخرين والعالم وينسى أنه جزء من هؤلاء الآخرين وهذا العالم..
تذكرت قصة جميلة جداً قرأتها في إحدى الكتب، أو أسطورة، فعلى حد علمي أن الأساطير خيالية، لا تكون حقيقة ولكنها تحمل الكثير من العظة والعبرة، تقول الاسطورة: يحكى أن ملكاً كان بحكم دولة واسعة جداً، وأنه أراد ذات يوم أن يقوم برحلة طويلة يجوب فيها أرجاء المملكة، فتورمت قدماه من وعورة الطرقات وأشواكها، فأصدر مرسوماً ملكياً يقضي يتغطية كل شوارع المملكة بالجلد، ولكن أحد مستشاريه قال له: هذا مستحيل يا سيدي الملك، ولكن لدي فكرة أخرى، ما رأيك أن نجعل لك قطعة جلد أسفل قدمك وهكذا تصبح كل الطرق كما تريد! فأعجب الملك بالفكرة وهكذا ولدت الأحذية!"
لذلك كما قلت: متى غير الإنسان نفسه فسوف يتغير العالم تلقائياً
تكلم الكاتب عن الاسطورة بصورة رائعة، قال: إن هذا العالم حقيقته من العين التي ينظر بها إليه، وكلنا نملك العين نفسها ولا نملك النظرة نفسها..
وضرب مثالاً أخر لكي يسهل المفهوم كله، مثلا إن فقد رجلين ابنيهما في نفس الوقت، يقول الأول: ألم ير الله غيري لبتليه! لماذا المصائب تقع فوق رأسي وحدي، لماذا ولماذا! ينظر إلى مصيبته من زاوية، سوف يجعل الحياة جحيماً لا تطاق..
أما الثاني، يحزن لأنه إنسان، يلتاع لأنه أب ولكنه يسلم ويرضى، ويتأدب مع الله إذا شاء أن يمضي قدره..
لا سخط الأول أعاد إليه ابنه، ولا رضى الثاني أعاد إليه ابنه، ولكن العالم في عين أحدهما مختلف تماماً عن العالم في عين صاحبه..
في قرية صغيرة، سقوف بيوتها متصدعة، يهطل المطر، ينساب الماء من السقف إلى داخل المنزل، الأول يشتم المطر، والثاني يحاول أن يصلح سقفه!
وعندما تمطر في المرة القادمة سوف يبقى الماء بتسلل إلى بيت الأول ولن يفعل هذا في بيت الثاني
الأول يريد تغيير العالم، أن تمسك السماء عن المطر، لأن سقف بيته متصدع والثاني يعرف أن المشكلة ليست في المطر وإنما في سقف بيته لذلك أصلحه!
سوف تبقى الدنيا علي هذا الحال ما بقينا عليها، المطر لن يكف عن الهطول، والأحبة لن يعيشوا إلى الأبد، الجامعات لن تصبح مجانية، والمستشفيات لن تدخلك ما لم تملك المال، العنل سيبقى شاقاً، والنجاح سيبقى صعباً، والمحال التحارية لا توزع بالمجان والبيوت تقع فيها الخلافات
من كان سقفه متهالكا يريد المطر ألا يخترقه، ومن كان له أبناء يريد لهم أن يعيشوا إلى الأبد، ومن كان يريد عملا سهلا ونجاحاً يسيراً وأسواقاً تعطي دون مال، فهو على الكوكب الخطأ، عليه أن يغير نفسه أو يبحث عن كوكب آخر.
هكذا أنا، أجد أنني أقطع أشواطاً طويلة بتفكيري، لذلك أحب القراءة، أقف دهشة أمام القصص الرائعة والتي تمثل الواقع بصورة احترافية تجعل كل من يقرأها يقتنع بسهولة..
قطع تأملي صوت رجل كبير في السن، ألقى علي التحية ثم سألني قائلا: يا ابنتي، هل تعرفين أين يقع منزل فلان الفلاني
قلت بكل ثقة وحماس: نعم، هل تعرف مخبز المدينة، تخيل أنك لا تمشي باتجاهه، وواصل في نفس الطريق، سترى باباً أخضراً، بجانبه كوماً من الرمل، يجلس عليه كلب أحمر، ينبح بصوت مخيف..
نظر إلي الرجل بتعجب، ثم ضحك بصوت عالي وقال: كيف أتخيل أنني لا أمشي باتجاهه! تخيلي يا ابنتي ان الكلب الآن ذهب في نزهة، حقاً صدق من قال بأن النساء لديهن إعاقة في الوصف، ألا تعرفن الاتجاهات؟
في تلك اللحظة، ظهرت لي صورة والدتي بداخل غيمة أعلى راسي وهي تضحك ضحكتها الساخرة تلك وتقول: هل أنت حقاً طبيبة المستقبل التي سوف يسلمونها الناس حياتهم؟
في تلك اللحظة قلت للرجل بثقة: ليس لدي إعاقة في الوصف، ولكن قلت ذلك لأسهل عليك ولكن بما أنك تريد وصفاً بالاتجاهات فحسنا لك ذلك، اسمعني يا عمي، اذهب من ذلك الطريق ثم توجه شمالا، وبعدها جنوب غربي، ثم شرقاً، ثم سوف ترى نفس الباب الأخضر..
أنا متأكدة أن عقل الرجل في تلك اللحظة قد دخل في غيبوبة، شمالاً ثم جنوب غربي! قال لي بدهشة:،ماذا قلتِ؟! اعيدي كلامك مرة أخرى
قلت بثقة: لا أعيد كلامي مرتين، ولكن يا عمي لأنك رجل كبير في السن سوف أساعدك، أذهب من ذلك الطريق، هل تراه؟ وأسأل شخصاً آخر، سوف يصف لك المكان وصفا تفهمه..
ضحك الرجل ثم واصل طريقه، لا أعرف لماذا لم يفهم وصفي، لقد كان دقيقاً، وبالمعالم البارزة أيضاً!
رغم كرهي الشديد لمادة الجغرافيا، ولكنني أعرف جيداً أين يقع الشمال والشمال الغربي والجنوب الغربي وكل الاتجاهات، ولكنني لا أستطيع تحديدهم في الوصف، لا أستطيع أن أصف بالاتجاهات، ولا أستطيع فهم الرصف الذي محتواه شمال غربي وجنوب غربي وغيره..
وصلت إلى المدرسة، جلسنا أنا ويارا نثرثر قليلاً قبل بدء الدرس، حكت لي عن العرس وتفاصيله، وأخبرتني بأنهت ستريني الصور على هاتفها إن زرتها في منزلها، فلم استعجل هذه المرة في الرد، ولكنها كانت نبيهة كعادتها، قالت: ما رأيك بأن أزورك عصر اليوم في منزلكم لكي أتعرف على والدتك وتتعرف علي، أريد أن أعرف والدة هذه الفتاة الرائعة التى تدعى يقين؟
قلت بسعادة وحماس: على الرحب يارا، والدتي ستسعد بذلك جداً، وأنا أيضاً كنت أريد ذلك، أن نتعرف على عائلات بعضنا
قالت بحماس: إذن أتفقنا، موعدنا عصراً
في استراحة الافطار، رأيت إسراء، فشعرت فجأة بألم في مرارتي، توجهت نحوي عندنا رأتني، كانت تحمل دفتراً وتبتسم ببلاهة، قالت لي بحماس: انظري يا يقين، ألا ترين بأن توقيع الاستاذ حسن في دفتري مميزاً ومختلف عن توقيعه لبقية الطالبات، توقيع يجب أن يوضع في متحف من شدة جماله أليس كذلك؟ لا أعتقد بأن هناك دفتراً آخر حظى بمثل هذا
قلت بجمود: لا، تعالي لأريك توقيعه على دفتري، كان مميزاً أكثر من هذا
نظرت إلي بضيق ثم قالت: دائما تفسدين سعادتي
قلت: بل أخبرك بالحقيقة، وأوقظك من خيالك الابله هذا..
لا أدري كيف بدأت هذه المحادثات بيني وبين إسراء، والغريب أنني لا أراها تتحدث مع أحد غيري بهذا الأسلوب، علاقتي معها غريبة، لا هي صديقتي، ولا هي غريبة عني، لا أستطيع أن أتحدث مع غريب بهذا الأسلوب القاسي، طريقة تفكير إسراء لا تناسبني، ولكنني لا يمكنني صد أحد، أو إبعاده عني، لذلك وجدت نفس أتماشى معها وأحدثها حتى وصلنا للمكان الذي تعرفونه، فقع المرارة!
أحياناً كثيرة أتأمل عبارتي التي قلتها قبل قليل" لا أستطيع أن أتحدث مع غريب بهذا الأسلوب القاسي" لا أعرف من وضع تلك القاعدة، أن نتحدث مع الأقرباء بقسوة وتنمر، بدافع أنهم أقرباء، قد يكون القصد بأننا نفهم بعضنا، ونفهم أننا نمزح ولا نعني ما نقول، ولكن مهما أنكرنا، فإن التنمر قاسي، وكم من كلمات خرجت في شكل مزاج ولكنها تركت أثراً سيئا بداخلنا…
عدت إلى المنزل وأنا أبتسم طوال الطريق، وصلت وأخبرت أمي بأن يارا صديقتي سوف تزورني اليوم، فرحت جداً، وحضرت لنا كعكاً وشاياً، فأمي تحب الضيوف وتكرمهم أيما كرم..
وصلت يارا، كانت مرتبكة ومحرجة قليلاً، ولكن أمي استقبلتها بحنان، أبدت سعادتها بوجودها، سرعان ما زال الحاجز بينهما، وظللنا نتحدث عن أشياء كثيرة، سألتها عن عائلتها، حكت لنا يارا عن لقاء والدها بوالدتها، وعن فخرها بكونها تنتمي السودان، حكت لنا عن عادات بلاد والدتها، وطباعهم المختلفة
لم نشعر بالوقت إلى أن اقتربت الشمس من المغيب، فاستأذنت يارا، وذهبنا معها أنا وأمي أوصلناها حتى منتصف الطريق، شكرتها أمي علي زيارتها وطلبت منها أن تعاودها مرة أخرى، ما ألطفك يا نبع الحنان!
قلت لأمي بثقة: ما رأيك في اختياري؟
قالت ضاحكة: مبدئياً جيد جداً، يبدو أن الفتاة واعية، أهنئك
قلت بثقة: نعم نحن نشبه بعضنا
نظرت في عيني ثم قالت: هيا، خذي الأكواب إلى المطبخ وأغسليها
قلت: حاضر
-------
في يوم خرجت مبكراً من المنزل، وبما أن المدرسة قريبة قررت أن أغير الطريق، ذهبت من طريق آخر أبعد من الطريق المعتاد، لفتت انتباهي مكتبة صغيرة، رغم أنني لا أقرأ كثيراً، ولكن تجذبني مناظر الكتب، أشعر بالإلفة تجاهها، وقفت على مسافة قريبة أتأمل الكتب المرصوصة على الرفوف، أقرأ عناوينها، وأخمن عما يتحدث أي كتاب..
خرج من المكتبة رجلا كبير في السكن، ملأ الشيب رأسه، على وجهه ابتسامة وضاءة، قال لي: عندما تشعرين برغبة في القراءة وفي شراء كتاب، فلا تترددي، لأننا يا ابنتي نحتاج إلى القراءة كما نحتاج إلى الغذاء، فكما أننا نحتاج للغذاء لكي نبني أجسادنا، فإننا نحتاج للقراءة لكي نبني عقولنا..
قلت بابتسامة: كلامك جميل جداً، لا أملك مالاً الآن ولكن ربما في يوم آخر سوف آتي إلى هنا واشتري كتابا
قال بابتسامة: لا تخطي نظرتي وحكمي على الناس، رأيت في عينيك نظرة أراها في عيون محبي الكتب والقراءة، لذلك خذي هذه الرواية كهدية صغيرة مني، بما أنك مبتدئة، فالكتب دسمة على المبتدئين، أقرئيها، وعودي مرة أخرى لكي تخبريني عن رأيك فيها..
نظرت إليه بامتنان ثم قلت: شكراً لك، بإذن الله سوف أفعل ذلك
ثم واصلت طريقي إلى المدرسة وأنا أشعر بالسعادة..
مر اليوم بروتينه المعتاد، جلساتنا أنا ويارا، فقع المرارة مع إسراء، والواجبات التي لا تنتهي..
هناك مقولة أحبها جداً " كن لماحاً للجمال" ونحن نشعر بالسعادة عندما نستشعر جمال ما حولنا، نملك نفس الأعين ولكن نظرتنا مختلفة..
الأنشودة ملهمة جداً لأشياء كثيرة، منها أنه يكفي تذمر وشكوة من سوء الأحوال وتغير كل شيء للأسوأ، لن تستطيع تغيير العالم، ولكن تستطيع تغيير نفسك، إذا كل شخص عمل على نفسه وغيرها، فسوف يتغير العالم تلقائياً، ولكن لا أحد يريد تغيير نفسه، كل شخص يتذمر ويشكو من الآخرين والعالم وينسى أنه جزء من هؤلاء الآخرين وهذا العالم..
تذكرت قصة جميلة جداً قرأتها في إحدى الكتب، أو أسطورة، فعلى حد علمي أن الأساطير خيالية، لا تكون حقيقة ولكنها تحمل الكثير من العظة والعبرة، تقول الاسطورة: يحكى أن ملكاً كان بحكم دولة واسعة جداً، وأنه أراد ذات يوم أن يقوم برحلة طويلة يجوب فيها أرجاء المملكة، فتورمت قدماه من وعورة الطرقات وأشواكها، فأصدر مرسوماً ملكياً يقضي يتغطية كل شوارع المملكة بالجلد، ولكن أحد مستشاريه قال له: هذا مستحيل يا سيدي الملك، ولكن لدي فكرة أخرى، ما رأيك أن نجعل لك قطعة جلد أسفل قدمك وهكذا تصبح كل الطرق كما تريد! فأعجب الملك بالفكرة وهكذا ولدت الأحذية!"
لذلك كما قلت: متى غير الإنسان نفسه فسوف يتغير العالم تلقائياً
تكلم الكاتب عن الاسطورة بصورة رائعة، قال: إن هذا العالم حقيقته من العين التي ينظر بها إليه، وكلنا نملك العين نفسها ولا نملك النظرة نفسها..
وضرب مثالاً أخر لكي يسهل المفهوم كله، مثلا إن فقد رجلين ابنيهما في نفس الوقت، يقول الأول: ألم ير الله غيري لبتليه! لماذا المصائب تقع فوق رأسي وحدي، لماذا ولماذا! ينظر إلى مصيبته من زاوية، سوف يجعل الحياة جحيماً لا تطاق..
أما الثاني، يحزن لأنه إنسان، يلتاع لأنه أب ولكنه يسلم ويرضى، ويتأدب مع الله إذا شاء أن يمضي قدره..
لا سخط الأول أعاد إليه ابنه، ولا رضى الثاني أعاد إليه ابنه، ولكن العالم في عين أحدهما مختلف تماماً عن العالم في عين صاحبه..
في قرية صغيرة، سقوف بيوتها متصدعة، يهطل المطر، ينساب الماء من السقف إلى داخل المنزل، الأول يشتم المطر، والثاني يحاول أن يصلح سقفه!
وعندما تمطر في المرة القادمة سوف يبقى الماء بتسلل إلى بيت الأول ولن يفعل هذا في بيت الثاني
الأول يريد تغيير العالم، أن تمسك السماء عن المطر، لأن سقف بيته متصدع والثاني يعرف أن المشكلة ليست في المطر وإنما في سقف بيته لذلك أصلحه!
سوف تبقى الدنيا علي هذا الحال ما بقينا عليها، المطر لن يكف عن الهطول، والأحبة لن يعيشوا إلى الأبد، الجامعات لن تصبح مجانية، والمستشفيات لن تدخلك ما لم تملك المال، العنل سيبقى شاقاً، والنجاح سيبقى صعباً، والمحال التحارية لا توزع بالمجان والبيوت تقع فيها الخلافات
من كان سقفه متهالكا يريد المطر ألا يخترقه، ومن كان له أبناء يريد لهم أن يعيشوا إلى الأبد، ومن كان يريد عملا سهلا ونجاحاً يسيراً وأسواقاً تعطي دون مال، فهو على الكوكب الخطأ، عليه أن يغير نفسه أو يبحث عن كوكب آخر.
هكذا أنا، أجد أنني أقطع أشواطاً طويلة بتفكيري، لذلك أحب القراءة، أقف دهشة أمام القصص الرائعة والتي تمثل الواقع بصورة احترافية تجعل كل من يقرأها يقتنع بسهولة..
قطع تأملي صوت رجل كبير في السن، ألقى علي التحية ثم سألني قائلا: يا ابنتي، هل تعرفين أين يقع منزل فلان الفلاني
قلت بكل ثقة وحماس: نعم، هل تعرف مخبز المدينة، تخيل أنك لا تمشي باتجاهه، وواصل في نفس الطريق، سترى باباً أخضراً، بجانبه كوماً من الرمل، يجلس عليه كلب أحمر، ينبح بصوت مخيف..
نظر إلي الرجل بتعجب، ثم ضحك بصوت عالي وقال: كيف أتخيل أنني لا أمشي باتجاهه! تخيلي يا ابنتي ان الكلب الآن ذهب في نزهة، حقاً صدق من قال بأن النساء لديهن إعاقة في الوصف، ألا تعرفن الاتجاهات؟
في تلك اللحظة، ظهرت لي صورة والدتي بداخل غيمة أعلى راسي وهي تضحك ضحكتها الساخرة تلك وتقول: هل أنت حقاً طبيبة المستقبل التي سوف يسلمونها الناس حياتهم؟
في تلك اللحظة قلت للرجل بثقة: ليس لدي إعاقة في الوصف، ولكن قلت ذلك لأسهل عليك ولكن بما أنك تريد وصفاً بالاتجاهات فحسنا لك ذلك، اسمعني يا عمي، اذهب من ذلك الطريق ثم توجه شمالا، وبعدها جنوب غربي، ثم شرقاً، ثم سوف ترى نفس الباب الأخضر..
أنا متأكدة أن عقل الرجل في تلك اللحظة قد دخل في غيبوبة، شمالاً ثم جنوب غربي! قال لي بدهشة:،ماذا قلتِ؟! اعيدي كلامك مرة أخرى
قلت بثقة: لا أعيد كلامي مرتين، ولكن يا عمي لأنك رجل كبير في السن سوف أساعدك، أذهب من ذلك الطريق، هل تراه؟ وأسأل شخصاً آخر، سوف يصف لك المكان وصفا تفهمه..
ضحك الرجل ثم واصل طريقه، لا أعرف لماذا لم يفهم وصفي، لقد كان دقيقاً، وبالمعالم البارزة أيضاً!
رغم كرهي الشديد لمادة الجغرافيا، ولكنني أعرف جيداً أين يقع الشمال والشمال الغربي والجنوب الغربي وكل الاتجاهات، ولكنني لا أستطيع تحديدهم في الوصف، لا أستطيع أن أصف بالاتجاهات، ولا أستطيع فهم الرصف الذي محتواه شمال غربي وجنوب غربي وغيره..
وصلت إلى المدرسة، جلسنا أنا ويارا نثرثر قليلاً قبل بدء الدرس، حكت لي عن العرس وتفاصيله، وأخبرتني بأنهت ستريني الصور على هاتفها إن زرتها في منزلها، فلم استعجل هذه المرة في الرد، ولكنها كانت نبيهة كعادتها، قالت: ما رأيك بأن أزورك عصر اليوم في منزلكم لكي أتعرف على والدتك وتتعرف علي، أريد أن أعرف والدة هذه الفتاة الرائعة التى تدعى يقين؟
قلت بسعادة وحماس: على الرحب يارا، والدتي ستسعد بذلك جداً، وأنا أيضاً كنت أريد ذلك، أن نتعرف على عائلات بعضنا
قالت بحماس: إذن أتفقنا، موعدنا عصراً
في استراحة الافطار، رأيت إسراء، فشعرت فجأة بألم في مرارتي، توجهت نحوي عندنا رأتني، كانت تحمل دفتراً وتبتسم ببلاهة، قالت لي بحماس: انظري يا يقين، ألا ترين بأن توقيع الاستاذ حسن في دفتري مميزاً ومختلف عن توقيعه لبقية الطالبات، توقيع يجب أن يوضع في متحف من شدة جماله أليس كذلك؟ لا أعتقد بأن هناك دفتراً آخر حظى بمثل هذا
قلت بجمود: لا، تعالي لأريك توقيعه على دفتري، كان مميزاً أكثر من هذا
نظرت إلي بضيق ثم قالت: دائما تفسدين سعادتي
قلت: بل أخبرك بالحقيقة، وأوقظك من خيالك الابله هذا..
لا أدري كيف بدأت هذه المحادثات بيني وبين إسراء، والغريب أنني لا أراها تتحدث مع أحد غيري بهذا الأسلوب، علاقتي معها غريبة، لا هي صديقتي، ولا هي غريبة عني، لا أستطيع أن أتحدث مع غريب بهذا الأسلوب القاسي، طريقة تفكير إسراء لا تناسبني، ولكنني لا يمكنني صد أحد، أو إبعاده عني، لذلك وجدت نفس أتماشى معها وأحدثها حتى وصلنا للمكان الذي تعرفونه، فقع المرارة!
أحياناً كثيرة أتأمل عبارتي التي قلتها قبل قليل" لا أستطيع أن أتحدث مع غريب بهذا الأسلوب القاسي" لا أعرف من وضع تلك القاعدة، أن نتحدث مع الأقرباء بقسوة وتنمر، بدافع أنهم أقرباء، قد يكون القصد بأننا نفهم بعضنا، ونفهم أننا نمزح ولا نعني ما نقول، ولكن مهما أنكرنا، فإن التنمر قاسي، وكم من كلمات خرجت في شكل مزاج ولكنها تركت أثراً سيئا بداخلنا…
عدت إلى المنزل وأنا أبتسم طوال الطريق، وصلت وأخبرت أمي بأن يارا صديقتي سوف تزورني اليوم، فرحت جداً، وحضرت لنا كعكاً وشاياً، فأمي تحب الضيوف وتكرمهم أيما كرم..
وصلت يارا، كانت مرتبكة ومحرجة قليلاً، ولكن أمي استقبلتها بحنان، أبدت سعادتها بوجودها، سرعان ما زال الحاجز بينهما، وظللنا نتحدث عن أشياء كثيرة، سألتها عن عائلتها، حكت لنا يارا عن لقاء والدها بوالدتها، وعن فخرها بكونها تنتمي السودان، حكت لنا عن عادات بلاد والدتها، وطباعهم المختلفة
لم نشعر بالوقت إلى أن اقتربت الشمس من المغيب، فاستأذنت يارا، وذهبنا معها أنا وأمي أوصلناها حتى منتصف الطريق، شكرتها أمي علي زيارتها وطلبت منها أن تعاودها مرة أخرى، ما ألطفك يا نبع الحنان!
قلت لأمي بثقة: ما رأيك في اختياري؟
قالت ضاحكة: مبدئياً جيد جداً، يبدو أن الفتاة واعية، أهنئك
قلت بثقة: نعم نحن نشبه بعضنا
نظرت في عيني ثم قالت: هيا، خذي الأكواب إلى المطبخ وأغسليها
قلت: حاضر
-------
في يوم خرجت مبكراً من المنزل، وبما أن المدرسة قريبة قررت أن أغير الطريق، ذهبت من طريق آخر أبعد من الطريق المعتاد، لفتت انتباهي مكتبة صغيرة، رغم أنني لا أقرأ كثيراً، ولكن تجذبني مناظر الكتب، أشعر بالإلفة تجاهها، وقفت على مسافة قريبة أتأمل الكتب المرصوصة على الرفوف، أقرأ عناوينها، وأخمن عما يتحدث أي كتاب..
خرج من المكتبة رجلا كبير في السكن، ملأ الشيب رأسه، على وجهه ابتسامة وضاءة، قال لي: عندما تشعرين برغبة في القراءة وفي شراء كتاب، فلا تترددي، لأننا يا ابنتي نحتاج إلى القراءة كما نحتاج إلى الغذاء، فكما أننا نحتاج للغذاء لكي نبني أجسادنا، فإننا نحتاج للقراءة لكي نبني عقولنا..
قلت بابتسامة: كلامك جميل جداً، لا أملك مالاً الآن ولكن ربما في يوم آخر سوف آتي إلى هنا واشتري كتابا
قال بابتسامة: لا تخطي نظرتي وحكمي على الناس، رأيت في عينيك نظرة أراها في عيون محبي الكتب والقراءة، لذلك خذي هذه الرواية كهدية صغيرة مني، بما أنك مبتدئة، فالكتب دسمة على المبتدئين، أقرئيها، وعودي مرة أخرى لكي تخبريني عن رأيك فيها..
نظرت إليه بامتنان ثم قلت: شكراً لك، بإذن الله سوف أفعل ذلك
ثم واصلت طريقي إلى المدرسة وأنا أشعر بالسعادة..
مر اليوم بروتينه المعتاد، جلساتنا أنا ويارا، فقع المرارة مع إسراء، والواجبات التي لا تنتهي..