الفصلالسادس
وصلت مبكراً إلى المدرسة، لم أرى يارا فجلست أراجع دروسي، وفي كل مرة أفتح فيها كتاباً أرى تلك الفتاة التي تسمى عبق ترمقني بنظرات حادة، لم أستطع تفسيرها.. قالت يارا بأنها تغار مني، لأنني أصبحت أحتل المركز الأول في الصف بعد أن كانت هي الأولى، ولكنني لا أرى ذلك سبباً للغيرة، بل عندما أرى شخصاً متفوقاً علي، أفرح، أحب أن أرى أشخاصاً يهتمون بالدراسة، أحب أن أتناقش معهم، وكل منا يبدي رأيه في المسائل الصعبة حتي نصل لحل، أشعر بالحماس والإثارة، ولكن لا أشعر بالغيرة أبداً، ربما كان السبب أن مدرستي السابقة تقبع في منطقة كانت الدراسة هي آخر همهم، كنت أحرز المركز الأول من دون أن أدرس حتى، ويكون الفرق بيني وبين من تحتل المركز الثاني شاسعاً، لأن الفتيات يائسات، جميعهن يعرفن بأنه بمجرد أن تكمل الفتاة مرحلة الأساس، فسوف تجلس في المنزل وتنتظر فارس الأحلام المرتقب، ليأتي وينتشلها من واقع حياتها المرير، نادراً ما تصل فتاة إلى المرحلة الثانوية، أما الجامعة، فهذا حلم بعيد سقف طموحاتهن لا يصله، أو بالأحرى فان الواقع حدد سقف أحلامهن ..
كانت قرية بسيطة جداً، بعادات وتقاليد لم تتغير منذ أجدادهن، متعصبين جداً، الفتيات يتزوجن بعمر صغير، والواحدة منهن لا تعرف معنى الزواج أصلاً، يفرحن بطقوسه من حناء وملابس جديدة، وفرح ومرح، ولكن سرعان ما ينقلب ذلك الفرح إلى واقع مرير آخر...
كنت بكامل تركيزي، أراجع قصيدة وأتأمل كلماتها الغريبة، سمعت صوتاً حاداَ، كان صوت عبق، قالت بكلمات ساخرة: لماذا أنتِ مغرورة إلى هذا الحد، لأنك متفوقة؟ هل أنتِ الذكية الوحيدة في هذا العالم؟ أم أنك أردت التباهي بالشيء الوحيد الذي يميزك؟
نظرت إليها بتعجب، أستفزتني كلماتها، كنت على وشك أن أدخل في صراع عنيف معها بلساني الحاد ولكن لا أدري كيف قفزت كلمات معلمتي ليلى إلى عقلي..
ذلك اليوم دهشت من كلامها فقالت: عندما تأتيك فرصة، جربي بنفسك وسوف ترين..
فسكت وما بداخلي يتأجج
نظرت إليها بجمود ولم أتفوه بكلمة، في حين كانت تتوقع مني أن أدافع عن نفسي أو أن أبرر لها موقفي
واصلت بنبرتها الحادة: أنا أيضاً متوفقة مثلك، لم أبخل على شخص بمعلومة في يوم من الأيام، ولكن أنت رافعة أنفك ولا تتحدثين مع أحد..
صمتت تتوقع رداً ولكنني لم أرد
واصلت بكلمات أقل حدة: الذكاء نعمة ومن شكر النعمة ألا تبخل بها على غيرك، بل تساعده
لم أرد أيضاً
واصلت هجموها حتى قالت كل ما تريد قوله وفي نهاية المطاف قالت بارتباك: ربما لأنك جديدة في المدرسة فلا تتحدثين مع كل الناس، معك حق، غالبية من في المدرسة، قد درسو وكانو معاً منذ المرحلة الابتدائية
لم أرد
قالت: حسناً أعتذر، قد أكون أسأت الظن فيك
كدت أن أضحك من الدهشة ولكن لكي لا أفسد الموقف أمسكت نفسي وقلت: لا بأس، وأنا في الحقيقة لا أتباهى بذكائي ولا أبخل على أحد، ولكن كل ما في الأمر أننا لم نتعامل مع بعضنا من قبل، لذلك شكلتِ عني تلك النظرة، لو أردت أن نتناقش معاً أو نحل تمارين صعبة ذات يوم فسوف أكون سعيدة بذلك
أومأت برأسها وقالت بابتسامة: شكراً على لطفك، أستأذن..
اتسعت عيناي من الدهشة، فتحت فمي كالبلهاء، لا أصدق ما حدث! فعلا صدقت معلمتي، كنت متعجبة من موقفها مع مدير المدرسة الذي بدأ معها نقاشاً حاداً، ولكن لم تتحدث، إلا أن هدأ في نهاية الأمر وبدأ بنفسه في ايجاد مبررات لها..
أذكر أنها قالت: يا يقين، لكي يستوعب كلامك من يقف أمامك، يجب أن تجعلينه يفرغ ما بداخله أولاً، حتى يكون هناك مكان لرأيك يدخل فيه، وإلا فكيف يملأ ما هو مملوء بالفعل!
قلت لها: وجهة نظرك جميلة، ولكنني لا أستطيع تمالك نفسي عندما يهاجمني أحد بلا سبب..
اليوم أدركت أن للصمت أثراً عجيباً ومهيباً، كأنه سحر! فجأة تحولت الفتاة من مهاجمة شرسة تتحدث معي بحدة إلى أخرى تلتمس لي الأعذار وتعتذر بلطف..
لو كنت غضبت و هاجمتها أنا أيضاً لما أنتهى الموقف بهذه الطريقة الرائعة، الغضب فعلاً عمل شيطاني، يفسد به بين الناس، لذلك نتعوذ عندما نغضب..
كنت أضحك بنشوة المنتصر، ليس على الفتاة، بل لأنني تعلمت اليوم درساً جديداً، رغم أنني لا أضمن تطبيقه، فأنا فتاة سريعة الإنفعال، ولكن من يدري، لا أحد يبقى على طباعه طيلة حياته، دروس الحياة تعلمنا الكثير يوماً بعد يوم..
أيضاً قد تتعجبو من أنني الأولى، أمي تظلمني، وتقول بأنني قليلة عقل، ولكن كيف لقليل عقل بأن يكون الأول!
أذكر أنني ذهبت بحماس وقلت لها هذه الجملة فقالت بسخرية: ليس كل ذكي عاقل، ولكن أشكري الله، على أنك ذكية وقليلة عقل، فلو كنت فاقدة للأمرين..
هنا صمتت ونظرتها أخبرتي
قلت لها: صدق من قال أن الطعنة تأتي من القريب، شكراً يا أمي، شكراً يا نبع الحنان الذي لم أراه في حياتي
قالت ضاحكة: يا جاحدة، اذهبي وأغسلي الأطباق
قلت: سأذهب، الأطباق أحن منك
لا أستطيع تفسير علاقتي ما أمي، علاقة مريحة جداً، كما قلت من قبل، التنمر مؤذي ولكن من الأم له طعم مختلف، لأن ثقتنا فيها كبيرة جداً، حبها لنا غير مشروط..
قلت لها ذات يوم: يا أمي، يقولون أن القرد في عين أمه غزال، ولكن المعادلة معكوسة عندك، الغزال في عين أمه قرد، هذه أنا في نظرك ولكنني في كل الأحوال غزال..
أذكر أنها ضحكت حتى دمعت عيناها، وقالت: أنا أم واقعية، أرى كل شيء في موضعه الصحيح، القرد في نظري قرد، والغزال غزال..
قلت: ماذا تقصدين
قالت رافعه يديها بلا مبالاة: افهمي بنفسك يا ذكية
قلت: حسنا، هل يمكنك إحضار بعض الموز معك عندما تعودين غداً
قالت ضاحكة: حاضر، لن أحرمك من متعتك
شكراً يا أماه، شكراً لأنك لا تحرميني من شيء، أنا المخطئة لأنني تحدثت في هذا الأمر بنفسي وجنيت عليها..
-----
كنت جالسة في نفس المكان، أراجع دروسي فإذا بي أرى عبق تتجه نحوي، أستأذنتي بلطف لكي تجلس معي، فرحبت بها
قالت بسعادة: لدي بعض تمارين الفيزياء قد استعصت علي، ربما تكون سهلة عليك، هل يمكننا مناقشتها معاً؟
قلت: على الرحب!
فعلا درسناها معاً، وأدركت أن هناك بعض الأشياء التي لم أكن أفهمها بشكل صحيح، منها عرفت الفهم الصحيح، كلانا أستفادت من الأخرى، كان الأمر ممتعاً جداً، ونشعر بانتصار كلما حللنا مسألة عصية..
أكلمنا التمرين، فقلت بسعادة: حقاً كان الأمر جميل، ما رأيك أن نجعل هذه عادة، كل صباح قبل بدء الدوام نستذكر دروسنا معاً
قالت بحماس: بالطبع موافقة
نظرت في عيني ثم قالت: قد تظنين من تصرفي معك ذلك اليوم، أنني أشعر بالغيرة منك، لأنك أصبحت منافسة لي، ولكن الحقيقة أنني مثلك، أحب أن أتناقش مع الآخرين، فقط كنت أشعر بالانزعاج منك
قلت بتعحب: لماذا؟
ردت: لأنك كدرتِ صفو حياتي
نظرت إليها نظرة استفهام، فابتسمت وتابعت: في الحقيقة يا يقين، أن أكون في المرتبة الثانية بعد أن كنت الأولى، هذا الأمر أزعج والداي، بالنسبة إليهما الدراسة أهم من كل شيء، منذ أن كنت صغيرة لا أستطيع النوم قبل أن أكمل واجبي المدرسة، لا أتهنى بالإجازة، أدرس مواد الفصل الجديد، حياتي كلها دراسة، والدتي طبيبة تقضي معظم الوقت في المستشفى، تريدني أن أكون مثلها، والدي مدير أعمال، يعمل في شركة مهمة، لذلك يريدان منا أنا وإخوتي أن نكون ناجحين مثلهم، لم أحظى بأسرة طبيعية متوازنة في حياتي، عندما تأتي والدتي لتتفقد أحوالي، فإن أول سؤال هو كيف الدراسة؟ هل تثيرين إعجاب المعلمين؟ كل الحديث متمحور حول الدراسة، ولأنني كنت مطيعة، كانت حياتي هادئة رغم خوائها، ولكن بعدت أن جئت أنت، تبدل كل شيء، وزادت الأسئلة، هي أفضل منك في ماذا لكي تتفوق عليك؟ هل أصبحت مهملة؟ وكل ليلة نفس الموال، زادت الرقابة علي، وفي ذلك اليوم قبل أن أتحدث معك كنت قد تناقشت مع والدي فجئت لأصب غضبي عليك، ولكن أخرصتني برد فعلك، لم أتوقع منك أن تتقبلي كلامي بصدر رحب..
لدي صديقات كثر هنا، لم أجرؤ على أن أبوح بما قلته لك الآن لواحدة منهن، لا أعرف ولكن أحببتك، فهل تغفرين لي إنزعاجي ذلك اليوم، وهل من الممكن أن نكون صديقتان؟
هكذا بلا مقدمات، أريد أن أكون صديقتك..
لا أستطيع أن أصف دهشتي في تلك اللحظة! قلت بسعادة ولهفة: شكراً يا عبق، شكرتني لانك أحسنت الظن فيني وشاركتني هذا الحديث الحساس، وسوف أكون سعيدة جداً إن أصبحنا صديقتين، أتشرف بصداقتك
ضمتني إليها والسعادة كانت ظاهرة على ملامح وجهها..
سبحان الله! صحيح أنني لم أرد على حديثها ذلك اليوم، ولكن نظرتي التي شكلتها عنها كانت سيئة! حسبت أنها فتاة غبية وعديمة عقل، وساذجة جداً، وسطحية، الحمد لله أنني آثرت الصمت على الحديث في ذلك اليوم..
ولكن أصبحت الصورة مختلفة الآن بعد حديثها، كم هو من الصعب أن ترى الأمر من عدة زوايا! أن تلتمس العذر للآخرين وتحاول رؤية الصورة كاملة، ألا تجعل موقفاً واحداً يشكل نظرتك عنهم، الأمر صعب جداً، ولكن ما أجمل حسن الظن! أن تحسن الظن دائماً..
منذ ذلك اليوم أصبحت عبق صديقتي، أدركت أنها فتاة لطيفة جداً بل رائعة، عرفتها على يارا، فأصبحنا نحن الثلاث أروع صديقات، نحكي لبعضنا عن كل شيء، كل واحدة تعرف عن الأخرى كل شيء، كأنها كتاب مفتوح..
-------
كنت أشعر بالملل، لا أشعر بالرغبة في الدراسة، ولا أعرف ماذا أفعل، وقعت على الأريكة بملل وأنا أتافف، في تلك اللحظة وقع نظري على ذلك الكتاب الذي أعطاني إياه صاحب المكتبة في ذلك اليوم، كدت أن أنساه..
توجهت نحوه بحماس، أخذته وبدأت بقرآته، كانت عيناي تتسع دهشة مع كل كلمة في الرواية، أكملتها في نفس اليوم، كانت المرة الثانية التي أسهر فيها حتى وقت متأخر..
كانت الرواية تتحدث عن فتاة مسلمة تعيش في دولة غير مسلمة، بل ولدت فيها، حكت معاناتها مع الحجاب، منذ أن قررت أن تلبسه وحتى كبرت، حكت عن ثقافة البلد الذي تعيش فيها، العقبات التي واجهتها والدروس التي تعلمتها..
في تلك اللحظة شعرت بأن القراءة الشيء الذي ينقصني، كفتاة تعشق الاكتشاف، تحب أن تكتشف كل ما هو جديد، اكتشفت أن القراءة عالم بأكمله، تتنقل بين شعوب وثقافات وأمكنة وأنت ما زلت جالس في مكانك، تفتح عقلك على أشياء كثيرة، تجعلك ترى الصورة كاملة، عقدت العزم على أن أذهب إلى صاحب المكتبة مرة أخرى في الغد..
كانت قرية بسيطة جداً، بعادات وتقاليد لم تتغير منذ أجدادهن، متعصبين جداً، الفتيات يتزوجن بعمر صغير، والواحدة منهن لا تعرف معنى الزواج أصلاً، يفرحن بطقوسه من حناء وملابس جديدة، وفرح ومرح، ولكن سرعان ما ينقلب ذلك الفرح إلى واقع مرير آخر...
كنت بكامل تركيزي، أراجع قصيدة وأتأمل كلماتها الغريبة، سمعت صوتاً حاداَ، كان صوت عبق، قالت بكلمات ساخرة: لماذا أنتِ مغرورة إلى هذا الحد، لأنك متفوقة؟ هل أنتِ الذكية الوحيدة في هذا العالم؟ أم أنك أردت التباهي بالشيء الوحيد الذي يميزك؟
نظرت إليها بتعجب، أستفزتني كلماتها، كنت على وشك أن أدخل في صراع عنيف معها بلساني الحاد ولكن لا أدري كيف قفزت كلمات معلمتي ليلى إلى عقلي..
ذلك اليوم دهشت من كلامها فقالت: عندما تأتيك فرصة، جربي بنفسك وسوف ترين..
فسكت وما بداخلي يتأجج
نظرت إليها بجمود ولم أتفوه بكلمة، في حين كانت تتوقع مني أن أدافع عن نفسي أو أن أبرر لها موقفي
واصلت بنبرتها الحادة: أنا أيضاً متوفقة مثلك، لم أبخل على شخص بمعلومة في يوم من الأيام، ولكن أنت رافعة أنفك ولا تتحدثين مع أحد..
صمتت تتوقع رداً ولكنني لم أرد
واصلت بكلمات أقل حدة: الذكاء نعمة ومن شكر النعمة ألا تبخل بها على غيرك، بل تساعده
لم أرد أيضاً
واصلت هجموها حتى قالت كل ما تريد قوله وفي نهاية المطاف قالت بارتباك: ربما لأنك جديدة في المدرسة فلا تتحدثين مع كل الناس، معك حق، غالبية من في المدرسة، قد درسو وكانو معاً منذ المرحلة الابتدائية
لم أرد
قالت: حسناً أعتذر، قد أكون أسأت الظن فيك
كدت أن أضحك من الدهشة ولكن لكي لا أفسد الموقف أمسكت نفسي وقلت: لا بأس، وأنا في الحقيقة لا أتباهى بذكائي ولا أبخل على أحد، ولكن كل ما في الأمر أننا لم نتعامل مع بعضنا من قبل، لذلك شكلتِ عني تلك النظرة، لو أردت أن نتناقش معاً أو نحل تمارين صعبة ذات يوم فسوف أكون سعيدة بذلك
أومأت برأسها وقالت بابتسامة: شكراً على لطفك، أستأذن..
اتسعت عيناي من الدهشة، فتحت فمي كالبلهاء، لا أصدق ما حدث! فعلا صدقت معلمتي، كنت متعجبة من موقفها مع مدير المدرسة الذي بدأ معها نقاشاً حاداً، ولكن لم تتحدث، إلا أن هدأ في نهاية الأمر وبدأ بنفسه في ايجاد مبررات لها..
أذكر أنها قالت: يا يقين، لكي يستوعب كلامك من يقف أمامك، يجب أن تجعلينه يفرغ ما بداخله أولاً، حتى يكون هناك مكان لرأيك يدخل فيه، وإلا فكيف يملأ ما هو مملوء بالفعل!
قلت لها: وجهة نظرك جميلة، ولكنني لا أستطيع تمالك نفسي عندما يهاجمني أحد بلا سبب..
اليوم أدركت أن للصمت أثراً عجيباً ومهيباً، كأنه سحر! فجأة تحولت الفتاة من مهاجمة شرسة تتحدث معي بحدة إلى أخرى تلتمس لي الأعذار وتعتذر بلطف..
لو كنت غضبت و هاجمتها أنا أيضاً لما أنتهى الموقف بهذه الطريقة الرائعة، الغضب فعلاً عمل شيطاني، يفسد به بين الناس، لذلك نتعوذ عندما نغضب..
كنت أضحك بنشوة المنتصر، ليس على الفتاة، بل لأنني تعلمت اليوم درساً جديداً، رغم أنني لا أضمن تطبيقه، فأنا فتاة سريعة الإنفعال، ولكن من يدري، لا أحد يبقى على طباعه طيلة حياته، دروس الحياة تعلمنا الكثير يوماً بعد يوم..
أيضاً قد تتعجبو من أنني الأولى، أمي تظلمني، وتقول بأنني قليلة عقل، ولكن كيف لقليل عقل بأن يكون الأول!
أذكر أنني ذهبت بحماس وقلت لها هذه الجملة فقالت بسخرية: ليس كل ذكي عاقل، ولكن أشكري الله، على أنك ذكية وقليلة عقل، فلو كنت فاقدة للأمرين..
هنا صمتت ونظرتها أخبرتي
قلت لها: صدق من قال أن الطعنة تأتي من القريب، شكراً يا أمي، شكراً يا نبع الحنان الذي لم أراه في حياتي
قالت ضاحكة: يا جاحدة، اذهبي وأغسلي الأطباق
قلت: سأذهب، الأطباق أحن منك
لا أستطيع تفسير علاقتي ما أمي، علاقة مريحة جداً، كما قلت من قبل، التنمر مؤذي ولكن من الأم له طعم مختلف، لأن ثقتنا فيها كبيرة جداً، حبها لنا غير مشروط..
قلت لها ذات يوم: يا أمي، يقولون أن القرد في عين أمه غزال، ولكن المعادلة معكوسة عندك، الغزال في عين أمه قرد، هذه أنا في نظرك ولكنني في كل الأحوال غزال..
أذكر أنها ضحكت حتى دمعت عيناها، وقالت: أنا أم واقعية، أرى كل شيء في موضعه الصحيح، القرد في نظري قرد، والغزال غزال..
قلت: ماذا تقصدين
قالت رافعه يديها بلا مبالاة: افهمي بنفسك يا ذكية
قلت: حسنا، هل يمكنك إحضار بعض الموز معك عندما تعودين غداً
قالت ضاحكة: حاضر، لن أحرمك من متعتك
شكراً يا أماه، شكراً لأنك لا تحرميني من شيء، أنا المخطئة لأنني تحدثت في هذا الأمر بنفسي وجنيت عليها..
-----
كنت جالسة في نفس المكان، أراجع دروسي فإذا بي أرى عبق تتجه نحوي، أستأذنتي بلطف لكي تجلس معي، فرحبت بها
قالت بسعادة: لدي بعض تمارين الفيزياء قد استعصت علي، ربما تكون سهلة عليك، هل يمكننا مناقشتها معاً؟
قلت: على الرحب!
فعلا درسناها معاً، وأدركت أن هناك بعض الأشياء التي لم أكن أفهمها بشكل صحيح، منها عرفت الفهم الصحيح، كلانا أستفادت من الأخرى، كان الأمر ممتعاً جداً، ونشعر بانتصار كلما حللنا مسألة عصية..
أكلمنا التمرين، فقلت بسعادة: حقاً كان الأمر جميل، ما رأيك أن نجعل هذه عادة، كل صباح قبل بدء الدوام نستذكر دروسنا معاً
قالت بحماس: بالطبع موافقة
نظرت في عيني ثم قالت: قد تظنين من تصرفي معك ذلك اليوم، أنني أشعر بالغيرة منك، لأنك أصبحت منافسة لي، ولكن الحقيقة أنني مثلك، أحب أن أتناقش مع الآخرين، فقط كنت أشعر بالانزعاج منك
قلت بتعحب: لماذا؟
ردت: لأنك كدرتِ صفو حياتي
نظرت إليها نظرة استفهام، فابتسمت وتابعت: في الحقيقة يا يقين، أن أكون في المرتبة الثانية بعد أن كنت الأولى، هذا الأمر أزعج والداي، بالنسبة إليهما الدراسة أهم من كل شيء، منذ أن كنت صغيرة لا أستطيع النوم قبل أن أكمل واجبي المدرسة، لا أتهنى بالإجازة، أدرس مواد الفصل الجديد، حياتي كلها دراسة، والدتي طبيبة تقضي معظم الوقت في المستشفى، تريدني أن أكون مثلها، والدي مدير أعمال، يعمل في شركة مهمة، لذلك يريدان منا أنا وإخوتي أن نكون ناجحين مثلهم، لم أحظى بأسرة طبيعية متوازنة في حياتي، عندما تأتي والدتي لتتفقد أحوالي، فإن أول سؤال هو كيف الدراسة؟ هل تثيرين إعجاب المعلمين؟ كل الحديث متمحور حول الدراسة، ولأنني كنت مطيعة، كانت حياتي هادئة رغم خوائها، ولكن بعدت أن جئت أنت، تبدل كل شيء، وزادت الأسئلة، هي أفضل منك في ماذا لكي تتفوق عليك؟ هل أصبحت مهملة؟ وكل ليلة نفس الموال، زادت الرقابة علي، وفي ذلك اليوم قبل أن أتحدث معك كنت قد تناقشت مع والدي فجئت لأصب غضبي عليك، ولكن أخرصتني برد فعلك، لم أتوقع منك أن تتقبلي كلامي بصدر رحب..
لدي صديقات كثر هنا، لم أجرؤ على أن أبوح بما قلته لك الآن لواحدة منهن، لا أعرف ولكن أحببتك، فهل تغفرين لي إنزعاجي ذلك اليوم، وهل من الممكن أن نكون صديقتان؟
هكذا بلا مقدمات، أريد أن أكون صديقتك..
لا أستطيع أن أصف دهشتي في تلك اللحظة! قلت بسعادة ولهفة: شكراً يا عبق، شكرتني لانك أحسنت الظن فيني وشاركتني هذا الحديث الحساس، وسوف أكون سعيدة جداً إن أصبحنا صديقتين، أتشرف بصداقتك
ضمتني إليها والسعادة كانت ظاهرة على ملامح وجهها..
سبحان الله! صحيح أنني لم أرد على حديثها ذلك اليوم، ولكن نظرتي التي شكلتها عنها كانت سيئة! حسبت أنها فتاة غبية وعديمة عقل، وساذجة جداً، وسطحية، الحمد لله أنني آثرت الصمت على الحديث في ذلك اليوم..
ولكن أصبحت الصورة مختلفة الآن بعد حديثها، كم هو من الصعب أن ترى الأمر من عدة زوايا! أن تلتمس العذر للآخرين وتحاول رؤية الصورة كاملة، ألا تجعل موقفاً واحداً يشكل نظرتك عنهم، الأمر صعب جداً، ولكن ما أجمل حسن الظن! أن تحسن الظن دائماً..
منذ ذلك اليوم أصبحت عبق صديقتي، أدركت أنها فتاة لطيفة جداً بل رائعة، عرفتها على يارا، فأصبحنا نحن الثلاث أروع صديقات، نحكي لبعضنا عن كل شيء، كل واحدة تعرف عن الأخرى كل شيء، كأنها كتاب مفتوح..
-------
كنت أشعر بالملل، لا أشعر بالرغبة في الدراسة، ولا أعرف ماذا أفعل، وقعت على الأريكة بملل وأنا أتافف، في تلك اللحظة وقع نظري على ذلك الكتاب الذي أعطاني إياه صاحب المكتبة في ذلك اليوم، كدت أن أنساه..
توجهت نحوه بحماس، أخذته وبدأت بقرآته، كانت عيناي تتسع دهشة مع كل كلمة في الرواية، أكملتها في نفس اليوم، كانت المرة الثانية التي أسهر فيها حتى وقت متأخر..
كانت الرواية تتحدث عن فتاة مسلمة تعيش في دولة غير مسلمة، بل ولدت فيها، حكت معاناتها مع الحجاب، منذ أن قررت أن تلبسه وحتى كبرت، حكت عن ثقافة البلد الذي تعيش فيها، العقبات التي واجهتها والدروس التي تعلمتها..
في تلك اللحظة شعرت بأن القراءة الشيء الذي ينقصني، كفتاة تعشق الاكتشاف، تحب أن تكتشف كل ما هو جديد، اكتشفت أن القراءة عالم بأكمله، تتنقل بين شعوب وثقافات وأمكنة وأنت ما زلت جالس في مكانك، تفتح عقلك على أشياء كثيرة، تجعلك ترى الصورة كاملة، عقدت العزم على أن أذهب إلى صاحب المكتبة مرة أخرى في الغد..